1 ⏪⏬حبقة صيفيّة
يَفتل أخي الأكبرُ شاربَه وهو يقترح بصوتٍ عالٍ: "فليكُن ثوبًا لخطيبتي ترتديه يومَ عرسِنا."
أنظرُ إليه وهو يملأ بذلتَه العسكريّةَ بمنكبيْه العريضيْن وجثّتِه الضخمة التي أغبطُه عليها. أحاولُ تقليدَ نبرتِه الواثقة فأقول: "لا يا
جدّتي. فليكن قميصًا لي أرتديه يومَ تخرّجي".
يقاطعُني أخي ساخرًا: "لا مشكلة. تستطيع جدّتي أن تصنعَ لكَ القميص من... بقايا القماش!"
تضجّ الغرفةُ بالضَّحك. ينكمشُ جسدي الناحل ويغوصُ في الكنبة.
تتوالى الاقتراحاتُ: شالٌ لابنة عمّي، بنطالٌ لأبي، فستانٌ لأختي الكبرى، شرشفٌ للطاولة،...
---
كان محلُّ "الخيّاطة جميلة" من أوائل المحلّات التي أُنشِئتْ في حيّنا. الجميعُ يعرفُ جدّتي ويحبُّها، ولكنّها لم تحبَّ أحدًا مثلي، ربّما لكوني أصغرَ فردٍ في العائلة. وها إنّي قد أصبحتُ على أبوابِ التّخرُّج وهي لا تكفُّ عن مناداتي بـ"عصفوري."
أنظرُ إليها ويداعبُ قلبي حزنٌ عميق؛ فقد قرّرتْ إغلاقَ محلِّ الخياطة بعد أن تجاوز عمرُه نصفَ قرن!
نتجمَّعُ حولَها بعد أن عرفنا أنّها ستخيطُ، بقطعةِ قماشٍ كبيرةٍ، شيئًا واحدًا، "للمرّة الأخيرة،" قبل أن تتركَ مهنتهَا وتتفرّغَ لأداءِ واجباتِ شيخوختِها.
تنهالُ عليها الاقتراحاتُ، والكلُّ يحاولُ أن يفوزَ بهذا الشَّرف. يُحْزنني صوتُ جدّتي وهو يلفظُ: "المرّة الأخيرة!" يذكِّرُني هذا بـ"المرّات الأولى" الكثيرةِ التي ازدحمتْ بها حياتُها وروتها جميعَها على مسامعي. كأنْ تقولَ لي: "كانت هذه هي المرّةَ الأولى التي أرى فيها جدَّكَ" أو "لن أنسى المرّةَ الأولى التي قصصتُ فيها شعري."
هذه العبارات تعني دومًا افتتاحيّةَ حكايةٍ جميلةٍ تأسرُني.
إحدى هذه الحكايات بقيتْ محفورةً في قلبي. كانت عن المرّةِ الأولى التي جلس فيها جدّي وجدّتي على شرفتِهما صباحًا كما كانا يفعلان عادةً، ولكنْ بعدَ أن فقد جدّي سمعَه في حرب 1973. يومَها، ابتاع جدّي حبقةً صيفيّةً ووضعها على حرفِ الشُّرفة، وطلب منها أن تمرِّرَ يدَها عليها وهي تحاولُ التّواصلَ معه كي تنبعثَ رائحتُها في الأرجاء. قال لها إنّ رنّةَ صوتها تُحرِّكُ فيه إحساسًا يشبهُ الإحساسَ الذي ستزرعهُ فيه رائحةُ الحبقة الصّيْفيّة!
كلّما روت جدّتي هذه القصّةَ انفجرتْ بالبكاء. وكنتُ أشاركُها بكاءَها في كثيرٍ من الأحيان، وما زلت.
بعد وفاة جدّي، انقطعتْ سلسلةُ "المرّات الأولى" التي تصنعُها جدّتي. كَبُرَ الأولادُ والأحفاد، وبدأت "المرّاتُ الأخيرة" تُطلُّ برأسِها عليها من منعطَفِ الزّمن.
---
أقرعُ بابَ غرفتِها وقلبي يخفقُ فرحًا. أعتقدُ أنّها اختارت أن تخيطَ لي قميصَ التخرّج. وإلّا، فما الذي يدفعُها إلى استدعائي دون غيري؟
يأتيني صوتُها من الداخل، فأفتحُ البابَ، وتجحظُ عيناي.
كانت تقف أمامي في أجملِ فستانٍ طويلٍ أبيضَ رأيتُه، فتبدو كتلك الحبقة الصيفيّة على شرفة جدّي حين بات أصمَّ.
تسألُني بنبرةٍ تشي بالتردُّدِ والتّحدّي في آن: "ما رأيُكَ بجدَّتِك يا عصفوري؟"
أسارعُ إلى معانقتِها: "تبدينَ أجملَ حبقةٍ صيفيّةٍ يمكنُ أن تراها عينٌ."
نتجمَّعُ ونناقشُ مصيرَ محلِّ الخياطة. أخي يريدُ أن يجعلَه بقّاليّة. أقترحُ تحويلَه إلى مكتبة. يتدخَّل عمّي: "لِمَ لا نجعلُه محلّ حلاقةٍ رجاليّة؟ فجميعُ رجال هذا الحيّ يبدون كالعائدين من غزوة!" يضحكُ الجميعُ.
أمّا أنا فأنظرُ إلى باب غرفة جدّتي المُغلَقِ عليها، وعلى رائحةِ الحبق، وعلى المرّاتِ الأولى.
-
2 ⏪⏬غدًا يومٌ جديد
يقف سعيد، الموظَّفُ الأربعينيّ، أمام مرآةِ غرفته بعد أن أوقفَ تشغيلَ الأغاني التي اعتادَ الاستماعَ إليها. لقد اتّخذَ قرارَه وانتهى الأمر. وكيف له أن ينسى المقالَ الذي قرأه صباحًا في الجريدة؟
"ودِّعِ الحزنَ إلى الأبد!"
أعاد ترديدَ العنوان بنشوةِ مَن تعلّمَ القراءةَ حديثًا.
جمعَ المقالُ بعضَ آراءِ علماء النّفس التي تؤكِّد أنّ كلَّ المشاعر التي نختبرُها إراديّةٌ، بإمكانِنا وقفُها أو تركُها تسيطرُ على حياتنا. وضربَ المقالُ أمثلةً كثيرةً عن أشخاصٍ دفعوا بأنفسهم إلى الانتحار بسبب إصرارِهم على أداء دور التّعاسة.
أحسَّ سعيد بأنّه يولَدُ من جديد، وهو الذي لم يكُن له يومًا من اسمِه نصيبٌ. آن الأوانُ ليأخذَ حصَّتَه من اسمِه بمحضِ إرادتِه!
تأمّل نفسَه في المرآة. ما أشدّ ما طالت ذقنُه، وتجعَّدَ جلدُ ما بين حاجبيْه ليكشفَ عن نفسٍ نزّاعةٍ إلى التقطيب في وجه الدّنيا!
لا بأس؛ "فغدًا يومٌ جديد." بهذهِ الجملة اختتمَ المؤلّفونَ المقالَ. تنهَّدَ سعيد، ثمَّ ضحِكَ ضحكةً قصيرة. أحسَّ بالانتعاش، وتخيَّلَ عضلاتِ وجهه وهي تعترضُ على سلوكِه الغريب.
غدًا يومُ عطلتِه، ما سيمنحهُ فرصةً للتمرُّنِ على وضع السعادة قبلَ أن يُطالِعَ زملاءَه بوجهِه الجديد.
---
ضبطَ المنبِّهَ ليستيقظَ باكرًا. لم يُرِدْ أن يُفوِّتَ دقيقةً من هذا اليوم العظيم الذي سيَختبر فيه شعورَ الفرح الإراديّ لأوَّلِ مرّةٍ في حياته. ولكنْ عندما رنَّتِ الساعةُ واهتزّت، ضربَ بها عرضَ الحائط كعادتِه، وصرخَ وزمجرَ وكشَّرَ. ثمّ قفزتْ في وجهِه كلُّ الذّكريات، كما لو أنّه خبَّأها البارحة تحت اللّحاف.
رنّت في أذنيْه كلماتُ أختِه الصُّغرى: "الله يساعد اللي بدّها تبتلي بهيك صباح؛ قلبي معها!" هكذا كانت تُعلِّقُ على سلوكِه الصعب صباحَ كلِّ يوم، وعلى التزامِه الصّمتَ ساعتيْن كاملتيْن بعد استيقاظه. أين أختُه الآن؟ تزوَّجتْ وسافرت منذ عشرة أعوام، ففرغَ البيتُ منها، كما فرغ من أبيه الّذي توفّيَ قبلَ خمسةِ أعوام، ولحقتْ به أمُّه العامَ الماضيَ، فبقيَ وحيدًا وعازبًا.
لطالما فكّرَ في الزّواج، لكنّ مرتّبَه لا يكفيه هو وحدَه. هكذا اتّضحَ أنْ لا وجودَ لامرأةٍ في حياته تبتلي بصباحِه البشع!
---
فجأةً توقَّفَ سيلُ الذّكريات، وعادت عباراتُ المقال تتقافزُ إلى ذهنه، فلامَ نفسَه على أوّلِ إخفاقٍ في الأداء. قفز من السرير وهو يحاول أن يضحك. حلق ذقنَه، وفرك وجهَه بالصابون كأنّه يمحو عنه آثارَ ملامحِه القديمة. شرب عصيرَ الليمون بدلًا من القهوة، وحاول أن يستعيضَ من السجائر بعلكةِ المدخِّنين التي نصحه بها زميلُه.
توجَّهَ إلى مكتبتِه. ولكنّه فكَّر: أيُّ كتابٍ سينفعُه في تعزيزِ وضعِه الجديد؟ تذكّرَ أنّ جميعَ كتبه ملأى بالأسئلة الكبيرة التي لا تجرُّ إلّا التّعاسة. ثمّ قرَّرَ شراءَ كتابٍ جديدٍ كلّ شهريْن ليُبدِلَ مكتبتَه القديمة مكتبةً أخرى ملأى بكتُبِ الأطفالِ والمغامراتِ السحريّة.
ثمّ خطرتْ في باله فكرةٌ جديدة: لقد اعتاد في شبابه الأوَّل أن يكتُبَ القصائدَ، فيجد في ذلك تسليةً كبيرةً. حدثَ الأمرُ عندما أحبَّ جارتَه وأراد أن يُكاشِفَها بحقيقةِ مشاعرِه، فكتبَ لها: "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ، أو شُرفتانِ راح ينأى عنهُما القمرْ!" وعندما سألتْه إنْ كان هو كاتبَ هذه الكلمات، أكَّدَ لها أنّه قضى الليلَ بطولِه يؤلِّفُها، فصدَّقتْه. ولكنّها بعدَ فترةٍ قصيرةٍ اكتشفَت الحقيقةَ، فراحت تُناديه ساخرةً: "تعالَ يا سيّاب" و"اذهبْ يا سيّاب!" وقد صارحَتْه ذاتَ مرَّةٍ بأنّها تتمنّى أن يُحبَّها شاعرٌ ويكتبَ لها كلَّ يومٍ قصيدةً. هكذا بدأت رحلتُه مع الشِّعر، وصار يكتب لها قصائدَ رديئةً باعترافِ جميعِ زملائه، ولكنّها جميلةٌ باعترافِ تلك الحبيبة، التي ما لبثتْ أن رحلتْ ككُلِّ شيءٍ آخرَ أَحبَّه.
هاهو ذا يعودُ إلى الأحزان من جديد. هزّ رأسَه وكأنّه ينفضُ عنه هذه الأفكارَ. عاد إلى الابتسام. ثمّ طردَ فكرةَ كتابةِ القصيدة من رأسِه.
ثمّ خطرتْ له فكرةٌ أُخرى: لمَ لا يُعِدُّ العُدَّةَ لأيّامِه القادمة؟ سيضعُ قائمةً بالكتب والأغاني الجديدةِ التي ستدخلُ حياتَه. حذف أغنيةَ "ليالي العمر معدودة" وأضافَ أغنية "غنّيلي شوي شوي."
أوى إلى سريرِه في المساء وهو مشغولُ البالِ بالغد. راح يتخيَّلُ ردّاتِ فعلِ زملائه وهو يواجههم بابتسامتِه وانطلاقِه.
أخذ يردِّدُ عباراتِ المقال حتّى غفا.
---
تبادل الزّملاءُ النظرات في حيرةٍ وارتباك. غادرَ أحدُهم الغرفةَ، بينما اقتربَ ثلاثةٌ آخرون إلى مكتبِ زميلِهم بحذر.
أخذ سعيد يرتعش، وراح وجهُه يبدِّلُ ألوانَه، ثمَّ أخذ يضحك بطريقةٍ هيستيريّةٍ غافلًا عمَّن حولَه. وحين لحظهم، انفجر بالبكاء.
مال سمير على أذنِ صالح وسأل: "ما الذي جرى له؟" تنهَّدَ صالح وقال: "لقد جاءنا خبرُ الاستغناء عن عددٍ من الموظَّفين، وكان سعيد على رأسِ القائمة."
تدخَّلَ سامي الذي كان يسترقُ السّمْع إلى حديث زميليْه وهمس: "لاحظتُ أنّه لم يكن على طبيعتِه منذ بداية الدّوام. لقد حرص على الابتسام، حتّى تلقّيه الخبرَ."
-
*نغم داؤد
اللاذقيّة
يَفتل أخي الأكبرُ شاربَه وهو يقترح بصوتٍ عالٍ: "فليكُن ثوبًا لخطيبتي ترتديه يومَ عرسِنا."
أنظرُ إليه وهو يملأ بذلتَه العسكريّةَ بمنكبيْه العريضيْن وجثّتِه الضخمة التي أغبطُه عليها. أحاولُ تقليدَ نبرتِه الواثقة فأقول: "لا يا
جدّتي. فليكن قميصًا لي أرتديه يومَ تخرّجي".
يقاطعُني أخي ساخرًا: "لا مشكلة. تستطيع جدّتي أن تصنعَ لكَ القميص من... بقايا القماش!"
تضجّ الغرفةُ بالضَّحك. ينكمشُ جسدي الناحل ويغوصُ في الكنبة.
تتوالى الاقتراحاتُ: شالٌ لابنة عمّي، بنطالٌ لأبي، فستانٌ لأختي الكبرى، شرشفٌ للطاولة،...
---
كان محلُّ "الخيّاطة جميلة" من أوائل المحلّات التي أُنشِئتْ في حيّنا. الجميعُ يعرفُ جدّتي ويحبُّها، ولكنّها لم تحبَّ أحدًا مثلي، ربّما لكوني أصغرَ فردٍ في العائلة. وها إنّي قد أصبحتُ على أبوابِ التّخرُّج وهي لا تكفُّ عن مناداتي بـ"عصفوري."
أنظرُ إليها ويداعبُ قلبي حزنٌ عميق؛ فقد قرّرتْ إغلاقَ محلِّ الخياطة بعد أن تجاوز عمرُه نصفَ قرن!
نتجمَّعُ حولَها بعد أن عرفنا أنّها ستخيطُ، بقطعةِ قماشٍ كبيرةٍ، شيئًا واحدًا، "للمرّة الأخيرة،" قبل أن تتركَ مهنتهَا وتتفرّغَ لأداءِ واجباتِ شيخوختِها.
تنهالُ عليها الاقتراحاتُ، والكلُّ يحاولُ أن يفوزَ بهذا الشَّرف. يُحْزنني صوتُ جدّتي وهو يلفظُ: "المرّة الأخيرة!" يذكِّرُني هذا بـ"المرّات الأولى" الكثيرةِ التي ازدحمتْ بها حياتُها وروتها جميعَها على مسامعي. كأنْ تقولَ لي: "كانت هذه هي المرّةَ الأولى التي أرى فيها جدَّكَ" أو "لن أنسى المرّةَ الأولى التي قصصتُ فيها شعري."
هذه العبارات تعني دومًا افتتاحيّةَ حكايةٍ جميلةٍ تأسرُني.
إحدى هذه الحكايات بقيتْ محفورةً في قلبي. كانت عن المرّةِ الأولى التي جلس فيها جدّي وجدّتي على شرفتِهما صباحًا كما كانا يفعلان عادةً، ولكنْ بعدَ أن فقد جدّي سمعَه في حرب 1973. يومَها، ابتاع جدّي حبقةً صيفيّةً ووضعها على حرفِ الشُّرفة، وطلب منها أن تمرِّرَ يدَها عليها وهي تحاولُ التّواصلَ معه كي تنبعثَ رائحتُها في الأرجاء. قال لها إنّ رنّةَ صوتها تُحرِّكُ فيه إحساسًا يشبهُ الإحساسَ الذي ستزرعهُ فيه رائحةُ الحبقة الصّيْفيّة!
كلّما روت جدّتي هذه القصّةَ انفجرتْ بالبكاء. وكنتُ أشاركُها بكاءَها في كثيرٍ من الأحيان، وما زلت.
بعد وفاة جدّي، انقطعتْ سلسلةُ "المرّات الأولى" التي تصنعُها جدّتي. كَبُرَ الأولادُ والأحفاد، وبدأت "المرّاتُ الأخيرة" تُطلُّ برأسِها عليها من منعطَفِ الزّمن.
---
أقرعُ بابَ غرفتِها وقلبي يخفقُ فرحًا. أعتقدُ أنّها اختارت أن تخيطَ لي قميصَ التخرّج. وإلّا، فما الذي يدفعُها إلى استدعائي دون غيري؟
يأتيني صوتُها من الداخل، فأفتحُ البابَ، وتجحظُ عيناي.
كانت تقف أمامي في أجملِ فستانٍ طويلٍ أبيضَ رأيتُه، فتبدو كتلك الحبقة الصيفيّة على شرفة جدّي حين بات أصمَّ.
تسألُني بنبرةٍ تشي بالتردُّدِ والتّحدّي في آن: "ما رأيُكَ بجدَّتِك يا عصفوري؟"
أسارعُ إلى معانقتِها: "تبدينَ أجملَ حبقةٍ صيفيّةٍ يمكنُ أن تراها عينٌ."
نتجمَّعُ ونناقشُ مصيرَ محلِّ الخياطة. أخي يريدُ أن يجعلَه بقّاليّة. أقترحُ تحويلَه إلى مكتبة. يتدخَّل عمّي: "لِمَ لا نجعلُه محلّ حلاقةٍ رجاليّة؟ فجميعُ رجال هذا الحيّ يبدون كالعائدين من غزوة!" يضحكُ الجميعُ.
أمّا أنا فأنظرُ إلى باب غرفة جدّتي المُغلَقِ عليها، وعلى رائحةِ الحبق، وعلى المرّاتِ الأولى.
-
2 ⏪⏬غدًا يومٌ جديد
يقف سعيد، الموظَّفُ الأربعينيّ، أمام مرآةِ غرفته بعد أن أوقفَ تشغيلَ الأغاني التي اعتادَ الاستماعَ إليها. لقد اتّخذَ قرارَه وانتهى الأمر. وكيف له أن ينسى المقالَ الذي قرأه صباحًا في الجريدة؟
"ودِّعِ الحزنَ إلى الأبد!"
أعاد ترديدَ العنوان بنشوةِ مَن تعلّمَ القراءةَ حديثًا.
جمعَ المقالُ بعضَ آراءِ علماء النّفس التي تؤكِّد أنّ كلَّ المشاعر التي نختبرُها إراديّةٌ، بإمكانِنا وقفُها أو تركُها تسيطرُ على حياتنا. وضربَ المقالُ أمثلةً كثيرةً عن أشخاصٍ دفعوا بأنفسهم إلى الانتحار بسبب إصرارِهم على أداء دور التّعاسة.
أحسَّ سعيد بأنّه يولَدُ من جديد، وهو الذي لم يكُن له يومًا من اسمِه نصيبٌ. آن الأوانُ ليأخذَ حصَّتَه من اسمِه بمحضِ إرادتِه!
تأمّل نفسَه في المرآة. ما أشدّ ما طالت ذقنُه، وتجعَّدَ جلدُ ما بين حاجبيْه ليكشفَ عن نفسٍ نزّاعةٍ إلى التقطيب في وجه الدّنيا!
لا بأس؛ "فغدًا يومٌ جديد." بهذهِ الجملة اختتمَ المؤلّفونَ المقالَ. تنهَّدَ سعيد، ثمَّ ضحِكَ ضحكةً قصيرة. أحسَّ بالانتعاش، وتخيَّلَ عضلاتِ وجهه وهي تعترضُ على سلوكِه الغريب.
غدًا يومُ عطلتِه، ما سيمنحهُ فرصةً للتمرُّنِ على وضع السعادة قبلَ أن يُطالِعَ زملاءَه بوجهِه الجديد.
---
ضبطَ المنبِّهَ ليستيقظَ باكرًا. لم يُرِدْ أن يُفوِّتَ دقيقةً من هذا اليوم العظيم الذي سيَختبر فيه شعورَ الفرح الإراديّ لأوَّلِ مرّةٍ في حياته. ولكنْ عندما رنَّتِ الساعةُ واهتزّت، ضربَ بها عرضَ الحائط كعادتِه، وصرخَ وزمجرَ وكشَّرَ. ثمّ قفزتْ في وجهِه كلُّ الذّكريات، كما لو أنّه خبَّأها البارحة تحت اللّحاف.
رنّت في أذنيْه كلماتُ أختِه الصُّغرى: "الله يساعد اللي بدّها تبتلي بهيك صباح؛ قلبي معها!" هكذا كانت تُعلِّقُ على سلوكِه الصعب صباحَ كلِّ يوم، وعلى التزامِه الصّمتَ ساعتيْن كاملتيْن بعد استيقاظه. أين أختُه الآن؟ تزوَّجتْ وسافرت منذ عشرة أعوام، ففرغَ البيتُ منها، كما فرغ من أبيه الّذي توفّيَ قبلَ خمسةِ أعوام، ولحقتْ به أمُّه العامَ الماضيَ، فبقيَ وحيدًا وعازبًا.
لطالما فكّرَ في الزّواج، لكنّ مرتّبَه لا يكفيه هو وحدَه. هكذا اتّضحَ أنْ لا وجودَ لامرأةٍ في حياته تبتلي بصباحِه البشع!
---
فجأةً توقَّفَ سيلُ الذّكريات، وعادت عباراتُ المقال تتقافزُ إلى ذهنه، فلامَ نفسَه على أوّلِ إخفاقٍ في الأداء. قفز من السرير وهو يحاول أن يضحك. حلق ذقنَه، وفرك وجهَه بالصابون كأنّه يمحو عنه آثارَ ملامحِه القديمة. شرب عصيرَ الليمون بدلًا من القهوة، وحاول أن يستعيضَ من السجائر بعلكةِ المدخِّنين التي نصحه بها زميلُه.
توجَّهَ إلى مكتبتِه. ولكنّه فكَّر: أيُّ كتابٍ سينفعُه في تعزيزِ وضعِه الجديد؟ تذكّرَ أنّ جميعَ كتبه ملأى بالأسئلة الكبيرة التي لا تجرُّ إلّا التّعاسة. ثمّ قرَّرَ شراءَ كتابٍ جديدٍ كلّ شهريْن ليُبدِلَ مكتبتَه القديمة مكتبةً أخرى ملأى بكتُبِ الأطفالِ والمغامراتِ السحريّة.
ثمّ خطرتْ في باله فكرةٌ جديدة: لقد اعتاد في شبابه الأوَّل أن يكتُبَ القصائدَ، فيجد في ذلك تسليةً كبيرةً. حدثَ الأمرُ عندما أحبَّ جارتَه وأراد أن يُكاشِفَها بحقيقةِ مشاعرِه، فكتبَ لها: "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ، أو شُرفتانِ راح ينأى عنهُما القمرْ!" وعندما سألتْه إنْ كان هو كاتبَ هذه الكلمات، أكَّدَ لها أنّه قضى الليلَ بطولِه يؤلِّفُها، فصدَّقتْه. ولكنّها بعدَ فترةٍ قصيرةٍ اكتشفَت الحقيقةَ، فراحت تُناديه ساخرةً: "تعالَ يا سيّاب" و"اذهبْ يا سيّاب!" وقد صارحَتْه ذاتَ مرَّةٍ بأنّها تتمنّى أن يُحبَّها شاعرٌ ويكتبَ لها كلَّ يومٍ قصيدةً. هكذا بدأت رحلتُه مع الشِّعر، وصار يكتب لها قصائدَ رديئةً باعترافِ جميعِ زملائه، ولكنّها جميلةٌ باعترافِ تلك الحبيبة، التي ما لبثتْ أن رحلتْ ككُلِّ شيءٍ آخرَ أَحبَّه.
هاهو ذا يعودُ إلى الأحزان من جديد. هزّ رأسَه وكأنّه ينفضُ عنه هذه الأفكارَ. عاد إلى الابتسام. ثمّ طردَ فكرةَ كتابةِ القصيدة من رأسِه.
ثمّ خطرتْ له فكرةٌ أُخرى: لمَ لا يُعِدُّ العُدَّةَ لأيّامِه القادمة؟ سيضعُ قائمةً بالكتب والأغاني الجديدةِ التي ستدخلُ حياتَه. حذف أغنيةَ "ليالي العمر معدودة" وأضافَ أغنية "غنّيلي شوي شوي."
أوى إلى سريرِه في المساء وهو مشغولُ البالِ بالغد. راح يتخيَّلُ ردّاتِ فعلِ زملائه وهو يواجههم بابتسامتِه وانطلاقِه.
أخذ يردِّدُ عباراتِ المقال حتّى غفا.
---
تبادل الزّملاءُ النظرات في حيرةٍ وارتباك. غادرَ أحدُهم الغرفةَ، بينما اقتربَ ثلاثةٌ آخرون إلى مكتبِ زميلِهم بحذر.
أخذ سعيد يرتعش، وراح وجهُه يبدِّلُ ألوانَه، ثمَّ أخذ يضحك بطريقةٍ هيستيريّةٍ غافلًا عمَّن حولَه. وحين لحظهم، انفجر بالبكاء.
مال سمير على أذنِ صالح وسأل: "ما الذي جرى له؟" تنهَّدَ صالح وقال: "لقد جاءنا خبرُ الاستغناء عن عددٍ من الموظَّفين، وكان سعيد على رأسِ القائمة."
تدخَّلَ سامي الذي كان يسترقُ السّمْع إلى حديث زميليْه وهمس: "لاحظتُ أنّه لم يكن على طبيعتِه منذ بداية الدّوام. لقد حرص على الابتسام، حتّى تلقّيه الخبرَ."
-
*نغم داؤد
اللاذقيّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق