⏪⏬
*بقلم الشاعر اليمني : أ.د. مقبل أحمد العمري
أولا : إلمامة من بعيد:
بين غزال المقدشية اليمنية ، وغزال الكردية العراقية ، أكثر من قرن من الزمان ، وبينهما تشابه وفروق كثيرة ، ولكن يجمعهما الاسم
الفريد والجنس الرقيق، والنبوغ الشعري، والشجاعة الأدبية في مواجهة المجتمع ، وعاداته وتقاليده البالية، والحضور الشعري الطاغي في مجتمع شاعري يعج بفحول الشعراء من الرجال.
كما تألقت الشاعرة الشعبية اليمنية غزال المقدشية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، تتألق في عصرنا الحاضر شاعرة فصيحة (بذات المسمى الشاعري) في سماء كردستان العراق متجاوزة الحدود للعراق لكي تحلق في سماء الشعر والأدب العربي والإسلامي كلها.
تلك هي الشاعرة العراقية غزال ابراهيم خدر، شاعرة مبدعة و فيلسوفة حقيقية تنتمي لمدرسة الشعر الحرة الحديثة ، هذه المدرسة التي لست من أنصارها ، وربما قد قضيت جزءا من حياتي قي معارضتها ونقدها اعتزازا بالشعر العمودي وشعر التفعيلية.
بيد أن للجمال تأثيره الطاغي على النفس ، مهما يكن لونه ، أوشكله ، فالجمال مدرسة ذوقية عالمية لايمكن أن تختزله مدرسة واحدة للفن ، أوالشعر، أو الأدب ، أو الموسيقى ، الجمال هو ما يشدك إلى الاعجاب ويجبرك على التبسم في حضرته والتوقف أمام روعته، والانحناء لعظمته ، وهذا ما حدث لي حين وقفت على قصائد هذه الشاعرة العراقية المتميزة جدا.
إن مطالعتي لقصائد الشاعرة غزال التي وقعت بين يدي من ديوانها الآنف الذكر ، وهو المطبوع الوحيد بالعربية ، قد جعلتني شديد الإعجاب، بإسلوبها البنيوي، والفني ، والجمالي في كتابة قصائدها ، وكذلك العمق الموضوعي في تجاربها الشعرية ، والبلاغة ، والتميز في التصوير والتشبيه ، وكذلك التنوع في اختيار المواضيع ، وعرض المشاكل الاجتماعية، والسياسية في مجتمعنا العراقي ، وبيئتنا العربية عامة ، ونقدها، ومعالجتها بلغة فصحى أنيقة رقيقة راقية أشبه بنصوص وتعاليم إنجيلية نزلت ذات يوم من السماء .
هكذا تحدثت الشاعرة لعراقية الكردية غزال ابراهيم ، وأبدعت ،حتى إتا نعتبرها اليوم بحق رائدة من رواد مدرسة الشعر الحديث ، أوما يسمى مدرسة النثر ، أو القصيدة المنثورة ، والتي عرفتها الناقدة الفرنسية سوزان برنار بأنها : (قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور) .
ففي مجال قصيدة النثر ، لا تقل الشاعرة العراقية الكبيرة غزال ابراهيم أهمية ، عن جبرا إبراهيم جبرا، وتوفيق صايغ، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وسركون بولص، وعزالدين المناصرة،و بول شاوول، وسليم بركات،وعباس بيضون،و بسام حجار، وعبد القادر الجنابي، ووديع سعادة.. وهؤلاء هم رواد قصيدة النثر العربية حتى مطلع التسعينيات في القرن العشرين ، وتحديدا من 1954 إلى 1993).
كما أنها تضاهي في بعض قصائدها بودلير ، وتكاد تفوق كثير من شعراء الحداثة النثريين في فرنسا أمثال :أ ندريه شديد، وجوزيان دو جازو، وجيرمين بومون، ومارجريت يورسنار،ومارسلين فالمور، وماري لو فرانك ، وغيرهم من حداثيي فرنسا والغرب .
ولذلك يسعدني أن أقدمها إلى القراء والمهتمين في اليمن السعيد ، وفي العراق المجيد ، وفي كل أوطان الضاد .
فمن هي هذه الشاعرة العراقية العملاقة ؟
والتي لم تأخذ حقها بعد من النجومية والتألق، وكذلك حقها من التكريم .
ثانيا: ملخص السيرة الذاتية للشاعرة غزال ابراهيم :
اسمها العربي غزال ابراهيم خدر، وبالكرد ية: (كه زال ابراهيم خدر).
من قصبة قلعة “دزة”، شاعرة كردية عراقية من إقليم كوردستان العراق، تقيم وتعمل في محافظة السليمانية ،.موظفة حكومية في إعدايّة الصناعة، .متزوجة من مدرس في هذه المدرسة ،ولها منه ثلاثة أبناء، بنتان وولد. إحداهما مدّرسة لغة انكليزية، والثّانيّة طالبة جامعة متخصّصة في الرّسم، ولها ولد ثالث لا يزال طالبا في الصفّ السادس الابتدائي حين كتابة هذه السيرة .
شاركت الشاعرة في معظم مهرجانات إقليم كردستان، وحصلت على( 700) جائزة ووسام وشهادات شكر وتقدير في كوردستان العراق،حصلت على المركز الأول في الشعر عن ديوان “قصبة قلعة “دزة” وتسلّمت الجائزة عن هذا المركز من وزير الثقافة العراقي، وحصلت على المركز السادس في الشعر في دولة مصر ،و حصلت على العديد من الجّوائز والشّهادات التقديريّة في الكثير من الدّول العربيّة.
لها الكثير من الإصدارات الأدبية ومنها( 211) ديواناً شعرياً باللغة الكردية، طبعت كلّها على نفقتها الخاصّة، وقد ترجمت بعض دوواين الشاعرة إلى اللغة الفارسية،واللاتينة،¬ والعربية، وبعضها إلى اللغة الانكليزية، والألمانية، والرّوسية، والاسبانية، وقد تناولت دوواينها الشعرية العشرات من رسائل الماجستير، واطروحات الدكتوراه النقدية في جامعات كردستان، وقد تناولها وشعرها ، حوالي (70 ) مقال نقدي كتب باللغة العربية ، وترجم إلى اللغة الكردية ونشر في العديد من الصحف والمجلات العربية في العراق ، وسورية والجزائر، وإيران، و
لها ديوان شعري وحيد مترجم إلى العربية بعنوان “عين للعشق حضن للمحبة”.
و هذا الديوان العربي اليتيم هو الذي سوف أقتطف منه بعض الزهور ، وأنثر منه بعض العطور التي سوف تذكي أريج هذه الشاعرة الكبيرة على نحو أوسع في هذا الكون الفسيفسائي الكبير .
ثالثا: ومضات من شعر غزال ابراهيم :
تفلسف غزال أثر الحب على حياة المرأة من كل النواحي :
حين وجدتك
كنت تلة تحولت الى جبل
كنت نبعاً فأصبحت بحراُ
كنت ليلة قاتمة
فأصبحت صبحا منيراُ
كنت طيراُ في قفص
عدت الى أعالي أغصان الأشجار
لأنثر النغمات الحلوة والأغاني
وتربأ غزال بالوطن أن يكون وطنا إلا أن يكون خاليا من الخوف منزها من الخيانة والخونة ومن الكذب والكاذبين ذلك هو الوطن تقول :
وطني
شوارعه مفعمة برائحة الهلع
وأياديه مثقلة برائحة الخيانة
والسنته ملئية بالأكاذيب
وانا أسمي هذا الوطن!!
ومن قصيدة( الحمائم البيض يتبرعن بالدم في المتاريس ) تتحدث غزال عن عطاء المرأة العراقية للوطن في السلم والحرب لكي يحل الأمن والسلام كما يحل الربيع كل عام :
الحمائم البيض في المتاريس
يتبرعن بالدم من بحور ارواحنا
يحملن بروق سحابة بيضاء
وينظرن في نثيث المطر
كي يحضنَّ زهور نرجس الربيع
في موسم القوس قزح…
وفي مقابل تضحيات النساء تجسد تضحيات الرجال في سبيل الوطن وتعظم كرم الشهداء وأعطيا تهم للوطن:
هم عند بوابة الموت
في التماعة جروح الورود
وفي الحديقة الملآى بآلام الهموم
يرددون نشيدا طافحا بأمواج الصباح
وأنداء رايات قافلة لانهائية
لأجل جمال الوطن
وطن يمنح دوما عطر الإنتظار
يمنحه لقلائد أفرع وأغصان الشجر الحي
كي تغدو ظلالا لقلب الشهيد
وتقطف المحبة.
ولعل تضحيات النساء والرجال تجعل الوطن ينتصر، فيغدو جميلا عابقا بالمحبة كما تقول غزال:
أعف عني يا وطن الجلنار
حين يطلق سناء وجهك الوضاء من علٍ
صيحة الإنتصار
تتفتح العشرات من جلنار بارقة الأعين
تتلألأ العشرات من عرائس المحبة
وتحتضن العشرات من أنوار القمر
أرواحنا وتتراضى..
غزال الفيلسوفة تستطيع فلسفة الشر والخير ، وترى أن ما تكرهه اليوم ربما تحبه غدا ، وما يمكن أن يكون مصدرا للألم ، يمكن أن يكون مصدرا للأمل ، هكذا هي الحياة , وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
تقول غزال :
في طفولتي
كنت شديدة الكره للعاصفة
في احد الايام
جاءت عاصفة
سرقت مني دميتي
ولكني الآن
كلما هبت العواصف
أشتهي فرحاُ
اقول ربما هبت من لدنك
يترشح منها أريجك
المرأة العربية قد تكتم الهوى ، وقد تتنكر للحبيب خوفا من القبيلة ، وخوفا من العار والعيب :
ما بأيدينا
فأحلامنا الماضية
لن تسطيع الطيران
والوصول الى أي بستان
ودموع الطفولة
تجهل العودة الى خلايا الضحك
ماذا أفعل بأناملي الذابلة
لم تستطع ان تكتب “”كن حبيبي
وماذا افعل بشفاهي ولساني
لم تجرأ احداهما ان تقول لك ”
كن عشيقي.
ومن قصيدة “ضفائر سيدة الأنوار” تفلسف غزال واقع المرأة الشرقية وجهلها لحالة الحب الحقيقية:
في الحب ولدت
ولكني أجهل تعريف الحب
نعيش في واقع
تساوت فيه الحياة والموت
ولذلك ترى أن الحب ينبغي أن يظل حيا في القلوب لأنه حين يذبل لا يعود كما كان سابقا:
ماذا نفعل يا عزيزي
حين تذبل الورود
لن تتلاصق مرة ثانية
مع الأعضان
وحين نكتب الآلام
لن تمحيها
لذائذ مئات القبلات…
--
هذه فقط بعض ومضات وشذرات من الديوان العربي الوحيد للشاعرة العراقية الكردستانية الكبيرة غزال ابراهيم خدر ، مرفقا بسيرتها العطرة الغنية ، عسى أن أكون قد أظهرت بعضا من تألق هذه الشاعرة وموهبتها الفنية ، والإبداعية .
رابعاً ، وأخيراً : خاتمة :
وإذا كان لي من تعليق ختامي ، عن هذه العجالة المطوية بالسيرة الغنية ، والثرية بالعطاء ، للشاعرة غزال ابراهيم خدر ، فإنه ربما يدفعني دفعا للقول، أن هذه الشاعرة المبدعة ، لم تأخذ حقها من الإهتمام ، من قبل الدولة العراقية ، والمؤسسات الثقافية العراقية ،والعربية ، ويكفي للتدليل على ذلك أن هذه السيرة أبانت أن شاعرتنا قد تكلفت بطباعة دواوينها ال(21) على نفقتها الخاصة وكفى بذلك غمطا وهضما للشاعرة ، وتقصيرا في حقها ، وقد أنتجت بلا حساب، وأثرت بلاحد بصرف النظر عن تكريم عابر رسمي ، أوفردي حدث هنا أوهناك .
بيد أن هذه الوصمة التي تعتري دولنا العربية ، ومؤسسات النشر والثقافة، هي وصمة عربية عامة ، لأن اهتمام دولنا العربية ، بالسياسة ، وأمور السلطة ، والحكم ، والموت في سبيل تلك القضايا المصيرية ، يجعل الشعر ،والأدب ، والثقافة من آخر الأولويات ، ولذلك نقول لشاعرتنا الغالية لا عزاء وكلنا في الهم شرق ، وكلنا في الظلم والهضم والتجاهل سواء ، ولعل هذا ما يعزيها ولا يجعلها تفقد عزيمتها ، وتنقص من أ لقها وعطائها ، أوتنكص عن أداء رسالتها الخالدة ، الموجهة إلى هذه الأمة ، التي رفعها الإبداع والنضوج ذات يوم ، وهبطت بها إلى مدارك الشقاء ، ثقافة الجهل والقتل هذه الأيام .
بينما كنت أحدث نفسي قائلا: لوكنت رئيسا لحكومة بغداد أو كردستان ، لكانت هذه الشاعرة المبدعة في موقع المسئولية ، لكانت غزال في حكومتي ، وزيرة للثقافة ، إذا بي أفاجأ ، في أيام عيد الأضحى الماضي ، أن الشاعرة الكبيرة الرقيقة تكتب في صفحتها على الفيس منشورا تقول فيه: أنها سوف تضرب عن تلقي التهاني بالعيد السعيد ، وسوف تتوقف عن الاحتفال بمراسم العيد ، لعدم وجود ثمن الطعام والشراب ، و الحلوى ، وكل لوازم العيد ، وذلك بسبب عدم صرف راتبها لأشهر ، وفوجئت أن غزالا مفلسة إلى حد الجوع كما هو حالنا في اليمن الآن !!كأني أسمع الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وهو ينشد من أنشودة المطر :
أ كادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر .. مطر
وفي العراقِ جوعٌ !!
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحىً تدورُ في الحقولِ… حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا – خوفَ أن نُلامَ – بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ – حين يعشبُ الثرى- نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع !!!
-
لقد رأيت شاعرتنا الرقيقة بعد أيام من إعلانها ذاك ، تقود مظاهرة عارمة ضد حكومة كردستان العراق ، للمطالبة براتبها، إنها تقود مظاهرة ضد الجوع ، فكيف لها أن تغني وتنشد في حضرة الجوع ؟!
حينها أردت أن أخاطبها في نفسي قائلا: “سيدتي غزال .. لم أعد أطمح أن تكوني وزيرة ، يكفيني أن تشبعي ، وأن تجدي قوت يومك وأولادك في هذا العراق الغني الفقير ، وفي هذا الكون الفسيح الضيق، وفي هذا العالم العربي الذي يقدم ثرواته للأجنبي ، فيما أنت وأنا وأمثالنا لا نجد ما نأكل ، ، فنلبس ، ونعيش ، بعزة وكرامة”.
ولله در شاعرنا اليمتي الكبير عبد الله البردوني حيث قال قي قصيدة أبي تمام وعروبة اليوم :
شرقت غربت من والٍ إلى ملكٍ ** يحثك الفقر أو يقتادك الطلب ُ
وتجتدي كل لص مترف هبةً ** وأنت تعطيه شعراً فوق ما يهبُ
طوفت حتى وصلت الموصل انطفأت ** فيك الأماني ولم يشبع لها أربُ
في بلاد العرب : يستجدي الشاعر الحكام واللصوص الهبات ، ليعيش حيا ، وهو يعطيهم شعرا أضعاف ما يهبون له من أموال ، ولكن لا يشعرون .
(سوف أحرص أن أقدم هذه الدراسة المختصرة المتواضعة لتنشر في : صحيفة الثورة اليمنية ، الصفحة الأدبية ، وسوف أنشرها لتبقى وتقرأ في ديوان ومنتديات النيل والفرات ، وسوف تبقى في صفحتي هذه ، وفي أكثر المواقع الأدبية التي أعرفها ، وفاء وتقديرا لهذه الشاعرة العراقية الفذة والرقيقة.
-
*.د. مقبل أحمد العمري
*بقلم الشاعر اليمني : أ.د. مقبل أحمد العمري
أولا : إلمامة من بعيد:
بين غزال المقدشية اليمنية ، وغزال الكردية العراقية ، أكثر من قرن من الزمان ، وبينهما تشابه وفروق كثيرة ، ولكن يجمعهما الاسم
الفريد والجنس الرقيق، والنبوغ الشعري، والشجاعة الأدبية في مواجهة المجتمع ، وعاداته وتقاليده البالية، والحضور الشعري الطاغي في مجتمع شاعري يعج بفحول الشعراء من الرجال.
كما تألقت الشاعرة الشعبية اليمنية غزال المقدشية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، تتألق في عصرنا الحاضر شاعرة فصيحة (بذات المسمى الشاعري) في سماء كردستان العراق متجاوزة الحدود للعراق لكي تحلق في سماء الشعر والأدب العربي والإسلامي كلها.
تلك هي الشاعرة العراقية غزال ابراهيم خدر، شاعرة مبدعة و فيلسوفة حقيقية تنتمي لمدرسة الشعر الحرة الحديثة ، هذه المدرسة التي لست من أنصارها ، وربما قد قضيت جزءا من حياتي قي معارضتها ونقدها اعتزازا بالشعر العمودي وشعر التفعيلية.
بيد أن للجمال تأثيره الطاغي على النفس ، مهما يكن لونه ، أوشكله ، فالجمال مدرسة ذوقية عالمية لايمكن أن تختزله مدرسة واحدة للفن ، أوالشعر، أو الأدب ، أو الموسيقى ، الجمال هو ما يشدك إلى الاعجاب ويجبرك على التبسم في حضرته والتوقف أمام روعته، والانحناء لعظمته ، وهذا ما حدث لي حين وقفت على قصائد هذه الشاعرة العراقية المتميزة جدا.
إن مطالعتي لقصائد الشاعرة غزال التي وقعت بين يدي من ديوانها الآنف الذكر ، وهو المطبوع الوحيد بالعربية ، قد جعلتني شديد الإعجاب، بإسلوبها البنيوي، والفني ، والجمالي في كتابة قصائدها ، وكذلك العمق الموضوعي في تجاربها الشعرية ، والبلاغة ، والتميز في التصوير والتشبيه ، وكذلك التنوع في اختيار المواضيع ، وعرض المشاكل الاجتماعية، والسياسية في مجتمعنا العراقي ، وبيئتنا العربية عامة ، ونقدها، ومعالجتها بلغة فصحى أنيقة رقيقة راقية أشبه بنصوص وتعاليم إنجيلية نزلت ذات يوم من السماء .
هكذا تحدثت الشاعرة لعراقية الكردية غزال ابراهيم ، وأبدعت ،حتى إتا نعتبرها اليوم بحق رائدة من رواد مدرسة الشعر الحديث ، أوما يسمى مدرسة النثر ، أو القصيدة المنثورة ، والتي عرفتها الناقدة الفرنسية سوزان برنار بأنها : (قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور) .
ففي مجال قصيدة النثر ، لا تقل الشاعرة العراقية الكبيرة غزال ابراهيم أهمية ، عن جبرا إبراهيم جبرا، وتوفيق صايغ، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وسركون بولص، وعزالدين المناصرة،و بول شاوول، وسليم بركات،وعباس بيضون،و بسام حجار، وعبد القادر الجنابي، ووديع سعادة.. وهؤلاء هم رواد قصيدة النثر العربية حتى مطلع التسعينيات في القرن العشرين ، وتحديدا من 1954 إلى 1993).
كما أنها تضاهي في بعض قصائدها بودلير ، وتكاد تفوق كثير من شعراء الحداثة النثريين في فرنسا أمثال :أ ندريه شديد، وجوزيان دو جازو، وجيرمين بومون، ومارجريت يورسنار،ومارسلين فالمور، وماري لو فرانك ، وغيرهم من حداثيي فرنسا والغرب .
ولذلك يسعدني أن أقدمها إلى القراء والمهتمين في اليمن السعيد ، وفي العراق المجيد ، وفي كل أوطان الضاد .
فمن هي هذه الشاعرة العراقية العملاقة ؟
والتي لم تأخذ حقها بعد من النجومية والتألق، وكذلك حقها من التكريم .
ثانيا: ملخص السيرة الذاتية للشاعرة غزال ابراهيم :
اسمها العربي غزال ابراهيم خدر، وبالكرد ية: (كه زال ابراهيم خدر).
من قصبة قلعة “دزة”، شاعرة كردية عراقية من إقليم كوردستان العراق، تقيم وتعمل في محافظة السليمانية ،.موظفة حكومية في إعدايّة الصناعة، .متزوجة من مدرس في هذه المدرسة ،ولها منه ثلاثة أبناء، بنتان وولد. إحداهما مدّرسة لغة انكليزية، والثّانيّة طالبة جامعة متخصّصة في الرّسم، ولها ولد ثالث لا يزال طالبا في الصفّ السادس الابتدائي حين كتابة هذه السيرة .
شاركت الشاعرة في معظم مهرجانات إقليم كردستان، وحصلت على( 700) جائزة ووسام وشهادات شكر وتقدير في كوردستان العراق،حصلت على المركز الأول في الشعر عن ديوان “قصبة قلعة “دزة” وتسلّمت الجائزة عن هذا المركز من وزير الثقافة العراقي، وحصلت على المركز السادس في الشعر في دولة مصر ،و حصلت على العديد من الجّوائز والشّهادات التقديريّة في الكثير من الدّول العربيّة.
لها الكثير من الإصدارات الأدبية ومنها( 211) ديواناً شعرياً باللغة الكردية، طبعت كلّها على نفقتها الخاصّة، وقد ترجمت بعض دوواين الشاعرة إلى اللغة الفارسية،واللاتينة،¬ والعربية، وبعضها إلى اللغة الانكليزية، والألمانية، والرّوسية، والاسبانية، وقد تناولت دوواينها الشعرية العشرات من رسائل الماجستير، واطروحات الدكتوراه النقدية في جامعات كردستان، وقد تناولها وشعرها ، حوالي (70 ) مقال نقدي كتب باللغة العربية ، وترجم إلى اللغة الكردية ونشر في العديد من الصحف والمجلات العربية في العراق ، وسورية والجزائر، وإيران، و
لها ديوان شعري وحيد مترجم إلى العربية بعنوان “عين للعشق حضن للمحبة”.
و هذا الديوان العربي اليتيم هو الذي سوف أقتطف منه بعض الزهور ، وأنثر منه بعض العطور التي سوف تذكي أريج هذه الشاعرة الكبيرة على نحو أوسع في هذا الكون الفسيفسائي الكبير .
ثالثا: ومضات من شعر غزال ابراهيم :
تفلسف غزال أثر الحب على حياة المرأة من كل النواحي :
حين وجدتك
كنت تلة تحولت الى جبل
كنت نبعاً فأصبحت بحراُ
كنت ليلة قاتمة
فأصبحت صبحا منيراُ
كنت طيراُ في قفص
عدت الى أعالي أغصان الأشجار
لأنثر النغمات الحلوة والأغاني
وتربأ غزال بالوطن أن يكون وطنا إلا أن يكون خاليا من الخوف منزها من الخيانة والخونة ومن الكذب والكاذبين ذلك هو الوطن تقول :
وطني
شوارعه مفعمة برائحة الهلع
وأياديه مثقلة برائحة الخيانة
والسنته ملئية بالأكاذيب
وانا أسمي هذا الوطن!!
ومن قصيدة( الحمائم البيض يتبرعن بالدم في المتاريس ) تتحدث غزال عن عطاء المرأة العراقية للوطن في السلم والحرب لكي يحل الأمن والسلام كما يحل الربيع كل عام :
الحمائم البيض في المتاريس
يتبرعن بالدم من بحور ارواحنا
يحملن بروق سحابة بيضاء
وينظرن في نثيث المطر
كي يحضنَّ زهور نرجس الربيع
في موسم القوس قزح…
وفي مقابل تضحيات النساء تجسد تضحيات الرجال في سبيل الوطن وتعظم كرم الشهداء وأعطيا تهم للوطن:
هم عند بوابة الموت
في التماعة جروح الورود
وفي الحديقة الملآى بآلام الهموم
يرددون نشيدا طافحا بأمواج الصباح
وأنداء رايات قافلة لانهائية
لأجل جمال الوطن
وطن يمنح دوما عطر الإنتظار
يمنحه لقلائد أفرع وأغصان الشجر الحي
كي تغدو ظلالا لقلب الشهيد
وتقطف المحبة.
ولعل تضحيات النساء والرجال تجعل الوطن ينتصر، فيغدو جميلا عابقا بالمحبة كما تقول غزال:
أعف عني يا وطن الجلنار
حين يطلق سناء وجهك الوضاء من علٍ
صيحة الإنتصار
تتفتح العشرات من جلنار بارقة الأعين
تتلألأ العشرات من عرائس المحبة
وتحتضن العشرات من أنوار القمر
أرواحنا وتتراضى..
غزال الفيلسوفة تستطيع فلسفة الشر والخير ، وترى أن ما تكرهه اليوم ربما تحبه غدا ، وما يمكن أن يكون مصدرا للألم ، يمكن أن يكون مصدرا للأمل ، هكذا هي الحياة , وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
تقول غزال :
في طفولتي
كنت شديدة الكره للعاصفة
في احد الايام
جاءت عاصفة
سرقت مني دميتي
ولكني الآن
كلما هبت العواصف
أشتهي فرحاُ
اقول ربما هبت من لدنك
يترشح منها أريجك
المرأة العربية قد تكتم الهوى ، وقد تتنكر للحبيب خوفا من القبيلة ، وخوفا من العار والعيب :
ما بأيدينا
فأحلامنا الماضية
لن تسطيع الطيران
والوصول الى أي بستان
ودموع الطفولة
تجهل العودة الى خلايا الضحك
ماذا أفعل بأناملي الذابلة
لم تستطع ان تكتب “”كن حبيبي
وماذا افعل بشفاهي ولساني
لم تجرأ احداهما ان تقول لك ”
كن عشيقي.
ومن قصيدة “ضفائر سيدة الأنوار” تفلسف غزال واقع المرأة الشرقية وجهلها لحالة الحب الحقيقية:
في الحب ولدت
ولكني أجهل تعريف الحب
نعيش في واقع
تساوت فيه الحياة والموت
ولذلك ترى أن الحب ينبغي أن يظل حيا في القلوب لأنه حين يذبل لا يعود كما كان سابقا:
ماذا نفعل يا عزيزي
حين تذبل الورود
لن تتلاصق مرة ثانية
مع الأعضان
وحين نكتب الآلام
لن تمحيها
لذائذ مئات القبلات…
--
هذه فقط بعض ومضات وشذرات من الديوان العربي الوحيد للشاعرة العراقية الكردستانية الكبيرة غزال ابراهيم خدر ، مرفقا بسيرتها العطرة الغنية ، عسى أن أكون قد أظهرت بعضا من تألق هذه الشاعرة وموهبتها الفنية ، والإبداعية .
رابعاً ، وأخيراً : خاتمة :
وإذا كان لي من تعليق ختامي ، عن هذه العجالة المطوية بالسيرة الغنية ، والثرية بالعطاء ، للشاعرة غزال ابراهيم خدر ، فإنه ربما يدفعني دفعا للقول، أن هذه الشاعرة المبدعة ، لم تأخذ حقها من الإهتمام ، من قبل الدولة العراقية ، والمؤسسات الثقافية العراقية ،والعربية ، ويكفي للتدليل على ذلك أن هذه السيرة أبانت أن شاعرتنا قد تكلفت بطباعة دواوينها ال(21) على نفقتها الخاصة وكفى بذلك غمطا وهضما للشاعرة ، وتقصيرا في حقها ، وقد أنتجت بلا حساب، وأثرت بلاحد بصرف النظر عن تكريم عابر رسمي ، أوفردي حدث هنا أوهناك .
بيد أن هذه الوصمة التي تعتري دولنا العربية ، ومؤسسات النشر والثقافة، هي وصمة عربية عامة ، لأن اهتمام دولنا العربية ، بالسياسة ، وأمور السلطة ، والحكم ، والموت في سبيل تلك القضايا المصيرية ، يجعل الشعر ،والأدب ، والثقافة من آخر الأولويات ، ولذلك نقول لشاعرتنا الغالية لا عزاء وكلنا في الهم شرق ، وكلنا في الظلم والهضم والتجاهل سواء ، ولعل هذا ما يعزيها ولا يجعلها تفقد عزيمتها ، وتنقص من أ لقها وعطائها ، أوتنكص عن أداء رسالتها الخالدة ، الموجهة إلى هذه الأمة ، التي رفعها الإبداع والنضوج ذات يوم ، وهبطت بها إلى مدارك الشقاء ، ثقافة الجهل والقتل هذه الأيام .
بينما كنت أحدث نفسي قائلا: لوكنت رئيسا لحكومة بغداد أو كردستان ، لكانت هذه الشاعرة المبدعة في موقع المسئولية ، لكانت غزال في حكومتي ، وزيرة للثقافة ، إذا بي أفاجأ ، في أيام عيد الأضحى الماضي ، أن الشاعرة الكبيرة الرقيقة تكتب في صفحتها على الفيس منشورا تقول فيه: أنها سوف تضرب عن تلقي التهاني بالعيد السعيد ، وسوف تتوقف عن الاحتفال بمراسم العيد ، لعدم وجود ثمن الطعام والشراب ، و الحلوى ، وكل لوازم العيد ، وذلك بسبب عدم صرف راتبها لأشهر ، وفوجئت أن غزالا مفلسة إلى حد الجوع كما هو حالنا في اليمن الآن !!كأني أسمع الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وهو ينشد من أنشودة المطر :
أ كادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر .. مطر
وفي العراقِ جوعٌ !!
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحىً تدورُ في الحقولِ… حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا – خوفَ أن نُلامَ – بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ – حين يعشبُ الثرى- نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع !!!
-
لقد رأيت شاعرتنا الرقيقة بعد أيام من إعلانها ذاك ، تقود مظاهرة عارمة ضد حكومة كردستان العراق ، للمطالبة براتبها، إنها تقود مظاهرة ضد الجوع ، فكيف لها أن تغني وتنشد في حضرة الجوع ؟!
حينها أردت أن أخاطبها في نفسي قائلا: “سيدتي غزال .. لم أعد أطمح أن تكوني وزيرة ، يكفيني أن تشبعي ، وأن تجدي قوت يومك وأولادك في هذا العراق الغني الفقير ، وفي هذا الكون الفسيح الضيق، وفي هذا العالم العربي الذي يقدم ثرواته للأجنبي ، فيما أنت وأنا وأمثالنا لا نجد ما نأكل ، ، فنلبس ، ونعيش ، بعزة وكرامة”.
ولله در شاعرنا اليمتي الكبير عبد الله البردوني حيث قال قي قصيدة أبي تمام وعروبة اليوم :
شرقت غربت من والٍ إلى ملكٍ ** يحثك الفقر أو يقتادك الطلب ُ
وتجتدي كل لص مترف هبةً ** وأنت تعطيه شعراً فوق ما يهبُ
طوفت حتى وصلت الموصل انطفأت ** فيك الأماني ولم يشبع لها أربُ
في بلاد العرب : يستجدي الشاعر الحكام واللصوص الهبات ، ليعيش حيا ، وهو يعطيهم شعرا أضعاف ما يهبون له من أموال ، ولكن لا يشعرون .
(سوف أحرص أن أقدم هذه الدراسة المختصرة المتواضعة لتنشر في : صحيفة الثورة اليمنية ، الصفحة الأدبية ، وسوف أنشرها لتبقى وتقرأ في ديوان ومنتديات النيل والفرات ، وسوف تبقى في صفحتي هذه ، وفي أكثر المواقع الأدبية التي أعرفها ، وفاء وتقديرا لهذه الشاعرة العراقية الفذة والرقيقة.
-
*.د. مقبل أحمد العمري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق