لم تكن تعلم أنها تدشن روح حبيبها إلى التّهلكة والموت الأخير، لم تعلم أن القدر هو من يرسم البدايات والنهايات لا هي، ابتعدت عنه خوفا من أن تموت ويتعذب بعد موتها فضلت أن تتركه ليعيش حياته بدون أية تهديدات بفراقها المحتم وموتها، تركته وحيدا وذهبت إلى كل شيء بعيد.
هو...
لم يتحمل غيابها وكان الحزن هو المرض المميت له ولقلبه الأربعيني الذي كان يضخ الدماء لجسده، كان حرفها مرسوما داخل كل قطرة في شرايين جسده المنهك، قاوم بعدها كثيرا لكنه دائما ما كان يعود لشاطيء حبها وتصوّف عشقها، لم يكن يربطه بها مكان أو زمان بل كان عشقه لها روحيا لا يستطيع جسد أو أحد انتزاعه أو تحريف مساره.
هي...
ابتعدت، لكن قلبها الضعيف الموهن بالمرض بقي مع حبيبها، كان رافضا لهجرها يصرخ بها:" أرجوكِ إبقي بقربه فهو من استوطن حبه فيّ؛ تملكني واستباح زواياي فكيف تختارين النزوح منه "؟!
أحبته لدرجة فاقت حدود العقل وبات هروبها منه هو مسعاها الأول والأخير ظنا منها أن بالبعد ستحافظ عليه وسيتزوج بأخرى وينجب منها الطفل الذي يتمنى، فهي لم تعد تقدر على منحه حتى رجفة القلب التي يشتهيها، فكيف بذاك الطفل الذي يحتاج لجسد قوي يتبرعم داخله وينمو.
قذفت بنفسها إلى جبّ النسيان لكن محاولاتها دائما ما تبوء بالفشل، ففي كل ليلة تحضن مخدتها تجتاحها الذاكرة، تكسر أقفال تمنعها، فهي تشتاقه حد البكاء الذي ينتهي عند أبواب السّحَر لتنهض وتصلي الفجر داعية الله أن يختار له الأفضل وهذا ما قد حصل.
كان موته هو الراحة من هذا الحب الأزلي الذي لم يعد قلبه يمتلك القدرة على مقاومة ردود هجرانها. فقد أصابه سهم المنية في قلبه مباشرة. مات بنوبة قلبية وهو وحيد شريد الذهن بتلك التي تركته بلا مأوى وبلا أمل وبلا شاهد على موته سوى قلم و ورقة..!
بعد يومين من وفاته افتقده عم زكريا مالك المقهى والشقة التي يقطنها حسام. بعث بصبيه إلى الشقة فلم يجده، استمر بطرق الباب فما من مجيب.
تملك قلب الرجل شعور بالحيرة والقلق فقد كان يعلم بقصة حسام وعشقه الروحي النازف بكل أنواع الألم لفراق زوجته كما أخبره ذات مساء، صعد الى الشقة ومعه النسخة الأخرى من المفتاح، فتح الباب وكان كل شيء هاديء، أحس أن عاصفة هوجاء تنتظره بالداخل، وما إن دخل الغرفة حتى فوجأ بحسام ملقى على الأرض إلى جانب السرير وابتسامة جميلة تتعلو وجهه، كانت تلك المرة الأولى التي يراه مبتسما فيها فيا لغرابة القدر ..
رن هاتفها الخلوي..
- " ألو "
"سيدتي.. يؤسفني أن أنقل لك خبر وفات زوجك حسام، رقمك كان هو الأقرب في سجل هاتفه الخلوي
" حبيبتي ونبض قلبي "
وبينما كان ما يزال الشخص على الطرف الأخر من الهاتف يتحدث، كانت هي في عالم الهذيان والهلوسة..
- نعم!!
- لا..!!
- لا أصدق!
- من ؟ هل هو... ؟! لابد من أنه تشابه أسماء؟!
لا لا.. بل تشابه أرقام!!
بدأ نبض قلبها يضطرب كإيقاء قطرات مطر في بداية هطوله، قطرة هنا، وقطره هناك، بدأ صدرها بالصعود والهبوط، بحثت عن شيء تجلس عليه.. لا... مستحيل! كيف؟ ماذا فعلت!؟
لماذا يا إلهي هذا الإختبار القاسي؟
لم تسقط منها دمعة واحدة وكأن لهيب الفقد أفقدها ذاك السائل الملحي الذي يموج في مقلتيها..
كانت الدقائق تمر كالشهور، كسنوات فاتت من العمر وهي تجلس على كرسي الإنتظار تحمل بيدها وردة حمراء تمتص لونها من وتين قلبها الموهن، تنتظر الطائرة التي تحمل جثمانه إلى أرض الوطن، دخل شقيقها وبعض أقاربه وهم يحملون نعشه، صندوق خشبي نقش عليه.." إليك وهبت روحي " انتنابها شيء من الغرابة!
لماذا كتب عليه هكذا بدل من آية قرأنية أم أنه صمم لشهداء العشق فقط..!
وبعد أن ودعه الجميع طلبت أن تراه وحدها، أن تختلي بجسده الممدد؛ أرادت أن يكون لقاءهما الأخير لقاء أنيقا رغم ثوب الحزن الذي يرتديه.
خرج الجميع من تلك الغرفة فأبعدت عن وجهه قطعة من كفنه الأبيض. كان كوليد جديد، مبتسما لها فاتحا ثغره، أجهشت بالبكاء، سقط قلبها طريحا بالقرب من كفنه هذا،
هو حبيبي وعشيقي ونبض القلب، هو ذا من سكن جوارحي حواسي وامتلك السويداء فاتحا مقتحما ساكنا في جنبات روحي، لماذا هذا القدر القاسي يا إلهي؟
فكيف لي أن أعيش بعد اليوم وهو من كان ينير ظلمتي؟
رغم بعده القاتل الموحش رغم المسافات إلا أني استمد منه قوتي، يا الله يا رب السماوات كلّل روحي برحمتك يا رحمن علّني أجد فيها الصبر والسلوان..
توقفت عن البكاء، فقرأت له سورة " يس " ودعاء الميت.
خاطبته قائلة: أعلم أنك تسمعني وتشعر بما أشعر به. لكن يا حبيب القلب ويا شهقة الروح حان وقت الفراق الأخير لتمضي وأمضي..
ترك لها وصية وديوان مجموعة قصائد شعرية كتبها لها وعنها وعن حياتهما قبل تلك الرحلة القدسية، ربما كان يعلم أن نهايته قد اقتربت لذلك كتب كل ما يملك بإسمها وطلب منها أن تبني بيتا للأيتام، فقد عاش شعور اليتم القاسي المؤلم قبلا عند فراقها. وأن تنشر ما كتبه ويكون عنوان ديوانه
" لك وهبت روحي"
فقد كتب على ورقة قبل موته أن يكتبوا على نعشه لك وهبت روحي..
وفي كل ليلة كانت تزوره بدعائها راجية داعية ربها أن يجمعه بها في قصور الجنان، وتحضن وسادتها تبكيه تارة وتبتسم له تارة، إلى أن يغزو عينيها النعاس والتعب لتلتقي به في أحلامها ورؤياها.
النهاية.
الأستاذة وسام أبو حلتم
هو...
لم يتحمل غيابها وكان الحزن هو المرض المميت له ولقلبه الأربعيني الذي كان يضخ الدماء لجسده، كان حرفها مرسوما داخل كل قطرة في شرايين جسده المنهك، قاوم بعدها كثيرا لكنه دائما ما كان يعود لشاطيء حبها وتصوّف عشقها، لم يكن يربطه بها مكان أو زمان بل كان عشقه لها روحيا لا يستطيع جسد أو أحد انتزاعه أو تحريف مساره.
هي...
ابتعدت، لكن قلبها الضعيف الموهن بالمرض بقي مع حبيبها، كان رافضا لهجرها يصرخ بها:" أرجوكِ إبقي بقربه فهو من استوطن حبه فيّ؛ تملكني واستباح زواياي فكيف تختارين النزوح منه "؟!
أحبته لدرجة فاقت حدود العقل وبات هروبها منه هو مسعاها الأول والأخير ظنا منها أن بالبعد ستحافظ عليه وسيتزوج بأخرى وينجب منها الطفل الذي يتمنى، فهي لم تعد تقدر على منحه حتى رجفة القلب التي يشتهيها، فكيف بذاك الطفل الذي يحتاج لجسد قوي يتبرعم داخله وينمو.
قذفت بنفسها إلى جبّ النسيان لكن محاولاتها دائما ما تبوء بالفشل، ففي كل ليلة تحضن مخدتها تجتاحها الذاكرة، تكسر أقفال تمنعها، فهي تشتاقه حد البكاء الذي ينتهي عند أبواب السّحَر لتنهض وتصلي الفجر داعية الله أن يختار له الأفضل وهذا ما قد حصل.
كان موته هو الراحة من هذا الحب الأزلي الذي لم يعد قلبه يمتلك القدرة على مقاومة ردود هجرانها. فقد أصابه سهم المنية في قلبه مباشرة. مات بنوبة قلبية وهو وحيد شريد الذهن بتلك التي تركته بلا مأوى وبلا أمل وبلا شاهد على موته سوى قلم و ورقة..!
بعد يومين من وفاته افتقده عم زكريا مالك المقهى والشقة التي يقطنها حسام. بعث بصبيه إلى الشقة فلم يجده، استمر بطرق الباب فما من مجيب.
تملك قلب الرجل شعور بالحيرة والقلق فقد كان يعلم بقصة حسام وعشقه الروحي النازف بكل أنواع الألم لفراق زوجته كما أخبره ذات مساء، صعد الى الشقة ومعه النسخة الأخرى من المفتاح، فتح الباب وكان كل شيء هاديء، أحس أن عاصفة هوجاء تنتظره بالداخل، وما إن دخل الغرفة حتى فوجأ بحسام ملقى على الأرض إلى جانب السرير وابتسامة جميلة تتعلو وجهه، كانت تلك المرة الأولى التي يراه مبتسما فيها فيا لغرابة القدر ..
رن هاتفها الخلوي..
- " ألو "
"سيدتي.. يؤسفني أن أنقل لك خبر وفات زوجك حسام، رقمك كان هو الأقرب في سجل هاتفه الخلوي
" حبيبتي ونبض قلبي "
وبينما كان ما يزال الشخص على الطرف الأخر من الهاتف يتحدث، كانت هي في عالم الهذيان والهلوسة..
- نعم!!
- لا..!!
- لا أصدق!
- من ؟ هل هو... ؟! لابد من أنه تشابه أسماء؟!
لا لا.. بل تشابه أرقام!!
بدأ نبض قلبها يضطرب كإيقاء قطرات مطر في بداية هطوله، قطرة هنا، وقطره هناك، بدأ صدرها بالصعود والهبوط، بحثت عن شيء تجلس عليه.. لا... مستحيل! كيف؟ ماذا فعلت!؟
لماذا يا إلهي هذا الإختبار القاسي؟
لم تسقط منها دمعة واحدة وكأن لهيب الفقد أفقدها ذاك السائل الملحي الذي يموج في مقلتيها..
كانت الدقائق تمر كالشهور، كسنوات فاتت من العمر وهي تجلس على كرسي الإنتظار تحمل بيدها وردة حمراء تمتص لونها من وتين قلبها الموهن، تنتظر الطائرة التي تحمل جثمانه إلى أرض الوطن، دخل شقيقها وبعض أقاربه وهم يحملون نعشه، صندوق خشبي نقش عليه.." إليك وهبت روحي " انتنابها شيء من الغرابة!
لماذا كتب عليه هكذا بدل من آية قرأنية أم أنه صمم لشهداء العشق فقط..!
وبعد أن ودعه الجميع طلبت أن تراه وحدها، أن تختلي بجسده الممدد؛ أرادت أن يكون لقاءهما الأخير لقاء أنيقا رغم ثوب الحزن الذي يرتديه.
خرج الجميع من تلك الغرفة فأبعدت عن وجهه قطعة من كفنه الأبيض. كان كوليد جديد، مبتسما لها فاتحا ثغره، أجهشت بالبكاء، سقط قلبها طريحا بالقرب من كفنه هذا،
هو حبيبي وعشيقي ونبض القلب، هو ذا من سكن جوارحي حواسي وامتلك السويداء فاتحا مقتحما ساكنا في جنبات روحي، لماذا هذا القدر القاسي يا إلهي؟
فكيف لي أن أعيش بعد اليوم وهو من كان ينير ظلمتي؟
رغم بعده القاتل الموحش رغم المسافات إلا أني استمد منه قوتي، يا الله يا رب السماوات كلّل روحي برحمتك يا رحمن علّني أجد فيها الصبر والسلوان..
توقفت عن البكاء، فقرأت له سورة " يس " ودعاء الميت.
خاطبته قائلة: أعلم أنك تسمعني وتشعر بما أشعر به. لكن يا حبيب القلب ويا شهقة الروح حان وقت الفراق الأخير لتمضي وأمضي..
ترك لها وصية وديوان مجموعة قصائد شعرية كتبها لها وعنها وعن حياتهما قبل تلك الرحلة القدسية، ربما كان يعلم أن نهايته قد اقتربت لذلك كتب كل ما يملك بإسمها وطلب منها أن تبني بيتا للأيتام، فقد عاش شعور اليتم القاسي المؤلم قبلا عند فراقها. وأن تنشر ما كتبه ويكون عنوان ديوانه
" لك وهبت روحي"
فقد كتب على ورقة قبل موته أن يكتبوا على نعشه لك وهبت روحي..
وفي كل ليلة كانت تزوره بدعائها راجية داعية ربها أن يجمعه بها في قصور الجنان، وتحضن وسادتها تبكيه تارة وتبتسم له تارة، إلى أن يغزو عينيها النعاس والتعب لتلتقي به في أحلامها ورؤياها.
النهاية.
الأستاذة وسام أبو حلتم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق