ـ طيب.
قلتُها دون رفع رأسي, ثم أغلق الفراش الباب.
" مالت عليك وعلى مديرك".
فضحك منْ سمعني من التلاميذ. سنواتي الطويلة وأنا أركض خلف أن أكون مديرًا أو وكيلًا للمدرسة، أحضر قبل الطابور، أدخل حصصي بنشاط، وأخرج آخر المعلمين، كلّ التوجيهات أطبقها، يثني عليّ المشرفون التربويون، ملفي ممتلئ بشهادات الدورات، لكن كلّ ذلك لم يؤهلني، أحكُ شعري الذي كلما
ازدادت شعراته البيضاء في رأسي لانت الصخرة في قلبي، كان بالإمكان أن أصرخ بصوتي الذي كان يهز أعمدة المدرسة فيحكم الصمت قبضته، لكن لم يعد للصراخ أنْ يحلَّ معضلة.
التلاميذ الأطفال يلفون أصابعهم أمام أفواههم ويخرجون الأصوات المزعجة. المرتدي لقميص نادي الهلال الأزرق يضع سبابتيه في فمه ويصفر، ترتفع أصابعي لتجرب إصدار الصفير الآن بعد أن عجزت عجزا في صغري، لكني تمالكت نفسي فسقطت أصابعي في حجري.
كل الأحلام تحطمت، أحلام المناصب تهاوت. كيف سأعيش بلا أصوات التلاميذ حينما أتقاعد بعد شهرين؟! أستاذ ممكن أروح الحمام؟ أستاذ أروح أشرب ماي؟ أستاذ حصران وهو يضع كفيه بين فخذيه!
آه يا زمن كيف سأعتاد حياة مغايرة لأكثر من عشرين سنة؟!
أخلع غترتي وأضعها جانبا، يضحك التلاميذ، وهم يرون شعري وقد تبقع ببقع بيضاء. أفتح جوالي فأجد رسالة من المرأة التي طلقتُها، أقرأ حروفها بنفس مليئة بالألم ومدماة بالطعنات، كلمات مثقلة بالألم، ضغطت أصابعي "قلبي كزجاج مهشم". أغيب في الذكريات، تأخذني الغفوة، فأنتبه وجوالي مُحاط بالتلاميذ.
ـ جيبوا الجوال يا عيال...!
يوشوش أحدهم في أذن زميله، فيبتسمان. في الحصة الأخيرة التلاميذ يتشربون روح إبليس، لكني أدعهم يلعبون بحريتهم، وأترك
الذكريات تهطل عليَّ مرة أخرى، الوجع يستوطن قلبي، الحب مجنون مقاوم للصدأ، حينما يتقد لا شيء يهزمه، حتى الزمن يتلاشى إذا ما حاول إزاحته، رأس إصبع صغير ينغرس في كتفي:
ـ إشرايك أستاذ؟!
الطاقية المشخلة على رأسه تلامس أذنيه، ركزتُ نظري في عينيه، أحس بأنه اجترح خطأ، الصمت يملأ المسافة بينما أخذتُ الغترة البيضاء، ووضعتُها فوق رأسه، لكني لم أجد العقال، بحثت عيناي، فإذا به كمقود سيارة بين يدي تلميذ يصدر فمه صوت "شكمان" السيارة، وتفح من حنجرته صوت إطارات السيارة وهي تدور وتحتك بشدة بإسفلت الشارع، يسير بين الطاولات بسرعة ويتوقف فجأة دافعا صدره للأمام، فأتذكر نفسي صغيرًا، وصحن الأرز الكبير بين يدي.
لم أعد أستطع ضبط الأطفال، فنفسي لم تعد تهوى الصرامة، خسرتُ أشياء كثيرة، ولم أصل لما أحلم به رغم انضباطي وتميزي، أعيد قراءة الرسالة مرة أخرى انفتح الباب فجأة، عاد الطلاب إلى مقاعدهم حينما وجدوا وجه المدير يلفحهم بلسانه المتجبر، وهو يمد لي يده الخشنة:
ـ مبروك يا أستاذ عينوك مدير..
أذوب في عالم الدهشة، وأتوارى بين جدرانها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق