١- مقدمة:
تتميز نصوص الروائية الأديبة السورية فيحاء نابلسي بأنها نصوص واقعية موقفية، فهي بارعة في اقتناص الموقف والمشهد من الواقع، وأبرز ما تقوم به في تلك النصوص هو ( التدوير )أي أن القص عندها يبدأ ويسير دائرياً لينتهي في نقطة البداية، جارّاً معه كل المتغيرات التي رافقته في مسيره الدائري، لينتهي متخماً بنهاية مباغتة تجعل من البداية محطة فارغة تنتظر الامتلاء.
بارعة جدّاً هي في هذا الاتجاه، ولا تغفل عن صبغ قصها بالصور البلاغية والبيانية التي تجيد اللعب بألفاظها ورسمها، كما أن نصوصها يتجاوز الانزياح الرمزي فيها نسبة مئوية عالية، تضعها في مصاف النصوص الرمزية بامتياز.
٢-العنوان :
أفعى وحمامة : اسما جنس لنوعين من الحيوانات، الأول أفعى : اسم جنس من الزواحف السامة . الثاني : حمامة اسم جنس من الطيور .
المعنى الرمزي :الأفعى في المعتقد القديم تعني أنها باقية ولا تموت أبداً وأن حياتها تتجدد مع تجدد جلدها كل عام وكان
هنالك ربط بين معتقد الأفعى ومعتقد القمر الذي يجدد حياته أبدياً في دورة شهرية دائمة ..
الحمامة :رمز السلام هو تمثيل أو كيان يرمز للسلام. أخذت هذه الفكرة من حضارة ما بين النهرين. الحمامة، أو حمامة تحمل غصن الزيتون في منقارها، هي رموز قديمة للسلام،
ولعلنا نفهم من العنوان أن هناك صراعاً من أجل البقاء تفرضه الفطرة التي فطر الله عليها مخلوقاته.
٣-الموضوع :
جدلية ( إما أن تَأكُل أو تُؤكل، إما أن تَقتُل أو تُقتَل ، الديمومة والاستمرارية والصراع من أجل البقاء) موضوعة أمام ظروف متغيرة ، وبأحكام غير ثابتة ، في نفس المكان والزمان، وكيف للكاتبة أن تعالج هذه الجدلية وتقنعنا أو لا تقنعنا، بل تبقي الموضوع مفتوحاً لنا كمتلقين نضع عليه أحكامنا التي لن تكون واحدة بحال من الأحوال، لاختلاف مشاربنا واعتقاداتنا بالمجمل ...
٤-الهيكلية الإخبارية :
النص قص قصير واقعي بمسحة فلسفية مثيرة للجدل، ينضوي تحت نظرية الفن للمجتمع ،
الزمكانية : الزمان: فترة حرب معاصرة حالية يشهدها بلد الكاتبة .
المكان : مغارة (مقديس) اختبأ فيه البطل هارباً من السوق للخدمة العسكرية.
الصراع الدرامي ( الحبكة ):
شاب لجأ إلى مغارة رطبة تظهر فيها الصواعد والنوازل في جوف الجبل، معروف أنها ملاذ آمن للفرارية وقطاع الطرق، هجرها هؤلاء بعد أن أصبح الوطن برمّته مغارة كبيرة حَوَت كل المرتزقة من كل الأصقاع ( الآن لم يعد يقربها أحد , لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ , الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات , عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدا) رمزية عالية جدّاً، هذه المغارة أصبحت تلائمه وتلائم أمثاله ممن رفضوا أن يكونوا حطباً في محرقة تحرق الأخضر واليابس دونما وجه حق، وأمام جدلية إما أن (تَقتُل أخاك أو يَقتُلك أخوك) اختار الهروب ...
فإلى متى ؟ هذا السؤال هو المحور الأساسي الذي دار حوله النص ، متى نكون مجبرين على تجاوز وتخطي معتقداتنا؟ والطعن فيها؟ ...
على باب المغارة انتصبت ساحة معركة لم يجد أمامها بد من القتال الذي فرّ منه كعقيدة ، أفعى تهاجم عشاً فيه بيوض الحمامة تحاول أن تذود عن حماها و عشها ، وأمام شعوره بضرورة نصرة وإغاثة الحمامة الضعيفة و عشها، يتناول موسه الكباس من جيبه يتهيأ لفعل آخر بعد أن نجح آنفاً بإبعادها برميها بحجر، ولكن جوعها جعلها تحاول الاقتراب مرة أخرى لتسكته، فطرة الله التي فطر عليها الحيوانات، الافتراس من أجل الاستمرار بالحياة، فلا معاوضة ولا طعام بديل مما تنبت الأرض، مضى أكثر في
تفكيره بأن نجدته تلك قد تعوق سير حياة أفعى، دار في داخله صراع آخر ...
* العقدة :
ما ذنب الأفعى إن كانت لا تبتغي سوى أن تعيش؟ لا تبتغي شرّاً محضاً وإنما تكافح من أجل البقاء، أليست فطرة الله فيها أن تحافظ على أمانته فيها ( النفس ) وقد جعل الله سبيل بقائها وديمومتها في القنص والافتراس ؟ هي فقط تتناول لقمتها، وما ذنبها إن كان القدر قد جعل لقمتها تلك الحمامة وبيوضها؟ تفكير خطير جدّاً لو أسقطناه على جنس البشر لتحوّل إلى غابة يفترس قويّها الضعيف بحكم شريعة الغاب التي لا تحاسب مفترساً ولا ترحم فريسة، وقد تهرب الحمامة تاركة بيوضها، ترى هل تتغلب عاطفة الأمومة على غريزة البقاء؟.
الانفراج :
بحكم الطبع الآدمي ، يصدر العقل أوامره لجوارحه، فتعمل بردة فعل مباغتة، تعالج يدَهُ مقبض الموس وتفتحه، وتطلقه باتجاه الأفعى مستقراًفي عنقها تثبتها في مكانها قبل أن تصل إلى العش، والحمامة تعلو وتهبط أمام العش مضطربة تحاول بقوة الأمومة أن تدافع عن فراخها، إذاً ماتت الأفعى وبقيت الحمامة مضطربة لم تتأكد من موتها بالبداية، وبقيت بعيدة إلى أن همدت الأفعى عندها اقتربت الحمامة من عشها و تأكد البطل أن غريزة البقاء هي الأقوى ، وخطر بباله أن يسجل هذه الملحمة على جدران الكهف كما فعل الأجداد أهل الكهوف أمام العصور الحجرية الذين كانت انتصاراتهم تشبه انتصاره هذا ، ثم استدرك ، لم يسجل هكذا انتصارات سخيفة ومخيفة، لمَ يخبر الأجيال القادمة عن الأشياء المريعة التي حصلت وما زالت تحصل في هذا العصر المخيف، الرؤوس التي تقطع بعيداً عن الأجساد ، والأطراف التي تطير فرادى، لم لا يخبرهم أن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش؟ وذهب خياله بعيدا إلى الحقول والسنابل الخضراء والصفراء ، إلى الطبيعة الأمّ وجمالها وجمال الحياة الدافئة الآمنة التي توافدت صورها إلى ذاكرته، أخرجه من ذلك مرأى الحمامة وهي تنقرالأفعى بعد أن تأكدت من موتها تبتغي بعض اللحم منها لتسد جوعها وجوع فراخها التي خرجت من البيوض التي فَقَسَت لتوّها ..
تغيّر في اتجاه تفاؤلي وإيجابي أراح البطل كثيراً.
النهاية :
أطلقها البطل مجلجلة، ضحكةُ ترافقت مع يد وضعها على معدته الخائرة ، ويد أخرى تفتح الموس، تَقَلُّب الجمرات وتغمد النصل في اللحم الطري ( لحم الحمامة )، وتنقله إلى فم ما استساغ لحم الحمام يوماً ، لكن الفكر يقول: ( طعام سيء خير من جوع قاتل )، مزقة لحم أخرى وضعها في أفواه الفراخ الجائعة التي أكلت دون أن تدري لحم أمّها التي كانت تستميت للدفاع عنها منذ قليل ..
وعلى جدرار الكهف كتب بعود يحمل عناب الفحم ( قصة حياة ).
نهاية فلسفية على درجة رفيعة جدّاً من الرقي والفكر النيّر والقناعات السوية، فيها جواب لسؤال المركزي في النص متى نكون مجبرين على تخطي اعتقاداتنا؟ عندما يتعرض بقاؤنا (حياتنا ) لخطر الفقد .
٥-الهيكلية الجمالية :
الأسلوب :
أسلوب الكاتب كان واقعياً بانزياح رمزي بنسبة مئوية عالية، تميّز بطرح فلسفي ونفسي على درجة عالية من الأهمية، الكاتبة اعتمدت التنصيص وهي سمة مميزة لها نجدها في معظم نصوصها.
السرد :
إخبار جرى على لسان الكاتبة لم يخلُ من الرمزية و الفلسفة، حاولت فيه وضع بصمة تخصها شخصيّاً ، وقد نجحت في ذلك .
الحوار :
كله مونولوج داخلي للبطل بصيغة الغائب .وهناك حوار بسيط على لسان صديقه .
•الشخصيات :
البطل ( إنسان )
الأفعى ، الحمامة شخصيات ذات دلالات رمزية تتعلق بالديمومة والبقاء.
الصور الجمالية :
حفل النص بالعديد من الصور الجمالية المرسومة بريشة رسّام محترف، ألوانه عديدة ، علم بيان، وبديع وجناس وطباق وتورية وأسابيع واختلافات ، نعدد بعضها دون حصر :
سقفها الذي يتدلى منه عشرات الأثداء = استعارة
قذيفة قدمت للطيور وليمة دسمة = كناية
أصبح الوطن كله مغارة كبيرة= تورية
يلفظ دواخله كما يزفر الهواء = تشبيه
- تأكل ، تؤكل جناس
التمركز التفكيكي :
تمركز النص حول محور الصراع من أجل البقاء والاستمرارية والديمومة، وأن الموت هو حكم الله على كل المخلوقات، فلا بقاء يستمر، وهو نهاية حتمية حتى لمن نجا من صراع.
المتغيّرات :
هذا الصراع يفتك به القوي بالضعيف في عالم الحيوان، وتقرّه شريعة الغاب من دون أن تجرّم المفترس ومن دون أن تتعاطف مع الضحية ، هي فطرة الله فيهم من أجل البقاء .
الإنسان هو الغالب في صراعه مع باقي المخلوقات بحكم تميزه بالعقل و الدقة وذكاءالتدبير .
أما الحسم بصراع إنسان مع إنسان : يكون حتماً صراعاً بين خير وشر، ولا بد من ضحايا ودم يُراق، لإعادة الموازين إلى اتزانها في وطن اعتُدي فيه على كل شيء، وخلت فيه الأماكن من سكانها الأصليين، بل وتبدّلت الأدوار فيها فغدا الوطن مرتعاً للصوص والمرتزقة، و أصبحت الكهوف والمغاور مخيّم تشرد للمخلصين والشرفاء.
ولا بد من الصراع .. والسؤال الذي طرحته الكاتبة كان عن مدى شرعية هذا الصراع، هل هو مشروع ؟ والجواب كان في حكم الله تعالى الذي شرَّع القتال والجهاد دفاعاً عن النفس والعرض والمال والوطن، من أجل الاستمرار والبقاء، وهذه شريعة الله في البشر يتحقق بها عدل الدنيا واستمرارها، ( أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وأن الله على نصرهم لقدير ) صدق الله العظيم ، هنا تناص قرآني موفق جدّاً .
نأتي لسلوك الإنسان مع الحيوان، البطل الذي قتل الأفعى (مع قناعته أنها لا ترتكب شرّاً ) دفاعاً عن الحمامة، ثم قتل الحمامة( مضطراً تحت وطأة الجوع ) آخذاً بأسباب استمراريته، هل ارتكب جريمة قتل ؟ مؤكد لا وإنما دافع عن نفسه التي وضعها الله أمانة عنده وصانها حتى آخر رمق، الموت آتيه لا محالة لكن ( لكل أجل كتاب )، و هنا نجد تناصاً موفقاً.
وجدلية أخرى لمحتها بالنص، هل كل موت هو قتل ؟
حتماً لا وإلّا كان عزرائيل أكبر قاتل، وحاشاه ذلك وهو ملاك ينفذ مهمته التي أوكلها الله إليه .
التكميم التفكيكي:
ويعتبر التكميم، أحد عناصر تحليل المضمون الهامة، في تفكيك النصوص، ويقصد به تحويل المعاني من مفردات أو تعابير أخرى إلى أرقام، ومن ثم اكتشاف دلالة الرقم، ويتم هذا التكميم أو التحليل الرقمي بمنهجية، وفق خطوات معروفة، ولغايات محددة، وتتوخى درجة الموضوعية و الحيادية فيه، وتجنب الأحكام الذاتية في هذا التحليل، و وحدات التحليل الأساسية هي : الحرف ، والكلمة، و العبارة، والفقرة، والفكرة، والشخصية، والزمان، والمكان ...ومن ذلك يكتسب هذا المنهج العلمي التفكيكي منهجيته العلمية، بأنه يمكِّن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع، و يساعده أيضاً على الوصول إلى إجابات مقنعة عن الأسئلة التي تثار حول النص، وذلك بفضل قدرة التفكيك على التفسير الذي يزيل الغموض،
ويظهر الغايات المقصودة من النص بوضوح، وكذلك يساعد على إظهار المعاني الدفينة والمخبوءة في النص، وإجلاء مضامينه على نحو دقيق، ويفيد هذا المنهج العلمي، المجتمع والباحثين في الأدب والعلوم الأخرى بأنه يصف الظروف والممارسات في المجتمع، ويبرز الاتجاهات المختلفة، ويساعد على الكشف عن نقاط الضعف والقوة والتناقضات، ويساعد على تطوير الأداء، و إظهار الفروق في الممارسات، وتقويم العلاقات بين الأهداف المرسومة وما يتم تطبيقه على الكشف عن اتجاهات الناس وميولهم.
وقد استخدم الكاتب نوعين من المفردات :
1-المفردات والمعاني الثابتة: وهي المفردات التي أخذت بنوعي المفردات النحوية الأساسية الاثنتين (مفردات المحتوى content words ومفردات التركيب function word)
2- المفردات الدلالية المتكررة ، وتلك المفردات حركها الكاتب بشكل فني مدروس لإعطاء جمالية في النص ، فأعطى لكل مفردة وظيفة معينة ، وعمل على تكرارها بشكل واعٍ ، لتعطي دلالات تضيف عمقاً لمتن النص .
أحصيت الدلالات الحسية فكانت( ٧٨) دلالة تفصيلها على الشكل التالي :
الدلالات السلبية :
الأفعى ( عدو )=٣
مغارة ( وحدة ) =٥
خوف =٦
حرب ( مآسيها )=١٢
أسى ويأس =١٠
المجموع =٣٦
الدلالات الإيجابية :
حمامة ( سلام ) =١٠
شجاعة =٥
حكمة =١٧
أمل وتفاؤل =١٠
المجموع =٤٢
والغلبة للدلالات الحسية الإيجابية
دلالات فلسفية :
-ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله؟ = ٧
-لم بريد هوية في قريته ؟= ٥
ما ذنب الأفعى إن كانت الحمامة هي قوتها ؟= ٨
-هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟= ٧
- هل عليه أن يدع الحياة تسير مسارها أم يعترض طريقها بفعل ؟= ١١
-لم يصر الإنسان دوماً على أن يلفظ دواخله كما يزفر الهواء ؟=١١
هل تقتلنا المشاعر والأفكار لو بقيت حبيسة النفس والخاطر؟= ٩
- لم عساه أن يخبر أؤلئك القادمون عمّا جرى في هذا الزمن الغريب ؟= ١٢
من أين ترد الخواطر على مرآة النفس ؟= ٧
إما أن تأكل أو تؤكل .= ٥
المجموع=٨٢
(٨٢ )دلالة حسية فلسفية أمام (٧٨ )دلالة إيجابية وسلبية يقطع الشك باليقين أن النص فلسفي بامتياز، ومثير للجدل .
أخيراً:
النص متشعب فلسفياً ونفسياً ، ويستحق أن نغوص فيه أكثر وأعمق، أتمنى أن أكون قد تمكنت من الإحاطة بمفاصل النص
وربط جميع الخيوط التي نتجت عن التفكيك، لتوضع في موضعها الصحيح ..
نص مائز أمتعتنا به الروائية والأديبة فيحاء نابلسي، ولها مني كل التحايا والتقدير .
د. عبير خالد يحيي
أفعى وحمامة
يدرك تماما أنه ليس وحده , لا بد أن كثيرين يشاركونه المكان , تلك الحمامة الراقدة على بيضها في مدخل المغارة , يراها ويسمع هديلها الخافت , وهناك آخرون, لا يراهم عيانا, يشعر بوجودهم , ربما يرونه من حيث لا يراهم فليس كل من يراك تراه , لكن ذلك لا يرهبه بأي حال ولا يجعل قلبه يغور في جوفه كما اعتاد أن يفعل عندما كان الكبار يروون حكايات المغارة وساكنيها واصوات الليل التي تنبعث منها وما يحدث لمن تسوّل له نفسه المرور من قربها او النظر إلى بابها المعتم , كان يشيح بنظره بعيدا عندما يقوده الطريق إلى جهتها ويغمض عينيه خوفا من أشباحها في حال دنوّه منها ,ولكن ها هو الآن يقبع في حضنها , بين جدرانها الرطبة وسقفها الذي تتدلى منه عشرات الأثداء الحجرية يقطر منها الماء نقاطاً تهوي إلى الأرض على مهل عازفة لحناً خافتا بإيقاع مخيف.
نعم إنها مغارة "مقديس" الموغلة في جوف الجبل , لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك , الآن لم يعد يقربها أحد , لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ , الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات , عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدا .
يريدونه وقودا لحربهم , قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام . لكنه لا يريد أن يَقتل , لا يريد أن يزهق أرواحا لا يعرفها ولا تعرفه , ليس خائفا من الموت , يعرف أن لكل أجل كتاب , ولكن ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله في هذه الزوبعة التي لا يبين منها أرض ولا سماء .
قبل أسابيع أرسلوه إلى قريته في إجازة مرضية , عاد حاملا جراحا نازفة وساقا مكسورة ينتظر شفاءها ليعاود الالتحاق بقطعته , لا يملك من أمره شيئا , هم يريدون ويقررون له أين يكون وماذا يفعل . هاتفه رفيقه قبل أيام , قال له أن كل من كان في قطعته رحلوا إلى العالم الآخر على متن قذيفة حارقة قدمت للطيور وليمة دسمة أشبعتهم لأيام لكنها لم تشبع الغول النهم إلى مزيد من الدماء .
قال له صديقه " لا تعد , لن يعرف أحد إن كنت بين الأموات أم الأحياء ". لم يعد, و ها هو الآن بلا هويّة ولا شيء يثبت كينونته . ولكن ما حاجته إلى هويّة هنا , الجميع يعرفونه , يعرفون أبيه وجده وجد جده , يعرفون يوم ميلاده والوحمة السوداء في بطة ساقه , والجرح الغائر في كتفه يوم قفز عن السنديانة الكبيرة إلى النهر وجرحه أحد أغصانها الحادة , لمَ يريد هوية في قريته , يمكنه أن يتنقل من حاكورة إلى أخرى وينزل إلى العين يملأ كفيه ماء زلالا ويعبّ حتى الارتواء .
العيون الخائنة ألجأته إلى هنا, البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية , باغتوا القرية عند المساء , عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم , فتشوا الدور والبساتين بحثا عن الشباب الفارين , أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار , لم يجد وقتا لحمل زاد كافٍ , وحتى الآن لم يأت أحد ليبلغه بإمكان عودته .
تحسس في جيبه بعض حبات الجوز وبعض من تين مجفف, تناول شيئا منها البارحة , لم يتبق الكثير ,إلى متى ستسد هذه الحبات رمقه ؟ .
خفقُ أجنحةٍ يقطع عليه تداعياته , الحمامة في مدخل الغار تطير فوق العش تعلو وتهبط , تهدل بهلع , وكأنّما أصابها مسٌّ .
من شق في إحدى الصخور يلمح ظلا أسود يزحف على مهل ,تجلّت أمامه أفعى , ها هي تمد رأسها تتقدّم قليلا ثم تنكص راجعة عندما تهيج الحمامة وتضطرب , شغله المشهد عن هواجسه , ها هي ساحة معركة أخرى تقوم أمامه , لا مناص من القتال !!
تأهب مستشرفا الحدث , البارحة قذف الأفعى بحجر فاختفت , لكنها اليوم تعود, لعل الجوع شغلها عن الحذر , تحسس في جيب سرواله الخلفي الموس الكبّاس ,تناوله بأصابع مترددة وأخذ يقلبه في كفه , هل يرشقها بضربة عاجلة , حدث نفسه وهو يتأمل الأفعى تزحف على مهل .
لكنها لا تبغي سوءا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها , ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها , هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم , ولا يعرف أيضا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ!
اشتعل رأسه رهباً, انبسطت ذراعه ونترت إصبعه قبضة الموس , قذفت كفه المديّة فاستقرت في عنق الأفعى وثبتتها في مكانها قبل بلوغها العشّ بقدر عقلة , هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق , مازالت الحمامة ترفرف غير بعيد عن عشها , لم تأمن عدوها بعد, لم تدرك أن هذا الشيء الذي يتلوى وينتفض أمامها على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة , لم تدرك أن من كان على وشك أن يسلبها حياتها قد فقد حياته, مازالت تحوم بوجل, تنتظر أن تهمد وتخمد حتى تعود إلى عشها , يبدو أن غريزة البقاء أقوى .
مرّر رأس الموس على الصخرة وحفر خطا ملتويا, ضحك من نفسه , لعله يريد أن يسجل هذه المعركة على جدار الكهف كما كان يفعل أجداده قبل آلاف السنين , ما الذي تراه كان في بالهم عندما كانوا يحفرون رسم حرابهم وصيدهم ونيرانهم , لم يصرّ الانسان دوما على أن يلفظ دواخله كما يزفر الهواء ؟ هل تراها تقتلنا المشاعر والأفكار لو أنها بقيت حبيسة النفس والخاطر؟
ليس في ما جرى أمامه الآن ما يستحق التسجيل , تختبئ في تلافيف ذاكرته صور أكثر جدوى ,صور لم تنقلها عدسات المصورين ولم تسجلها تلك الأقمار العائمة في الفضاء ترصد وتترصد, هناك الكثير الكثير . هل يحفر على الصخر رسم أذرع تتطاير في الهواء ورؤوس تتدحرج بعيدا عن أجسادها , صرخات ودخان ودمار ,وسيول حمراء تلوّن الطرقات, ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .
ولم عساه يخبر أولئك القادمون عما جرى في هذا الزمن الغريب , لعلّه يترك لهم شيئا أبهى , شيء لا يجعل قلوبهم تتلظى حسرة على انسان هذا العصر, شيء يخبرهم أن الحياة تستحق أن تعاش , ربما يرسم قطاف الزيتون أو عناكيش السمّاق المتناثرة على طول الطريق تنتظره ليجنيها في صباحات آب ويأتي بها إلى زوجته لتدقّها في الجرن الحجري وتخبئها لأيام الشتاء , هل يرسم قطع الحطب التي تطقطق في نار المدفأة بينما ينهمر المطر في الخارج وتسيل البركات سيولا وأنهار , سنابل الذهب أم تفاحات لوحتها شمس أيار ؟ برتقالات امتلأت بشهد العسل أم خضرة المروج في نيسان؟ ربما لا تتسع الجدران أيضا لكل الهناء المخبوء في ذاكرته .
يمّم وجهه شطر الحمامة , إنها ترفرف فوق جثة الأفعى الهامدة بعد أن تيقنت موتها , لعلها تريد أن تنقرها لتقتات على لحمها , صوت زقزقة خافتة في العش , ها هي البيوض تفقس وتمد الفراخ رؤوسها الحمراء الرطبة , الحمامة الأم تعود إلى الأفعى, "إما أن تأكلَ أو تؤكل" , امتلأ صدره بضحكة مجلجلة , , ليس هناك خيار ثالث , قلب الموس في كفه , أغلقه على مهل ثم أعاد فتحه , من أين ترد الخواطر على مرآة النفس ؟ مرّر يده عل معدته يُسكت خواءها .
قلب الجمرات برأس الموس , أغمد النصل الحاد في اللحم الطري ووضعه فوق اللهب . لم يستسغ يوما لحم الحمام , ولكن طعام سيئ خير من جوع قاتل على أي حال, اقتطع مزقة من لحم وألقمها للفراخ الفاغرة أفواهها ل الطعام وتابع تقليب اللحم فوق الجمر المتقد , ركز شواءه على طرف الحجر وأخذ عن الأرض عودا غمسه بهباب الجمر المتفحم , رسم على جدار الكهف صورة أفعى زاحفة وحمامة مرفرفة , سجّل حروف اسمه الأولى تحتها وكتب بخط أسود
" قصة الحياة " .
تناول قبضة الموس وبدأ ينهش اللحم الساخن على مضض.
فيحاء نابلسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق