“.. نحتاج الأسيادَ غالبا لا ليسودوا عَلينا، بل ليسوّدوا عنّا الصّفحات المعتمة ويدحرجوها إلى حاويات الزّبالة الّتي نخاف غياب حرّاسها يوما عنها..”
توزيع: رجاء بكريّة
عن قرية في الجليل
هي حقيقة، وتكوي الرّوح لكن ليس بنوّار قندولها كما اعتدنا أن نعتبرها..
فكلّ ما نعرفهُ عن القرية الّتي أحببناها ذات يوم يكاد يتلاشى أو كأنّه تلاشى فعلا, حين أصبحت عمليّة القيادة في شوارع القرية شبه مستحيلة. نساء حصلن على رخص سياقة لا أعرف كيف! شبّان يتهوّرون في استباق مركبات الشّارع الفرعي أو الرّئيسي، وغالبا لا تميّزهم خلف المقود لصغر أعمارهم، كأنّ في مراعاتهم المعقولة لآداب السّياقة مسبّة يجب أن يردّوا الاعتبار لأنفسهم عليها عبر تجاوز رتل طوبل من السيّارت بأقصى طيش ممكن، وفرح مُستَحَق حين ينتصر على قدرات سواه من سائقي التّجربة.
على بعد أمتار يسدّ اتّجاه “الأوتوستراد” الوحيد في القرية
الصّاعد باتّجاه الجبل رقيع ينتظر صديقه، ولا يهمّه أنّ حركة السّير ملخومة ومضرِبَة عن السّير بسببه، وأنّ الشّتائم خلف زجاجات السيّارات المتوقّفة نالت من عائلته كلّها. وأنّ أغربَ “الما لا يهمّ هذه” أنّ جميع الّذين يعضّون على شفاههم ويكزّون على أسنانهم خلف زجاج عجلات القيادة لا يعترضون! أفتح نافذة السيّارة لأستحثّه على السّير لأنّ الازدحام شديد فيهمهم، “يريد خمس دقائق حتّى يخرج صديقة من البيت”، ضريبة الخطوات الّتي سيقطعها صديقه من رصيف الشّارع المتهالك حتّى موقف السيّارات باهظة، فأقدامه من ألماس لا يصحّ أن يلمسه الإسفلت. باهظة حدّ انقطاع النّفَس والحقد على معلّمي السّياقة، جميع معلّمي السّياقة في العالم، ما عدا معلّم السّياقة الّذي علّمني في حيفا حتّى أصول استعمال بوق السيّارة والرّجوع إلى الخلف في شارع “ستيلا مارِس”. خمس دقائق قد تحدث فيها زلازل وهزّات أو مناوشة شرسة بين دولتين عبر لعبة الصّواريخ العابرة للقارّات. وقد ينتهي العالم للاسبب، وهذا الولد لا يفهم أنّ الخمس دقائق أغلى من نعل صديقه وألماسهِ وثمن سيّارته، ومخيّلة رأسهِ الخَرِفة.
في كلّ مرّة أرتبك وأنا أحاول ترتيب خطوات الشّارع، الّتي تمشي عصبيّة بين عجلات سيّارات متوتّرة. يرتفع صوتي وهو ينهر أكتاف شارع يضيق، وحين أقبض على تقطيبة حاجبيّ مكان ابتسامتي تزداد حدّة أنفاسي. في كلّ مرّة أخجل ممّا وصلت إليه القرية الّتي أحببتُ بساطة أهلها وسكينة شوارعها، وفقر الشّارع الانطوائي القصير الّذي يمرّ أمام بيتنا من المركبات الّتي تختاره مسلكا إلى مركز البلد. ذات يوم كلّ شيء كان مختلفا، حين كانت قرية بهواء نظيف وقلب برّاق برائحة الغار، وإكليل الجبل، وفوحِ ورقِ الزّعتر. لا أعرف تماما لماذا اختاروا أن يلعنوها باسم مدينة ويبهدلوا شوارعها وكلّ دكاكينها العاجزة عن العثور على موقف واحد معقول لمركبة تتوقّف كي تتزوّد بحاجيّاتها منها. أنا يقلقني جدا وضع المخابز الّتي لا يجيد السّائقون الجدد الرّجوع إلى الخلف أمام ساحاتها الصّغيرة، تظلّ مبعثرة الأطراف وهم يعفّرون ترابها بمازوتهِم المتّسخ. مرّة توقّفت خصّيصا كي أراقب الطّريقة الّتي يتصرّف بها سائق جديد أمام ازدحام ساحة المخبز حين لا يعثر على مكان لسيّارته. لم أستغرب حين رماها في زاوية على طرف الشّارع الرّئيسي ودخل. طبعا لم تكن ملكا خاصّا له إنّما لوالديه لذلك ما كان يهمّه ما الّذي سيحدث إذا دفشتها سيّارة مثله مسرعة.
انتخابات
في الانتخابات الأخيرة رتّبت أوراقي كي أتمكّن من الإدلاء بصوتي في القرية، كنت حريصة على عدم تسليم صوتي لرئيس بلديّة حيفا الجديد. أردت تغييرا بالقوّة في البلد. أردت أن أقلب الشّوارع رأسا على عقب بصوتٍ واحد، هو صوتي، ألستُ سيّدة مجتمع تكتب عنها الصّحافة في عيون الكبار والصّغار؟ فالإدارة السّابقة والحقّ يقال لم تجد ما يكفي من وقت لإرسال عمّال النّظافة إلى الشّوارع. كنتَ تقود سيّارتك في شارع رئيسيّ وتخجل من أكوام الزّبالة الّتي تزيّن جزر الشّوارع ومساحاتها المعدّة أصلا للزّهر، كان تكويم الزّبالة أسهل وإنجازاته أسرع، وعرق الجبين الّذي يبلّل الثّياب وكامل الجسد خجلا وحنقا، يثير قشعريرة الملابس أوّلا والأصدقاء الّذين يمرّون من هناك من القرى المجاورة ويستغيبون بلدك، ولا تعرف ماذا تقول! ولذلك قرّرت عبر صوت واحد هو صوتي الّذي رفع أسهم “عمرام متصناع، دون شكّ عابر في حيفا أن يبدّل صورة الإدارة الجديدة. كنت واثقة أنّ لصوتي أثرا بالغا على نتائج الانتخابات. أردتُ رجلا يحبّ الثّقافة والأدب ويخلّص القرية من مذابح البخل المستشرية في المدارس. يرتّب أوراق مديريها قليلا وصناديق سلالها الثّقافيّة الّتي يتمسّكون فيها كأنّها ملك شخصيّ لعوائلهم وليست أموالا لتمويل مشاريع طلّابهم الثّقافية وتجنيح مداركهم.
تذكّرت وأنا أدلي بصوتي خبط سماعّة الهاتف حين أغلقه مدير مدرسة ابتدائيّة واثق بصيتهِ الّذي لا يتجاوز درجات مدرستهِ، وضرورة تبجّحه، إذ حاصرته بأوان دفع مستحقّات المحاضرات الّتي قدّمتها في مدرسته، وأسلوبه المهين في مفاوضتي. تزامن مع صوت مدير المدرسة الثّانوية الّذي أنكر أن يكون وافق على محاضراتي. الأوّل سدّد دينَ عملي تحت ضغط المركّزة والآخر نفض يديه وقدميه من أجرتي هو ومركّز لغته بأسلوب رخيص حدّ أنّ الرّخص يغيّر دربه إذما صادفه في ذات مسلك السّير. لم أصادف علاقة مهينة كهذه بين محاضر ومدرسة كالّذي صادفته في قريتي. مهين حدّ أنّي لم أقاضِ المدرسة رغم أنّي سجّلت أوراق الحادثة قانونيّا، لقرفي وتقزّزي من امّحاء مصطلح كرامة المحاضرين والنّساء منهنّ على وجه الخصوص. في اللّحظة الأخيرة حدّقت في بشاعة الإدانة وجعلكتها، ثمّ رفعتُها من الزّبالة ومزّقتها نتفا لئلا تتذكّر أصابعي، وإهانتها لروحي. لا أعرف إذا كنت سأقاضيهم ذات يوم نكاية بقلّة خجلهم، وأتبرّعُ بها لأحد بائعي غزّة المتجوّلين، أعرف نفسي جيّدا حين تصيبني قشعريرة التطيّر من البُخل، ومتسوّلي الكرامة.
أبَعدَ ذلك تحتارون في أسباب الإجحاف القاتل بحضور المرأة؟ كيانها، وحقوقها، وأنتم تنتّفون ريش كرامتها على مهل وتحشون به وسائد أحلامكم؟ تُرى، منذ متى أصبح التّعامل مع المرأة مهانة لهذا الحد؟ متى فقدنا جماليّات قِيَمِنا، شجرنا وزَهرِنا وانحنائنا النّبيل أمام سيّدة تطلب احترام قوانين السّياقة والحوار؟ بتّ أفكّر مرّتين حين أطلب من أحدهم أن يحترم من يقف خلفه. لم أشتكِ للبلديّة بعد عن المرّات الّتي أستيقظ فيها مفزوعة حين أتأخّر هناك، لأنّ “تراكتورون” أحمق قرّر أن يلعب بعد الواحدة ليلا في الشّوارع السّاكنة، ويقلق أُمّة كاملة. في سخنين، المدينة المجاورة لقريتي، يحتفون بقدومي كأنّ الّتي وفدت ملكة وليست روائيّة حضرت كي تغني طلّابهم بالجديد والجريء والمختلف!
لهذا اخترتُكَ
رئيس البلديّة الّذي اخترته عن سابق ثقة وتوقّع,,,
وأعني القرية، الّتي تجاوزت صلواتي وقفزت على تلّ مدينة،، لهذا اخترتُكَ!
كي لا أجرّ المهانة خلفي كلّما عدتُ إلى حيفا ليلا، وأظلّ أثرثرُ للّيل. كم هي موجعة ذكريات الشّوارع في بلدي ومؤلمة. كي ألمح إكليل الجبل وأشمّه دون قصد وأنا أغادر، وأخبئ عطره في قلبي كلّما سافرتُ، وأتحدّث عن العين الّتي تزحلقَ في مائها الذّئب وقضّى عّطشا، ولم تتنازل عنه جدّتي لأبي فحفرتهُ في خاتم زواجها كذكرى وفاء لكلّ حجر تدركم به عكّازها. كي أجرؤ على كشفِ سرّ ((العَين الخفشة)) ذات يوم.
اخترت أن تكون سيّد القرار في قرية أصبحت مستهلكة لكثرة الطّوش، والعائليّة، وخلافات الشّوارع والمخابز والمكتبات العامّة الّتي اختفت من الصّورة! بالمناسبة ما هي إنجازات المكتبة العامّة للسّنوات الخمس الأخيرة؟ حاولتُ أن أتبرّع بنسخٍ كثيرة من إحدى رواياتي كي يقرأ الجيل الجديد ما لا يعرفه عنّي، لكنّ كلّ هواتفي إليه لم تصل. لم أعثر عليه مرّة واحدة برغم الرّسائل الّتي تركتها على مدى أسابيع ثلاثة، وأبقيتها لمن ناب عنه أيضا. خبّرني أنت كيف يمكن لمدير مكتبة ألا يتواجد على الخطّ الآخر مرّة واحدة خلال أسابيع ثلاثة؟ في واحدة من سحابات هواجسي تساءلت، لو كنتُ سأستدرجه لشراء مجموعة من كتبي ماذا كان سيفعل؟
ولهذا اخترتك…..
كي لا تطول أحزمة خجلي، وأستبدلها بشرائط ملوّنة للفخر والأمل حين أحاول الوصول للمركز الثّقافي الّذي ألغى توقيعا بسيطا لروايتي في قاعاته. بعد أن أغلقنا تفاصيل الاحتفال اعتذر مدير المركز لغيابِ الميزانيّاتِ عن مركز تأثيره! لم أفهم بالتّحديد لماذا يحتاج ميزانيّةّ! لكنّ ما أعرفه جيّدا أنّ جميع أوراق هذه القرية، الّتي تعيش بعقليّة ومبادىء قرية، تحتاج من يقلبها، ينبش سلال تينها وعنبها وحصيد حقولها. تحتاج رجُلا يجيد فرض سيادتهِ بعد أن يحطّم أشباه الأسيادِ ويساعدهم في تهذيب غرورهم، وليكن كبرياء بعنفوان أكثر وشُموخٍ أقل.
اخترتكَ لأبتسمَ كلّما لمحتُ شجرة أو زهرة مكان كومة زبالة تزيّن جزر الشّوارع العاطلة عن نَسَبِها، وتخصّصها. لأنّي أريد القرية الّتي أحوطها بتعاويذ جدّتي وعذوبة ذاكرتي نابضة حين تترك حرفها وتغادر إلى متّسع آخر من الثّقافة والحضارة وخبيئات الجمال، وخيبات الأمل. نحتاج الأسيادَ غالبا لا ليسودوا عَلينا، بل ليسوّدوا عنّا الصّفحات المعتمة ويدحرجوها إلى حاويات الزّبالة الّتي نخاف غياب حرّاسها يوما عنها، ويسدّدوا أهداف المقام الّذي يضيء أصابعهم بأثر غرس الحبق في مساحاتِ العَين…
توزيع: رجاء بكريّة
عن قرية في الجليل
هي حقيقة، وتكوي الرّوح لكن ليس بنوّار قندولها كما اعتدنا أن نعتبرها..
فكلّ ما نعرفهُ عن القرية الّتي أحببناها ذات يوم يكاد يتلاشى أو كأنّه تلاشى فعلا, حين أصبحت عمليّة القيادة في شوارع القرية شبه مستحيلة. نساء حصلن على رخص سياقة لا أعرف كيف! شبّان يتهوّرون في استباق مركبات الشّارع الفرعي أو الرّئيسي، وغالبا لا تميّزهم خلف المقود لصغر أعمارهم، كأنّ في مراعاتهم المعقولة لآداب السّياقة مسبّة يجب أن يردّوا الاعتبار لأنفسهم عليها عبر تجاوز رتل طوبل من السيّارت بأقصى طيش ممكن، وفرح مُستَحَق حين ينتصر على قدرات سواه من سائقي التّجربة.
على بعد أمتار يسدّ اتّجاه “الأوتوستراد” الوحيد في القرية
الصّاعد باتّجاه الجبل رقيع ينتظر صديقه، ولا يهمّه أنّ حركة السّير ملخومة ومضرِبَة عن السّير بسببه، وأنّ الشّتائم خلف زجاجات السيّارات المتوقّفة نالت من عائلته كلّها. وأنّ أغربَ “الما لا يهمّ هذه” أنّ جميع الّذين يعضّون على شفاههم ويكزّون على أسنانهم خلف زجاج عجلات القيادة لا يعترضون! أفتح نافذة السيّارة لأستحثّه على السّير لأنّ الازدحام شديد فيهمهم، “يريد خمس دقائق حتّى يخرج صديقة من البيت”، ضريبة الخطوات الّتي سيقطعها صديقه من رصيف الشّارع المتهالك حتّى موقف السيّارات باهظة، فأقدامه من ألماس لا يصحّ أن يلمسه الإسفلت. باهظة حدّ انقطاع النّفَس والحقد على معلّمي السّياقة، جميع معلّمي السّياقة في العالم، ما عدا معلّم السّياقة الّذي علّمني في حيفا حتّى أصول استعمال بوق السيّارة والرّجوع إلى الخلف في شارع “ستيلا مارِس”. خمس دقائق قد تحدث فيها زلازل وهزّات أو مناوشة شرسة بين دولتين عبر لعبة الصّواريخ العابرة للقارّات. وقد ينتهي العالم للاسبب، وهذا الولد لا يفهم أنّ الخمس دقائق أغلى من نعل صديقه وألماسهِ وثمن سيّارته، ومخيّلة رأسهِ الخَرِفة.
في كلّ مرّة أرتبك وأنا أحاول ترتيب خطوات الشّارع، الّتي تمشي عصبيّة بين عجلات سيّارات متوتّرة. يرتفع صوتي وهو ينهر أكتاف شارع يضيق، وحين أقبض على تقطيبة حاجبيّ مكان ابتسامتي تزداد حدّة أنفاسي. في كلّ مرّة أخجل ممّا وصلت إليه القرية الّتي أحببتُ بساطة أهلها وسكينة شوارعها، وفقر الشّارع الانطوائي القصير الّذي يمرّ أمام بيتنا من المركبات الّتي تختاره مسلكا إلى مركز البلد. ذات يوم كلّ شيء كان مختلفا، حين كانت قرية بهواء نظيف وقلب برّاق برائحة الغار، وإكليل الجبل، وفوحِ ورقِ الزّعتر. لا أعرف تماما لماذا اختاروا أن يلعنوها باسم مدينة ويبهدلوا شوارعها وكلّ دكاكينها العاجزة عن العثور على موقف واحد معقول لمركبة تتوقّف كي تتزوّد بحاجيّاتها منها. أنا يقلقني جدا وضع المخابز الّتي لا يجيد السّائقون الجدد الرّجوع إلى الخلف أمام ساحاتها الصّغيرة، تظلّ مبعثرة الأطراف وهم يعفّرون ترابها بمازوتهِم المتّسخ. مرّة توقّفت خصّيصا كي أراقب الطّريقة الّتي يتصرّف بها سائق جديد أمام ازدحام ساحة المخبز حين لا يعثر على مكان لسيّارته. لم أستغرب حين رماها في زاوية على طرف الشّارع الرّئيسي ودخل. طبعا لم تكن ملكا خاصّا له إنّما لوالديه لذلك ما كان يهمّه ما الّذي سيحدث إذا دفشتها سيّارة مثله مسرعة.
انتخابات
في الانتخابات الأخيرة رتّبت أوراقي كي أتمكّن من الإدلاء بصوتي في القرية، كنت حريصة على عدم تسليم صوتي لرئيس بلديّة حيفا الجديد. أردت تغييرا بالقوّة في البلد. أردت أن أقلب الشّوارع رأسا على عقب بصوتٍ واحد، هو صوتي، ألستُ سيّدة مجتمع تكتب عنها الصّحافة في عيون الكبار والصّغار؟ فالإدارة السّابقة والحقّ يقال لم تجد ما يكفي من وقت لإرسال عمّال النّظافة إلى الشّوارع. كنتَ تقود سيّارتك في شارع رئيسيّ وتخجل من أكوام الزّبالة الّتي تزيّن جزر الشّوارع ومساحاتها المعدّة أصلا للزّهر، كان تكويم الزّبالة أسهل وإنجازاته أسرع، وعرق الجبين الّذي يبلّل الثّياب وكامل الجسد خجلا وحنقا، يثير قشعريرة الملابس أوّلا والأصدقاء الّذين يمرّون من هناك من القرى المجاورة ويستغيبون بلدك، ولا تعرف ماذا تقول! ولذلك قرّرت عبر صوت واحد هو صوتي الّذي رفع أسهم “عمرام متصناع، دون شكّ عابر في حيفا أن يبدّل صورة الإدارة الجديدة. كنت واثقة أنّ لصوتي أثرا بالغا على نتائج الانتخابات. أردتُ رجلا يحبّ الثّقافة والأدب ويخلّص القرية من مذابح البخل المستشرية في المدارس. يرتّب أوراق مديريها قليلا وصناديق سلالها الثّقافيّة الّتي يتمسّكون فيها كأنّها ملك شخصيّ لعوائلهم وليست أموالا لتمويل مشاريع طلّابهم الثّقافية وتجنيح مداركهم.
تذكّرت وأنا أدلي بصوتي خبط سماعّة الهاتف حين أغلقه مدير مدرسة ابتدائيّة واثق بصيتهِ الّذي لا يتجاوز درجات مدرستهِ، وضرورة تبجّحه، إذ حاصرته بأوان دفع مستحقّات المحاضرات الّتي قدّمتها في مدرسته، وأسلوبه المهين في مفاوضتي. تزامن مع صوت مدير المدرسة الثّانوية الّذي أنكر أن يكون وافق على محاضراتي. الأوّل سدّد دينَ عملي تحت ضغط المركّزة والآخر نفض يديه وقدميه من أجرتي هو ومركّز لغته بأسلوب رخيص حدّ أنّ الرّخص يغيّر دربه إذما صادفه في ذات مسلك السّير. لم أصادف علاقة مهينة كهذه بين محاضر ومدرسة كالّذي صادفته في قريتي. مهين حدّ أنّي لم أقاضِ المدرسة رغم أنّي سجّلت أوراق الحادثة قانونيّا، لقرفي وتقزّزي من امّحاء مصطلح كرامة المحاضرين والنّساء منهنّ على وجه الخصوص. في اللّحظة الأخيرة حدّقت في بشاعة الإدانة وجعلكتها، ثمّ رفعتُها من الزّبالة ومزّقتها نتفا لئلا تتذكّر أصابعي، وإهانتها لروحي. لا أعرف إذا كنت سأقاضيهم ذات يوم نكاية بقلّة خجلهم، وأتبرّعُ بها لأحد بائعي غزّة المتجوّلين، أعرف نفسي جيّدا حين تصيبني قشعريرة التطيّر من البُخل، ومتسوّلي الكرامة.
أبَعدَ ذلك تحتارون في أسباب الإجحاف القاتل بحضور المرأة؟ كيانها، وحقوقها، وأنتم تنتّفون ريش كرامتها على مهل وتحشون به وسائد أحلامكم؟ تُرى، منذ متى أصبح التّعامل مع المرأة مهانة لهذا الحد؟ متى فقدنا جماليّات قِيَمِنا، شجرنا وزَهرِنا وانحنائنا النّبيل أمام سيّدة تطلب احترام قوانين السّياقة والحوار؟ بتّ أفكّر مرّتين حين أطلب من أحدهم أن يحترم من يقف خلفه. لم أشتكِ للبلديّة بعد عن المرّات الّتي أستيقظ فيها مفزوعة حين أتأخّر هناك، لأنّ “تراكتورون” أحمق قرّر أن يلعب بعد الواحدة ليلا في الشّوارع السّاكنة، ويقلق أُمّة كاملة. في سخنين، المدينة المجاورة لقريتي، يحتفون بقدومي كأنّ الّتي وفدت ملكة وليست روائيّة حضرت كي تغني طلّابهم بالجديد والجريء والمختلف!
لهذا اخترتُكَ
رئيس البلديّة الّذي اخترته عن سابق ثقة وتوقّع,,,
وأعني القرية، الّتي تجاوزت صلواتي وقفزت على تلّ مدينة،، لهذا اخترتُكَ!
كي لا أجرّ المهانة خلفي كلّما عدتُ إلى حيفا ليلا، وأظلّ أثرثرُ للّيل. كم هي موجعة ذكريات الشّوارع في بلدي ومؤلمة. كي ألمح إكليل الجبل وأشمّه دون قصد وأنا أغادر، وأخبئ عطره في قلبي كلّما سافرتُ، وأتحدّث عن العين الّتي تزحلقَ في مائها الذّئب وقضّى عّطشا، ولم تتنازل عنه جدّتي لأبي فحفرتهُ في خاتم زواجها كذكرى وفاء لكلّ حجر تدركم به عكّازها. كي أجرؤ على كشفِ سرّ ((العَين الخفشة)) ذات يوم.
اخترت أن تكون سيّد القرار في قرية أصبحت مستهلكة لكثرة الطّوش، والعائليّة، وخلافات الشّوارع والمخابز والمكتبات العامّة الّتي اختفت من الصّورة! بالمناسبة ما هي إنجازات المكتبة العامّة للسّنوات الخمس الأخيرة؟ حاولتُ أن أتبرّع بنسخٍ كثيرة من إحدى رواياتي كي يقرأ الجيل الجديد ما لا يعرفه عنّي، لكنّ كلّ هواتفي إليه لم تصل. لم أعثر عليه مرّة واحدة برغم الرّسائل الّتي تركتها على مدى أسابيع ثلاثة، وأبقيتها لمن ناب عنه أيضا. خبّرني أنت كيف يمكن لمدير مكتبة ألا يتواجد على الخطّ الآخر مرّة واحدة خلال أسابيع ثلاثة؟ في واحدة من سحابات هواجسي تساءلت، لو كنتُ سأستدرجه لشراء مجموعة من كتبي ماذا كان سيفعل؟
ولهذا اخترتك…..
كي لا تطول أحزمة خجلي، وأستبدلها بشرائط ملوّنة للفخر والأمل حين أحاول الوصول للمركز الثّقافي الّذي ألغى توقيعا بسيطا لروايتي في قاعاته. بعد أن أغلقنا تفاصيل الاحتفال اعتذر مدير المركز لغيابِ الميزانيّاتِ عن مركز تأثيره! لم أفهم بالتّحديد لماذا يحتاج ميزانيّةّ! لكنّ ما أعرفه جيّدا أنّ جميع أوراق هذه القرية، الّتي تعيش بعقليّة ومبادىء قرية، تحتاج من يقلبها، ينبش سلال تينها وعنبها وحصيد حقولها. تحتاج رجُلا يجيد فرض سيادتهِ بعد أن يحطّم أشباه الأسيادِ ويساعدهم في تهذيب غرورهم، وليكن كبرياء بعنفوان أكثر وشُموخٍ أقل.
اخترتكَ لأبتسمَ كلّما لمحتُ شجرة أو زهرة مكان كومة زبالة تزيّن جزر الشّوارع العاطلة عن نَسَبِها، وتخصّصها. لأنّي أريد القرية الّتي أحوطها بتعاويذ جدّتي وعذوبة ذاكرتي نابضة حين تترك حرفها وتغادر إلى متّسع آخر من الثّقافة والحضارة وخبيئات الجمال، وخيبات الأمل. نحتاج الأسيادَ غالبا لا ليسودوا عَلينا، بل ليسوّدوا عنّا الصّفحات المعتمة ويدحرجوها إلى حاويات الزّبالة الّتي نخاف غياب حرّاسها يوما عنها، ويسدّدوا أهداف المقام الّذي يضيء أصابعهم بأثر غرس الحبق في مساحاتِ العَين…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق