
ألا تخشون غاشية السماء؟ أأمنتم حومة السنين؟الآن تذكرت.. والآن فهمت والآن الآن أيقنت! الله يرحمك يا والدي! لماذا لم تطلعني على الحقيقة؟ لكن "معلش" لقد كنت لا أزال صغيراً، وعسيرٌ عليّ فهم الأمور، نعم لقد كنت ابن عشر سنين فقط عندما رقدت في ذهني صورة ذاك الرجل مدة شهر، كنت كلما أتخيلها في الليل أنهض فزعاً، لم أدر كيف تمكنت من رؤيته، لكنها جهالة الأشقياء، نعم.. لقد كنت شقياً مذ صغري. تتبعت إثر والدي وتغلغلت بين الحشود مثل قط أليف، لترزخ تلك الصورة على خيالي كل هذه المدة، ولولا شقاوتي لفقدت حينها عقلي. كانت الشمس على وشك الغروب عندما رأيت بعض الرجال، ومنهم والدي، يتراكضون إلى منزل أحد الأشخاص، لم أعرف يومها اسمه بالضبط، ولا من أي عائلة هو، ولا عن موقعه الاجتماعي أو ماذا يعمل. كل ما عرفته آنذاك، بأن اسمه (أبو رعد) وكفى. لم أكن يومها أدري لماذا هم ذاهبون، أبدافع النصرة أم بدافع التشفي؟ لكنني الآن بدأت أدرك أن ذهابهم ما كان إلا للتشفي، هذا ما بدأت أفهمه من بعض الكلمات التي لم أكن أعي معناها في ذلك الوقت. أذكر مثل حلم راودني اللحظة، كيف مخرت بقدميّ الطريتين زحمة الرجال، لأصل إلى جثة مسجّاة لرجل حليق الرأس ضخم المنكبين، لم يبق من رقبته إلا عِرقاً واحداً لا يتجاوز سماكة الإصبع، كان رأسه ضخماً مثل رأس ثور، وفمه فاغر بنحو مرعب، تفوح منه زهومة الموت، بينما وجهه المهشم وأطرافه المضرجة بالدم تبعث الرعب في كل مكان، كان أجسر واحد يكتفي بنظرة واحدة عليه، ثم سرعان يرتد وجِلاً إلى الخلف. أما أنا الفتى الشقي، فمكثت انظر إليه مدة أكثر من ذلك، إلى أن شعرت بساعد غليظ يتلمسني بلطف، ويرجعني إلى الخلف، لم يمكّني غبش عينيّ من تحديد ملامحه، ولما نأى بي، رفعت بصري إليه، إذا به والدي. رجعنا إلى البيت، كان ذلك قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً وربما أكثر، لا أذكر بالضبط. أما بخصوص الانطباع السائد لدى البعض حينها، هو أنه قتل مظلوماً على يد عصابة من المهربين كمنوا له في أحدى الشعاب الوعرية، وقتلوه خشية الوشاية عنهم، لكن الحقيقة الناصعة التي بدأت تتكشف، أن الذين قتلوه، هم رجال المقاومة حينما أمسكوا به متلبساً يخابر اللصوص وقطاع الطرق بأمور يحدد لهم فيها عن أمكنة الفدائيين! أما الحقيقة الأخري، والتي بدأت أدركها الآن، فهي أن رعد الطافح ليس فقط ينحدر من هذه السلالة، بل هو ابنه! ويمتد بأنفاسه الخبيثة وطبعه المقيت إلى صلبه مباشرة!
الشيء الذي أثار استغراب عبدو أكثر من كل ما حدث، هو علمه فيما بعد، أن من عادة اللصوص الاكتفاء بمندوب واحد عند تفريغ تلك القاطرات في الأماكن المشبوهة، وما وجود الأربعة الآخرين، إلا محض مصادفة عندما كانوا يبحثون عن معزة انفلتت من مزارعهم، وضلت الطريق ناحية القرية.
كأنّ شيئاً نخز قلب أحمد في ذلك اليوم، قال في نفسه: يراودني إحساس غريب تجاه عبدو لا أستطيع فهمه، لم يذق طعم النوم في تلك الليلة، انقضّت عليه فيها بعض الشياطين بالوساوس وهي تحدث بعضها عنه بالقول: هو لم يستثمر نباهته في إدارة مصالحه الخاصة، ولو فعل ذلك، لكان من أولئك القلة التي تغنى بأسباب الرفاه! وفي الصباح، كان يشرب قهوته محاولا بأنفاسه اللاهثة طرد إحساسه المقيد بالأغلال. مضت ليلى إلى الخزانة تنقب بموجوداتها، أخرجت صندوقاً صغيراً، التقطت منه خاتماً ذهبياً، وأعطته له قائلة: خذ هذا الخاتم، واشتر لنا به معزة نشرب حليبها ونأكل من جبنها.
رد عليها: لكن هذا مخالف للقانون، فما حادثة إتلاف وتدمير الحديقة ببعيدة!
أطرقت قليلاً وهي تقضم بأسنانها حافة إبهامها برفق قائلة: نحبسها
في مكان لا يعرفه أحد، ونضع على فمها خرقة لكتم ثغائها، ولا ننزعها إلا حين إطعامها وسقايتها، كما ونحفرحفرة تكون ملاذاً لبعرها.
استحسن أحمد الفكرة مستدركا خطورتها، قال: حسناً.. ومن أين نأتي بها؟ بل من ذا الذي سيجرؤ على بيعنا إياها حتى إن وجدت؟
ألقت بيدها إشارة مبهمة، قالت:( دبّر حالك، ولما يشوفوها يوخذوها) توجه إلى صديقه عجيب لعله يساعده بالعثور على تلك المعزة.
رغم البساطة السائدة في شخصية عجيب، لكن ذهنه كان يومض أحيانا بأفكار عابرة تتسم بالجرأة. صمت بعمق، ثم لمعت في ذهنه فكرة، ألقى على أحمد نظرة ثابتة قائلا: لقد تذكرت!
وثب أحمد هاتفاً بحبور: (عنجد!)
ـ نعم نعم. لقد رأيت قبل يومين جاري "عبد الصمد" يسوق معزة إلى بيته، حبذا لو تذهب إليه، وتسأله عما إذا في نيته بيعها، أظنه شخصاً أمينا وثقة، وقل له انك مبعوث من قبلي، ولا أظنه سيفشي لك سراً.
أخرج أحمد من علبته سيجارة، وراح يعب عليها مع كوب من الشاي. مكث عند عجيب حتى اشتدت الظلمة وخلت الشوارع من المارة. نهض وألقى نظرة من النافذة على حركة الناس في الشوارع. لكن الأمر الذي حيره، هو كيف يأمن ثغاءها في الطريق، استعان ثانية بعجيب، فأشار عليه وضع قطعة من الإسفنج بين فكيها، وشبكِها بواسطة سلك بأحد أضراسها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق