اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

في رثاء الشاعر الكبير فاروق شوشة | بقلم: الدكتور علي القاسمي ـ المغرب

قفْ في ديارِ الظاعنينَ ونادِها: يا دارُ ما صنعتْ بكِ الأيامُ؟
لا كتبكُم تأتي ، ولا أخباركُم تُروى، ولا تدنيكُمُ الأحلامُ !
شمس الدين الكوفي، يرثي بغداد بعد أن دمّرها التتار
لسائل الدمعِ عن بغدادَ أخبارُ فما وقوفُكَ والأحبابُ قد ساروا؟
يا زائرينَ إلى الزوراءِ لا تفدوا فما بذاكَ الحمى والدارِ ديّارُ
تقي الدين التنوخي، يرثي بغداد بعد أن دمّرها التتار
يا ليلُ ، يا عينُ ، يا أحلامُ ، يا قمرُ

يا حبُّ، يا وجدُ ، يا أشواقُ ، يا سهرُ
شطَّ المزارُ، وكلُّ الصحْبِ قد هجروا
فأظلمَ الكونُ ، لا أُنسٌ ولا سمرُ!
فاروق شوشة، يبكي بغداد بعد أناحتلها الأمريكان
1. الشاعر:
الشعر نبيذ العالَم. يحتسي الشاعرُ نبيذَه، فينتشي، فيحلِّق خيالُه في سماوات الخير والحقِّ والجمال. ومن عليائه يطلُّ على وطنه وأهله، فيرى ببصيرته ما لا يرون بأبصارهم. فيُطلق صوته واصفاً ومنبِّـهاً ومنبِّــئاً، ويُحرق قلبه ليشتعل شمعة تنير الحقل والمصنع والطريق، لبناء عالمٍ أفضل. فالشاعر هو الشاهد على عصره، وهو ضمير الأُمَّة الحي، وهو الناطق بآلامها وآمالها؛فهو الذي يفتخر بها عندما تزدهي وتتقدَّم، وهو الذي تتلظى مهجته شعراً عندما تنحطّ وتتأخَّر، أو عندما تُهزَم وتُنحَر، فيكتب رثاءه بدم القلب ودمع العين.
فاروق شوشة شاعر العربية الكبير، وهو كبير لا في روعة شعره فحسب،بل في تجاوبه مع قضايا أمّته العربية أيضاً؛ تماماً كأحمد شوقي الذي كان صوت الأمة العربية في عصره: يبكي دمشق بعد أن أحرقها المستعمرون الفرنسيون، ويرثي عمر المختار بعد أن شنقه المستعمرون الإيطاليون، ويتصاعد وجيب قلبه مع نضال كل بلد عربي آخر من أجل التحرّر والسيادة والتنمية.
وعندما تتعرَّض بغداد للعدوان والاحتلال الأمريكي، نجد فاروق شوشة يكتب قصائد بغدادية الهوى عراقية الحزن، الواحدة تلو الأخرى ثمَّ يجمعها في ديوان يطلق عليه اسم “ موال بغدادي”، وهو عنوان إحدى قصائده.
2. عتبات الديوان:
أ ـ صفحة العنوان:
تحمل صفحة العنوان ثلاثة أسماء فقط: اسم الشاعر “ فاروق شوشة” في وسط أعلى الصفحة، وقد اتشح باللون الأسود، شعار الحزن والحداد لدى العرب المشارقة؛ وعنوان الديوان “ موال بغدادي” في وسط الصفحة، بخط أحمر إشارة إلى الدم المراق في بغداد ظلماً وعدواناً، واسم الناشر “ الدار المصرية اللبنانية” في وسط أسفل الصفحة باللون الأزرق، وهو اللون المفضل في عيون العرب.
وخلفية هذه الأسماء جميعها باللون الأخضر الباهت، الذي تنتثر فيه حروف عربية بخطوط متنوعة وألوان باهتة مشتقّة من اللون الأخضر، وتشير هذه الحروف إلى أن اللغة العربية هي أساس الهُوية العربية، الجامعة بين الشعوب الناطقة بها، الحاملة لتراثهم العظيم، المنتجة لآدابهم وأشعارهم، المنزَّل بها القرآن جوهر عقيدتهم، الموحِّدة لعواطفهم ومشاعرهم النبيلة.
والصفحة الرابعة من الغلاف هي تكرار لمحتويات صفحة الغلاف الأولى، بطريقة مختلفة. فبدلاً من اسم الشاعر نجد صورته، وبدلاً من عنوان الكتاب، ثمة مقطع دالٌ من أحدى قصائده، ويبقى اسم الناشر كما هو “ الدار المصرية اللبنانية”، وكانه يقول مهما جرى من تغيير، فإن ديارنا العربية باقية.
والمقطع الذي اختاره الشاعر ليتربَّع في وسط الصفحة الرابعة من الغلاف، يشير إلى اعتزاز الشاعر ببغداد لا لكونها جزءً من وطنه العربي الكبير فحسب، بل لأنها كذلك عاصمة الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي، عصر هارون الرشيد والمأمون والكندي والخوارزمي. فحبُّه لبغداد حبٌّ حضاري، تماما كما أن حقد أعداء بغداد عليها حقدٌ حضاري. فقد أنبأنا التاريخ أن العدو يستهدف أوَّل ما يستهدف رموز الثقافة في البلاد، فيحرق مكتباتها ويدمر جامعاتها، وهذا ما فعله التتار بمعاهد العراق في بغداد وما فعله الصليبيون بمكتبات الشام. وهذا المقطع يشتمل على صورة مجازية جميلة، تكون الحضارة فيها مثل مزرعة مثمرة يُظِلُّ نخيلُها الناسَ من هجير الشمس، وتساعد على تغذيتهم وتيسير حياتهم وترقيتها. يقول شوشة مخاطباً بغداد:
أنتِ العراقُ، فهل تدرينَ ما أنتِ؟
يا نخلةً سمقتْ في عالم النبـــتِ
وظلّلتْ كلَّ حيٍّ حيثما كنتِ
أمومةً من رحيق الطلِّ والوقتِ
وعلى الرغم من أن الفنان التشكيلي حامد العويضي هو الذي صمم الغلاف، فإنني لا أشك مطلقاً في أن الشاعر فاروق شوشة هو الذي أشرف على التصميم، واختار محتوياته، وأقترح ألوانه، وقسَّم مسافاته وأبعادها. فهو ليس شاعراً يرسم بالكلمات فحسب، بل هو أيضاً مثقَّفٌ مولع بالفنون عموماً، و”الفرشاة” و”الألوان” و”اللوحات” كذلك، وتتردَّد هذه المفردات في كثير من قصائده.
ب ـ العنوان:
في العنوان غموض، فالشكل (الحركات) لم يوضع على مفردتي العنوان “ موال بغدادي”. وهكذا يُمكن أن يُقرأ على وجهين:
الأول: ” مَوّالٌ بغداديٌّ”، بمعنى أنه موال ينتمي إلى بغداد أو عن بغداد.
والثاني: “ مَوّالُ بغداديٍّ” وهنا له معنيان كذلك: أولهما، إنه موالُ رجلٍ من بغداد، أو أن الشاعر يعدّ نفسه بغدادياً، بمشاعره القومية، وأحاسيسه العروبية، ومحبته اللامتناهية لبغداد وأهلها وتراثها. وثانيهما، إنه “ موال فاروق شوشة البغدادي”، لأن جدَّ الشاعر كان يُلقَّب بالبغدادي. وفي صعيد مصر، كانت صفة “ بغدادي” تُطلَق على الرجل الوسيم المتأنق في ملبسه ومظهره، لأن بغداد تمثل كل ما هو جميل لكونها عاصمة الحضارة العربية الإسلامية في أزهى عصورها. وهذه ظاهرة لغوية عامة تُعدُّ من أسباب التطوّر اللغوي. فالرجل المشهور بشجاعته، مثلاً، يُطلَق عليه لقب “عنتر”. وفي أوربا القروسطية، كانوا يُطلقون كلمة “ شيخ” على الرجل الأنيق الملبس، لأن شيوخ العرب كانوا أهل الأناقة . ولما كان صوت “ الخاء” غير موجود في معظم اللغات الأوربية، أصبحت الكلمة “شيك” بالإنكليزية والفرنسيةchic . ثم جاء بعض العرب وعرّبها بكلمة (الشياكة).
ج ـ الإهداء :
في أول صفحة من الديوان، يطالعك الإهداء: واضحاً، ومباشراً، وجزلاً:
“ إلى بغداد: الحلم، والأسطورة، والغياب. فاروق شوشة”
فبغداد حلم جميل راود النفس العربية، وظلَّ يراودها، حتى أصبحت أسطورة رائعة بتراثها العلمي والأدبي والإنساني، ثم حصل غيابها ليترك أبناء العروبة ينشدون مواويلهم بحسرة وأسى وكثير من الدمع.
د ـ الإنتاج الأدبي:
عنوان العتبة الأخيرة في الكتاب “ صَدَرَ للشاعر” في صفحتين. نستشف منها أن إنتاج فاروق شوشة ينقسم على ثلاثة أنواع أدبية:
الأول، المجموعات الشعرية التي أصدر منها 15 مجموعة شعرية حتى تاريخ صدور “ موال بغدادي”، إذ أصدر بعد ذلك بضع مجموعات شعرية. وفي هذا النوع نجد أن أول مجموعة شعرية “ إلى مسافرة “ صدرت سنة 1966.
والثاني، دراسات ومختارات، ويبلغ عددها 13 إصداراً، وتضم هذه الإصدارات كتاب“ لغتنا الجميلة” الذي نُشِرت طبعته الأولى سنة 1973والذي يضم حلقات برنامجه الإذاعي الشهير “ لغتنا الجميلة “ الذي كان يقدِّمه أسبوعيا خلال سنوات طويلة. وتضم هذه الدراسات كتابيه الذائعي الصيت “ أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي” ( طبعته الأولى 1973)، و “ أحلى عشرين قصيدة في الحب الإلهي” ( طبعته الأولى سنة 1983)، ولهما طبعات متعدِّدة.
والثالث، تحقيق وتعليق، الذي يشمل عمله في أربعة كتب مثل ديوان عبد الرحمن شكري وديوان عبد الحميد الديب.
والرابع، شعر الأطفال، وذُكِر هنا من مجموعاته الشعرية السبع للأطفال أربعُ مجموعات.
3. الديوان:
يقع الديوان في 120 صفحة من القطع المتوسط، ويضم اثنتي عشرة قصيدة، نصفها حول أزمة العراق بعد الاحتلال الأمريكي، ويدور نصفها الأخر حول موضوعات عربية ذات علاقة بأحزان المواطن العربي.
والقصائد الست الأولى هي قصيدة “ مفتتح” التي مطلعها “ ما عاد في المصباحِ زيتْ/ والروحُ في سقف الحلوقِ تئنُّ”؛ وقصيدة “ طوبى لصانع السلام “ الموجهة إلى الرئيس الأمريكي ومطلعها “ يا سيدي القابع في ظلامك الوحشي/ في إهاب بيتكَ ـ الذي يحتالُ للبياض ـ/” ؛ وقصيدة “ من مواطن مصري إلى رئيس أمريكي” ومطلعها “ أوشكتُ أُقرئك السلامَ/ فلم تُطِقْ شفتايَ/ مثلكَ ليس يدركُ ما السلام!"؛ وقصيدة " موال بغدادي"؛ وقصيدة " بغداد" التي مطلعها " كيف الرقاد؟ وأنتِ الخوفُ والخطرُ/ وليلُ بغدادَ ما له قمرُ".
وستقتصر دراستنا على قصيدة " موال بغدادي" التي منحت عنوانها للديوان كلِّه.
4. معمار القصيدة:
لأن فاروق شوشة يمتلك اللغة العربية وأسرارها، ومتمكّن من السباحة بمهارة في جميع بحور الشعر وعروضها، فإنه وضع لهذه القصيدة خارطة بناء محكمة قبل الشروع في كتابتها. وهذا لا يتنافى مع تلقائية القصيدة وصدورها عن قلب مكلوم ونفس مهيضة.
تتألَّف القصيدة من 10 مقاطع. وكل مقطع منها يتألف من 12 شطراً موزعة على الشكل التالي:
6 أشطر من الوزن البسيط بقافية أولى + 4 أشطر من الرجز بقافية ثانية + 2 شطران من وزن البسيط بالقافية الأولى.
ويلخص الجدول التالي المقاطع وأوزانها وقوافيها:
قافيتهما
وزن الشطرين
الأخيرين




فافيتها
وزن الأشطر
الأربعة الوسطى
قافيتها
وزن الأشطر الست الأولى
المقطع
رُ
البسيط
لًه
الرجز
رُ
البسيط
1
دُ
البسيط
لْ
الرجز
دُ
البسيط
2
لِ
البسيط
وا
الرجز
لِ
البسيط
3
رْ
البسيط
لُ
الرجز
رْ
البسيط
4
دُ
البسيط
نا
الرجز
دُ
البسيط
5
رُ
البسيط
دِ
الرجز
رُ
البسيط
6
مُ
البسيط
ضِ
الرجز
مُ
البسيط
8
تِ
البسيط
لتْ
الرجز
تِ
البسيط
9
نُ
البسيط
فِ
الرجز
نُ
البسيط
10

والسؤال الذي يطرح نفسه، كما يقولون، هو لماذا اختار شوشة ـ وهو الذي لا يُعجِزه وزن ـ وزني البسيط والرجز لقصيدته؟
يكمن الجواب في طبيعة الأوزان الشعرية وتأثيراتها النفسية. فالشعراء المُجيدون يختارون وزن البسيط الذي يتسم بالفخامة للأمور الجادَّة والحزينة، ويختارون الرجز في المعارك والملمّاتلتحفيز الهمم. فأبو تمام مثلاً اختار وزن البسيط لقصيدته " وا معتصماه " التي مطلعها:
" السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ في حدّهِ الحدُّ بينَ الجَدِّ واللعبِ"
كما أن الشاعر ابن زيدون اختار وزن البسيط لقصيدته التي يتأسى فيها على فراق حبيبته الولادة بنت الخليفة المستكفي في الأندلس:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا ونابَ عن طيب لقيانا تجافينا
ويلاحظ أن قصيدتي شمس الدين الكوفي وتقي الدين التنوخي في رثاء بغداد في مطلع مقالنا هذا، هما من الوزن البسيط كذلك.
بيد أن الشاعر فاروق شوشة لم يتبع الوزن البسيط بحذافيره وتفعيلاته الثماني، أربعٌ في الصدر ومثلها في العجز:
مُستفعِلُنْ فاعِلُنْ مستفعلن فاعلن مستفعلُن فاعلن مستفعلنٌ فاعلن
بل اختار أن يتكوَّن الجزء الأول من المقطع من خمسة أشطر وكل شطر يتألَّف من أربع تفعيلات، وأن البيتيْن الأخيريْن هما من وزن البسيط المقطوع:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فَعْلُ
وهكذا يكون الشاعر قد جمع في قصيدته بين تقنيات الشعر العمودي وتقنيات شعر التفعيلة، أو ما يُطلق عليه اسم " الشعر الحر".

-6. التكرار في القصيدة:
التكرار إحدى التقنيات البلاغية التي ترمي إلى تحقيق أُلفة القارئ أو المستمع مع النصّ، وإحداث أثر نفسي فيه. تماماً كما كانت النائحة السومرية أو الثكلى الفرعونية تكرّر مناجاتها للفقيد لتستثير المواجع، وتهيّج المشاعر، وتستدر الدمع.
في مطلع قصيدته " موال بغدادي"، ينادي الشاعر ليله الطويل، وعينه الساهرة، وأحلامه المجهضة، وقمره الآفل. ينادي حبَّه المتأجج، ووجده الشديد، وأشواقه الشمتعله، وسهره المضني. ويشكو إليها بُعد الأحباب الذين هجروا بغداد بعد نكبتها، فيظلمُّ في عينيه الكون كلُّه، ويظلُّ بلا أُنس ولا سمر، ويجدب الحقل وينقطع المطر:
يا ليلُ، يا عينُ، يا أحلامُ، يا قَمرُ
يا حبُّ، يا وَجدُ، يا أشواقُ، يا سهرُ
شطَّ المزارُ، وكلُّ الصَّحْبِ قد هجروا
فأظلمَ الكونُ، لا أُنسٌ ولا ســـمرُ
ولا ظلالٌ، ولا ريٌّ، ولا مَطرُ
يُلاحظ في هذا المقطع استخدام التكرار بكثافة متلاحقة: ويتَّخذ هذا التكرار ثلاثة طرائق:
ألأولى، التكرار اللفظي، الناتج من ترديد أداة النداء (يا) ثماني مرات في الشطرين الأولين من المقطع, ومن تكرار العطف على أداة النفي (ولا) ست مرات في الشطريْن الأخيريْن من المقطع.
الثانية، التكرار النغمي،المتحصَّل من ترداد كلماتٍ على وزن واحد مثل ( لَيْلُ ــ عَيْنُ)، (حُبُّ ـ وجدُ)، ( قَمَرُ ـ سَهَرُ)، ( أحْلامُ ـ أشْواقُ)، بحيثُ ينتج من هذا النوع من التكرار موسيقى داخلية تنضاف إلى الموسيقى الخارجية التي يُحدثها الوزن والقافية. تماماً كما تتضافر الآلات الموسيقية في فرقة سمفونية على إنتاج أفخم الأثر في وجدان المستمعين.
الثالثة، التكرار الدلالي، المقصود منه توكيد المعنى. فعبارة " لا أُنس ولا سمرُ" هي تكرار دلالي، إذ إن لمنطوق العبارتين اللتين سبقتها " فكلُّ الصحب قد هجرو" و " شط المزار"، نتيجة مفهومة هي " لا أُنس ولا سمرُ". وإيراد هذه العبارة الأخيرة ليس حشواً بل هو تكرار قصد إليه الشاعر قصداً. وعبارة " ولا ظِلال" هو تكرار دلالي لعبارة " وأظلم الكون"، فانعدام الظلال هو تحصيل حاصل لظلام الكون.
وينتقي صاحب " لغتنا الجميلة" ألفاظَ قصيدته وتعبيراتها ـ بعناية بالغة ـ من مخزونه اللفظي الهائل وحصيلته اللغوية الكبيرة، فهو يبدأ قصيدته بـ " يا ليلُ، يا عينُ"، لأن معظم المواويل العربية تبدأ بعبارة " يا ليل" و " يا عين". ولأنه يبكي بغداد في نكبتها، كما تبكي الثكلى فقيدها العزيز، فإنه يأتي في مفتتح قصيدته بثماني كلمات قصيرة متتابعة متقطِّعة، مثل نشيج النائحة. ومن ناحية دلالية، يعبِّر عن معنى ( بُعْد الأصدقاء) بـ " شطَّ المزار". وفعل " شطَّ" يدلُّ بالعربية على المبالغة في البُعد. ولكن هذا البُعد فيه تجنِّي وظلم، لأن كلمة (شطَّ) تذكّرنا ـ عن طريق التداعي ـ بـلفظ ( الشطط) الذي يدلّ على الظلم والجور.
ولا يتوقَّف التكرار على المقطع الأول من القصيدة، إذ إن نداء الافتتاح " يا ليلُ" يتردد بأشكال مختلفة في بقية مقاطع القصيدة. فالمقطع الثاني يبدأ بـ :
يا ليلَ بغدادَ: هل بغدادُ بغدادُ
وهلْ لموّالها شدوٌ وإنشادُ
( لاحظ كيف يكرِّر الشاعر اسم بغداد ثلاث مرات في شطرٍ واحدٍ مكوَّنٍ من عدد محدود من التفعيلات،بصورة جميلة موحية تفتح باب التخيُّل والتأويل على مصراعيه أمام القارئ، تماماً كما تَكرَّر اسم ديموزي ثلاث مرات في بيت واحد من بكائية سومرية كانت الأصل الذي قلّدته مزامير داود ، وذلك استبعاثاً للحزن واستدراراً للدمع.)
ويبدأ المقطع الرابع من القصيدة هكذا:
هل أنتَ باقٍ هنا يا ليلُ أم عابرْ؟
وهل وعيتَ الذي يبكي له ُ الشاعر؟
ويبدأ المقطع السادس بـ
يا ليلُ، يا عينُ، يأ أيامُ، يا أبدُ
ويا سراباً خؤوناً كلّه بددُ
وفي المقطع الأخير من القصيدة يعود الشاعر إلى ما بدأ به القصيدة:
يا ليلُ، يا عينُ، يأ أطيافُ، يا محنُ
يا كلَّ جرحٍ جديد ساقه الزمنُ
وفي المقطع السابع ينبِّه الشاعر إلى بعض خفايا احتلال بغداد ويكرر في مطلعه " يا ليل" فيقول:
يا ليلُ يغدادَ، هل تدري بكلِّ خفي
وهل ترى ما أرى في كلِّ منعطفِ
فالشاعر فاروق شوشة يرى ما لا نراه، لا لأنه شاعر كبير يتمتع بخيالٍ مجنَّح فحسب، بل لأنه كذلك إعلامي متمرس يدرك ما وراء الأخبار وما بعدها. فهو يعلم أن لا أحد سيغيث ذلك العراقي المنكوب:
مَن أنتَ يا شاخصاً في البعد تنتظرُ؟
لا تنتظر أحداً، فالقلب ينكســرُ
والسرُّ يُطوى بعيداً ثم يســتترُ
يدرك فاروق شوشة أن بلدان الأمة العربية مكبَّلة، لا تملك قرارها، ولا تغيث غيرها، بل على العكس، يعين بعضها العدو على بعضها الآخر علناً، دون أن تخجل من هذا الخزي، فهي تعدُّه مجداً، تماماً كما كانت تفعل دويلات الطوائف في الأندلس المفقود:
في أُمَّةٍ كُبِّلتْ، فالمجدُ أصفادُ
أما المخازي، فشارات وأمجادُ
ولهذا فهو يخاطب بغداد في قصيدة أخرى من قصائد الديوان قائلاً:
كيفَ الرقادُ؟ وأنتِ الخوفُ والخطرُ ...
ها أنتِ في الأسرِ: جلادٌ ومطرَقةٌ
تهوى عليكِ، وذئبٌ باتَ ينتظرُ
وذابحــوكِ كثيرٌ، كلّــهم ظمأٌ
إلى دماكِ، كأن قد مسَّـهم سـَـعَرُ.

7. الصور الشعرية في الديوان:
الشعر من الفنون الجميلة التي تنبع من تجربة عميقة، وعاطفة مرهفة، وخيال واسع. بل هو سيّد الفنون الجميلة كلها، لأنه يأخذ من جميعها بطرف، ويجمع بين الأدب والرسم والموسيقى في نصوص ممنغَّمة الكلمات زاهية العبارات. والشعر من فنون المحاكاة كالرسم. فالرسام يحاكي الطبيعة برسم صورها بالريشة والألوان، والشاعر يحاكي الفكر والخيال برسم الصور الشعرية بالألفاظ والأوزان. في الصورة الشعرية، يستخدم الشاعر تقنيات التجريد والتجسيد والتشخيص، ويستعمل المجاز من تشبيه واستعارة وكناية وتلميح، من أجل توضيح معانيه العقلية لتقريبها من القارئ أو السامع وتوضيحها له بجلاء وبهاء.
والصور الشعرية هي صور مجازية تؤدي الاستعارة فيها الدور الأعظم. والاستعارة عبارة عن استعمال اللفظ في غير المعنى الذي وضع له، لوجود علاقة مشابهة وتشاكل بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي. ولهذا فإن الاستعارة والصور الاستعارية تكشف الجانب الجمالي للنص الأدبي، وتعدُّ من خصائص اللغة الشعرية.
ومنذ الشعر الجاهلي حتى اليوم، يتميز كبار الشعراء العرب بقدرتهم على إبداع صور شعرية فريدة أخّاذة، على الرغم من أن الشعر العربي قديماً تقلُّ فيه الصور الشعرية نسبياً. بيدَ أن الشعراء العرب المحدثين، أولوا عناية خاصة لهذا الجانب الفني في أشعارهم. ولعل الشاعر فاروق شوشة من أكثرهم عناية بالصور الشعرية التي تأتيه مطواعة، وتندس في مكانها المناسب في القصيدة.
فإذا نظرنا إلى المقطع الأخير المكوَّن من خمسة أشطر، في مقالنا هذا، " كيف الرقاد؟ وأنت الخوف والخطر..." ، نجد صورة شعرية حادة الخطوط، صارخة الألوان، جلية المنظور. ولكن هذه الصورة الشعرية الرائعة مكوّنة من صور صغيرة تشكّل بمجموعها الصورة الكبيرة. فثمة استعارة أو صورة استعارية في كل جملة موسيقية فيها، بل في كل كلمة من كلماتها: الأسر، الجلّاد، المطرقة، الذابحون المسعورون المتعطشون إلى الدماء ، الذئب المتربص. وهنا يجد القارئ نفسه يرثي للذبيحة المسكينة " بغداد".
وخلاصة القول إن ديوان " موال بغدادي" إضافة حديثة متميزة إلى جميع القصائد التي قيلت في بكاء بغداد وندبها بعد كل مرّة تسقط فيها على أيدي الغزاة العتاة وما أكثرهم عبر التاريخ. وما نقموا على بغداد بسبب ثرائها ولمعان جواهرها فحسب، بل كذلك لأنها تمثّل تاج الحضارة العربية الإسلامية في أزهى عصورها. وجميع أنواع النزاعات التي عرفها التاريخ هي في أساسها صراعات حضارية.
بقلم: الدكتور علي القاسمي
كاتب عراقي مقيم في المغرب
عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...