كان مستلقيا ينتظر وقت الخروج من المنزل، يسمع دقات خفيفة على زجاج النافذة، إنها قطرات توحي بيوم ماطر، يشيح الستائر المتدلية، يلقي ببصره إلى أبعد مدى من الشارع الذي يسكن فيه، تتوقف سيارة سوداء اللون تخرج منها امرأة متوسطة العمر، تضع شيئا بجانب الرصيف، تعود إلى السيارة، وتنطلق بسرعة فائقة، لم ينتظر طويلا، نزل طوابق العمارة ، واتجه صوب اللفافة القطنية التي تركتها السيدة، يجد مولودا حديث الولادة، تنعكس على صفحات وجهه آيات الجمال، يفتح عينيه فتسبح في شواطئهما ليأخذانك إلى عوالم
الطهر والنقاء، يبقى عمي صالح واقفا لا يدري مالعمل؟ وما الحيلة في مثل هذا الموقف؟ تتزاحم الأسئلة في رأسه ولا يجد لها جوابا، فكلما قرر موقفا وجد العوائق تنتشر كالفطر في طريقه، لم يفق من غفوته إلا على صراخ المولود بعد أن بللته قطرات الغيث، يضمه إلى صدره ويعود إلى البيت مسرعا، تستقبله زوجته خضرة بحيرة ووجه مليء بالاستفهامات، فهي تعرفه، وتعرف أخلاقه، يخبرها القصة ترحب بالوافد الجديد ويقرران تربيته والتكفل به. لقد أصبح لعمي صالح ولدان ولد من صلبه اسمه سعيد، وولد بالتبني أسماه سعدا. لقد دخل السعد بدخول هذا المولود هذا البيت، لم تشك العائلة ضيقا في الرزق، أو نائبة من النوائب، حرص الأبوان أن ينشئا سعدا وسعيدا تنشئة صالحة، غمراهما بالحنان وأدخلاهما المدرسة، وعاملاهما مثل الشقيقين، زاد الوالد من كرمه وتفضله بأن أعطى اسمه للطفل سعد حتى يحصل المدرسة. توالت الأعوام وفي لحظة من لحظات المكاشفة يقرر الوالدان توضيح الموقف للشاب سعد، يتقبل الوضع ويشكر والديه على صراحتهما، يتلقف سعيد الرسالة ويبوح بالسر الدفين لبعض أصدقائه، تبدأ نار الغيرة في الاستعار، تذكيها الهمسات والغمزات من هنا وهناك، يزداد أوارها اشتعالا في قلبه، أصبح ينظر إلى أخيه بصورة المغتصب الذي حرمه من أشياء كثيرة، فلو لم تقسم بينهما لاستأثر بها لنفسه، أثر هذا السلوك على تحصيله الدراسي، فكلما تقدم سعد خطوة تأخر سعيد خطوات، لم يجد الأبوان حيلة في التقريب بين الأخوين، ولم يستطع سعد التقرب من أخيه على الرغم من محاولاته العديدة، لقد أصبحا صورتين متضادتين في أخلاقهما وسلوكهما وتعامل أساتذتهما معهما. زادت جرأة سعيد على والديه فأصبح يؤذيهما، بعد معاقرة الخمر ومخالطة رفقاء السوء، فكثيرا ما تهجم عليهما يريد أن يضربهما. في خضم هذا الاضطراب قرر سعد مغادرة البيت، وكان محبوبا من والديه، منعاه من الذهاب وأسلما أمرهما إلى الله في ولدهما، لقد غادر سعيد المدرسة نتيجة غيابه وعدم انضباطه، بينما تفوق سعد وكان من الأوائل، زاد حقده على أخيه ووالديه وقرر أن يؤذي الجميع، شرب حتى السكر وتأبط سكينا وقرر الانتقام، تخفى في درج العمارة، ولما سمع قرع النعال واقترب النازل منه أجهز عليه بطعنة على مستوى الرقبة، لم يكن المطعون سوى جارهم محمود ، ملأ الصراخ مدخل العمارة ، أسرع الناس وأمسكوا بالجاني وسلموه إلى مخفر الشرطة، لم يطل الوقت بالجار محمود حتى توفي، ونال المجرم سعيد جزاءه، بينما بقي عمي صالح وزوجته خضرة يعيشان مع ولدهما سعد، يخدمهما بكل ما أوتي من قوة، يجدان فيه العوض والتسلية لفقد ابنهما الحقيقي، لكن الزيارة الأسبوعية تجمع شتات الآلام، ويبدأ العد العكسي للمعاناة وتخرج الندوب أنيابها التي حفرها ابنهما سعيد على جدار الذاكرة، فتحدث جروحا غائرة، وكأنه لم يشأ المغادرة إلا أن يجرع والديه كأس العذاب حاضرا وغائبا، وعلى الرغم من ذلك لم يفرطا فيه وكان يتأهبان كل أسبوع للزيارة ، فيحضران كل ما لذ وطاب، ويتجهان صوب السجن برفقة ولدهما سعد لزيارته، وبين العودة والعودة تباريح الماضي وخيالات الحاضر، لا تمحوها إلا لمسة خفيفة من يدي سعد يأخذ بيمناه يد والده صالح، وبيسراه يد والدته خضرة وتمطر سحائب الرحمة قبلة ندية يطبعها على جبين كل واحد منهما ويكفكف دمعة حارة يمسحها بيده الندية من خديهما المتهالكين ، ويعود بهما إلى البيت إلى أن يحين وقت الزيارة المقبلة.
د. عبد العزيز بوشلالق جامعة المسيلة 14 فيفري 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق