عندما وصل إلى مدخل الملهى الليلي مونديال –Mondial- أفسح له الحارسان المجال للدخول، بالرغم من اكتظاظ البوابة الرئيسية بحشد غفير من شباب المدينة إلا أن الحارس كان يعرف سعيد أحق المعرفة، فقد كان زبونا لا ينقطع عن زيارة المكان تقريبا. ليس كهؤلاء الزبائن الموسمين ليلة رأس السنة.
- حضور اليوم وذهاب دون رجعة …
هكذا قال الحارس لسعيد معلقا عن هذا الحشد الغفير قبل أن يتجاوز سعيد باب المدخل الرئيسي.
كان السلم يتجه نحو الأسفل منحدرا به في أضواء بالكاد تنيره، على يمينه كان الحاجز
المصنوع من مادة الحديد المقاوم للصدأ يحول دون وقوع الثملين حينما يصعدون إلى المخرج بعد ليلة صاخبة، عند نهاية الدرج وقف سعيد وابتسم ابتسامة خفيفة للحارس الذي كان يقف عن يساره والذي يحرس الباب الوحيد المخصص لدخول الكباريه.
سأله الحارس:
- هل هنا اليوم؟
- فأجابه سعيد: ربما غدا، أما اليوم فسأدخل إلى ملهى الرقص (ديسكوتيك)...
ثم استمر هذا الأخير لثلاث أو أربع خطوات فإذا به في فناء يكاد يكون شبه دائري الشكل حيث يترك الزبائن ملابسهم الشتوية الثقيلة أو امتعتهم المهمة. أمامه كان الباب معروفا ولا يكاد يخفى عليه، علقت فوقه لوحة توضح صاحبة المنصة الأعظم هنا، منسق الأغاني (دي جي Dj) الذي يرسم خيوطة موسيقى الصخب. وما هي إلا خطوتين حتى فتح سعيد الباب وها هو ذا في مكانه الصاخب المفضل.
- ارفع من صوت الموسيقى ...
قال أنس مخاطبا فؤاد الذي كان يترنح برقصته الغريبة ذهابا وإيابا في وسط الشقة المتواجدة بالطابق الثالث من مجمع الضحى بضواحي بوخالف – مدينة طنجة – حيث تعرف هذه المجمعات السكنية بفسادها الأخلاقي وإقبال كثيف لمحبي الليالي الحمراء على اكتراء شققها السكنية الشبه عشوائية البناء. كان أنس يميل برأسه في كلا الجهتين دون أن جسمه كان لا يتحرك، فيديه كانتا مشغولتين بإعداد سيجارة محشوة وهو جالس على احدى الارائك المتهالكة بالشقة الضيقة.
سألها سعيد عن اسمها بعدما أعجب برقصتها وهي على منصة الرقص والأضواء تلسع جسدها الذي كان يبرز منه الشيء الكثير.
- سندس ... اجابته بابتسامة تبرز مدى جمال اسنانها الناصعة البياض المتراصة والتي تدل على انها قد اجرت عليها تعديلا باهض الثمن عند أحد أطباء الاسنان المرموقين.
لم يكن هو ليشغل نفسه باسمها اكان سندس حقا ام انه مجرد اسم مستعار يتغير كل ليلة على حساب كل زبون جديد.
- ما هو المبدأ؟
سألها سعيد وعينيه اليسرى تضيف لمحة على شكل غمزة توضح معنى سؤاله المباغت، فكان الثمن لا يرتفع كثيرا، وهذا شيء بديهي. فسعيد كان دائما يعرف بكرمه الوفير حيث فتيات الملهى تتجاذبن أطراف الحديث عنه في غيابه حول مدى سخائه في ليالي خلوته مع احداهن. (أكل وشراب ورقص وإن كنت من المحظوظات فلباس مجاني أيضا...)
هذا ما فكرت به سندس قبل أن تطلعه بالثمن المناسب وقد تبين لها أنه كذلك بعدما رأت في عيني سعيد رضى تام وإشارة منه لها بالموافقة عليه، لكنه عاد وسألها إن كان يمكن له أن يحظى بليلة ثنائية برفقة صديقة لها أيضا.
- طلب غريب يا سعيد، لكنني سأذهب لأسأل إحدى صديقاتي، إنها هناك.
اجابته وهي تسرع للذهاب الى احدى الطاولات المجاورة.
وماهي إلا دقائق حتى خرج سعيد وبرفقته سندس وصديقتها هناء من نفس الباب العلوي والحشود لا تزال تكتظ وكأن أصحابها لا ينون التفرق.
تاكسي، أوقف سعيد سيارة الاجرة التي كان صاحبها متلهفا لبعض الزبائن لكي يغني رصيده الليلي وقد استلم مقعده قبل بضع ساعات فقط. صعد كل من سندس وهناء في الخلف بينما سعيد بالأمام، اطلعه سعيد عن الوجهة المطلوبة بدقة ووضوح، وما ان انتهى السائق من الضغط على ازرار العداد المبرمج سلفا لقياس المسافة التي ستقطعها السيارة وتحديد التسعيرة المناسبة للرحلة، حتى كانت سيارة الداسيا لوجان ( (Dacia Loganبلونها المائل الى الأخضر الفاتح تخترق شوارع مدينة طنجة بشكلها الخشن.
لم يفاجئ صاحب محل بيع المواد الغذائية وهو يرى سعيد والفتاتين وهم يجتازون مدخل العمارة المقابل لمحله التجاري بعدما انطلق صاحب سيارة الاجرة الذي اقلهم في وجهته المجهولة، فقد كان سعيد دائم الحضور الى العمارة خصوصا في نهاية الأسبوع حيث يكون غالبا مصحوبا بإحداهن، لكن اليوم كان برفقته اثنتان وهذا ما لم يعهده التاجر الذي رسعان ما عاد الى محله بعدما وجد الزبون نفسه وحيدا بمشترياته البسيطة.
كان فؤاد لا يزال داخل الحمام الضيق لشقة المجمع السكني الضحى وقد سمع أصواتا غريبة تصدر من صالون الشقة ظن في البداية أنه يهلوس، لكنه تأكد من دقة اذنيه بعدما فتح باب الحمام واتجه عبر الممر الضيق المؤدي الى باحة البيت حيث وجد سعيد وهو يأخذ كأس من الشراب البولندي الفاخر بل فيدر (Belvedere Vodka) من يدي أنس، هكذا هي دائما طقوس أنس في الترحيب بصديقه سعيد المقرب، وعن يمين هذا الأخير – سعيد – كانت تجلس سندس الحسناء.
هنا اتجه فؤاد وصافح سعيد، فقد كانا هما الاثنان أيضا أصدقاء منذ طفولتهما المندثرة في الحي الشعبي القريب من مجمع الضحى والمسمى بحي ''أحمار''. وكالعادة فإن فؤاد لم يفاجئ بحضور سعيد حيث كان الثلاثة دائما يجتمعون على مرور السنة دونما أي انقطاع. لاحظ سعيد وجه فؤاد الذي بدت عليه علامات استفهام حول الفتاة الجالسة بقربه، فأشار إليه كعادته نحو باب الغرفة التي كانت مباشرة خلف فؤاد الماثل أمامه، وما إن أضاف سعيد غمزته المألوفة حتى فهم فؤاد معنى تلك الاشارة. (غنيمتي لهذه الليلة تقبع في غرفة النوم، خلفي تماما ...)
حاول أن يشير إلى أنس أنه سيأخذ الدور الأول هذه الليلة لكن عبثا، كان هذا الأخير قد أصبح في واد عميق من الاعجاب والانبهار بجمال سندس وابتسامتها الناصعة البياض.
اقترب فؤاد من الباب ومع ادارت قبضته انفتح بسلاسة انيقة جاعلا فؤاد يتمنى لو ان ليلته تكون على المنوال نفسه، وبعدما اجتاز بخطوة واحدة عتبته كان جانبه اللاوعي قد أكمل مهمة اغلاق الباب بشكل اوتوماتيكي بينما كانت عضلاته ترتخي وتستعد لخوض مغامرة قد لا يكون وصف السحر ادق لتعريفها. كانت عيناه تتأمل ظهر هناء التي ارتدت بدورها فستانا أحمرا لامعا ومثيرا يكشف بعضا منه بينما ينسدل شعرها الحريري الأسود اللامع مشكلا لوحة من الفن العتيق بصورة لا يمكن للمرء تجاهلها.
حينما شعرت بيد ناعمة تلامس كتفها لم يكن في وسعها الا أن تلتف وترى صاحب الوجه الذي خلفها.
لم يصدق فؤاد ما كان ينظر اليه وهو يدقق ويمعن النظر في وجه هناء، في تفاصيل هذا الوجه الناعم المستدير والمحمر الوجنتين، في عينيها العسليتين الصارمة النظرة والحضور، كان قد شعر بالأدرينالين يجري ويتدفق في عروقه الدمودية بينما تسارعت نبضات قلبه.
لم تسلم هناء من الصدمة والدهشة والرعب وكل ما يمكن للمرء أن يشعر به بعدما وجدت نفسها وجها لوجه أمام فؤاد، وجها لوجه أمام هذا الرجل الذي كانت بالكاد تحدق الى عينيه.
نعم لقد كان فؤاد يقف وجها لوجه أمام وجه زوجته التي لم يعلم كيف وصلت الى هنا ولا عن نفسه كيف وصل هو بذاته الى هذا المكان، تبدد الإحساس بالرغبة وأصبحت الثواني تمر وكأنها سنوات مظلمة.
كانت هناك دمعة استطاعت ان تنزل وتجد مخرجا لها وهي تشق طريقها من على وجنتي هناء اللتين فقدتا ذلك الاحمرار الزائف.
- كيف ولماذا؟ (صرخ فؤاد وعينيه لا يرمش لهما جفن)
كانت هي بالكاد تتنفس وفي افكارها ألف سؤال: كيف يعقل أن نكون نحن الاثنان معا هنا؟ كيف يعقل ان أجد نفسي معه في نفس الغرفة بشوق ولهفة متصاعدة وانا اخونه؟ لا، بل كيف يعقل ان أكون قد خنته وانا معه هو ذاته؟ ...
وتحت وطأة الصدمة الشديدة، كانت أحشاء فؤاد تتقطع وتتمزق من شدة الألم الذي اعتصر به، لقد كان قبل وصول سعيد والفتاتين كل من سندس وزوجته حنان (اذ ان اسم هناء لم يكن الا اسما مستعارا لا غير) يعاني من امساك شديد والم خفيف متزايد الحدة بعدما تناول عدة جرعات من المخدرات الصلبة القوية قبل ان يسرع الى الحمام الذي لم يخفف من شدة آلمه. وقبل ان يعصر رقبتها وينتقم لشرفه الذي لم يكن سواه يعلم أنه قد انتهك، سقط أرضا حيث لم يترك له الألم الذي انتقل الى قلبه اي مجالا ليضل واعيا، فاقدا بذلك الإحساس بالمكان والزمان بشكل لا يقبل الشك.
كانت حنان تدخل من باب مستشفى الأمراض العقلية والذهنية بمنطقة ابني مكادة وهي تحمل كيس الطعام ولوازم الزيارة كالعادة، فمنذ سنتين أصبح هذا المكان لا يفارق برنامجها الأسبوعي والذي حفظت كل ركن فيه، فقد كانت تأتي اليه بهدف زيارة زوجها الذي فقد عقله وأصيب بالجنون بعدما أدى استهلاكه لجرعة زائدة من المخدرات الصلبة الى اتلاف الوصلات العصبية في دماغه.
وهي تعبر الممر الرئيسي لمدخل المستشفى وجدت نفسها وجها لوجه مع كل من انس وسعيد اللذان كان بدورهما يحرصان على زيارة صديقهما فؤاد بعدما حل به هذا الوضع في تلك الليلة المشؤمة لرأس السنة. لكن وبالرغم من هذا اللقاء الذي تكرر كثيرا وبشكل غير منتظم لم تكن حنان لتقلق حولهما لكونهما لا يستطيعان تميز ملامحها وهي ترتدي الخمار بعباءاته الطويلة والفضفاضة، لقد كان فؤاد صارم حول مسألة الالتزام الديني والذي جعل حنان ترتدي الخمار منذ ان عرفته في فترة خطوبتهما، ليبقى بذلك سر تلك الفتاة التي ادعت ان اسمها هناء والتي لجأت اليها سندس لترافقها خوفا من ضياع عرض سعيد والتي بدورها لم تكن تعرفها ولا تقرب اليها بأي نوع من انواع الصداقة، محفوظا وبعيدا عن كل الشكوك بعدما تصرفت حنان بذكاء وسرعة ليلتها بهربها مباشرتا بعدما سقط زوجها تاركة بذلك اسمها وصورتها معلقان في مخيلة وذاكرة كل من سعيد وانس، وكذلك سندس التي لم تكن لتبحث عنها ولا لتعود لتلك الشقة البئيسة حيث حياة المومسات لا ينقصها مثل هذه المتاعب الإضافية.
وبالتالي كانت في مأمن تام من ان يتم الوصول الى شخصيتها ما دامت ذاكرة فؤاد تحت رحمة الجنون والنسيان.
- حضور اليوم وذهاب دون رجعة …
هكذا قال الحارس لسعيد معلقا عن هذا الحشد الغفير قبل أن يتجاوز سعيد باب المدخل الرئيسي.
كان السلم يتجه نحو الأسفل منحدرا به في أضواء بالكاد تنيره، على يمينه كان الحاجز
المصنوع من مادة الحديد المقاوم للصدأ يحول دون وقوع الثملين حينما يصعدون إلى المخرج بعد ليلة صاخبة، عند نهاية الدرج وقف سعيد وابتسم ابتسامة خفيفة للحارس الذي كان يقف عن يساره والذي يحرس الباب الوحيد المخصص لدخول الكباريه.
سأله الحارس:
- هل هنا اليوم؟
- فأجابه سعيد: ربما غدا، أما اليوم فسأدخل إلى ملهى الرقص (ديسكوتيك)...
ثم استمر هذا الأخير لثلاث أو أربع خطوات فإذا به في فناء يكاد يكون شبه دائري الشكل حيث يترك الزبائن ملابسهم الشتوية الثقيلة أو امتعتهم المهمة. أمامه كان الباب معروفا ولا يكاد يخفى عليه، علقت فوقه لوحة توضح صاحبة المنصة الأعظم هنا، منسق الأغاني (دي جي Dj) الذي يرسم خيوطة موسيقى الصخب. وما هي إلا خطوتين حتى فتح سعيد الباب وها هو ذا في مكانه الصاخب المفضل.
- ارفع من صوت الموسيقى ...
قال أنس مخاطبا فؤاد الذي كان يترنح برقصته الغريبة ذهابا وإيابا في وسط الشقة المتواجدة بالطابق الثالث من مجمع الضحى بضواحي بوخالف – مدينة طنجة – حيث تعرف هذه المجمعات السكنية بفسادها الأخلاقي وإقبال كثيف لمحبي الليالي الحمراء على اكتراء شققها السكنية الشبه عشوائية البناء. كان أنس يميل برأسه في كلا الجهتين دون أن جسمه كان لا يتحرك، فيديه كانتا مشغولتين بإعداد سيجارة محشوة وهو جالس على احدى الارائك المتهالكة بالشقة الضيقة.
سألها سعيد عن اسمها بعدما أعجب برقصتها وهي على منصة الرقص والأضواء تلسع جسدها الذي كان يبرز منه الشيء الكثير.
- سندس ... اجابته بابتسامة تبرز مدى جمال اسنانها الناصعة البياض المتراصة والتي تدل على انها قد اجرت عليها تعديلا باهض الثمن عند أحد أطباء الاسنان المرموقين.
لم يكن هو ليشغل نفسه باسمها اكان سندس حقا ام انه مجرد اسم مستعار يتغير كل ليلة على حساب كل زبون جديد.
- ما هو المبدأ؟
سألها سعيد وعينيه اليسرى تضيف لمحة على شكل غمزة توضح معنى سؤاله المباغت، فكان الثمن لا يرتفع كثيرا، وهذا شيء بديهي. فسعيد كان دائما يعرف بكرمه الوفير حيث فتيات الملهى تتجاذبن أطراف الحديث عنه في غيابه حول مدى سخائه في ليالي خلوته مع احداهن. (أكل وشراب ورقص وإن كنت من المحظوظات فلباس مجاني أيضا...)
هذا ما فكرت به سندس قبل أن تطلعه بالثمن المناسب وقد تبين لها أنه كذلك بعدما رأت في عيني سعيد رضى تام وإشارة منه لها بالموافقة عليه، لكنه عاد وسألها إن كان يمكن له أن يحظى بليلة ثنائية برفقة صديقة لها أيضا.
- طلب غريب يا سعيد، لكنني سأذهب لأسأل إحدى صديقاتي، إنها هناك.
اجابته وهي تسرع للذهاب الى احدى الطاولات المجاورة.
وماهي إلا دقائق حتى خرج سعيد وبرفقته سندس وصديقتها هناء من نفس الباب العلوي والحشود لا تزال تكتظ وكأن أصحابها لا ينون التفرق.
تاكسي، أوقف سعيد سيارة الاجرة التي كان صاحبها متلهفا لبعض الزبائن لكي يغني رصيده الليلي وقد استلم مقعده قبل بضع ساعات فقط. صعد كل من سندس وهناء في الخلف بينما سعيد بالأمام، اطلعه سعيد عن الوجهة المطلوبة بدقة ووضوح، وما ان انتهى السائق من الضغط على ازرار العداد المبرمج سلفا لقياس المسافة التي ستقطعها السيارة وتحديد التسعيرة المناسبة للرحلة، حتى كانت سيارة الداسيا لوجان ( (Dacia Loganبلونها المائل الى الأخضر الفاتح تخترق شوارع مدينة طنجة بشكلها الخشن.
لم يفاجئ صاحب محل بيع المواد الغذائية وهو يرى سعيد والفتاتين وهم يجتازون مدخل العمارة المقابل لمحله التجاري بعدما انطلق صاحب سيارة الاجرة الذي اقلهم في وجهته المجهولة، فقد كان سعيد دائم الحضور الى العمارة خصوصا في نهاية الأسبوع حيث يكون غالبا مصحوبا بإحداهن، لكن اليوم كان برفقته اثنتان وهذا ما لم يعهده التاجر الذي رسعان ما عاد الى محله بعدما وجد الزبون نفسه وحيدا بمشترياته البسيطة.
كان فؤاد لا يزال داخل الحمام الضيق لشقة المجمع السكني الضحى وقد سمع أصواتا غريبة تصدر من صالون الشقة ظن في البداية أنه يهلوس، لكنه تأكد من دقة اذنيه بعدما فتح باب الحمام واتجه عبر الممر الضيق المؤدي الى باحة البيت حيث وجد سعيد وهو يأخذ كأس من الشراب البولندي الفاخر بل فيدر (Belvedere Vodka) من يدي أنس، هكذا هي دائما طقوس أنس في الترحيب بصديقه سعيد المقرب، وعن يمين هذا الأخير – سعيد – كانت تجلس سندس الحسناء.
هنا اتجه فؤاد وصافح سعيد، فقد كانا هما الاثنان أيضا أصدقاء منذ طفولتهما المندثرة في الحي الشعبي القريب من مجمع الضحى والمسمى بحي ''أحمار''. وكالعادة فإن فؤاد لم يفاجئ بحضور سعيد حيث كان الثلاثة دائما يجتمعون على مرور السنة دونما أي انقطاع. لاحظ سعيد وجه فؤاد الذي بدت عليه علامات استفهام حول الفتاة الجالسة بقربه، فأشار إليه كعادته نحو باب الغرفة التي كانت مباشرة خلف فؤاد الماثل أمامه، وما إن أضاف سعيد غمزته المألوفة حتى فهم فؤاد معنى تلك الاشارة. (غنيمتي لهذه الليلة تقبع في غرفة النوم، خلفي تماما ...)
حاول أن يشير إلى أنس أنه سيأخذ الدور الأول هذه الليلة لكن عبثا، كان هذا الأخير قد أصبح في واد عميق من الاعجاب والانبهار بجمال سندس وابتسامتها الناصعة البياض.
اقترب فؤاد من الباب ومع ادارت قبضته انفتح بسلاسة انيقة جاعلا فؤاد يتمنى لو ان ليلته تكون على المنوال نفسه، وبعدما اجتاز بخطوة واحدة عتبته كان جانبه اللاوعي قد أكمل مهمة اغلاق الباب بشكل اوتوماتيكي بينما كانت عضلاته ترتخي وتستعد لخوض مغامرة قد لا يكون وصف السحر ادق لتعريفها. كانت عيناه تتأمل ظهر هناء التي ارتدت بدورها فستانا أحمرا لامعا ومثيرا يكشف بعضا منه بينما ينسدل شعرها الحريري الأسود اللامع مشكلا لوحة من الفن العتيق بصورة لا يمكن للمرء تجاهلها.
حينما شعرت بيد ناعمة تلامس كتفها لم يكن في وسعها الا أن تلتف وترى صاحب الوجه الذي خلفها.
لم يصدق فؤاد ما كان ينظر اليه وهو يدقق ويمعن النظر في وجه هناء، في تفاصيل هذا الوجه الناعم المستدير والمحمر الوجنتين، في عينيها العسليتين الصارمة النظرة والحضور، كان قد شعر بالأدرينالين يجري ويتدفق في عروقه الدمودية بينما تسارعت نبضات قلبه.
لم تسلم هناء من الصدمة والدهشة والرعب وكل ما يمكن للمرء أن يشعر به بعدما وجدت نفسها وجها لوجه أمام فؤاد، وجها لوجه أمام هذا الرجل الذي كانت بالكاد تحدق الى عينيه.
نعم لقد كان فؤاد يقف وجها لوجه أمام وجه زوجته التي لم يعلم كيف وصلت الى هنا ولا عن نفسه كيف وصل هو بذاته الى هذا المكان، تبدد الإحساس بالرغبة وأصبحت الثواني تمر وكأنها سنوات مظلمة.
كانت هناك دمعة استطاعت ان تنزل وتجد مخرجا لها وهي تشق طريقها من على وجنتي هناء اللتين فقدتا ذلك الاحمرار الزائف.
- كيف ولماذا؟ (صرخ فؤاد وعينيه لا يرمش لهما جفن)
كانت هي بالكاد تتنفس وفي افكارها ألف سؤال: كيف يعقل أن نكون نحن الاثنان معا هنا؟ كيف يعقل ان أجد نفسي معه في نفس الغرفة بشوق ولهفة متصاعدة وانا اخونه؟ لا، بل كيف يعقل ان أكون قد خنته وانا معه هو ذاته؟ ...
وتحت وطأة الصدمة الشديدة، كانت أحشاء فؤاد تتقطع وتتمزق من شدة الألم الذي اعتصر به، لقد كان قبل وصول سعيد والفتاتين كل من سندس وزوجته حنان (اذ ان اسم هناء لم يكن الا اسما مستعارا لا غير) يعاني من امساك شديد والم خفيف متزايد الحدة بعدما تناول عدة جرعات من المخدرات الصلبة القوية قبل ان يسرع الى الحمام الذي لم يخفف من شدة آلمه. وقبل ان يعصر رقبتها وينتقم لشرفه الذي لم يكن سواه يعلم أنه قد انتهك، سقط أرضا حيث لم يترك له الألم الذي انتقل الى قلبه اي مجالا ليضل واعيا، فاقدا بذلك الإحساس بالمكان والزمان بشكل لا يقبل الشك.
كانت حنان تدخل من باب مستشفى الأمراض العقلية والذهنية بمنطقة ابني مكادة وهي تحمل كيس الطعام ولوازم الزيارة كالعادة، فمنذ سنتين أصبح هذا المكان لا يفارق برنامجها الأسبوعي والذي حفظت كل ركن فيه، فقد كانت تأتي اليه بهدف زيارة زوجها الذي فقد عقله وأصيب بالجنون بعدما أدى استهلاكه لجرعة زائدة من المخدرات الصلبة الى اتلاف الوصلات العصبية في دماغه.
وهي تعبر الممر الرئيسي لمدخل المستشفى وجدت نفسها وجها لوجه مع كل من انس وسعيد اللذان كان بدورهما يحرصان على زيارة صديقهما فؤاد بعدما حل به هذا الوضع في تلك الليلة المشؤمة لرأس السنة. لكن وبالرغم من هذا اللقاء الذي تكرر كثيرا وبشكل غير منتظم لم تكن حنان لتقلق حولهما لكونهما لا يستطيعان تميز ملامحها وهي ترتدي الخمار بعباءاته الطويلة والفضفاضة، لقد كان فؤاد صارم حول مسألة الالتزام الديني والذي جعل حنان ترتدي الخمار منذ ان عرفته في فترة خطوبتهما، ليبقى بذلك سر تلك الفتاة التي ادعت ان اسمها هناء والتي لجأت اليها سندس لترافقها خوفا من ضياع عرض سعيد والتي بدورها لم تكن تعرفها ولا تقرب اليها بأي نوع من انواع الصداقة، محفوظا وبعيدا عن كل الشكوك بعدما تصرفت حنان بذكاء وسرعة ليلتها بهربها مباشرتا بعدما سقط زوجها تاركة بذلك اسمها وصورتها معلقان في مخيلة وذاكرة كل من سعيد وانس، وكذلك سندس التي لم تكن لتبحث عنها ولا لتعود لتلك الشقة البئيسة حيث حياة المومسات لا ينقصها مثل هذه المتاعب الإضافية.
وبالتالي كانت في مأمن تام من ان يتم الوصول الى شخصيتها ما دامت ذاكرة فؤاد تحت رحمة الجنون والنسيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق