بين صحو ملبد بغيوم الذكرى وسبات باهت فتحت الزاهية عينيها والحزن يدثرها، لم تر سوى طيف رمادي يميل إلى السواد يحوم حول سريرها... سقط فجأة سقف غرفتها
جاثماً على صدرها، شل حركتها. كان شعرها الكستنائي الطويل المتطاير على الوسادة يلتف حول عنقها... باتت تتنفس بعسر شديد. هل المكان قد ضاق بها ؟ أم هي ضاقت بالمكان؟ ربما خيط اليأس قد التف حول قلبها وأحكم تكبيله. سجينة هي داخل ألمها وحيرتها وعذابها.
ارتفعت صرخة صامتة من أعماقها، مزقت حبالها الصوتية، وأصمّتْ أذنيها، فتلاشت انكسارات وخيبات. لِمَ يدمرها الحب ؟ ويدمر كل ما حولها ؟ كانت تشعر بالبرد والقشعريرة، انتظرت أشعة أمل تدثر قلبها، لكن انتظارها طال... وتساءلت : " لِمَ تأخرت الشمس وَلَمْ تشرق منذ مدة .." ؟
انتبهت إلى صرير بطنها، لم تأكل منذ صبيحة الأمس، حتى الشكولاطة التي تعشقها، أصبحت مُرة في حلقها. تعطلتْ كل حواسها ولم تعد ترى شيئاً إلا طيفه، ولا تشم إلا رائحته، ولا تسمع إلا صدى صوته، انغلق عالمها عليه، وعانت داخل متاهات لم تجد لها مخرجاً... وجدت نفسها وهي ترزح تحت ثقل تعاستها، تفك حروف اسم حبيبها، وهي تقرأ حروف إسماعيل، كل حرف له دلالة عندها، الألف : ألفة، السين : سعادة، الميم : مجد، المد : طول العمر، العين : رؤيا، اللام : مجهول يحدده قدر أحمق الخطى .... إيحاء، استلاب واستكانة... سماء، سكون وسكينة تتمنى أن تعيشها، وكيمامة تتمنى أن تحلق عالياً وبعلياء في سمائه..
تذكرت عندما تدورتْ وأينعت ثمارها واكتملت أنوثة كيف كانت تناديه وتترجاه. كانت دافئة، مثيرة وهي تبحث في عينيه عن موعد للقاء طال انتظاره، تمنت أن تقطف على يديه، وتعيش معه كل فصول الحياة ربيعاً. ثم أغمضت عينيها، وعلى جناح جفنها، حلقت إليه وبه عادت.. لمست السحاب بأمانيها وآمالها، وسرعان ما تلاشت كريشة من الحيرة في مهب الظنون.. ثم هوتْ عاليا وتهاوت وكلها هوى وهواها إسماعيل.. كفيفة هي بدون صورته في عينيها، حتى مرآتها لم تعد تعكس من وجهها سوى ملامحه. أعادها صوت باب غرفتها وهو يُفتح إلى عالم غريب لم تعد تشعر به ولا تعيشه، وتدخل أمها مينة الحنون، " صباح الخير حبيبتي، لقد تجاوزت الساعة العاشرة، وما زلت تتكاسلين وتعدين النجوم في عز النهار، الفطور جاهز". " صباح النور ماما، حالا " أجابت الزاهية وهي تتساءل في قرارة نفسها، لِمَ شمس النهار لم تبدد ظلامها، وليلها ما زال مستمراً ؟؟.
انتبهت الزاهية أنها لم تقل لأمها منذ مدة أنها تحبها، حبها لإسماعيل أنساها كل شيء. كانت تقضي الليالي تناجيه وتبعث له بأحر الآهات، ارتمت في حضن أمها تلتمس الأمان والسكينة، وهي تتذكر كيف وقعتْ في حبه من أول نظرة ولمسة. كانت قد ودعت أمها حليمة، بعد أن قطع الطبيب حبلها السري وقطع معه آخر أمل في معانقتها. لم تذق حليبها، ولم تشم رائحتها، خطفها الموت وهي تهبها الحياة. نزيف في الرحم قضى على روعة اللحظة ومزق صورة أم ورضيعها يتبادلان القبل. كان والدها يتباهى بزوجته المتعلمة حليمة، وهما يسيران جنبا إلى جنب ويدا في يد. حضرا كل الأفلام العاطفية، كانت تستهويها الشاشة السحرية، وكانا يمتلكان الدنيا بالرغم من محدودية الإمكانات، لكن القدر استكثر عليه فرحته وسعادته، فماتت حليمة وغابت ابتسامة إدريس وفرحته.
كلما تذكر كيف أذعن لأمه حتى تلد حليمة بالبيت لاَمَ نفسه بشدة مسترجعاً تلك الذكرى الأليمة. لم يكن مرتاحاً هذه المرة، انقبض قلبه، " المستشفى قريب، هناك أطباء وممرضون، أرى أنها منهكة، وقد تتعب في ولادتها هاته " قال إدريس ــ خائفاً ــ لأمه الصارمة التي حضرت خصيصاً من البادية حتى تكون إلى جانب حليمة، يحاول إقناعها. " أنت راجل، وهاد شي شغل العيالات، هل نسيت أن طه وُلِد بالبيت " ؟ استكان لكلام أمه، وهل لا يملك غير ذلك، يحترمها ويهابها. كانت الولادة مستعصية وعسيرة، صرخت القابلة وهي في حالة يرثى لها، جبينها يتصبب عرقاً بارداً، وهي ترى حليمة تكاد تفقد وعيها. كان الموقف خطيرا، " يجب نقلها حالا إلى المستشفى، تحتاج لطبيب، الطفل مقلوب". وهكذا كان، في المستشفى، أُنقِذَ الطفل ولم تنج حليمة. ذهبتْ في هدوء تاركة غصة في حلق الجدة، وحرقة عند الأب، يبكيها العمر كله، ورضيعة فتحت عينيها على عالم لم يطالعها فيه وجه حبيبتها.
جاء " سبوع " الزاهية خالياً من الزغاريد والطبول، خيم الحزن وتراتيل القرآن على عقيقتها. دموع ودموع ودموع، حتى الغرباء عن حيهم، حضروا لمواساة الأب المكلوم ورؤية الرضيعة اليتيمة. تلقفتها الأيادي والأحضان إلى أن أتمت السنتين، كان خلالها إدريس، الأب الحزين والأم الحنون للزاهية وطه. ثم جاء يوم أفاقت فيه الزاهية على صوت رقيق ووجه جميل. إنها مينة، الزوجة الجديدة لأبيها إدريس، امرأة في بداية الثلاثينات، طلقها زوجها السابق لأنها لم تنجب له ولدا يمجد رجولته ويخبر عن فحولته. فكان عقابه لها هدية ورحمة للزاهية. وقعت في حبها من أول نظرة، حملتها بين ذراعيها، وربتت على كتفها بحنان وحب وكأنها تفرغ فيها شحنة الأمومة المخنوقة في جوارحها. كانت ألطف من النسيم وهو يداعب وجه الزاهية الصغيرة في الصباح، كانت كالنسمة في حياتها، ملأتْ فراغاً عاطفياً كانت تعانيه في صمت فأدمنتها، وأدمنت أحضانها وحكاياتها...
كانت تستيقظ بالليل لترتمي في حضن حرمت منه قهراً ودهراً. ولم تبخل عليها مينة بحبها أبداً، ولم تشعرها بأنها أم بديلة...وكأنها تفرغ فيها شحنة الأمومة الموءودة داخلها، تتذكر كيف ضمتها إلى صدرها أول مرة، وهي تشعر بدفء يسري في عروقها، يتسلل إلى ثنايا نهديها، وينضح حليباً من حلمتيها، في لحظة أحست بأمومتها كاملة هي العاقر غير الولود. وكانت بداية وعد وعهد، لم تنكُثه أبدا طيلة كل هذه السنوات، كانت الأم الحنون المحبة لأبنائها، سعادتهم تفرحها، وتعاستهم تحزنها. وفي كل صلواتها، كانت تدعو الله أن يحمي أبناءها ويحفظهم... كانت ألطف من النسيم وهو يداعب وجه الزاهية في الصباح. هي كالنسمة في حياتها.... ترسم لها وروداً من الحنة في يديها. كانت سعيدة بأمها مينة، تتذكر بحب، عندما كانتا تتابعان سلسلة " عبد الرؤوف "، وهما تضحكان حتى تدمع عيونهما، والزاهية تضع رأسها بحِجْر أمها، تتذكر عندما علمتها أن تكتب اسمها " مينة " التي من فرط حبها لها أصرت على أن تتعلم بدورها كتابة الزاهية.
حرصت مينة على راحة أبنائها، ولم تسمح أبدا للزاهية أن تساعدها في أعمال البيت : " حبيبتي، مهمتك الآن هي الدراسة والتفوق، ستتعلمين في الوقت المناسب ".. لن تنسى الزاهية أبدا ليلة العيد، حينما كانت تأخذها لشراء ملابس جديدة،وتتركها تختار ما تحبه. ثم بعد عودتهما، وقبل النوم، ترسم وروداً من الحنة على يديها. هي سعيدة مع أمها وحضنها ملاذ يشعرها بالأمان.
ارتمت الزاهية في حضن أمها مينة، " إني أحبك كثيرا ماما الحبيبة ". " ما بك اليوم عزيزتي، لم أنت حزينة ؟ " ــ سألتها بتلهف وحنان ــ " لا أعرف أمي" أجابتها الزاهية محاولة أن تواري عينيها المخضبة بالدموع. " بالتأكيد لم تنامي كما هي عادتك هذه الأيام، حتى الأكل لم تعد أصنافي المحببة منه تغريك ". كانت مينة تُعرف بالحب الجارف الذي يسكنها.. " أنت جوهرة غالية حبيبتي، وإذا لم يكن يقدرك فلا خير يرجى منه ". لم تجب الزاهية أمها. نزلت دمعتها وهي تكلم نفسها، " وهل باليد حيلة أمي، هل أنا مخيرة فيما أحسه ولمن أحسه ؟ كم أتمنى أن أصحو وقد نسيت كل شيء، ربما أرتاح ويرتاح بالي وأستعيد حياتي التي توقفت مع أول بوادر التغيير في إسماعيل ؟ ".
مساء هذا اليوم الحزين، وهي غارقة في قراءة كتاب" النبي"، تحاول الهرب من نفسها وعذابها، بين خلجات ونبض "جبران خليل جبران"، تناهى إلى سمع الزاهية زغاريد وأصوات مفرحة منبعثة من بيتها. قفز قلبها من صدرها وهي ترى أمها مينة تعانق جارتهم نعيمة أم حبيبها إسماعيل. هل هو إعلان بانتهاء حيرتها وعذابها ؟ هل ستخطب لإسماعيل؟ لم تكن تقْوَ على الوقوف، خذلتها رجلاها، رأسها يلف، قلبها يرتجف وروحها تطفو.. هل ستزف قريباً إلى حلمها الوردي ؟ " تعالي حبيبتي، بشرى رائعة " خاطبتها أمها. قلبها الآن يدق بقوة يكاد يسمعه أهل الحي. توقفت عن التنفس، لم تعد في حاجة إلى أكسيجين..." إنه إسماعيل، لقد نجح في امتحان التخصص الذي أجراه بالسفارة الفرنسية، وسيسافر قريبا إلى باريس" قالت خالتها نعيمة . " لم أكن أعرف"، أجابت ببلاهة. أحست بدوار يلفها، ونار تشتعل بأخمص قدميها. وفجأة، لم تعد ترى شيئاً أو تعي شيئاً سوى قُبلتها الأولى، ويده تحضن يدها، ترى ماذا تقول صخرة " سيدي عبد الرحمان "، الشاهدة على لحظات البوح الأولى، وهمسات الحب الأولى؟ اقتربت من أمها وبكت في حضنها، ثم غابت عن الوعي. وبينما كانت الزاهية في الأسابيع التالية، تمشي ولا تمشي، تأكل ولا تأكل... حاضرة بجسد متعب وقلب ينزف، غائبة... ترى إسماعيل في كل الوجوه وتلتقيه في كل الأماكن.
مر الصيف وحل الخريف ومر الخريف متثاقلاً كأنه يمشي على جثتها، وفي مساء من شتاء باريس كان إسماعيل يعبر قنطرة الحب مبهورا بنور الحضارة على ضفة نهر السين، ورجع صدى لحن حزين لـ " موزارت " يتردد بداخله ينتصب بصره شاخصاً على شاب بوهيمي، رث الثياب أشعت الشعر، مغبر اللحية يمسك كمانه من خاصرته، ويقبل عليه بتلهف وحنان، يداعب جسمه الخشبي. يحضنه ويعانقه بحب كعاشقين يذوبان في لحظة حب جارف، من الشجن والحنين. اقترب إسماعيل أكثر، انصهر في اللحظة وانجرف إلى عمقه السحيق، كل شيء تغير فيه، فجأة تغيرت سحنة العازف، استوى شعره بانتظام واختفت لحيته وأضحت ثيابه جميلة وناصعة البياض. أصبح المكان المزدحم إلى وقت قريب خالياً إلا منهما، رأى في عينيه وخاصرة معشوقته الزاهية تبتسم سعيدة وهو يحضنها...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وطبيبة صيدلانية مغربية مقيمة بكندا.
جاثماً على صدرها، شل حركتها. كان شعرها الكستنائي الطويل المتطاير على الوسادة يلتف حول عنقها... باتت تتنفس بعسر شديد. هل المكان قد ضاق بها ؟ أم هي ضاقت بالمكان؟ ربما خيط اليأس قد التف حول قلبها وأحكم تكبيله. سجينة هي داخل ألمها وحيرتها وعذابها.
ارتفعت صرخة صامتة من أعماقها، مزقت حبالها الصوتية، وأصمّتْ أذنيها، فتلاشت انكسارات وخيبات. لِمَ يدمرها الحب ؟ ويدمر كل ما حولها ؟ كانت تشعر بالبرد والقشعريرة، انتظرت أشعة أمل تدثر قلبها، لكن انتظارها طال... وتساءلت : " لِمَ تأخرت الشمس وَلَمْ تشرق منذ مدة .." ؟
انتبهت إلى صرير بطنها، لم تأكل منذ صبيحة الأمس، حتى الشكولاطة التي تعشقها، أصبحت مُرة في حلقها. تعطلتْ كل حواسها ولم تعد ترى شيئاً إلا طيفه، ولا تشم إلا رائحته، ولا تسمع إلا صدى صوته، انغلق عالمها عليه، وعانت داخل متاهات لم تجد لها مخرجاً... وجدت نفسها وهي ترزح تحت ثقل تعاستها، تفك حروف اسم حبيبها، وهي تقرأ حروف إسماعيل، كل حرف له دلالة عندها، الألف : ألفة، السين : سعادة، الميم : مجد، المد : طول العمر، العين : رؤيا، اللام : مجهول يحدده قدر أحمق الخطى .... إيحاء، استلاب واستكانة... سماء، سكون وسكينة تتمنى أن تعيشها، وكيمامة تتمنى أن تحلق عالياً وبعلياء في سمائه..
تذكرت عندما تدورتْ وأينعت ثمارها واكتملت أنوثة كيف كانت تناديه وتترجاه. كانت دافئة، مثيرة وهي تبحث في عينيه عن موعد للقاء طال انتظاره، تمنت أن تقطف على يديه، وتعيش معه كل فصول الحياة ربيعاً. ثم أغمضت عينيها، وعلى جناح جفنها، حلقت إليه وبه عادت.. لمست السحاب بأمانيها وآمالها، وسرعان ما تلاشت كريشة من الحيرة في مهب الظنون.. ثم هوتْ عاليا وتهاوت وكلها هوى وهواها إسماعيل.. كفيفة هي بدون صورته في عينيها، حتى مرآتها لم تعد تعكس من وجهها سوى ملامحه. أعادها صوت باب غرفتها وهو يُفتح إلى عالم غريب لم تعد تشعر به ولا تعيشه، وتدخل أمها مينة الحنون، " صباح الخير حبيبتي، لقد تجاوزت الساعة العاشرة، وما زلت تتكاسلين وتعدين النجوم في عز النهار، الفطور جاهز". " صباح النور ماما، حالا " أجابت الزاهية وهي تتساءل في قرارة نفسها، لِمَ شمس النهار لم تبدد ظلامها، وليلها ما زال مستمراً ؟؟.
انتبهت الزاهية أنها لم تقل لأمها منذ مدة أنها تحبها، حبها لإسماعيل أنساها كل شيء. كانت تقضي الليالي تناجيه وتبعث له بأحر الآهات، ارتمت في حضن أمها تلتمس الأمان والسكينة، وهي تتذكر كيف وقعتْ في حبه من أول نظرة ولمسة. كانت قد ودعت أمها حليمة، بعد أن قطع الطبيب حبلها السري وقطع معه آخر أمل في معانقتها. لم تذق حليبها، ولم تشم رائحتها، خطفها الموت وهي تهبها الحياة. نزيف في الرحم قضى على روعة اللحظة ومزق صورة أم ورضيعها يتبادلان القبل. كان والدها يتباهى بزوجته المتعلمة حليمة، وهما يسيران جنبا إلى جنب ويدا في يد. حضرا كل الأفلام العاطفية، كانت تستهويها الشاشة السحرية، وكانا يمتلكان الدنيا بالرغم من محدودية الإمكانات، لكن القدر استكثر عليه فرحته وسعادته، فماتت حليمة وغابت ابتسامة إدريس وفرحته.
كلما تذكر كيف أذعن لأمه حتى تلد حليمة بالبيت لاَمَ نفسه بشدة مسترجعاً تلك الذكرى الأليمة. لم يكن مرتاحاً هذه المرة، انقبض قلبه، " المستشفى قريب، هناك أطباء وممرضون، أرى أنها منهكة، وقد تتعب في ولادتها هاته " قال إدريس ــ خائفاً ــ لأمه الصارمة التي حضرت خصيصاً من البادية حتى تكون إلى جانب حليمة، يحاول إقناعها. " أنت راجل، وهاد شي شغل العيالات، هل نسيت أن طه وُلِد بالبيت " ؟ استكان لكلام أمه، وهل لا يملك غير ذلك، يحترمها ويهابها. كانت الولادة مستعصية وعسيرة، صرخت القابلة وهي في حالة يرثى لها، جبينها يتصبب عرقاً بارداً، وهي ترى حليمة تكاد تفقد وعيها. كان الموقف خطيرا، " يجب نقلها حالا إلى المستشفى، تحتاج لطبيب، الطفل مقلوب". وهكذا كان، في المستشفى، أُنقِذَ الطفل ولم تنج حليمة. ذهبتْ في هدوء تاركة غصة في حلق الجدة، وحرقة عند الأب، يبكيها العمر كله، ورضيعة فتحت عينيها على عالم لم يطالعها فيه وجه حبيبتها.
جاء " سبوع " الزاهية خالياً من الزغاريد والطبول، خيم الحزن وتراتيل القرآن على عقيقتها. دموع ودموع ودموع، حتى الغرباء عن حيهم، حضروا لمواساة الأب المكلوم ورؤية الرضيعة اليتيمة. تلقفتها الأيادي والأحضان إلى أن أتمت السنتين، كان خلالها إدريس، الأب الحزين والأم الحنون للزاهية وطه. ثم جاء يوم أفاقت فيه الزاهية على صوت رقيق ووجه جميل. إنها مينة، الزوجة الجديدة لأبيها إدريس، امرأة في بداية الثلاثينات، طلقها زوجها السابق لأنها لم تنجب له ولدا يمجد رجولته ويخبر عن فحولته. فكان عقابه لها هدية ورحمة للزاهية. وقعت في حبها من أول نظرة، حملتها بين ذراعيها، وربتت على كتفها بحنان وحب وكأنها تفرغ فيها شحنة الأمومة المخنوقة في جوارحها. كانت ألطف من النسيم وهو يداعب وجه الزاهية الصغيرة في الصباح، كانت كالنسمة في حياتها، ملأتْ فراغاً عاطفياً كانت تعانيه في صمت فأدمنتها، وأدمنت أحضانها وحكاياتها...
كانت تستيقظ بالليل لترتمي في حضن حرمت منه قهراً ودهراً. ولم تبخل عليها مينة بحبها أبداً، ولم تشعرها بأنها أم بديلة...وكأنها تفرغ فيها شحنة الأمومة الموءودة داخلها، تتذكر كيف ضمتها إلى صدرها أول مرة، وهي تشعر بدفء يسري في عروقها، يتسلل إلى ثنايا نهديها، وينضح حليباً من حلمتيها، في لحظة أحست بأمومتها كاملة هي العاقر غير الولود. وكانت بداية وعد وعهد، لم تنكُثه أبدا طيلة كل هذه السنوات، كانت الأم الحنون المحبة لأبنائها، سعادتهم تفرحها، وتعاستهم تحزنها. وفي كل صلواتها، كانت تدعو الله أن يحمي أبناءها ويحفظهم... كانت ألطف من النسيم وهو يداعب وجه الزاهية في الصباح. هي كالنسمة في حياتها.... ترسم لها وروداً من الحنة في يديها. كانت سعيدة بأمها مينة، تتذكر بحب، عندما كانتا تتابعان سلسلة " عبد الرؤوف "، وهما تضحكان حتى تدمع عيونهما، والزاهية تضع رأسها بحِجْر أمها، تتذكر عندما علمتها أن تكتب اسمها " مينة " التي من فرط حبها لها أصرت على أن تتعلم بدورها كتابة الزاهية.
حرصت مينة على راحة أبنائها، ولم تسمح أبدا للزاهية أن تساعدها في أعمال البيت : " حبيبتي، مهمتك الآن هي الدراسة والتفوق، ستتعلمين في الوقت المناسب ".. لن تنسى الزاهية أبدا ليلة العيد، حينما كانت تأخذها لشراء ملابس جديدة،وتتركها تختار ما تحبه. ثم بعد عودتهما، وقبل النوم، ترسم وروداً من الحنة على يديها. هي سعيدة مع أمها وحضنها ملاذ يشعرها بالأمان.
ارتمت الزاهية في حضن أمها مينة، " إني أحبك كثيرا ماما الحبيبة ". " ما بك اليوم عزيزتي، لم أنت حزينة ؟ " ــ سألتها بتلهف وحنان ــ " لا أعرف أمي" أجابتها الزاهية محاولة أن تواري عينيها المخضبة بالدموع. " بالتأكيد لم تنامي كما هي عادتك هذه الأيام، حتى الأكل لم تعد أصنافي المحببة منه تغريك ". كانت مينة تُعرف بالحب الجارف الذي يسكنها.. " أنت جوهرة غالية حبيبتي، وإذا لم يكن يقدرك فلا خير يرجى منه ". لم تجب الزاهية أمها. نزلت دمعتها وهي تكلم نفسها، " وهل باليد حيلة أمي، هل أنا مخيرة فيما أحسه ولمن أحسه ؟ كم أتمنى أن أصحو وقد نسيت كل شيء، ربما أرتاح ويرتاح بالي وأستعيد حياتي التي توقفت مع أول بوادر التغيير في إسماعيل ؟ ".
مساء هذا اليوم الحزين، وهي غارقة في قراءة كتاب" النبي"، تحاول الهرب من نفسها وعذابها، بين خلجات ونبض "جبران خليل جبران"، تناهى إلى سمع الزاهية زغاريد وأصوات مفرحة منبعثة من بيتها. قفز قلبها من صدرها وهي ترى أمها مينة تعانق جارتهم نعيمة أم حبيبها إسماعيل. هل هو إعلان بانتهاء حيرتها وعذابها ؟ هل ستخطب لإسماعيل؟ لم تكن تقْوَ على الوقوف، خذلتها رجلاها، رأسها يلف، قلبها يرتجف وروحها تطفو.. هل ستزف قريباً إلى حلمها الوردي ؟ " تعالي حبيبتي، بشرى رائعة " خاطبتها أمها. قلبها الآن يدق بقوة يكاد يسمعه أهل الحي. توقفت عن التنفس، لم تعد في حاجة إلى أكسيجين..." إنه إسماعيل، لقد نجح في امتحان التخصص الذي أجراه بالسفارة الفرنسية، وسيسافر قريبا إلى باريس" قالت خالتها نعيمة . " لم أكن أعرف"، أجابت ببلاهة. أحست بدوار يلفها، ونار تشتعل بأخمص قدميها. وفجأة، لم تعد ترى شيئاً أو تعي شيئاً سوى قُبلتها الأولى، ويده تحضن يدها، ترى ماذا تقول صخرة " سيدي عبد الرحمان "، الشاهدة على لحظات البوح الأولى، وهمسات الحب الأولى؟ اقتربت من أمها وبكت في حضنها، ثم غابت عن الوعي. وبينما كانت الزاهية في الأسابيع التالية، تمشي ولا تمشي، تأكل ولا تأكل... حاضرة بجسد متعب وقلب ينزف، غائبة... ترى إسماعيل في كل الوجوه وتلتقيه في كل الأماكن.
مر الصيف وحل الخريف ومر الخريف متثاقلاً كأنه يمشي على جثتها، وفي مساء من شتاء باريس كان إسماعيل يعبر قنطرة الحب مبهورا بنور الحضارة على ضفة نهر السين، ورجع صدى لحن حزين لـ " موزارت " يتردد بداخله ينتصب بصره شاخصاً على شاب بوهيمي، رث الثياب أشعت الشعر، مغبر اللحية يمسك كمانه من خاصرته، ويقبل عليه بتلهف وحنان، يداعب جسمه الخشبي. يحضنه ويعانقه بحب كعاشقين يذوبان في لحظة حب جارف، من الشجن والحنين. اقترب إسماعيل أكثر، انصهر في اللحظة وانجرف إلى عمقه السحيق، كل شيء تغير فيه، فجأة تغيرت سحنة العازف، استوى شعره بانتظام واختفت لحيته وأضحت ثيابه جميلة وناصعة البياض. أصبح المكان المزدحم إلى وقت قريب خالياً إلا منهما، رأى في عينيه وخاصرة معشوقته الزاهية تبتسم سعيدة وهو يحضنها...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وطبيبة صيدلانية مغربية مقيمة بكندا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق