*محمد أبوالدهب
"أعلم أني لستُ هو/ أشعر كثيراً وكأني هو".. يضعُنا القاص الدكتور عصام حسين عبدالرحمن من البداية (ربما قبل البداية بقليل!) موضع الاختيار أو لنقُلْ الشكّ أمام طريقيْن تتشظّي وتتردّي وتتبدّي بينهما شخوص قصص مجموعته (وكأنه.. هو) الصادرة حديثاً عن دار "يسطرون" بالقاهرة: "العلم" بثبوتيّته ومباشرته ويقينيّته الجافة، تأمّلْ النفيَ القاطع (لست هو).. و"الشعور" باحتماليّته ومراوحته وتردّده، وطيش دوافعه
أحياناً، راجِعْ أسلوبَ التشبيه، الخالي من وجه الشبه (كأني.. هو). لكنّ التصدير الذي يليه، ويسبق قصص المجموعة مُفضِياً إليها، الصورة الشعرية الشفيفة الكثيفة الموّارة بأحزانٍ ووعود، يهمس بما يمنح إلهاماً بالاختيار ويطوي صفحة الشكّ دون أن يمحوها: (هذا الولد الرجل/ الإنسان الروح/ المشدود دائماً من رأسه/ يطلق من منصّة روحه عصفوراً/ يتحرّك في مداراتٍ بيضاء شفّافة/ يري بأجنحته قلوب العالم/ يحطّ علي صدور كل الناس إلا صدرها/ وسِرّها أبداً لا يَبِين/ يتحرّك عكس اتجاه السير/ كي يُميت الموت في الطرقات). سيظلّ البحث جارياً عن وجه الشبه المفقود في قصص المجموعة الخمس عشرة. وحسناً فعل عصام حسين حين انتهي إلي (وكأنه.. هو) كعنوانٍ جامع لكتابه دون أن يكون عنوان إحدي قصصه، فكلّ قصة لها من ظلال هذا العنوان نصيب، وإن لم تكن الأنصبة متساويةً. ولا يناهض ذلك تلاعبَه بالضمائر بين العنوان والتقديم، فالأول (وكأنه.. هو) يبرز ادّعاء الذات الراوية الحياد ومراقبة وجه الشبه -علي سبيل الفضول- توارياً في ضميرَيْ الغائب، والثاني (كأني.. هو) يضع الأنا في مساحة اشتباكٍ ولو وهميّة (موقف المُشبَّه) سواءً كان الولد قفزاً إلي الرجل الذي صارَهُ (قصّتا: "ليمون وخمسة أرغفة" و"نصفان") أو الرجل ارتداداً إلي الولد الذي كانَهُ (قصص: "في البحث عنها" و"أم فتحي" و"أسير الرائحة")، أو هما معاً، في واحدٍ، مُواجَهةً لأطيافٍ تتمثّل بصورتهما، تُقيم قيامة ذكري غابرة وتبتعث خطايا الماضي (قصّتا: "ضفاف أخري للحياة" و"تموّهات حالمٍ بالسماء").. بل يتمادي عصام حسين في التلاعب بالضمائر فَيصل بمعادلَته إلي (كأنه.. أنا) في قصة (ذوالشعر الأبيض) بما يدلّل علي أن وجه الشبه هو الثابت والمفقود معاً من أطراف هذه المعادلة.
سنلاقي هذا الولدَ الرجل، يبحث عن أحبّةٍ اختفوا وحين يعثر عليهم تكون أشياء كثيرة قد تغيّرت، يهدهد مخاوفه محتمياً بمَن يكتشف أنهم حائكوها أو أنهم أشدّ خوفاً منه، يهيم أسيرَ رائحةٍ مرّت علي ذكراها ثلاثون عاما، يواصل فراراً مؤبّداً من وعيدٍ بعقوبة تلقّاه في صِغَره، يخرج إلي شوارع وميادين ليهزم مخاوفه وعزلته وعفاريت ماضيه فلا تنهزم، ويعود في الأخير لينزوي مع صداعٍ يضرب رأسه وفئران تقرض من حوله وزمان تجاوزه.
من الممكن، أو لعلّه من الممتع، أن نقرأ قصص (وكأنه.. هو) كفصولٍ قصيرة لمتتالية قصصية، دون أن نقترف عنَتَ محاولة إعادة ترتيب تلك القصص/ الفصول، لأن دواعي ذلك ليست زمانيّةً أو مكانيّة ولا حتي تصاعُد أحداثٍ في نسَقٍ ما، إنما لأن شخوصها تعاهدوا علي الخوف وتضامنوا علي الهروب ونذروا أنفسهم للماضي دون التفاتةٍ -ولو هيِّنة- إلي الأمام، شخوصها الذين اتّحدوا معاً براويهم الواحد/ الولد الرجل الذي ينقل بدوره -نيابةً عن الجميع- حنينه وحسَراتِه ومطاردته لوجه الشبه الضائع من قصةٍ إلي أخري... ولا يمكن إغفال أن من دواعي ذلك أيضا هذه "الحالة الطبِّيَّة"، إذا جاز القول، التي هيمنتْ علي عدد غير قليل من القصص بحكم مهنة الكاتب.
الخوف لديه يبدو فطريّاً، لامهرب منه ولاغني عنه، مع أنه قد ينطوي علي مفارقةٍ من صنع القهر. فسعاد، هذه البنت الصغيرة في قصة "ليمون وخمسة أرغفة" تخاف من أن تطلق شعرها ليهفهف علي خدّيها فيراها الأحياء، لكنها لا تخاف من مواعدة حبيبها بين الموتي، في المقابر. وقد يكون الخوف محدّداً سلفاً كما لو أنه منهج حياة، للحدّ الذي يجعله يقدّم قائمةً دقيقة بمخاوفه في قصة "تموهات حالم بالسماء": (يخاف من القطط والكلاب والفئران والثعابين، من الشقوق والثغور، ومن الغد وارتفاع أسعار المياه والكهرباء والسلع الغذائية واختفاء الأرز والسكر، ومن اختطاف الحبيب علي يد أية امرأة). أو يكون -الخوف- مُسكِراً كالخمر، مُهيِّجاً لهلاوس، فخوفه من الوحدة في قصة "لافتة ممنوعة" حرّضه علي الوقوف في الميدان رافعاً لافتة، يتسوّل أحضان المارّة: (احضنوني كي تتفتح أوردة وشرايين روحي) وكنتُ أتمني لو انتهتْ هذه القصة دون سرد ردود أفعال العابرين. أو أن يُختصَر كله في خوفٍ وجوديّ تشاؤميّ، حين يجهر بيقينه في قصة "لحظة": (أعلم أن الحياة لعبة مُنهِكةٌ تنتهي دائماً بالموت).
من قصة "في البحث عنها" نقرأ: (وكأن الهروب أصبح سمة أهل البيت) لكن الخبر الأهمّ أنه أصبح سمة أهل قصص عصام حسين، كلهم تقريباً. ويبدو أن "سالي"، في القصة المذكورة، نجحت في صنع واقعها البديل -أمنيتها القديمة التي أسرّت بها يوماً لأخيها- الذي هربتْ إليه من بطش الأب وجهالته، رغم بساطة وفقر هذا البديل يظلّ الأغني بدلالاته الروحيّة والتحرّريّة: (حوش صغير، وشجرة فيكس وحيدة، وغرفة صغيرة من الطوب اللبن، جدرانها مدهوكة بالطين، تتقوقع بداخلها سالي) وتنتقل العدوي إلي أحد أخويْها، وإلي فتحي في قصة "أم فتحي" رغم قدَريّة اختفائه وغموض دوافعه، وتبقي هاجساً لدي أخيها الآخر.. غير أن الهروب لا يحقق أهدافه في كل مرة، إذ قد لا يتحقّق أصلاً ويتمثّل فقط كإيمانٍ يزيد وينقص، كما في حالة الأخ الثاني، أو الراوي في قصة "أم فتحي" الذي يقول ولا يفعل أو يهمّ بالفعل ويحجم: (أشعر أني قد امتلأتُ عن آخِري بكلّ أسباب الرحيل) لكنه لا يملك شجاعة اتخاذ القرار رغم أنه أعدّ العُدّة، فيبقي الهروب مغلّفاً بدلالته الاستسلاميّة، مجرد رغبة لصيقة حبيسة ومؤرِّقة مثل مرض مزمن: (الرغبة الصارمة في الاختفاء للأبد تطوّقه) من قصة "ضفاف أخري للحياة" وهي بالمناسبة من أرقّ قصص المجموعة.. أو أن يتحوّل الهروب إلي الداخل، الحلقة الأضعف في سلسلة البدائل، الانكفاء علي الذات درءاً للهشاشة أو بالأحري فضحاً لها: (أقصي ما قدرتُ عليه أن وشيتُ للإله وبكيت) من قصة "تموّهات حالم بالسماء"، وكما في قصتيْ "شيخان" و"مظلم وبعيد".. وقد يكون هروباً رمزيّاً، متأرجحاً بين الإقدام والإحجام، يتعارك واقعاه، الأصلي والبديل، دون حسم، كما في قصة "لافتة ممنوعة" التي أُصِرّ علي قراءتها كما لو أنه تخيّل نفسه يرفع اللافتة!
كتب عصام حسين قصصه بخبرةِ مَنْ "عرف فَلَزم".. تستطيع أن تتصوّر ابتسامةً ساخرة لا تغادر وجهه وهو يكتب أشدّ قصصه دَرَّاً للحزن، كأنما لا يريد أن "يُفرْعِنَ" الأمور فيعطيها فوق قَدْرها، لا يريد أن يبالغ، ولعلّ ذلك ما وضع لغته في منطقة وسطي بين التوصيليّة الصريحة والشاعريّة الإيحائيّة. لا يقدّم لنا تراكيب مُبهرة تخطف ذائقتنا لوهلةٍ ثم تتلاشي كدخان، إنما يقدّم عالماً نلجه ويلجنا، نسكنه ويسكننا، ليدوم الأثر والتّأثّر لأطول نفَس. يكثّف حالته القصصيّة حتي أنه يسرد سنواتٍ من المكابدة لحظة تأهّب عصفور للشّرب من آنية فخاريّة دون أن يُشعرك بتخمة الاستطراد. ولديه القدرة كذلك علي الانتقال من زمن إلي آخر ومن شخصيّةٍ إلي أخري ومن مشهدٍ إلي غيره دون أن ينحرف عن فِعل قصته الأساسيّ والواحد، قريباً مما أسماه "أوغستو مونتيروسو" (سلسلة النّقْر).. تُري هل عثر عصام حسين لنا، أخيراً -أو عثرنا له- علي وجه الشبه المفقود؟ أظن أن آخِر جملةٍ في هذه المجموعة القصصية البديعة (وكأنه.. هو) فيها اللاإجابة: (أتوقّف طويلاً وأنتظر الإجابة علي السؤال).
*محمد أبوالدهب
"أعلم أني لستُ هو/ أشعر كثيراً وكأني هو".. يضعُنا القاص الدكتور عصام حسين عبدالرحمن من البداية (ربما قبل البداية بقليل!) موضع الاختيار أو لنقُلْ الشكّ أمام طريقيْن تتشظّي وتتردّي وتتبدّي بينهما شخوص قصص مجموعته (وكأنه.. هو) الصادرة حديثاً عن دار "يسطرون" بالقاهرة: "العلم" بثبوتيّته ومباشرته ويقينيّته الجافة، تأمّلْ النفيَ القاطع (لست هو).. و"الشعور" باحتماليّته ومراوحته وتردّده، وطيش دوافعه
أحياناً، راجِعْ أسلوبَ التشبيه، الخالي من وجه الشبه (كأني.. هو). لكنّ التصدير الذي يليه، ويسبق قصص المجموعة مُفضِياً إليها، الصورة الشعرية الشفيفة الكثيفة الموّارة بأحزانٍ ووعود، يهمس بما يمنح إلهاماً بالاختيار ويطوي صفحة الشكّ دون أن يمحوها: (هذا الولد الرجل/ الإنسان الروح/ المشدود دائماً من رأسه/ يطلق من منصّة روحه عصفوراً/ يتحرّك في مداراتٍ بيضاء شفّافة/ يري بأجنحته قلوب العالم/ يحطّ علي صدور كل الناس إلا صدرها/ وسِرّها أبداً لا يَبِين/ يتحرّك عكس اتجاه السير/ كي يُميت الموت في الطرقات). سيظلّ البحث جارياً عن وجه الشبه المفقود في قصص المجموعة الخمس عشرة. وحسناً فعل عصام حسين حين انتهي إلي (وكأنه.. هو) كعنوانٍ جامع لكتابه دون أن يكون عنوان إحدي قصصه، فكلّ قصة لها من ظلال هذا العنوان نصيب، وإن لم تكن الأنصبة متساويةً. ولا يناهض ذلك تلاعبَه بالضمائر بين العنوان والتقديم، فالأول (وكأنه.. هو) يبرز ادّعاء الذات الراوية الحياد ومراقبة وجه الشبه -علي سبيل الفضول- توارياً في ضميرَيْ الغائب، والثاني (كأني.. هو) يضع الأنا في مساحة اشتباكٍ ولو وهميّة (موقف المُشبَّه) سواءً كان الولد قفزاً إلي الرجل الذي صارَهُ (قصّتا: "ليمون وخمسة أرغفة" و"نصفان") أو الرجل ارتداداً إلي الولد الذي كانَهُ (قصص: "في البحث عنها" و"أم فتحي" و"أسير الرائحة")، أو هما معاً، في واحدٍ، مُواجَهةً لأطيافٍ تتمثّل بصورتهما، تُقيم قيامة ذكري غابرة وتبتعث خطايا الماضي (قصّتا: "ضفاف أخري للحياة" و"تموّهات حالمٍ بالسماء").. بل يتمادي عصام حسين في التلاعب بالضمائر فَيصل بمعادلَته إلي (كأنه.. أنا) في قصة (ذوالشعر الأبيض) بما يدلّل علي أن وجه الشبه هو الثابت والمفقود معاً من أطراف هذه المعادلة.
سنلاقي هذا الولدَ الرجل، يبحث عن أحبّةٍ اختفوا وحين يعثر عليهم تكون أشياء كثيرة قد تغيّرت، يهدهد مخاوفه محتمياً بمَن يكتشف أنهم حائكوها أو أنهم أشدّ خوفاً منه، يهيم أسيرَ رائحةٍ مرّت علي ذكراها ثلاثون عاما، يواصل فراراً مؤبّداً من وعيدٍ بعقوبة تلقّاه في صِغَره، يخرج إلي شوارع وميادين ليهزم مخاوفه وعزلته وعفاريت ماضيه فلا تنهزم، ويعود في الأخير لينزوي مع صداعٍ يضرب رأسه وفئران تقرض من حوله وزمان تجاوزه.
من الممكن، أو لعلّه من الممتع، أن نقرأ قصص (وكأنه.. هو) كفصولٍ قصيرة لمتتالية قصصية، دون أن نقترف عنَتَ محاولة إعادة ترتيب تلك القصص/ الفصول، لأن دواعي ذلك ليست زمانيّةً أو مكانيّة ولا حتي تصاعُد أحداثٍ في نسَقٍ ما، إنما لأن شخوصها تعاهدوا علي الخوف وتضامنوا علي الهروب ونذروا أنفسهم للماضي دون التفاتةٍ -ولو هيِّنة- إلي الأمام، شخوصها الذين اتّحدوا معاً براويهم الواحد/ الولد الرجل الذي ينقل بدوره -نيابةً عن الجميع- حنينه وحسَراتِه ومطاردته لوجه الشبه الضائع من قصةٍ إلي أخري... ولا يمكن إغفال أن من دواعي ذلك أيضا هذه "الحالة الطبِّيَّة"، إذا جاز القول، التي هيمنتْ علي عدد غير قليل من القصص بحكم مهنة الكاتب.
الخوف لديه يبدو فطريّاً، لامهرب منه ولاغني عنه، مع أنه قد ينطوي علي مفارقةٍ من صنع القهر. فسعاد، هذه البنت الصغيرة في قصة "ليمون وخمسة أرغفة" تخاف من أن تطلق شعرها ليهفهف علي خدّيها فيراها الأحياء، لكنها لا تخاف من مواعدة حبيبها بين الموتي، في المقابر. وقد يكون الخوف محدّداً سلفاً كما لو أنه منهج حياة، للحدّ الذي يجعله يقدّم قائمةً دقيقة بمخاوفه في قصة "تموهات حالم بالسماء": (يخاف من القطط والكلاب والفئران والثعابين، من الشقوق والثغور، ومن الغد وارتفاع أسعار المياه والكهرباء والسلع الغذائية واختفاء الأرز والسكر، ومن اختطاف الحبيب علي يد أية امرأة). أو يكون -الخوف- مُسكِراً كالخمر، مُهيِّجاً لهلاوس، فخوفه من الوحدة في قصة "لافتة ممنوعة" حرّضه علي الوقوف في الميدان رافعاً لافتة، يتسوّل أحضان المارّة: (احضنوني كي تتفتح أوردة وشرايين روحي) وكنتُ أتمني لو انتهتْ هذه القصة دون سرد ردود أفعال العابرين. أو أن يُختصَر كله في خوفٍ وجوديّ تشاؤميّ، حين يجهر بيقينه في قصة "لحظة": (أعلم أن الحياة لعبة مُنهِكةٌ تنتهي دائماً بالموت).
من قصة "في البحث عنها" نقرأ: (وكأن الهروب أصبح سمة أهل البيت) لكن الخبر الأهمّ أنه أصبح سمة أهل قصص عصام حسين، كلهم تقريباً. ويبدو أن "سالي"، في القصة المذكورة، نجحت في صنع واقعها البديل -أمنيتها القديمة التي أسرّت بها يوماً لأخيها- الذي هربتْ إليه من بطش الأب وجهالته، رغم بساطة وفقر هذا البديل يظلّ الأغني بدلالاته الروحيّة والتحرّريّة: (حوش صغير، وشجرة فيكس وحيدة، وغرفة صغيرة من الطوب اللبن، جدرانها مدهوكة بالطين، تتقوقع بداخلها سالي) وتنتقل العدوي إلي أحد أخويْها، وإلي فتحي في قصة "أم فتحي" رغم قدَريّة اختفائه وغموض دوافعه، وتبقي هاجساً لدي أخيها الآخر.. غير أن الهروب لا يحقق أهدافه في كل مرة، إذ قد لا يتحقّق أصلاً ويتمثّل فقط كإيمانٍ يزيد وينقص، كما في حالة الأخ الثاني، أو الراوي في قصة "أم فتحي" الذي يقول ولا يفعل أو يهمّ بالفعل ويحجم: (أشعر أني قد امتلأتُ عن آخِري بكلّ أسباب الرحيل) لكنه لا يملك شجاعة اتخاذ القرار رغم أنه أعدّ العُدّة، فيبقي الهروب مغلّفاً بدلالته الاستسلاميّة، مجرد رغبة لصيقة حبيسة ومؤرِّقة مثل مرض مزمن: (الرغبة الصارمة في الاختفاء للأبد تطوّقه) من قصة "ضفاف أخري للحياة" وهي بالمناسبة من أرقّ قصص المجموعة.. أو أن يتحوّل الهروب إلي الداخل، الحلقة الأضعف في سلسلة البدائل، الانكفاء علي الذات درءاً للهشاشة أو بالأحري فضحاً لها: (أقصي ما قدرتُ عليه أن وشيتُ للإله وبكيت) من قصة "تموّهات حالم بالسماء"، وكما في قصتيْ "شيخان" و"مظلم وبعيد".. وقد يكون هروباً رمزيّاً، متأرجحاً بين الإقدام والإحجام، يتعارك واقعاه، الأصلي والبديل، دون حسم، كما في قصة "لافتة ممنوعة" التي أُصِرّ علي قراءتها كما لو أنه تخيّل نفسه يرفع اللافتة!
كتب عصام حسين قصصه بخبرةِ مَنْ "عرف فَلَزم".. تستطيع أن تتصوّر ابتسامةً ساخرة لا تغادر وجهه وهو يكتب أشدّ قصصه دَرَّاً للحزن، كأنما لا يريد أن "يُفرْعِنَ" الأمور فيعطيها فوق قَدْرها، لا يريد أن يبالغ، ولعلّ ذلك ما وضع لغته في منطقة وسطي بين التوصيليّة الصريحة والشاعريّة الإيحائيّة. لا يقدّم لنا تراكيب مُبهرة تخطف ذائقتنا لوهلةٍ ثم تتلاشي كدخان، إنما يقدّم عالماً نلجه ويلجنا، نسكنه ويسكننا، ليدوم الأثر والتّأثّر لأطول نفَس. يكثّف حالته القصصيّة حتي أنه يسرد سنواتٍ من المكابدة لحظة تأهّب عصفور للشّرب من آنية فخاريّة دون أن يُشعرك بتخمة الاستطراد. ولديه القدرة كذلك علي الانتقال من زمن إلي آخر ومن شخصيّةٍ إلي أخري ومن مشهدٍ إلي غيره دون أن ينحرف عن فِعل قصته الأساسيّ والواحد، قريباً مما أسماه "أوغستو مونتيروسو" (سلسلة النّقْر).. تُري هل عثر عصام حسين لنا، أخيراً -أو عثرنا له- علي وجه الشبه المفقود؟ أظن أن آخِر جملةٍ في هذه المجموعة القصصية البديعة (وكأنه.. هو) فيها اللاإجابة: (أتوقّف طويلاً وأنتظر الإجابة علي السؤال).
*محمد أبوالدهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق