⏪⏬
لم أدخل العناية المركزة من قبل ، والليلة رأيت نفسي في أحد غرفها ؛ ربما كان هذا مجرد كابوس مزعج ، ربما .. .. ولكن ما هذا الهدوء المريب الذي يلف المكان إنه يستفزني ؛ هدوء عجيب لا أسمع فيه إلا صوت النبضات الآلية الصادرة من جهاز بجانبي له
شاشة تشبه شاشة التلفاز !
كنت أرى السقف بعيني يلمع مثل سطح مرآة فضية ؛ تعكس صورة أشخاص يرقدون مثلي على الأسرة المجاورة ؛ فالغرفة كبيرة مقسمة إلى حجرات تفصل بينها الستائر ؛ كانوا خمسة وأنا سادسهم ، لكنهم كانوا شيوخا و عجائز ! إن عمري لا يكاد يصل إلى ربع عمر أحدهم !
قفز إلى رأسي سؤال مخيف : - ماذا أفعل في هذا المكان .. .. ؟
أيقنت أنني لا أحلم بمجرد أن حقنتني ذات الرداء الأبيض والوجه الملائكي بالمهدئ ؛ لم أشعر بسن الإبرة وهو يخترق مبسم الكانولا المغروس سنها في ذراعي ؛ ملمس بشرة أناملها الناعمة فقط جعلني أرتبك ، وبدأ الخدر يسري في وريدي ويتسلل إلى كل أعضائي ! و قبل أن أفقد الوعي، رأيتها تبتسم لي ابتسامة زهور الربيع النضرة ؛ وهي تقول لي ، وما زالت الابتسامة تنير وجهها الذي أشرق كالبدر !
- الحمد لله .. .. أنت تتحسن بسرعة .. .. كنت بين الحياة و الموت .. .. يا ترى ما السبب يا كتكوت ؟
كتكوت .. .. كتكوت ؟! كانت جدتي تقول دائما أن الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح ! وأمي كانت تخصص حجرة كبيرة لتربية البط و الدجاج ؛ وكانت تأذن لي في إطعامها ، و في جمع البيض ، كانت أسعد أوقاتي هي التي أقضيها و أنا أجمع البيض ؛ وكنت أتساءل من أين جاء كل هذا البيض؛ والحجرة ليس فيها إلا البط والدجاج ، والكتاكيت ! حتى جاء يوم أغبر؛ وقفز الديك الأحمر الكبير نحو وجهي ، ونقرني في جبهتي نقرة قوية فتحت حاجبي ، وفجرت الدماء الراكدة في شراييني ؛ فلطخت وجهي و ملابسي؛ ذلك اليوم أظن أنه لم تطلع فيه الشمس ! قضيناه في المستشفى ، وسمعت أمي تقول متوعدة أنها عندما تعود ستذبح ذلك الديك المتغطرس ، وكانت تتعجب كيف حدث ما حدث رغم أنها تقص مناقير الديكة ! باستمرار حتى لا يقتل أحدها الآخر أو يصيبه !
عندما أفقت كان الجميع نائمين ؛ عرفت ذلك من نظرة واحدة للسقف ! كنت أنظر إليه وكأنني أنظر في المرآة ! يا ويلي ما الذي جاء بي وسط أهل الكهف ؟! لا .. .. لا .. أهل الكهف كانوا شبابا ، أما هؤلاء فقد بلغوا أرذل العمر ؛ إنهم موتى ولكن خارج القبور ! ووجدتني أتساءل متعجبا
- هل سأصل إلى ذلك العمر يوما ما ؛ فيبيض شعري ، وتسقط كل أسناني، ويتقوس ظهري ، وأصبح جلدا على عظم ؟
انتزعني من كل هذا إحساسي ببرودة شديدة تتسلل إلى عروقي ! عرفت أنه من تأثير الحقنة الجديدة التي حقنت بها الممرضة المحلول المعلق في الحامل الحديدي بجانب سريري فتحت عيني لأرى وجهها ، أصابني الحزن عندما رأيته ؛ فلم يكن هو وجه الأميرة التي كانت معي في أحلامي منذ لحظات ! بل كان وجه ممرضة أخرى ، أكبر سنا ، وأقل حسنا
ابتسمت لي ، وجلست على حافة السرير ، وانطلقت تحكي لي حكايتها ؛ حسبتها مجنونة ؛ فقد أخبرتني بأشياء لا أدري كيف انزلقت من بين شفتيها ! مر وقت طويل وهي لا تكف عن الحديث ، ورغم أنني لم أكن أرى في المكان أي شيء يخبرني الوقت ؛ إلا أن دقات قلبي كانت تؤكد لي أنه قد مرت ساعتان أو أكثر ! والمرأة لا تزال تحكي حتى بدأت أشعر أن رأسي تدور ، فهمت من كلامها أنها تزوجت وهي صغيرة ، وأنجبت بنتا ، وأن زوجها كان يحبها في البداية ، ولكنه بعد فترة أدمن الشرب ، وبدأ يشارك أصدقاءه في لعب القمار ، ومن وقتها تحولت حياتهم إلى جحيم ؛ يضربها أشد الضرب ويهينها أمام الجميع ؛ ثم فجأة قامت وكشفت لي عن أماكن في جسدها تقول أنه كان يكوها بالنار ! انتبهت كمن لدغته أفعى ، و أردت أن أصرخ في وجهها ، هذه المخبولة ستتسبب لي في فضيحة وأنا على هذه الحالة !
نظرت إلى السقف الفضي ؛ إنه مرآتي الآن ؛ اطمأن قلبي عندما تأكدت أن الجميع يغطون في نوم عميق !
درجة الحرارة بدأت ترتفع ؛ لدرجة أن حبات من العرق بدأت تتكور فوق جبيني ؛ مدت المرأة يدها تمسح عرقي بنفس المنديل الذي تجفف به دموعها! وهي تبتسم لأول مرة ، وتقول :
! - انت عرقت .. .. مع إن التكييف شغال
ثم نظرت في ساعتها ؛ ومدت يدها وفتحت الصندوق الطبي الصغير الذي على المنضدة وأخرجت حقنة و بدأت في تجهيزها ، ثم حقنتني ؛ ومن فرط العصبية والارتباك الواضح عليها وهي تفتح غطاء الكانولا ، ثم وهي تحقنني ؛ جعلت السن المغروس في وريدي يتحرك و يسبب لي ألما رهيبا ، لكن سرعان ما بدأ الخدر يسري في عروقي ، وقبل أن أفقد الوعي رأيتها تبتسم ابتسامة عجيبة !
أسمع أصواتا كثيرة تتداخل وتتشابك ، و لا أستطيع أن أميز أي صوت منها ، هل هي أضغاث أحلام ؟! لا .. .. لا .. .. لقد عرفت الآن ؛ إنهم جيراني .. لقد استيقظوا ، ليس هذا فحسب ولكن لديهم زوار أيضا ؛ أبناء وأحفاد وأقارب ؛ كنت أرى صورتهم في مرآتي الجديدة المعلقة في السقف ، تنبهت إلى أن الجميع لديهم زوار إلا أنا ! ذكَّرني هذا بأنني لا أذكر شيئاً ؛ يا إلهي لقد نسيت من أنا ! بدأت أعصر مخي ، حتى أستعيد بعض ذكرياتي لكن بلا جدوى ، أشعر وكأني أدور في متاهة ؛ لم ينتشلني منها إلا صوت أقدام تقترب ، ربما زوار جاؤوا من أجلي ؛ فوجئت بطبيب ومعه أحد ملائكة الرحمة نظر في أحد السجلات وكتب فيه شيئاً ، ثم ابتسم لي وهو يقول :
- الحمد لله على سلامتك .. .. أنا كتبت لك بعض الأدوية التي ستأخذها لمدة أسبوعين
جهز نفسك للخروج يا بطل !
ثم انطلق هو والممرضة التي معه إلى الحالة التي بعدي ؛ وتركني أغرق في دوامة كبيرة لا أعرف لها بداية و لا نهاية .
-
*متولي محمد متولي بصل
دمياط
لم أدخل العناية المركزة من قبل ، والليلة رأيت نفسي في أحد غرفها ؛ ربما كان هذا مجرد كابوس مزعج ، ربما .. .. ولكن ما هذا الهدوء المريب الذي يلف المكان إنه يستفزني ؛ هدوء عجيب لا أسمع فيه إلا صوت النبضات الآلية الصادرة من جهاز بجانبي له
شاشة تشبه شاشة التلفاز !
كنت أرى السقف بعيني يلمع مثل سطح مرآة فضية ؛ تعكس صورة أشخاص يرقدون مثلي على الأسرة المجاورة ؛ فالغرفة كبيرة مقسمة إلى حجرات تفصل بينها الستائر ؛ كانوا خمسة وأنا سادسهم ، لكنهم كانوا شيوخا و عجائز ! إن عمري لا يكاد يصل إلى ربع عمر أحدهم !
قفز إلى رأسي سؤال مخيف : - ماذا أفعل في هذا المكان .. .. ؟
أيقنت أنني لا أحلم بمجرد أن حقنتني ذات الرداء الأبيض والوجه الملائكي بالمهدئ ؛ لم أشعر بسن الإبرة وهو يخترق مبسم الكانولا المغروس سنها في ذراعي ؛ ملمس بشرة أناملها الناعمة فقط جعلني أرتبك ، وبدأ الخدر يسري في وريدي ويتسلل إلى كل أعضائي ! و قبل أن أفقد الوعي، رأيتها تبتسم لي ابتسامة زهور الربيع النضرة ؛ وهي تقول لي ، وما زالت الابتسامة تنير وجهها الذي أشرق كالبدر !
- الحمد لله .. .. أنت تتحسن بسرعة .. .. كنت بين الحياة و الموت .. .. يا ترى ما السبب يا كتكوت ؟
كتكوت .. .. كتكوت ؟! كانت جدتي تقول دائما أن الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح ! وأمي كانت تخصص حجرة كبيرة لتربية البط و الدجاج ؛ وكانت تأذن لي في إطعامها ، و في جمع البيض ، كانت أسعد أوقاتي هي التي أقضيها و أنا أجمع البيض ؛ وكنت أتساءل من أين جاء كل هذا البيض؛ والحجرة ليس فيها إلا البط والدجاج ، والكتاكيت ! حتى جاء يوم أغبر؛ وقفز الديك الأحمر الكبير نحو وجهي ، ونقرني في جبهتي نقرة قوية فتحت حاجبي ، وفجرت الدماء الراكدة في شراييني ؛ فلطخت وجهي و ملابسي؛ ذلك اليوم أظن أنه لم تطلع فيه الشمس ! قضيناه في المستشفى ، وسمعت أمي تقول متوعدة أنها عندما تعود ستذبح ذلك الديك المتغطرس ، وكانت تتعجب كيف حدث ما حدث رغم أنها تقص مناقير الديكة ! باستمرار حتى لا يقتل أحدها الآخر أو يصيبه !
عندما أفقت كان الجميع نائمين ؛ عرفت ذلك من نظرة واحدة للسقف ! كنت أنظر إليه وكأنني أنظر في المرآة ! يا ويلي ما الذي جاء بي وسط أهل الكهف ؟! لا .. .. لا .. أهل الكهف كانوا شبابا ، أما هؤلاء فقد بلغوا أرذل العمر ؛ إنهم موتى ولكن خارج القبور ! ووجدتني أتساءل متعجبا
- هل سأصل إلى ذلك العمر يوما ما ؛ فيبيض شعري ، وتسقط كل أسناني، ويتقوس ظهري ، وأصبح جلدا على عظم ؟
انتزعني من كل هذا إحساسي ببرودة شديدة تتسلل إلى عروقي ! عرفت أنه من تأثير الحقنة الجديدة التي حقنت بها الممرضة المحلول المعلق في الحامل الحديدي بجانب سريري فتحت عيني لأرى وجهها ، أصابني الحزن عندما رأيته ؛ فلم يكن هو وجه الأميرة التي كانت معي في أحلامي منذ لحظات ! بل كان وجه ممرضة أخرى ، أكبر سنا ، وأقل حسنا
ابتسمت لي ، وجلست على حافة السرير ، وانطلقت تحكي لي حكايتها ؛ حسبتها مجنونة ؛ فقد أخبرتني بأشياء لا أدري كيف انزلقت من بين شفتيها ! مر وقت طويل وهي لا تكف عن الحديث ، ورغم أنني لم أكن أرى في المكان أي شيء يخبرني الوقت ؛ إلا أن دقات قلبي كانت تؤكد لي أنه قد مرت ساعتان أو أكثر ! والمرأة لا تزال تحكي حتى بدأت أشعر أن رأسي تدور ، فهمت من كلامها أنها تزوجت وهي صغيرة ، وأنجبت بنتا ، وأن زوجها كان يحبها في البداية ، ولكنه بعد فترة أدمن الشرب ، وبدأ يشارك أصدقاءه في لعب القمار ، ومن وقتها تحولت حياتهم إلى جحيم ؛ يضربها أشد الضرب ويهينها أمام الجميع ؛ ثم فجأة قامت وكشفت لي عن أماكن في جسدها تقول أنه كان يكوها بالنار ! انتبهت كمن لدغته أفعى ، و أردت أن أصرخ في وجهها ، هذه المخبولة ستتسبب لي في فضيحة وأنا على هذه الحالة !
نظرت إلى السقف الفضي ؛ إنه مرآتي الآن ؛ اطمأن قلبي عندما تأكدت أن الجميع يغطون في نوم عميق !
درجة الحرارة بدأت ترتفع ؛ لدرجة أن حبات من العرق بدأت تتكور فوق جبيني ؛ مدت المرأة يدها تمسح عرقي بنفس المنديل الذي تجفف به دموعها! وهي تبتسم لأول مرة ، وتقول :
! - انت عرقت .. .. مع إن التكييف شغال
ثم نظرت في ساعتها ؛ ومدت يدها وفتحت الصندوق الطبي الصغير الذي على المنضدة وأخرجت حقنة و بدأت في تجهيزها ، ثم حقنتني ؛ ومن فرط العصبية والارتباك الواضح عليها وهي تفتح غطاء الكانولا ، ثم وهي تحقنني ؛ جعلت السن المغروس في وريدي يتحرك و يسبب لي ألما رهيبا ، لكن سرعان ما بدأ الخدر يسري في عروقي ، وقبل أن أفقد الوعي رأيتها تبتسم ابتسامة عجيبة !
أسمع أصواتا كثيرة تتداخل وتتشابك ، و لا أستطيع أن أميز أي صوت منها ، هل هي أضغاث أحلام ؟! لا .. .. لا .. .. لقد عرفت الآن ؛ إنهم جيراني .. لقد استيقظوا ، ليس هذا فحسب ولكن لديهم زوار أيضا ؛ أبناء وأحفاد وأقارب ؛ كنت أرى صورتهم في مرآتي الجديدة المعلقة في السقف ، تنبهت إلى أن الجميع لديهم زوار إلا أنا ! ذكَّرني هذا بأنني لا أذكر شيئاً ؛ يا إلهي لقد نسيت من أنا ! بدأت أعصر مخي ، حتى أستعيد بعض ذكرياتي لكن بلا جدوى ، أشعر وكأني أدور في متاهة ؛ لم ينتشلني منها إلا صوت أقدام تقترب ، ربما زوار جاؤوا من أجلي ؛ فوجئت بطبيب ومعه أحد ملائكة الرحمة نظر في أحد السجلات وكتب فيه شيئاً ، ثم ابتسم لي وهو يقول :
- الحمد لله على سلامتك .. .. أنا كتبت لك بعض الأدوية التي ستأخذها لمدة أسبوعين
جهز نفسك للخروج يا بطل !
ثم انطلق هو والممرضة التي معه إلى الحالة التي بعدي ؛ وتركني أغرق في دوامة كبيرة لا أعرف لها بداية و لا نهاية .
-
*متولي محمد متولي بصل
دمياط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق