يظل دوستويفسكي الرائد الأكبر للرواية الإنسانية، فرواياته العديدة هي بحق، معين لا ينضب للعبقرية والإلهام، بما خلّد الشعب الروسي، ومن خلالها أبحر في أعماق النفس الإنسانية قاطبة. لقد إجتمعت في كلماته وقصصه ورواياته قيم جمالية وأدبية قلما أن إجتمعت عند غيره من الكتاب: الرهافة المطلقة، والشاعرية العالية، والتجريد والتحليل العميقان، والتفاصيل الدقيقة جداً، والواقعية الفذة. إنه ساحر كبير في مجال السرد الحكائي لا يضاهى. وهو الخبير الأول روائياً، بالنفس الإنسانية وترددها المزمن بين السمو والسقوط والفضيلة والرذيلة والإيمان والإلحاد. لقد حدّق ملياً في شرط الوجود البشري وصاغ آياتٍ رائعة عن الإنسان في كل زمان ومكان.
إنه الروائي الذي سار على طريق الأنبياء، محتاراً ومهموماً، يرافقه الشياطين والمجرمون، ودوّن لنا تفاصيل المسيرة، حتى تبقى منارة عالية ومشعة للتائهين والحيارى في ذلك الزمان وفي هذا الزمان وفي كل زمان ومكان.
كان دوستويفسكي مثل تولستوي، من أبناء الكنيسة المتدينين عندما كان طفلا صغيرا، لكنه عندما أصبح شابا اتجه إلى المعتقدات التقدمية للمثقفين الروس في عصره. واكتسب فيما بعد، بصيرة عميقة في فطائع البؤس البشري وتساءل عن وجود الله نفسه الذي سمح بكل هذا البؤس. وكان دوستويفسكي يناصر المتألمين والأبرياء، ولا يملك من المشاعر ما يكفي لقبول الله دون تمرد. ويبدو أن الكبرياء الروحية والذات المجروحة قد منعتاه من ذلك.إنه الروائي الذي سار على طريق الأنبياء، محتاراً ومهموماً، يرافقه الشياطين والمجرمون، ودوّن لنا تفاصيل المسيرة، حتى تبقى منارة عالية ومشعة للتائهين والحيارى في ذلك الزمان وفي هذا الزمان وفي كل زمان ومكان.
وفقد كل هذا أهميته بالنسبة له أمام الفِرق التي كانت تقوم بالإعدام رميا بالرصاص، خاصة أثناء وجوده في السجن ثم في المنفى في سيبيريا حوالي العشر السنوات.
وفي أعماله الفنية الأخيرة العظيمة يُظهر دوستويفسكي طريق الشفاء للأرواح المعذّبة بدون الانتقام. ويصبح لدى مثل هؤلاء الأشخاص مناعة ضد ارتكاب الشر، مما يثير الدهشة الكبيرة لدى الجميع، ويظهر ذلك بأوضح صورة، في شخصية الأمير مايشكن في رواية «الأبله».
وتجتاز شخصيات دوستويفسكي مرحلة الانتقام، وتصبح قادرة على رؤية كل الحقيقة التي تتمثل بعلاقة مع الله، لا تُفقد أبدا.
يتحوّل البحث عن معنى الحياة في كتابات دوستويفسكي إلى قضية الإيمان بالله وليس قضية وجود الله، لأن معرفة الله ببساطة لا يمكن الهروب منها. ويعني الإيمان بالله في الحقيقة الاعتراف به، لأنه إذا هو الله، الأصل الروحي لكل شيء كائن، فإن هناك هوَّة مطلقة بين الله والإنسان. وهذا هو معنى «أسطورة المحقِّق العظيم»، التي هي دون شك، بيان دوستويفسكي بإيمانه الديني العميق.
إن المحتوى والمضمون الحقيقي لأعمال دوستويفسكي العظيمة هو صراع الإنسان في البحث عن الله أمام التجارب التي يمكن أن يتصوّرها العقل لإنكار الله. وتُظهر الطريق للوصول إلى الله من خلال المسيح الإنسان وحده. ويتحدث الله إلينا من خلال المسيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق