كان يحلّق فى فضاء شُهرته المستقبليّة المكتسحة، بعد لقائه بالمُخرج السينمائىّ، حين أعادته نغمةُ رسالةٍ على تليفونه الذى قلّما يَسمع له صوتا، برغم أن رقمه بحوزة عدد هائل من البشر، السينمائيون منهم على الأخص، ويشمل ذلك بوّابين لعماراتٍ يقطنها مخرجون ومنتجون وممثلون. لاتأتيه رسائل إلا من شركة المحمول، تحمل وعداً أو وعيداً. يحذفها بشكل تلقائىّ تكرّر آلاف المرّات. دخل على البريد الوارد، وقبل أن يختار (حذْف) لمح رقماً أطول من المعتاد. تراجع وفتح الرسالة: (كل سنة وانت طيّب وعقبال 100 سنة)... الرقم مجهول. من الصعب توقّع المرسِل. لم يعد لديه من يفعل لأجله أشياء كهذه. مَن البائس الذى يهتم بيوم مولده ويحرص على بثّه هذا الاهتمام؟ .. لم يكن ذلك شاغله الأكبر على أى حال، على الأقلّ فى تلك اللحظة. انتقل إلى عمليّة حسابيّةٍ سريعة، خاليةٍ من أى تعقيد، انتهتْ به إلى أنّ عامه الخمسين قد تنحّى ليأخذ الواحد والخمسون مكانه، فنسى الرسالة والمرسِل والمناسبة. يعنى هذا - نزولاً على رأى أحد أصدقائه القدامى - أنه ذاهبٌ إلى الستّين، إلى الإحالة للمعاش من وظيفته الحكوميّة المسالمة، إلى الانضمام الذليل لقائمة الانتظار، حيث تُختزل الأمنيات فى الموت دون ألم، ودون طلب المساعدة.
هو تمكّن اليوم - أخيراً - من لقاء المخرج العائد من أمريكا لدقائق، كجائزةٍ كبرى مقابل انتظاره لساعات. كان ذلك داعى تحليقه فى وُعود المستقبل، الذى اختفى من الوجود فجأةً بعد العمليّة الحسابية البسيطة. الرجل لم يقل سوى: (هشوف لك حاجة معايا) .. كم مرةً سمعها طوال ثلاثين عاماً؟ - هل هى ثلاثون عاماً حقا؟ لم يَسأل ولم يُسأل عن عمره خلالها مرة!- ومع أن شيئاً لم يحدث أبداً، كان - فقط - يترقّب الآتى، ولا يسمح للاحباط بفتح حساباتٍ ورائيّة معقّدة، كما بدأ يقترف الآن. لم يكن يطمح إلا فى دورٍ صغير، تكون له أبعاد نفسيّة شائكة ومتشابكة، والباقى عليه: سيُجبِر الجمهورَ على نسيان كل أبطال الفيلم والتعلّق بوجهه وحده! .. اللعنة على صاحب رسالة عيد الميلاد المشئوم!
لماذا يقولها المخرجون دائماً - "حاجة معايا" - كما لو أنهم يتجاوبون مع متسوّل عابر، شاحنين نبرات أصواتهم بغرورِ تواضعِ الشهرة .. الشهرة التى لن يعرفها هذا المتسوّل أبدا، ولو على جثثهم!.. كيف لم ينتبه لهذا من قبل؟ .. وليكتمل المشهد، الذى سيبقى ناقصاً، كان يتحتّم أن يضع المخرج يده فى جيبه، ويناوله ورقة بعشرين جنيهاً، تكفى مواصلات عودته إلى البيت محمّلاً بخيبات تحليقه فى سماوات الأمجاد.. تحليقه الذى لم يصمد طويلاً أمام محتوى رسالةٍ طائشة!
تذكّر الآن أن المخرج كان يصغره بعشرين عاماً على الأقل، يصلح ولداً بِكريّاً له لو كان تزوّج مبكّراً، لكنه تقوقع فى مواجهته وانكمش وتزلّف كطفلٍ مذعور، يتحاشى ارتكاب جُرْمٍ صغير يحرمه من أن يحقق الكبير رغبته، لأنه - المخرج - يظلّ هو الأب دوماً مهما كان عدد سنوات وجوده، إن لم يكن على الأجدر إله أمثاله، يوزّع عليهم أرزاق الشهرة التى تشيخ قبل أن تولد!
تذكّر أيضا أنه سمع: (هشوف لكم حاجة معايا).. نعم كان الإله يخاطب، كما يليق به، بصيغة الجمع.. أُدخل إلى حضرته بين مجموعة من المتوسّلين، كان هو آخرهم، وكان أكبرهم سنّاً.. لم يجتمع مع المخرج اليوم - ولا أى مخرج قبله - على انفراد.. بل تذكّر أنه لم ينظر إليه - ولا أى مخرج قبله - مرةً ولو نظرة غير مقصودة، وهو يلقى جُملته التى فضّ بها اللّمّة المزعجة من حوله........ سقط على الكنبة الوحيدة بشقته الصغيرة، فى وضعٍ جنينىّ مُتقَن، وغاب فى نوبة بكاءٍ تناسب خمسين عاماً من الخديعة.
أفاق من غيبوبته، وعلى وجهه ابتسامة جديدة، هو نفسه لم يكن يتوقّعها. بدا كمن ابتُعثتْ فيه روح أخرى، مرتاحة، لا تقترن بِصلةٍ مع هذا الجسد المهدود المُثقَل بمئاتٍ من المشاوير الغَرِيرَة. كان يفكّر بأنه ليس موظّفاً تافهاً بأى حال، وأنه سيرتقى هذا العام ليصير مدير إدارة.. وكان يفكّر بأنه قادر على معاودة التحليق، فى سماوات بديلة فسيحة، فقط لو اتصل بهذا الرقم المجهول، ليعطيه مساحةً من مستقبله المستعاد.
*محمد أبوالدهب
هو تمكّن اليوم - أخيراً - من لقاء المخرج العائد من أمريكا لدقائق، كجائزةٍ كبرى مقابل انتظاره لساعات. كان ذلك داعى تحليقه فى وُعود المستقبل، الذى اختفى من الوجود فجأةً بعد العمليّة الحسابية البسيطة. الرجل لم يقل سوى: (هشوف لك حاجة معايا) .. كم مرةً سمعها طوال ثلاثين عاماً؟ - هل هى ثلاثون عاماً حقا؟ لم يَسأل ولم يُسأل عن عمره خلالها مرة!- ومع أن شيئاً لم يحدث أبداً، كان - فقط - يترقّب الآتى، ولا يسمح للاحباط بفتح حساباتٍ ورائيّة معقّدة، كما بدأ يقترف الآن. لم يكن يطمح إلا فى دورٍ صغير، تكون له أبعاد نفسيّة شائكة ومتشابكة، والباقى عليه: سيُجبِر الجمهورَ على نسيان كل أبطال الفيلم والتعلّق بوجهه وحده! .. اللعنة على صاحب رسالة عيد الميلاد المشئوم!
لماذا يقولها المخرجون دائماً - "حاجة معايا" - كما لو أنهم يتجاوبون مع متسوّل عابر، شاحنين نبرات أصواتهم بغرورِ تواضعِ الشهرة .. الشهرة التى لن يعرفها هذا المتسوّل أبدا، ولو على جثثهم!.. كيف لم ينتبه لهذا من قبل؟ .. وليكتمل المشهد، الذى سيبقى ناقصاً، كان يتحتّم أن يضع المخرج يده فى جيبه، ويناوله ورقة بعشرين جنيهاً، تكفى مواصلات عودته إلى البيت محمّلاً بخيبات تحليقه فى سماوات الأمجاد.. تحليقه الذى لم يصمد طويلاً أمام محتوى رسالةٍ طائشة!
تذكّر الآن أن المخرج كان يصغره بعشرين عاماً على الأقل، يصلح ولداً بِكريّاً له لو كان تزوّج مبكّراً، لكنه تقوقع فى مواجهته وانكمش وتزلّف كطفلٍ مذعور، يتحاشى ارتكاب جُرْمٍ صغير يحرمه من أن يحقق الكبير رغبته، لأنه - المخرج - يظلّ هو الأب دوماً مهما كان عدد سنوات وجوده، إن لم يكن على الأجدر إله أمثاله، يوزّع عليهم أرزاق الشهرة التى تشيخ قبل أن تولد!
تذكّر أيضا أنه سمع: (هشوف لكم حاجة معايا).. نعم كان الإله يخاطب، كما يليق به، بصيغة الجمع.. أُدخل إلى حضرته بين مجموعة من المتوسّلين، كان هو آخرهم، وكان أكبرهم سنّاً.. لم يجتمع مع المخرج اليوم - ولا أى مخرج قبله - على انفراد.. بل تذكّر أنه لم ينظر إليه - ولا أى مخرج قبله - مرةً ولو نظرة غير مقصودة، وهو يلقى جُملته التى فضّ بها اللّمّة المزعجة من حوله........ سقط على الكنبة الوحيدة بشقته الصغيرة، فى وضعٍ جنينىّ مُتقَن، وغاب فى نوبة بكاءٍ تناسب خمسين عاماً من الخديعة.
أفاق من غيبوبته، وعلى وجهه ابتسامة جديدة، هو نفسه لم يكن يتوقّعها. بدا كمن ابتُعثتْ فيه روح أخرى، مرتاحة، لا تقترن بِصلةٍ مع هذا الجسد المهدود المُثقَل بمئاتٍ من المشاوير الغَرِيرَة. كان يفكّر بأنه ليس موظّفاً تافهاً بأى حال، وأنه سيرتقى هذا العام ليصير مدير إدارة.. وكان يفكّر بأنه قادر على معاودة التحليق، فى سماوات بديلة فسيحة، فقط لو اتصل بهذا الرقم المجهول، ليعطيه مساحةً من مستقبله المستعاد.
*محمد أبوالدهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق