ثمة ثلاث ظواهر أحرص على أن أبدأ بها هذه المحاضرة حول الشعرية والفكرعند العرب . تتصل الأولى بالنقد الشعري العربي ، والثانية بالنظام المعرفي القائم على علوم اللغة العربية الإسلامية ، نحواً وبلاغةً ، فقهاً وكلاماً، أما الثالثة فتتصل بالنظام المعرفي الفلسفي
أولاً، اتخذ النقد ، في معظمه ، من الشعر الجاهلي نموذجاً ومثالاً ،وقوّم الشعر اللاحق، إيجاباً وسلباً، بحسب اقترابه منه في الطريقة الشعرية ، أو ابتعاده عنه، ويُفترض في هذا النقد إدراكه أن الشعر الجاهلي لم يكن مستودع " الألحان" العربية وحسب ، وإنما أيضاً كان مستودع "الحقائق"و"المعارف" . ومعنى ذلك أن الشاعر الجاهلي لم يكن " يُنشد"وحسب، وإنما كان "يفكر"أيضاً ، وأن القصيدة الجاهلية لم تكن مصدر طرب وحسب، وإنما كانت أيضاً مصدر معرفة. يعني ذلك ، بعبارة ثانية ، أن الشعر الجاهلي لم يكن واحداً، وإنما كان متعدداً .
المسألة التي تطرح في هذا الصدد هي أن هذا المتعدد قُلِّص في نموذج واحد، وأن هذا النموذج نُظر إليه ، نقدياً ، بوصفه نشيداً ، بحيث غلبت قيم النشيد على طبيعة الشعر الجاهلي ، وغلبت تبعاً لذلك معايير الشفوية الشعرية في تقويم الشعر ،وفُصِل ، نتيجة لهذا ، على نحو شبه قاطع بين الشعرية والفكر .
وحيثما رأى هذا النقد عند هذا الشاعر أو ذاك ميلاً إلى الفكر ، بشكل أو آخر ، كان يُعده انحرافاً عما سماه ب " الطريقة العربية " في نظم الشعر – انحرافا يسميه حيناً بالغموض ، وحيناً بالتعقيد ، وحيناً بالإغراب ، وحيناً يالمحال ؛ أي الذيأُحيل عن الحق . وهي كلها صفات كان يطلقها للغض من قيمته الشعرية . بل إن من بين ممثلي هذا النقد من أخرجوا أبا العلاء المعري ، مثلاً ، من دائرة الشعر ، تمسكاً بمقاييس تلك الطريقة ، وسمّوه بالحكيم . ووقفوا من المتنبي قبله موقفاً مشابهاً .وسمّوا أبا تمام قبلهما " مفسداً " للشعر العربي " وطريقة العرب " .
وينسى هذا النقد أن هؤلاء الشعراء كانوا ، في علاقة شعرهم بالفكر ،امتداداً بشكل أو آخر ، للشعر الجاهلي نفسه ، - امتداداً أكثر غنىً وعمقاً بالطبع –كما نراه ، تمثيلاً لا حصراً عند الشنفرى، وعروة بن الورد ، والسموأل ، والأفوه الأودي ، وعلقمة الفحل ، وزهير بنأبي سلمى ، وطرفة بن العبد ، وعدي بن زيد ، ولبيد بن ربيعة ، وعبيد بن الأبرص ، في كثير من الشعر الذين تركوه لنا .
وينسى أصحاب هذا النقد أنهمهم أنفسهم الذين نقلوا وكرروا أن الشعر لم يكن للعرب مجرد " ديوان للألحان" ، وإنما كان "ديوان علومهم " و" شاهد صوابهم وخطأهم "و" أصلاً يرجعون إليه " ، (ابن خلدون ) ، "فيه الحق والحكمة"، " مجنى ثمر العقول " ، " هادٍ مرشد " ، " واعظ مثقف" ، " يخلد الآثار " ( الجرجاني ) – ينسون ، باختصار ، أن الشعرالجاهلي كان ، بالاضافة إلى أنه نشيد ، نهجاً خاصاً من المقاربة الفكرية للأشياءوالعالم ، وأنه لم يكن ينهض على تجربة انفعالية وحسب ، وإنما كان ينهض أيضاً على تجربة فكرية .
ثانياً ، إن النظام المعرفي الذي بُني على الدين _ فقهاً وكلاماً منجهة ، وعلى اللغة _ نحواً وبلاغة ، من جهة ثانية ، فصل هو أيضاً بين الشعرية والفكر ، فصلاً قاطعاً . لكن المفارقة هنا هي أن ما عده الدين ضلالاً وإغواءً ،يجعل منه ممثلو هذا النظام المعرفي ، مصدر استمتاع جمالي ، ولذة نفسية ، وأن هذاالنظام الذي أُسْتُمدَّ من نص كتابي بخصائص كتابية ، أغنى النص القرآني ، هو نفسهكان يدعم التنظير للشفوية الغنائية ويؤكد معاييرها الفنية ، ويشارك في إعلانها معايير ثابتة ، شبه مطلقة .
ثالثاً ، الظاهرة الثالثة هي أن النظام المعرفي البرهاني الذي يُعَد ،بمعنى ما، قطيعة على صعيدي المنهج والمعرفة ، مع النظامين السابقين ، إنما هوتواصل معهما ، بشكل أو آخر ، على صعيدي النظرة إلى الشعر . فهو يكملهما ، ويضيف إلى ما يقدمانه من حججٍ ، خاصة بهما ، حججه العقلية الخاصة به – والتي يستقيها من الفكر اليوناني .
هكذا نرى أن الشعر هو، بالنسبة إلى العرب الذين نظروا له ، " إما أنه ممتع مطرب "وإما أنه " منفيٌ، مطرود " .
فمجال الشعر هو الكذب ، واللامعقول ، إو هو مجال الحساسية والمتعةالشعرية ، بعبارة ثانية ، نقص أو عنصر سلبي
في مقاربة أشياء العالم وأسراره . والشعر في أحسن ما يوصف به ، لعبومحاكاة وتخييل .
يمكن ، من الناحية الدينية ، أن نجد تسويغاً لما ذهب إليه النظام المعرفي الديني – اللغوي . فنحن إذا رجعنا إلى جذر كلمة شعر في العربية ، وهي :" شَعَرَ " نرى أنها تعني عَلِمَ ،وعَقِلَ ، وفَطِنَ . وبهذا المعنى الأصلي يكون كل علم شعراً . وسُمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر ما لايشعر غيره ، أي يعلم ما لايعلم غيره .( لسان العرب ،مادة : شعر ) لكن مصطلح شعر غلب على القول المنظوم بالوزن والقافية ، أي القول" المحدود بعلامات لا يجاوزها " . وغلب على شعر معنى آخر هو: أحس . هكذا صار الشعر حساً وهو ما " نعبر به عن أول العلم بالمدركات " . لهذا يقال: " حسست بالحُمى ، ولا يقال بأن الله واحد " ، فالله لايوصف بأنه يُحس، بل بأنه يُدرك . وربما كان في هذا ما يفسر دينياً قصْر الشعر على الإحساس ، والفصل بينه وبين الفكر . فليس للشعر أن يتجاوز أول العلم ، وهو ما يتيحه الحس . أما ماتجاوز الحس فهو للدين . ومن هنا ساد الاعتقاد أن الشعر عاجز بطبيعته ، أن يقدممعرفةً ، أو يكشف عن حقيقة ، لأنه كمثل مصدره ، وهو الحس ، خادع وباطل . فلا ندرك الحقيقة بالشعر ، بل بالدين وحده . ويكون دور الشعر حصراً في توفير المتعة الجمالية – كما يتيحها الدين ، ويضع حدودها .
وفي هذا ما يخالف جذر الكلمة . فهذا الجذر يتيح لنا أن نعيد النظر في المصطلح السائد للشعر ، وأن نوحد بينه وبين الفكر ، من حيث أنه لا يكتفي بأن يحس بالأشياء ، وإنما يفكر بها .
لكن إذا كُنا نجد تسويغاً للنظام المعرفي الديني – اللغوي في موقفه منا لشعرية ، فأي تسويغ نجده للنقد الشعري ذانه ؟ الواقع أن هذا النقد يفسد بحث الشعرية أساساً . ذلك أنه لم يكن نقداً للشعر في ذاته ، بقدر ما كان نقداً له في علاقته الوظيفية الاجتماعية – الأخلاقية . فقد كان الوعي النقدي الشعري وعياً وظيفياً أكثر مما كان وعياً شعرياً، بحصر المعنى .
خصوصاً أن سؤال : " ما الشعر ؟ " وجوابه المحدد الواضح كانا الأساس الذي ينطلق منه الناقد قبلياً ، في تذوقه الشعر وفي أحكامه .
إن هذه الظواهر تقتضي في ذاتها دراسة خاصة تكشف عن أسبابها . إنها في أبسط الأمور ، تقتضي أن نقرأ من جديد موروثنا النقدي - الفكري ، وأن نكتب من جديد، في ضوء ذلك ، تاريخ الشعر العربي وتاريخ جماليته .
من كتاب : الشعرية العربية – أدونيس / دار الآداب ببيروت 1998م .
أولاً، اتخذ النقد ، في معظمه ، من الشعر الجاهلي نموذجاً ومثالاً ،وقوّم الشعر اللاحق، إيجاباً وسلباً، بحسب اقترابه منه في الطريقة الشعرية ، أو ابتعاده عنه، ويُفترض في هذا النقد إدراكه أن الشعر الجاهلي لم يكن مستودع " الألحان" العربية وحسب ، وإنما أيضاً كان مستودع "الحقائق"و"المعارف" . ومعنى ذلك أن الشاعر الجاهلي لم يكن " يُنشد"وحسب، وإنما كان "يفكر"أيضاً ، وأن القصيدة الجاهلية لم تكن مصدر طرب وحسب، وإنما كانت أيضاً مصدر معرفة. يعني ذلك ، بعبارة ثانية ، أن الشعر الجاهلي لم يكن واحداً، وإنما كان متعدداً .
المسألة التي تطرح في هذا الصدد هي أن هذا المتعدد قُلِّص في نموذج واحد، وأن هذا النموذج نُظر إليه ، نقدياً ، بوصفه نشيداً ، بحيث غلبت قيم النشيد على طبيعة الشعر الجاهلي ، وغلبت تبعاً لذلك معايير الشفوية الشعرية في تقويم الشعر ،وفُصِل ، نتيجة لهذا ، على نحو شبه قاطع بين الشعرية والفكر .
وحيثما رأى هذا النقد عند هذا الشاعر أو ذاك ميلاً إلى الفكر ، بشكل أو آخر ، كان يُعده انحرافاً عما سماه ب " الطريقة العربية " في نظم الشعر – انحرافا يسميه حيناً بالغموض ، وحيناً بالتعقيد ، وحيناً بالإغراب ، وحيناً يالمحال ؛ أي الذيأُحيل عن الحق . وهي كلها صفات كان يطلقها للغض من قيمته الشعرية . بل إن من بين ممثلي هذا النقد من أخرجوا أبا العلاء المعري ، مثلاً ، من دائرة الشعر ، تمسكاً بمقاييس تلك الطريقة ، وسمّوه بالحكيم . ووقفوا من المتنبي قبله موقفاً مشابهاً .وسمّوا أبا تمام قبلهما " مفسداً " للشعر العربي " وطريقة العرب " .
وينسى هذا النقد أن هؤلاء الشعراء كانوا ، في علاقة شعرهم بالفكر ،امتداداً بشكل أو آخر ، للشعر الجاهلي نفسه ، - امتداداً أكثر غنىً وعمقاً بالطبع –كما نراه ، تمثيلاً لا حصراً عند الشنفرى، وعروة بن الورد ، والسموأل ، والأفوه الأودي ، وعلقمة الفحل ، وزهير بنأبي سلمى ، وطرفة بن العبد ، وعدي بن زيد ، ولبيد بن ربيعة ، وعبيد بن الأبرص ، في كثير من الشعر الذين تركوه لنا .
وينسى أصحاب هذا النقد أنهمهم أنفسهم الذين نقلوا وكرروا أن الشعر لم يكن للعرب مجرد " ديوان للألحان" ، وإنما كان "ديوان علومهم " و" شاهد صوابهم وخطأهم "و" أصلاً يرجعون إليه " ، (ابن خلدون ) ، "فيه الحق والحكمة"، " مجنى ثمر العقول " ، " هادٍ مرشد " ، " واعظ مثقف" ، " يخلد الآثار " ( الجرجاني ) – ينسون ، باختصار ، أن الشعرالجاهلي كان ، بالاضافة إلى أنه نشيد ، نهجاً خاصاً من المقاربة الفكرية للأشياءوالعالم ، وأنه لم يكن ينهض على تجربة انفعالية وحسب ، وإنما كان ينهض أيضاً على تجربة فكرية .
ثانياً ، إن النظام المعرفي الذي بُني على الدين _ فقهاً وكلاماً منجهة ، وعلى اللغة _ نحواً وبلاغة ، من جهة ثانية ، فصل هو أيضاً بين الشعرية والفكر ، فصلاً قاطعاً . لكن المفارقة هنا هي أن ما عده الدين ضلالاً وإغواءً ،يجعل منه ممثلو هذا النظام المعرفي ، مصدر استمتاع جمالي ، ولذة نفسية ، وأن هذاالنظام الذي أُسْتُمدَّ من نص كتابي بخصائص كتابية ، أغنى النص القرآني ، هو نفسهكان يدعم التنظير للشفوية الغنائية ويؤكد معاييرها الفنية ، ويشارك في إعلانها معايير ثابتة ، شبه مطلقة .
ثالثاً ، الظاهرة الثالثة هي أن النظام المعرفي البرهاني الذي يُعَد ،بمعنى ما، قطيعة على صعيدي المنهج والمعرفة ، مع النظامين السابقين ، إنما هوتواصل معهما ، بشكل أو آخر ، على صعيدي النظرة إلى الشعر . فهو يكملهما ، ويضيف إلى ما يقدمانه من حججٍ ، خاصة بهما ، حججه العقلية الخاصة به – والتي يستقيها من الفكر اليوناني .
هكذا نرى أن الشعر هو، بالنسبة إلى العرب الذين نظروا له ، " إما أنه ممتع مطرب "وإما أنه " منفيٌ، مطرود " .
فمجال الشعر هو الكذب ، واللامعقول ، إو هو مجال الحساسية والمتعةالشعرية ، بعبارة ثانية ، نقص أو عنصر سلبي
في مقاربة أشياء العالم وأسراره . والشعر في أحسن ما يوصف به ، لعبومحاكاة وتخييل .
يمكن ، من الناحية الدينية ، أن نجد تسويغاً لما ذهب إليه النظام المعرفي الديني – اللغوي . فنحن إذا رجعنا إلى جذر كلمة شعر في العربية ، وهي :" شَعَرَ " نرى أنها تعني عَلِمَ ،وعَقِلَ ، وفَطِنَ . وبهذا المعنى الأصلي يكون كل علم شعراً . وسُمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر ما لايشعر غيره ، أي يعلم ما لايعلم غيره .( لسان العرب ،مادة : شعر ) لكن مصطلح شعر غلب على القول المنظوم بالوزن والقافية ، أي القول" المحدود بعلامات لا يجاوزها " . وغلب على شعر معنى آخر هو: أحس . هكذا صار الشعر حساً وهو ما " نعبر به عن أول العلم بالمدركات " . لهذا يقال: " حسست بالحُمى ، ولا يقال بأن الله واحد " ، فالله لايوصف بأنه يُحس، بل بأنه يُدرك . وربما كان في هذا ما يفسر دينياً قصْر الشعر على الإحساس ، والفصل بينه وبين الفكر . فليس للشعر أن يتجاوز أول العلم ، وهو ما يتيحه الحس . أما ماتجاوز الحس فهو للدين . ومن هنا ساد الاعتقاد أن الشعر عاجز بطبيعته ، أن يقدممعرفةً ، أو يكشف عن حقيقة ، لأنه كمثل مصدره ، وهو الحس ، خادع وباطل . فلا ندرك الحقيقة بالشعر ، بل بالدين وحده . ويكون دور الشعر حصراً في توفير المتعة الجمالية – كما يتيحها الدين ، ويضع حدودها .
وفي هذا ما يخالف جذر الكلمة . فهذا الجذر يتيح لنا أن نعيد النظر في المصطلح السائد للشعر ، وأن نوحد بينه وبين الفكر ، من حيث أنه لا يكتفي بأن يحس بالأشياء ، وإنما يفكر بها .
لكن إذا كُنا نجد تسويغاً للنظام المعرفي الديني – اللغوي في موقفه منا لشعرية ، فأي تسويغ نجده للنقد الشعري ذانه ؟ الواقع أن هذا النقد يفسد بحث الشعرية أساساً . ذلك أنه لم يكن نقداً للشعر في ذاته ، بقدر ما كان نقداً له في علاقته الوظيفية الاجتماعية – الأخلاقية . فقد كان الوعي النقدي الشعري وعياً وظيفياً أكثر مما كان وعياً شعرياً، بحصر المعنى .
خصوصاً أن سؤال : " ما الشعر ؟ " وجوابه المحدد الواضح كانا الأساس الذي ينطلق منه الناقد قبلياً ، في تذوقه الشعر وفي أحكامه .
إن هذه الظواهر تقتضي في ذاتها دراسة خاصة تكشف عن أسبابها . إنها في أبسط الأمور ، تقتضي أن نقرأ من جديد موروثنا النقدي - الفكري ، وأن نكتب من جديد، في ضوء ذلك ، تاريخ الشعر العربي وتاريخ جماليته .
من كتاب : الشعرية العربية – أدونيس / دار الآداب ببيروت 1998م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق