⏪⏬
طالما بكت وشعرت بالندم بعد كل حادث بينهما، لكنها سرعان ما تبتسم وتتناسى الألم عندما يبدأ هو بالضحك،
كانت الساحة الفسيحة المقابلة للبيت هي المكان الوحيد الذي يحق لهما أن يلعبا فيه، كانا يبنيان فيه مدينة ثم يهدمونها، يشيدون بيوتا
من الحجارة، ثم يرسمون الحدود ويشقون المنابع و يبنون الطرق والأرصفة و المعابر باستعمال الحجارة الصغيرة وحبات الحصى، كان أهلهم يفرحون أنهما لا يخالطان أبناء الجيران، كانت بينهما صداقة تثير حفيظة الآخرين، و كلما وقعت أعينهم على البيوت الصغيرة ردموها بأقدامهم، و القوا الحجارة عليهم، ليهربوا تاركين البيوت واحلامهم الصغيرة مدمرة.
يكبرها بثلاثة أعوام، رقيق الملامح، ذو بشرة ناصعة البياض، شعر قصير مُجَعَّد وعينان زرقاوان، وهي سمراء البشرة، شعرها أسود طويل منسدل، لا يبدو بينهما في الظاهر تناسب، لكن حبها له وارتباطها الروحي به، جعلاها لا تستطيع أن تفارقه.
اتخذت منه رفيقاً وحارساً شخصياً في طريق المدرسة ذهاباً وإياباً، تنتظره ساعات تحت لهيب الشمس الحارقة، و تحت رحمة المطر الغزير حتى تنتهي الحصص الدراسية ويعودا معاً لتسرد له الحكايا.
يشاكسها و تشاكسه، ويضحكان ملأ أفواههما في الطرقات، كانت تشفق لحاله من حرارة الشمس التي تصبغ وجهه وتدمي بشرته ، وكثيراً ما اختبأت من عيون المارة خلف شجيرات الطريق وخلعت زيها المدرسي لتغطي رأسه من وهج الشمس، رِقته افقدته الشجاعة وسرعة البديهة، بينما هي تفوقه ذكاءً ودهاءً ،وحين كان التلاميذ يسرقون اقلامه ويمزقون أغراضه، تقوم بإعارته القرطاسية خوفاً عليه من غضب والدته وتوبيخ والده .
إنها نهاية الربيع من العام 1972
الاسلاك الشائكة، كانت بمثابة سياج للحديقة المزروعة في حقل القمح الكبير، وكانت الزروع ناضجة مرتفعه وكثيفة، طالما أغرته لاقتراف المصائب.
اقترحت على أحمد أن نختبئ في وسط الزروع، وعندما نسمع ضجيج العربات القادمة، نرشقها بالحصى و نهرب ونختفي بين الزروع ، وَكلّتُ نفسي بمراقبة الطريق بينما هو بقي مختبئاً، وعندما اشرت له، رفع رأسه قليلاً ورشق السيارة واختبأنا بسرعة البرق، توقف السائق بعد مسافة قصيرة وعاد باتجاهنا فلم يجدنا، اقترب من البيت يزمجر ويصرخ، خرج والدي، رحب بالسائق، ولكن غَضب الرجل كان المسيطر على الموقف، اشتكانا له، وَهَْدّد والدي بضرورة اصلاح الزجاج المكسور، في هذه الأثناء، كان أحمد يتوسل إليّ أن لا اشي به واستحلفني، حاولت نفي التهمة، ولكن لا سبيل الى ذلك، لان المنطقة خالية سوى من بيتنا في تلك الحقول، أخفقت وتراجعت عند أول صفعة من والدي، واعترفت بأن أحمد هو من قام برشق السيارة، فما كان من والدي إلا أن أخذ حزاما من الجلد المتين، وانهال على قدميْ احمد حتى جرت الدماء في ركبتيه، شاهدت المنظر فذرفت الدموع حزناً عليه، اقتربت منه اواسيه واقدم اعتذاري، ولكنه لم ينطق بأي حرف، بل اكتفى بالنظر إليّ وعيونه دامعة صامتة، مما زاد في ألمي ووجع قلبي ، حينها تأكدت انه سيغضب طويلاً مني ولن يرافقني في الصباح للمدرسة، بت ليلتي مرهقة حزينة لما حدث لشقيقي ورفيقي المقرب، وفي الصباح، لم أجرؤ على محادثته، بل انتظرت قليلاً امام البيت على أمل ان يخرج ونذهب سوياً ككل يوم، ولحسن الحظ حضر أحمد ومشيناً سوياً، لكنه رفض أن اعتذر مرة اخرى، صمته زاد من حزني و أسفي.
عدنا للبيت يومها، تناولنا الطعام، راجعت دروسي وأحمد مستغرق في النوم، أيقظته مسرعة بأن لدي هدية له وهي فكرة جديدة للعب، حيث يوجد جُرف كبير بين البيت والجبل، هذا الجرف خصص مَكبّا للسيارات والحافلات القديمة، تستخدمه بلدية المدينة تحتفظ بهذه الاكوام من السيارات في باطن الجبل لحين صهرها و إعادة تدوير المعادن فيها.
ذهبنا للجرف، وقمنا باقتلاع الجزء الأمامي لإحدى السيارات القديمة مثلث الشكل حاد الزوايا يشبه مقدمة قارب صغير بشكله وحجمه ، وقمنا بربطه في حبل سميك وسحبناه إلى أعلى قمة الجبل وقلبناه للاتجاه الأملس المطلي، حتى نجلس في التجويف، ولكي تسهل حركته وينزلق من قمة الجبل إلى اسفل المنحدر،
جلست أنا في منتصف المقدمة وأحمد واقف يضع قدما و يستعمل الاخرى لدفع المقدمة، ومن ثم يقفز بجانبي وننزلق من ارتفاع الجبل لأخفض نقطة ونحن نصفق ونغني ليستقر بنا القارب، وفي كل مرة ينقلب الهيكل الحديدي الضخم على رؤوسنا، يهشمنا ويدمي أجسادنا بالجروح.
كان البكاء والصراخ يملأ الوادي، ولا مغيث لنا سوى الصدى يتردد في الجبال، وفي كل مرة كنت اقسم له أنني لن أعود لفعلتي هذه، ولكني سرعان ما أبتسم عندما يهدأ أحمد ويبدأ في الضحك ويقول لي: "هيا، سنعيد المحاولة مرة أخرى"، فأبتسم وأكرر: "هيا يا أحمد، لنفعلها ثانية...
*مريم حوامدة
طالما بكت وشعرت بالندم بعد كل حادث بينهما، لكنها سرعان ما تبتسم وتتناسى الألم عندما يبدأ هو بالضحك،
كانت الساحة الفسيحة المقابلة للبيت هي المكان الوحيد الذي يحق لهما أن يلعبا فيه، كانا يبنيان فيه مدينة ثم يهدمونها، يشيدون بيوتا
من الحجارة، ثم يرسمون الحدود ويشقون المنابع و يبنون الطرق والأرصفة و المعابر باستعمال الحجارة الصغيرة وحبات الحصى، كان أهلهم يفرحون أنهما لا يخالطان أبناء الجيران، كانت بينهما صداقة تثير حفيظة الآخرين، و كلما وقعت أعينهم على البيوت الصغيرة ردموها بأقدامهم، و القوا الحجارة عليهم، ليهربوا تاركين البيوت واحلامهم الصغيرة مدمرة.
يكبرها بثلاثة أعوام، رقيق الملامح، ذو بشرة ناصعة البياض، شعر قصير مُجَعَّد وعينان زرقاوان، وهي سمراء البشرة، شعرها أسود طويل منسدل، لا يبدو بينهما في الظاهر تناسب، لكن حبها له وارتباطها الروحي به، جعلاها لا تستطيع أن تفارقه.
اتخذت منه رفيقاً وحارساً شخصياً في طريق المدرسة ذهاباً وإياباً، تنتظره ساعات تحت لهيب الشمس الحارقة، و تحت رحمة المطر الغزير حتى تنتهي الحصص الدراسية ويعودا معاً لتسرد له الحكايا.
يشاكسها و تشاكسه، ويضحكان ملأ أفواههما في الطرقات، كانت تشفق لحاله من حرارة الشمس التي تصبغ وجهه وتدمي بشرته ، وكثيراً ما اختبأت من عيون المارة خلف شجيرات الطريق وخلعت زيها المدرسي لتغطي رأسه من وهج الشمس، رِقته افقدته الشجاعة وسرعة البديهة، بينما هي تفوقه ذكاءً ودهاءً ،وحين كان التلاميذ يسرقون اقلامه ويمزقون أغراضه، تقوم بإعارته القرطاسية خوفاً عليه من غضب والدته وتوبيخ والده .
إنها نهاية الربيع من العام 1972
الاسلاك الشائكة، كانت بمثابة سياج للحديقة المزروعة في حقل القمح الكبير، وكانت الزروع ناضجة مرتفعه وكثيفة، طالما أغرته لاقتراف المصائب.
اقترحت على أحمد أن نختبئ في وسط الزروع، وعندما نسمع ضجيج العربات القادمة، نرشقها بالحصى و نهرب ونختفي بين الزروع ، وَكلّتُ نفسي بمراقبة الطريق بينما هو بقي مختبئاً، وعندما اشرت له، رفع رأسه قليلاً ورشق السيارة واختبأنا بسرعة البرق، توقف السائق بعد مسافة قصيرة وعاد باتجاهنا فلم يجدنا، اقترب من البيت يزمجر ويصرخ، خرج والدي، رحب بالسائق، ولكن غَضب الرجل كان المسيطر على الموقف، اشتكانا له، وَهَْدّد والدي بضرورة اصلاح الزجاج المكسور، في هذه الأثناء، كان أحمد يتوسل إليّ أن لا اشي به واستحلفني، حاولت نفي التهمة، ولكن لا سبيل الى ذلك، لان المنطقة خالية سوى من بيتنا في تلك الحقول، أخفقت وتراجعت عند أول صفعة من والدي، واعترفت بأن أحمد هو من قام برشق السيارة، فما كان من والدي إلا أن أخذ حزاما من الجلد المتين، وانهال على قدميْ احمد حتى جرت الدماء في ركبتيه، شاهدت المنظر فذرفت الدموع حزناً عليه، اقتربت منه اواسيه واقدم اعتذاري، ولكنه لم ينطق بأي حرف، بل اكتفى بالنظر إليّ وعيونه دامعة صامتة، مما زاد في ألمي ووجع قلبي ، حينها تأكدت انه سيغضب طويلاً مني ولن يرافقني في الصباح للمدرسة، بت ليلتي مرهقة حزينة لما حدث لشقيقي ورفيقي المقرب، وفي الصباح، لم أجرؤ على محادثته، بل انتظرت قليلاً امام البيت على أمل ان يخرج ونذهب سوياً ككل يوم، ولحسن الحظ حضر أحمد ومشيناً سوياً، لكنه رفض أن اعتذر مرة اخرى، صمته زاد من حزني و أسفي.
عدنا للبيت يومها، تناولنا الطعام، راجعت دروسي وأحمد مستغرق في النوم، أيقظته مسرعة بأن لدي هدية له وهي فكرة جديدة للعب، حيث يوجد جُرف كبير بين البيت والجبل، هذا الجرف خصص مَكبّا للسيارات والحافلات القديمة، تستخدمه بلدية المدينة تحتفظ بهذه الاكوام من السيارات في باطن الجبل لحين صهرها و إعادة تدوير المعادن فيها.
ذهبنا للجرف، وقمنا باقتلاع الجزء الأمامي لإحدى السيارات القديمة مثلث الشكل حاد الزوايا يشبه مقدمة قارب صغير بشكله وحجمه ، وقمنا بربطه في حبل سميك وسحبناه إلى أعلى قمة الجبل وقلبناه للاتجاه الأملس المطلي، حتى نجلس في التجويف، ولكي تسهل حركته وينزلق من قمة الجبل إلى اسفل المنحدر،
جلست أنا في منتصف المقدمة وأحمد واقف يضع قدما و يستعمل الاخرى لدفع المقدمة، ومن ثم يقفز بجانبي وننزلق من ارتفاع الجبل لأخفض نقطة ونحن نصفق ونغني ليستقر بنا القارب، وفي كل مرة ينقلب الهيكل الحديدي الضخم على رؤوسنا، يهشمنا ويدمي أجسادنا بالجروح.
كان البكاء والصراخ يملأ الوادي، ولا مغيث لنا سوى الصدى يتردد في الجبال، وفي كل مرة كنت اقسم له أنني لن أعود لفعلتي هذه، ولكني سرعان ما أبتسم عندما يهدأ أحمد ويبدأ في الضحك ويقول لي: "هيا، سنعيد المحاولة مرة أخرى"، فأبتسم وأكرر: "هيا يا أحمد، لنفعلها ثانية...
*مريم حوامدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق