يوميات رمضان
1- ربان وسيدة -
وأخيرا اكتمل العقد ، المحرك يضج فجأة ليعلن عن وجوده هنا ، بينما الربان بدأ يشمر عن زنود سمر ، طويل القامة ، عضلاته بين بين ، لكن ابتسامته الدائمة جعلت منه رجلا مختلفا ، - استعدوا فنحن على وشك الانهيار ... عفوا عفوا هل قلت الانهيار !!! لا إننا على وشك الاقلاع ...
ابتسم من خطأه اللامقصود ، أمسك المقود بين كلتا يديه ثم غادرت السفينة المرسى ، تصفيق حاد داخل البيت الكبير ، مزاح هنا ، وضحك هناك ، وفي زاوية مهملة عناق وقبلات مثيرة ، استقبلت المياه المالحة لتوها السفينة الخضراء القادمة من الشرق ، ساعات العصر تمضي مسرعة ، لم يعد للبر من تواجد ، اللون السماوي يعتنق شغف العيون ...
- متى نصل أيها الربان ؟
- الرحلة ماتزال تقاوم البداية سيدتي ، لكن تأكدي بأننا سنصل ، ساعات فقط ...
- إذن لا تأخير على الموعد ...
- الجو يوحي بالخير ، سنصل في الموعد إن شاء الله ، لا تخشي التأخير ...
- لكني أخشى البحر ، فكم سمعت ورأيت من أناس ابتلعهم ، ولم يصلوا ...
صمت الربان الشاب هنيهة ، تنفس بهدوء ، في تلك اللحظة كانت عيناه تتعلقان بالسماء ، بينما الريح تداعب شعره الأسود ...
- إنه البحر سيدتي ، إنه البحر ...
ومالبث أن توارى عن ناظريها ، فلم يعد بمقدوره النظر إلى وجهها الشاحب الجميل .
ساعات الفجر تفجر قنبلة موقوتة ، السكون الذي أحبه معظم الركاب امتطى صهوة الرحيل ، الأمواج تتغلغل في قلب السفينة الخضراء ، الربان كان يكتب شيئا ما ...
عندما أتى الصباح شاهد بعض البحارة ، خشبة وبقايا ثياب ، وطفلة لم تبلغ عامها الخامس ...
...........
١١/رمضان/2017م
2
_ جِنيُّ المذياع _
وصلت الرحلةُ بعد مُنتصفِ الليلْ ، السكونُ الذي طالما أحببتهُ كان هنا ، بينما حفيفُ الأوراق يُقلقُ راحة الليل الذي يحاول أن يغفو قليلا ، حملتُ حقيبتي الصغيرة المُهشّمةَ الأضلاع ، كلّ ما فيها أمسى مجرد بقايا ، وانطلقتُ برُفقةِ أخي الصغير الذي مازال في سنواتهِ العشرِ الأولى ، مذياعٌ صغيرٌ كانَ بحوزتي ، تكْسِرُ أمّ كلثوم بصوتها المتراخي بعضَ السكون والخوف ، الذي لم يكنْ قد حضرَ بعدْ ، البيتُ هُناكَ خلفَ تلَّةٍ مُنخفضة ، الدربُ الترابيُّ يكادُ لا ينتهي ، حوافَّهُ تتأرجحُ بين شجيرات وساقية ، دارٌ قديمةٌ مازالت تتشبثُ بالحياة ، رغمَ ويلاتِ الوهنِ التي أصابتها ، تطلُّ عليها شجرة الكينا ، تلك الشجرةُ التي طالما جلسنا تحت ظلالها ونحنُ في طريقِ العودة من مدرستنا كل يومْ ، لم تكن كما عَهِدْتُّها ، بدأ الخوف يتسربلُ خِفّية ، رفعتُ صوتَ المذياع ، حثثَنا الخُطا أكثرَ وأكثرْ ، ضجّةٌ ما ... تثور فجأة منْ خلفنا ، تشبثَ أخي بمريولي المدرسي ...
- لا تخف إنه صريرُ ريح ...
ربما لم يُصدّقني ، سمعتُ هسيسَ بُكاءهِ الخافتْ ، انتابني الخوفُ هذه المرّة...
- إنه جِنيُّ الدارْ ... هكذا حكى لنا والدي ذات ليلة...
قال أخي وهو يزددْ تشبثاً بي ، كلماته أعادتني سنوات إلى الوراء ( نعمْ قالها والدي ... هنا يَقطنُ الجانُ ، والكلُ يخشى العبورَ ليلاً ... يتحاشى هذا الدرب ... ) أسْرَرتُ في نفسي...
- إنها حكايةٌ ليس إلاّ ... لا تُصدق كلّ ما تسمعْ ، فمعظم الحكايا نَسْجُ خيال ، لا وجود للجانِ يا أخي ... ( هل كنتُ أواسيه أم أواسي نفسي ... )...
- لكن ألا تسمع صوت قدميه ، إنه خلفنا تماما ....
نظرت إلى الوراء خلسة ، لا شيء يظهر في العتمة ، فالليلة هي من أواخر ليالي الشهر القمريّ ، لكنَّ خبطَ الأقدام يطنُّ في أذنيَّ رغمَ صوتِ المذياع...
كانت المسافة تطول أكثر ، ضجيجُ القدمين أصبح أمامنا ، يا للرعبْ ، هل حقاً هو الجنيُّ الذي أخبرنا به والدي ؟ ... لم يعدْ يسير كما نحن ، كانت قدماه تخبطانِ الأرضَ بقسوةْ ، قلبي حينها كادَ يفرُّ هارباً ، بينما بُكاءُ أخي أمسى مسموعاً...
خيالٌ أسودُ يلوحُ ثُمَّ يختفي ، مرّةً في الأمامْ , وأخرى منْ الخلف ، يدنو أكثرَ مِنّا ، المِذياع يضْطربُ ، كلماتهُ أصبحتْ شعثاءَ الشعرِ ، الليلُ يضرِبُ موعداً مع الخوفْ ، لا بُدَّ منْ قرارٍ ما ، (قلتُ)
- هاتِ يدكَ ... وحين أشدُّ عليها تجري معي بكل ما تملكُ منْ سرعة ولا تنظر خلفكْ...
استجابَ أخي ، الآنَ فقط اختفى ذاكَ الشبحُ الجنيُّ ، فضجيجُ أقدامنا أصبحَ يركِلُ الخوفَ ، البيتُ يلوحُ في العتمةْ ، تنفسّنا قليلاً , كُنّا نلهثُ كما كلبين صغيرين...
- أين المذياع ، أين المذياع ... سألتُ ... ضحِكَ الطفلُ بعدما بللَ بِنطاله بشيءٍ ما
- سرقهُ الجنيُّ , سرقهُ الجنيُّ ... الليلُ يُشهرُ سيفهُ !!! ...
__________
١٦/رمضان/2017م
.3
_ الرجلُ الذي توارى _
كأن عقارب الساعة أمست دبيباً بلا صوت , فلا هي تسير , ولا هي تتوارى من أمام ناظري أبو عامر , يومٌ من أيام نيسان , لا حرّ ولا قرّ , الجو يوحي بالجمال في هذا الصباح , لكن ليس مع الكلّ فهناك من لم يكن على هذا الديدبان ...
- لماذا تأخرتي يامرأة , ألم أقل لك بأني سأذهب باكراً إلى الدائرة ... أريد أن أنهي أموري اليوم , الرحلة ستنطلق صباح الغد 0
- مازال الوقت متسعاً أمامك , العاملون لا يأتون لأعمالهم قبل التاسعة , لا تتسرع وكنْ هادئاً يا أبا عامر ...
- ذاك الرجل إن وقف بطريقي اليوم فسوف ألعن ...
لم يكمل عبارته , وربما أكملها في سرّه خجلاً من زوجته , ارتدى ثيابه , بذّةٌ سوداء , ربطةُ عنق رمادية , بعدما كان قد اقتلع شعيرات ذقنه , ورشّ العطر الفاخر على ملابسه , لم يتبقَ إلا الحذاء , جلس على أريكةٍ صفراء , بدت شاحبة في هذا اليوم , هل أصابها المرض , أم أنّ الأيام تلاعبت بساقيها , أمسك فنجان القهوة بيدٍ ترتعش , بينما اليد الأخرى تتشبث بسيجارة حمراء طويلة , كانتْ سحبُ الدُخان وكأنها متصاعدة من مدخنة مدفأة في ليلةِ يومٍ كانوني , رمى بها قبل أن تنتهي ثُمّ أشعل غيرها ...
- صبيّ قهوة يامرأة ... ( قالها بلهجة فلاحٍ مُنهك ) ...
- القهوة مفيدة في الصباح , ولكن لاتكثر منها ...
- اصمتي ... اصمتي ... هل تزوجتُ طبيبة دونَ أن أدري ...
ضحك من كلماته المتعثرة , كما خطوات شيخٍ هَرِم , أو كما طفلٍ يتعلّم المشي لتوّه , ركنَ الفُنجان على طاولة صغيرة مدورة , قذف بسيجارته إلى اللاعودة , هل أصابت أحداً في الشارع !!! قال في نفسه ...
- يا إلهي لن نتعلم معنى الحضارة , حتى بقايا السيجارة نرميها من النافذة , وسلّة المهملات أمامنا , لن نتخلى عن عروبتنا ...
قالها مستهزأً هذه المرّة , فهل سيتصرفُ هكذا عندما تطأ قدماه أرض البلد العجوز , تساءل سّراً , احتسى حذاءه الأسود على مهلٍ , ربما أدرك بأنّ الوقت مازال باكراً , أو أنه عاد لعادته القديمة , فلال قيمة للوقت لدى فلاح تمرُّ عليه الأيام متشابهة ...
ولجَ الطريق بحلّتهِ الجديدة ( سوف يخشى مني الموظف , فهم يخافون ممن يرتدي بذّةَ رسمية وربطة عنق ... ) لابدّ بأن أموري ستنتهي بسرعة كي ألحق مكتب تذاكر الباص المغادر إلى بيروت , لن أركب التاكسي فالمسافة قريبة والوقت مازال مُتسِعاً ...
جلست الزوجةُ وحيدة تنتظرُ قدوم جارتها لتشاركها بعض القهوة التي تركها زوجها , كانت ترتدي قميصاً شفافاً يظهر مفاتنها بقسوة , مثيرة هي تلك الريفية , بينما شعرها يستنكفُ بعدما ابتعد عنه المشط الأسود , لحظات والباب يُفتحُ وتدخل الجارة ...
- يالك من أنثى جميلة ...
- دعكِ من هذا فأنا أخجل , أولستِ بأجمل مني ...
- كيف كانت سهرتكِ بالأمس , بالتأكيد كانت مميزة وجميلة ...
- لا وحياتك , زوجي مشغول بأوراق السفر , لم يُحرك ساكناً حتى الصباح .
القهوة تنتحر على شفاه مجمّرة , وتبدأ رحلة قراءة الفناجين الوردية اللون , ضجّة الأولاد تبدأ بالتعالي شيئاً فشيئاً , الجارة تغادر إلى اللارجعة , هكذا كانت تظنُّ يومها ...
وقف أبو عامر أمام الموظف الذي مازال في مقتبل العمر , لم يتجاوزه عقده الثالث , متأنقٌ جداً , كان يراقبهُ عن كثب وهو يوزع ابتساماته على زميلاته , وعلى بعض المراجعات الجميلات ...
- الحمد لله يبدو منفرج الأسارير اليوم , لن يؤخرني , بذّتي أجمل من بذّته , لا ذوقَ لديه ...
عندما وصله الدور , كانت قدماه تؤلمانه وجداً , فثلاثةُ ساعات من الوقوف والتوقف كفيلة بإسدال ستارة التعب على منكبي رجلٍ تجاوز الخمسين بقليل , مع أنّه يحتفظُ بكامل قوته , ناول أوراقه إلى الشاب المتأنق دون أن ينبس ببنت شفة , كان لا يريد أن يزعجه بشيء , لعلّ الأمور تسير دون أخذٍ وردّ ...
تأفف الموظفُ قبل أن يبتدئ بتقليب الأوراق , ممسكاً بقلمه بيده اليسرى , يضع إشارة هنا , وأخرى هناك , يكرر التأفف , الوقت يمرُّ متثاقلاً كسلحفاةٍ هرمة , المؤذن يعلن صلاة الظهر ...
- انتصف النهار , ربما لن ألحق بمكتب القطع , خليها على الله ...
الشاب يحتسي رشفة قهوة كانت متبقية بقعر فنجانه السماوي , رمق الرجل بنظرات لم يعهدها من قبلُ , تمتطّى كما إبلٍ لتوها استفاقت من نومها , انسكبَ فوق كرسيه الكبير متراجعاً إلى الخلف , زفرة طويلة , تنهيدة تحتسي كل حقارات الكون , الرجلُ بدأ يلهث , قلبه يركض كما لم يفعل من قبل , حبيبات العرق تخرّ ساجدة على جبينه المحْمَر , تلعثم في كلماته ...
- ماذا , ماذا يابني ... هل هناك خطبٌ ما لاسمح الله ...
- لاتقل يابني , فأنا لي أب لا يشبهك , وأنت لست بمقامه
بلع الرجلُ لُعابه حتى كاد يبتلع لسانه , تراجع خطوة إلى الوراء , ثم عاود السؤال ...
- لا يهم , لا يهم , ما المشكلة الآن ...
ألا تعرف بأنّ أوراقك ناقصة ؟ يبدو بأنك لم تتعلم , خذها واغربْ عن وجهي ...
ورمى بحفنة الأوراق صوب الرجل , بعضها لفح وجههُ , وبعضها الآخر تناثر في أرجاء الغرفة , على الطاولة المقابلة دوّت قهقهات أنثيين جميلتين من هزليّة المشهد ...
- ياحرام , انظري إليه , انظري , يبدو ساذجاً جداً ...
- معك حق يا شادية , إنّه ساذجٌ فعلاً , لكنّهُ لطيفٌ وأنيق ...
لملم أبو عامر أوراقه , أمسكها بكلتا يديه , عيناه تبرقان كعينا نسرٍ آتٍ من صحراء بعيدة , مزّقَ الأوراق كلها دفعة واحدة , ثم اقترب من ذاك الشاب المتأنق الذي تراجع قليلا لكن الجدار استوقفه ...
- لا يمكنك التراجع أكثر ... ( قالها الجدار الأخرس ) 0
- اصرخي , اطلبي الشُرطة , إنّه رجلٌ متوحش ... ( قهقهَ أبو عامر)
- الشرطة قال ... !!! ... لستُ أنا المتوحش أيُّها الوغد , أنتَ التوحش بعينه .
صرخت الموظفة , كان كل شيءٍ قد تلاشى , العتمة تلفُ الغرفة بجدرانها السوداء , الرجل غادر بهدوء ...
- لن نسافر يامرأة , البلد بحاجة لي , لكن الآن احزمي لي حقيبة صغيرة , ولا تنسي بعض الملابس الداخلية , سأغيبُ لفترة ...
- ما الذي حصل , كم ستغيب , لما ألغيت فكرة السفر ... أسئلتها لم تكن ذات
وليد.ع.العايش

وأخيرا اكتمل العقد ، المحرك يضج فجأة ليعلن عن وجوده هنا ، بينما الربان بدأ يشمر عن زنود سمر ، طويل القامة ، عضلاته بين بين ، لكن ابتسامته الدائمة جعلت منه رجلا مختلفا ، - استعدوا فنحن على وشك الانهيار ... عفوا عفوا هل قلت الانهيار !!! لا إننا على وشك الاقلاع ...
ابتسم من خطأه اللامقصود ، أمسك المقود بين كلتا يديه ثم غادرت السفينة المرسى ، تصفيق حاد داخل البيت الكبير ، مزاح هنا ، وضحك هناك ، وفي زاوية مهملة عناق وقبلات مثيرة ، استقبلت المياه المالحة لتوها السفينة الخضراء القادمة من الشرق ، ساعات العصر تمضي مسرعة ، لم يعد للبر من تواجد ، اللون السماوي يعتنق شغف العيون ...
- متى نصل أيها الربان ؟
- الرحلة ماتزال تقاوم البداية سيدتي ، لكن تأكدي بأننا سنصل ، ساعات فقط ...
- إذن لا تأخير على الموعد ...
- الجو يوحي بالخير ، سنصل في الموعد إن شاء الله ، لا تخشي التأخير ...
- لكني أخشى البحر ، فكم سمعت ورأيت من أناس ابتلعهم ، ولم يصلوا ...
صمت الربان الشاب هنيهة ، تنفس بهدوء ، في تلك اللحظة كانت عيناه تتعلقان بالسماء ، بينما الريح تداعب شعره الأسود ...
- إنه البحر سيدتي ، إنه البحر ...
ومالبث أن توارى عن ناظريها ، فلم يعد بمقدوره النظر إلى وجهها الشاحب الجميل .
ساعات الفجر تفجر قنبلة موقوتة ، السكون الذي أحبه معظم الركاب امتطى صهوة الرحيل ، الأمواج تتغلغل في قلب السفينة الخضراء ، الربان كان يكتب شيئا ما ...
عندما أتى الصباح شاهد بعض البحارة ، خشبة وبقايا ثياب ، وطفلة لم تبلغ عامها الخامس ...
...........
١١/رمضان/2017م
2
_ جِنيُّ المذياع _
وصلت الرحلةُ بعد مُنتصفِ الليلْ ، السكونُ الذي طالما أحببتهُ كان هنا ، بينما حفيفُ الأوراق يُقلقُ راحة الليل الذي يحاول أن يغفو قليلا ، حملتُ حقيبتي الصغيرة المُهشّمةَ الأضلاع ، كلّ ما فيها أمسى مجرد بقايا ، وانطلقتُ برُفقةِ أخي الصغير الذي مازال في سنواتهِ العشرِ الأولى ، مذياعٌ صغيرٌ كانَ بحوزتي ، تكْسِرُ أمّ كلثوم بصوتها المتراخي بعضَ السكون والخوف ، الذي لم يكنْ قد حضرَ بعدْ ، البيتُ هُناكَ خلفَ تلَّةٍ مُنخفضة ، الدربُ الترابيُّ يكادُ لا ينتهي ، حوافَّهُ تتأرجحُ بين شجيرات وساقية ، دارٌ قديمةٌ مازالت تتشبثُ بالحياة ، رغمَ ويلاتِ الوهنِ التي أصابتها ، تطلُّ عليها شجرة الكينا ، تلك الشجرةُ التي طالما جلسنا تحت ظلالها ونحنُ في طريقِ العودة من مدرستنا كل يومْ ، لم تكن كما عَهِدْتُّها ، بدأ الخوف يتسربلُ خِفّية ، رفعتُ صوتَ المذياع ، حثثَنا الخُطا أكثرَ وأكثرْ ، ضجّةٌ ما ... تثور فجأة منْ خلفنا ، تشبثَ أخي بمريولي المدرسي ...
- لا تخف إنه صريرُ ريح ...
ربما لم يُصدّقني ، سمعتُ هسيسَ بُكاءهِ الخافتْ ، انتابني الخوفُ هذه المرّة...
- إنه جِنيُّ الدارْ ... هكذا حكى لنا والدي ذات ليلة...
قال أخي وهو يزددْ تشبثاً بي ، كلماته أعادتني سنوات إلى الوراء ( نعمْ قالها والدي ... هنا يَقطنُ الجانُ ، والكلُ يخشى العبورَ ليلاً ... يتحاشى هذا الدرب ... ) أسْرَرتُ في نفسي...
- إنها حكايةٌ ليس إلاّ ... لا تُصدق كلّ ما تسمعْ ، فمعظم الحكايا نَسْجُ خيال ، لا وجود للجانِ يا أخي ... ( هل كنتُ أواسيه أم أواسي نفسي ... )...
- لكن ألا تسمع صوت قدميه ، إنه خلفنا تماما ....
نظرت إلى الوراء خلسة ، لا شيء يظهر في العتمة ، فالليلة هي من أواخر ليالي الشهر القمريّ ، لكنَّ خبطَ الأقدام يطنُّ في أذنيَّ رغمَ صوتِ المذياع...
كانت المسافة تطول أكثر ، ضجيجُ القدمين أصبح أمامنا ، يا للرعبْ ، هل حقاً هو الجنيُّ الذي أخبرنا به والدي ؟ ... لم يعدْ يسير كما نحن ، كانت قدماه تخبطانِ الأرضَ بقسوةْ ، قلبي حينها كادَ يفرُّ هارباً ، بينما بُكاءُ أخي أمسى مسموعاً...
خيالٌ أسودُ يلوحُ ثُمَّ يختفي ، مرّةً في الأمامْ , وأخرى منْ الخلف ، يدنو أكثرَ مِنّا ، المِذياع يضْطربُ ، كلماتهُ أصبحتْ شعثاءَ الشعرِ ، الليلُ يضرِبُ موعداً مع الخوفْ ، لا بُدَّ منْ قرارٍ ما ، (قلتُ)
- هاتِ يدكَ ... وحين أشدُّ عليها تجري معي بكل ما تملكُ منْ سرعة ولا تنظر خلفكْ...
استجابَ أخي ، الآنَ فقط اختفى ذاكَ الشبحُ الجنيُّ ، فضجيجُ أقدامنا أصبحَ يركِلُ الخوفَ ، البيتُ يلوحُ في العتمةْ ، تنفسّنا قليلاً , كُنّا نلهثُ كما كلبين صغيرين...
- أين المذياع ، أين المذياع ... سألتُ ... ضحِكَ الطفلُ بعدما بللَ بِنطاله بشيءٍ ما
- سرقهُ الجنيُّ , سرقهُ الجنيُّ ... الليلُ يُشهرُ سيفهُ !!! ...
__________
١٦/رمضان/2017م
.3
_ الرجلُ الذي توارى _
كأن عقارب الساعة أمست دبيباً بلا صوت , فلا هي تسير , ولا هي تتوارى من أمام ناظري أبو عامر , يومٌ من أيام نيسان , لا حرّ ولا قرّ , الجو يوحي بالجمال في هذا الصباح , لكن ليس مع الكلّ فهناك من لم يكن على هذا الديدبان ...
- لماذا تأخرتي يامرأة , ألم أقل لك بأني سأذهب باكراً إلى الدائرة ... أريد أن أنهي أموري اليوم , الرحلة ستنطلق صباح الغد 0
- مازال الوقت متسعاً أمامك , العاملون لا يأتون لأعمالهم قبل التاسعة , لا تتسرع وكنْ هادئاً يا أبا عامر ...
- ذاك الرجل إن وقف بطريقي اليوم فسوف ألعن ...
لم يكمل عبارته , وربما أكملها في سرّه خجلاً من زوجته , ارتدى ثيابه , بذّةٌ سوداء , ربطةُ عنق رمادية , بعدما كان قد اقتلع شعيرات ذقنه , ورشّ العطر الفاخر على ملابسه , لم يتبقَ إلا الحذاء , جلس على أريكةٍ صفراء , بدت شاحبة في هذا اليوم , هل أصابها المرض , أم أنّ الأيام تلاعبت بساقيها , أمسك فنجان القهوة بيدٍ ترتعش , بينما اليد الأخرى تتشبث بسيجارة حمراء طويلة , كانتْ سحبُ الدُخان وكأنها متصاعدة من مدخنة مدفأة في ليلةِ يومٍ كانوني , رمى بها قبل أن تنتهي ثُمّ أشعل غيرها ...
- صبيّ قهوة يامرأة ... ( قالها بلهجة فلاحٍ مُنهك ) ...
- القهوة مفيدة في الصباح , ولكن لاتكثر منها ...
- اصمتي ... اصمتي ... هل تزوجتُ طبيبة دونَ أن أدري ...
ضحك من كلماته المتعثرة , كما خطوات شيخٍ هَرِم , أو كما طفلٍ يتعلّم المشي لتوّه , ركنَ الفُنجان على طاولة صغيرة مدورة , قذف بسيجارته إلى اللاعودة , هل أصابت أحداً في الشارع !!! قال في نفسه ...
- يا إلهي لن نتعلم معنى الحضارة , حتى بقايا السيجارة نرميها من النافذة , وسلّة المهملات أمامنا , لن نتخلى عن عروبتنا ...
قالها مستهزأً هذه المرّة , فهل سيتصرفُ هكذا عندما تطأ قدماه أرض البلد العجوز , تساءل سّراً , احتسى حذاءه الأسود على مهلٍ , ربما أدرك بأنّ الوقت مازال باكراً , أو أنه عاد لعادته القديمة , فلال قيمة للوقت لدى فلاح تمرُّ عليه الأيام متشابهة ...
ولجَ الطريق بحلّتهِ الجديدة ( سوف يخشى مني الموظف , فهم يخافون ممن يرتدي بذّةَ رسمية وربطة عنق ... ) لابدّ بأن أموري ستنتهي بسرعة كي ألحق مكتب تذاكر الباص المغادر إلى بيروت , لن أركب التاكسي فالمسافة قريبة والوقت مازال مُتسِعاً ...
جلست الزوجةُ وحيدة تنتظرُ قدوم جارتها لتشاركها بعض القهوة التي تركها زوجها , كانت ترتدي قميصاً شفافاً يظهر مفاتنها بقسوة , مثيرة هي تلك الريفية , بينما شعرها يستنكفُ بعدما ابتعد عنه المشط الأسود , لحظات والباب يُفتحُ وتدخل الجارة ...
- يالك من أنثى جميلة ...
- دعكِ من هذا فأنا أخجل , أولستِ بأجمل مني ...
- كيف كانت سهرتكِ بالأمس , بالتأكيد كانت مميزة وجميلة ...
- لا وحياتك , زوجي مشغول بأوراق السفر , لم يُحرك ساكناً حتى الصباح .
القهوة تنتحر على شفاه مجمّرة , وتبدأ رحلة قراءة الفناجين الوردية اللون , ضجّة الأولاد تبدأ بالتعالي شيئاً فشيئاً , الجارة تغادر إلى اللارجعة , هكذا كانت تظنُّ يومها ...
وقف أبو عامر أمام الموظف الذي مازال في مقتبل العمر , لم يتجاوزه عقده الثالث , متأنقٌ جداً , كان يراقبهُ عن كثب وهو يوزع ابتساماته على زميلاته , وعلى بعض المراجعات الجميلات ...
- الحمد لله يبدو منفرج الأسارير اليوم , لن يؤخرني , بذّتي أجمل من بذّته , لا ذوقَ لديه ...
عندما وصله الدور , كانت قدماه تؤلمانه وجداً , فثلاثةُ ساعات من الوقوف والتوقف كفيلة بإسدال ستارة التعب على منكبي رجلٍ تجاوز الخمسين بقليل , مع أنّه يحتفظُ بكامل قوته , ناول أوراقه إلى الشاب المتأنق دون أن ينبس ببنت شفة , كان لا يريد أن يزعجه بشيء , لعلّ الأمور تسير دون أخذٍ وردّ ...
تأفف الموظفُ قبل أن يبتدئ بتقليب الأوراق , ممسكاً بقلمه بيده اليسرى , يضع إشارة هنا , وأخرى هناك , يكرر التأفف , الوقت يمرُّ متثاقلاً كسلحفاةٍ هرمة , المؤذن يعلن صلاة الظهر ...
- انتصف النهار , ربما لن ألحق بمكتب القطع , خليها على الله ...
الشاب يحتسي رشفة قهوة كانت متبقية بقعر فنجانه السماوي , رمق الرجل بنظرات لم يعهدها من قبلُ , تمتطّى كما إبلٍ لتوها استفاقت من نومها , انسكبَ فوق كرسيه الكبير متراجعاً إلى الخلف , زفرة طويلة , تنهيدة تحتسي كل حقارات الكون , الرجلُ بدأ يلهث , قلبه يركض كما لم يفعل من قبل , حبيبات العرق تخرّ ساجدة على جبينه المحْمَر , تلعثم في كلماته ...
- ماذا , ماذا يابني ... هل هناك خطبٌ ما لاسمح الله ...
- لاتقل يابني , فأنا لي أب لا يشبهك , وأنت لست بمقامه
بلع الرجلُ لُعابه حتى كاد يبتلع لسانه , تراجع خطوة إلى الوراء , ثم عاود السؤال ...
- لا يهم , لا يهم , ما المشكلة الآن ...
ألا تعرف بأنّ أوراقك ناقصة ؟ يبدو بأنك لم تتعلم , خذها واغربْ عن وجهي ...
ورمى بحفنة الأوراق صوب الرجل , بعضها لفح وجههُ , وبعضها الآخر تناثر في أرجاء الغرفة , على الطاولة المقابلة دوّت قهقهات أنثيين جميلتين من هزليّة المشهد ...
- ياحرام , انظري إليه , انظري , يبدو ساذجاً جداً ...
- معك حق يا شادية , إنّه ساذجٌ فعلاً , لكنّهُ لطيفٌ وأنيق ...
لملم أبو عامر أوراقه , أمسكها بكلتا يديه , عيناه تبرقان كعينا نسرٍ آتٍ من صحراء بعيدة , مزّقَ الأوراق كلها دفعة واحدة , ثم اقترب من ذاك الشاب المتأنق الذي تراجع قليلا لكن الجدار استوقفه ...
- لا يمكنك التراجع أكثر ... ( قالها الجدار الأخرس ) 0
- اصرخي , اطلبي الشُرطة , إنّه رجلٌ متوحش ... ( قهقهَ أبو عامر)
- الشرطة قال ... !!! ... لستُ أنا المتوحش أيُّها الوغد , أنتَ التوحش بعينه .
صرخت الموظفة , كان كل شيءٍ قد تلاشى , العتمة تلفُ الغرفة بجدرانها السوداء , الرجل غادر بهدوء ...
- لن نسافر يامرأة , البلد بحاجة لي , لكن الآن احزمي لي حقيبة صغيرة , ولا تنسي بعض الملابس الداخلية , سأغيبُ لفترة ...
- ما الذي حصل , كم ستغيب , لما ألغيت فكرة السفر ... أسئلتها لم تكن ذات
وليد.ع.العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق