أفتح طواسينه، تماحكني طلاسمه، تخاتل ظلّ دهشتي، تستفزّني العبارة، أغرق في زئبق المعنى:
ستُقتل. قالها الجُنيد في لحظة غضب.
يضحك تلميذه:
نعم... وستمضي على قتلي.
وما بين الغضب والضحك مسافة عشق تمتدّ من مدينة البيضاء حتى بغداد، يرتقي فيها أبو المغيث براق الشوق، يسمو في معراجٍ تمتزج فيه الأنوار الهادية بالبروق الخادعة، حاملاً خشبته على ظهره،
محمولاً على جناح التيه، يبحث عن كأس يسكب خمرتهُ فيها:
كأنّني غرقٌ تبدو أناملهُ ... تغوثاً وهو في بحرٍ من الماء
وليس يعلم ما لاقيتُ من أحدٍ ... إلّا الذي حلّ منّي في سويدائي
الدرب شائك وطويل، ما أجمله! إن فهمته، وإن وعيته؛ فهل من سواه؟. قالها لي ذات مرة، ومضى.
أتأمل في العالم المحيط، في بهاء حروفه، كانت الكلمات مسكونة بسحر التأويل،
الشفاه تمطره كفراً ولعنات، العيو
الشفاه تمطره كفراً ولعنات، العيون تعرّي ما لا تراه، تشكّله ساحراً، مارقاً، سريع التقلّب والحركة، في قلبه أهواء؛ أحلّق فوق مدار الشبهات، أدفن سرّه بين أضلاع الصدر، أتمنّى لو أن بساط الريح يحملني إلى بغداد؛ ألبّي نداء أعماقي، أهزّ جذع الرحيل؛ فأتيه في مدينة يغشاها بركان يفور، أطرق باب الشوق، وأمضي إليه، واجداً، رافلاً بضوء العشق؛ أتبع ظلّه، مدركاً أنّه الآن وحيد على الطريق، وفي قلبه تتوقّد شرارة لن تنطفئ، لكنّ الأمر عجيب، كيف يمكن له أن يلمح بحر الجمال ولا حانة في الطريق؟ .
ما زالت الخطى تلهث، حائرة في متاهات الدروب، لعلّي ألقاه: -
أين أجد كاشف أسرار القلوب؟ -
من هنا مرّ؛ ليهدي مهجته ودمه، سمعته يلهج بموته "
تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي "، أسرع؛ لعلّك تدرك صاحبك.
أتفيّأ بظلّ الدهشة، أطوي المسافات عشقاً، يستوقفني التساؤل ساخراً: -
ما له كلّما سكر؛ زادت شطحاته؟ -
كيف؟ -
انظر إلى قوله، " ففي دين الصليب يكون موتي... ولا البطحا أريدُ ولا المدينة "،
لقد ترك دينه وتقيّأ كفراً.
لقد بشّر بقتله
أ تراني لم أفهم عباراته؟
أنّى لك أن تفهم ما لم تقف على إشاراته؟ لم يأتِ ليدين، إنّما ليقدّم نفسه ضحيّة من أجل خلاص الآخرين، ذلك هو المراد.
رمقني بنظرة ملؤها الاستغراب، ثم قال : -
ما أنت إلّا مجنون أضاع الطريق القويم
أدير ظهري له، أرهف السمع لدقات قلبي المفتون بالعشق، هو الذي يدلّني على الطريق؛ يرشقني الصوت ببضع كلمات: -
أيّها الغريب، السارح في وهم البهجة، ستُخضَّب بالوجع ويصرعك الندم.
أسلك طرقاً موحشة، وعرة، أصل إلى ضفاف دجلة، أندسّ بين حشود تجمعت في يوم لم تشهده المدينة من قبل، ها هو كاشف أسرار القلوب، يدخل من باب خراسان، يشقّ طريقه وسط مريديه، يمرّ بين خصومٍ وحاقدين، ضاحكاً، راقصاً، متبختراً في قيده، يبتسم في وجوه الحشود، ينشد :
طلبتُ المستقرَّ بكلّ أرضٍ...فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا فنلتُ من الزمانِ ونال منّي...وكانَ منالهُ حلواً ومرّا في تلك الساعة، كنت أحدّق في الوجوه، أرهف السمع لأصوات عابرة أزمنتها، تتعالى، تتقاطع على مرأى الحضور، لا يمنعها سجّان ولا سلطان؛ صوت يأتي من شرق الوله، يطوي المسافات: "
إن تصلبني الليلة، فإنّ دمي يخطّ على الأرض: أنا الحقّ "1 مثل أبي المغيث
وآخر من غربه ينادي: "
يا مَن ذهبت من مكة، إلى كَشكَر، من بهروج إلى القدس، ها أنت تقف أمام البعد الخامس، فالكعبة في أعماقك."2
يبتسم له : -
للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني ... تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
ما هذا اللغط؟ وما هذه الأصوات الناشزة؟، لقد عثر صاحبكم وكفر. لا تتعجّلوا بصلبه؛ حتى تتبيّنوا أمره. -
يكفي قوله: أنا الحقّ، و ما في الجبة إلّا الله
إنّها من فرط المحبة وشدّة الوجد "3
تهبط الأصوات، تتعالى أصوات أخرى مفعمة بالغضب
ملعون خبيث.
في موجة هتاف مرعب: -
اصلبوه، اصلبوا مدعي ...
أدخل دهاليز القلق، يراودني الشكّ؛ يسكنني الارتياب، أهبط على تخوم الفاجعة، يفتح الصوت نافذة الختام: - "
أيّها الناس، اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي؛ فاقتلوني، اقتلوني تؤجروا واسترح، وتكونوا أنتم مجاهدين، وأنا شهيد"، فـ :
لي حبيبٌ حبّه وسط الحشا... لو يشأ يمشي على خدي مشى
روحه روحي وروحي روحه... إن يشأ شئتُ وإن شئت يشا
يتقدم للصلب، يتمتم بصوت خفيض: -
يا معين الفناء عليّ، أعنّي على الفناء. يستقبل شهيق قوائم خشبية، ترتفع إلى السماء؛ فتتشكّل أمام عينيه مقصلة، يرجمه الواقفون بالحجارة، إلّا واحداً رجمه بوردة جميلة واختفى بين الجموع، ضحك حتى دمعت عيناه، وانتظر حتى إذا ما بلغت الشمس سمت السماء، شُدّ إلى آلة الصلب، ينطلق إليه رفيقه مخاطباً
يا نبض القلب وحبيب الروح، لِمَ كشفت السرّ؟، ألم ننهك من قبل؟ يلتفت إليه الجلّاد: -
ألا تنطق بالشهادة.
إنّ بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج.
يستشيط غضباً، يلطمه على وجهه، يجلده بالسوط، يقطع يده اليمنى؛ فتعلوه صفرة وشحوب، يخضّب وجهه بالدم، تُقطع الثانية، يبتسم: - "
ركعتان في العشق، لا يصحّ وضوؤهما إلّا بالدم". يحدّق في السماء مغموراً بدمائه، أقرأ شفتيه، يُخيّل إليّ أنّه يعيش في نشوة الغياب، ونعيم القرب؛ وقبل أن تقطع رجلاه و يحزّ رأسه، يخيط أمانيه بخيط الكبرياء، يسقط من علياء الجرح ندّاً : -
أصحابي و خلّاني لا يهولنّكم هذا، سأعود إليكم بعد ثلاثين يوماً. وبعد حين من الشبهات لم يعد؛ أغلقُ طواسينه وأمضي محتاراً في أمره، يغمرني هتاف يصدح من خلف الأفق) أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ )4
ستُقتل. قالها الجُنيد في لحظة غضب.
يضحك تلميذه:
نعم... وستمضي على قتلي.
وما بين الغضب والضحك مسافة عشق تمتدّ من مدينة البيضاء حتى بغداد، يرتقي فيها أبو المغيث براق الشوق، يسمو في معراجٍ تمتزج فيه الأنوار الهادية بالبروق الخادعة، حاملاً خشبته على ظهره،
محمولاً على جناح التيه، يبحث عن كأس يسكب خمرتهُ فيها:
كأنّني غرقٌ تبدو أناملهُ ... تغوثاً وهو في بحرٍ من الماء
وليس يعلم ما لاقيتُ من أحدٍ ... إلّا الذي حلّ منّي في سويدائي
الدرب شائك وطويل، ما أجمله! إن فهمته، وإن وعيته؛ فهل من سواه؟. قالها لي ذات مرة، ومضى.
أتأمل في العالم المحيط، في بهاء حروفه، كانت الكلمات مسكونة بسحر التأويل،
الشفاه تمطره كفراً ولعنات، العيو
الشفاه تمطره كفراً ولعنات، العيون تعرّي ما لا تراه، تشكّله ساحراً، مارقاً، سريع التقلّب والحركة، في قلبه أهواء؛ أحلّق فوق مدار الشبهات، أدفن سرّه بين أضلاع الصدر، أتمنّى لو أن بساط الريح يحملني إلى بغداد؛ ألبّي نداء أعماقي، أهزّ جذع الرحيل؛ فأتيه في مدينة يغشاها بركان يفور، أطرق باب الشوق، وأمضي إليه، واجداً، رافلاً بضوء العشق؛ أتبع ظلّه، مدركاً أنّه الآن وحيد على الطريق، وفي قلبه تتوقّد شرارة لن تنطفئ، لكنّ الأمر عجيب، كيف يمكن له أن يلمح بحر الجمال ولا حانة في الطريق؟ .
ما زالت الخطى تلهث، حائرة في متاهات الدروب، لعلّي ألقاه: -
أين أجد كاشف أسرار القلوب؟ -
من هنا مرّ؛ ليهدي مهجته ودمه، سمعته يلهج بموته "
تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي "، أسرع؛ لعلّك تدرك صاحبك.
أتفيّأ بظلّ الدهشة، أطوي المسافات عشقاً، يستوقفني التساؤل ساخراً: -
ما له كلّما سكر؛ زادت شطحاته؟ -
كيف؟ -
انظر إلى قوله، " ففي دين الصليب يكون موتي... ولا البطحا أريدُ ولا المدينة "،
لقد ترك دينه وتقيّأ كفراً.
لقد بشّر بقتله
أ تراني لم أفهم عباراته؟
أنّى لك أن تفهم ما لم تقف على إشاراته؟ لم يأتِ ليدين، إنّما ليقدّم نفسه ضحيّة من أجل خلاص الآخرين، ذلك هو المراد.
رمقني بنظرة ملؤها الاستغراب، ثم قال : -
ما أنت إلّا مجنون أضاع الطريق القويم
أدير ظهري له، أرهف السمع لدقات قلبي المفتون بالعشق، هو الذي يدلّني على الطريق؛ يرشقني الصوت ببضع كلمات: -
أيّها الغريب، السارح في وهم البهجة، ستُخضَّب بالوجع ويصرعك الندم.
أسلك طرقاً موحشة، وعرة، أصل إلى ضفاف دجلة، أندسّ بين حشود تجمعت في يوم لم تشهده المدينة من قبل، ها هو كاشف أسرار القلوب، يدخل من باب خراسان، يشقّ طريقه وسط مريديه، يمرّ بين خصومٍ وحاقدين، ضاحكاً، راقصاً، متبختراً في قيده، يبتسم في وجوه الحشود، ينشد :
طلبتُ المستقرَّ بكلّ أرضٍ...فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا فنلتُ من الزمانِ ونال منّي...وكانَ منالهُ حلواً ومرّا في تلك الساعة، كنت أحدّق في الوجوه، أرهف السمع لأصوات عابرة أزمنتها، تتعالى، تتقاطع على مرأى الحضور، لا يمنعها سجّان ولا سلطان؛ صوت يأتي من شرق الوله، يطوي المسافات: "
إن تصلبني الليلة، فإنّ دمي يخطّ على الأرض: أنا الحقّ "1 مثل أبي المغيث
وآخر من غربه ينادي: "
يا مَن ذهبت من مكة، إلى كَشكَر، من بهروج إلى القدس، ها أنت تقف أمام البعد الخامس، فالكعبة في أعماقك."2
يبتسم له : -
للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني ... تُهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
ما هذا اللغط؟ وما هذه الأصوات الناشزة؟، لقد عثر صاحبكم وكفر. لا تتعجّلوا بصلبه؛ حتى تتبيّنوا أمره. -
يكفي قوله: أنا الحقّ، و ما في الجبة إلّا الله
إنّها من فرط المحبة وشدّة الوجد "3
تهبط الأصوات، تتعالى أصوات أخرى مفعمة بالغضب
ملعون خبيث.
في موجة هتاف مرعب: -
اصلبوه، اصلبوا مدعي ...
أدخل دهاليز القلق، يراودني الشكّ؛ يسكنني الارتياب، أهبط على تخوم الفاجعة، يفتح الصوت نافذة الختام: - "
أيّها الناس، اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي؛ فاقتلوني، اقتلوني تؤجروا واسترح، وتكونوا أنتم مجاهدين، وأنا شهيد"، فـ :
لي حبيبٌ حبّه وسط الحشا... لو يشأ يمشي على خدي مشى
روحه روحي وروحي روحه... إن يشأ شئتُ وإن شئت يشا
يتقدم للصلب، يتمتم بصوت خفيض: -
يا معين الفناء عليّ، أعنّي على الفناء. يستقبل شهيق قوائم خشبية، ترتفع إلى السماء؛ فتتشكّل أمام عينيه مقصلة، يرجمه الواقفون بالحجارة، إلّا واحداً رجمه بوردة جميلة واختفى بين الجموع، ضحك حتى دمعت عيناه، وانتظر حتى إذا ما بلغت الشمس سمت السماء، شُدّ إلى آلة الصلب، ينطلق إليه رفيقه مخاطباً
يا نبض القلب وحبيب الروح، لِمَ كشفت السرّ؟، ألم ننهك من قبل؟ يلتفت إليه الجلّاد: -
ألا تنطق بالشهادة.
إنّ بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج.
يستشيط غضباً، يلطمه على وجهه، يجلده بالسوط، يقطع يده اليمنى؛ فتعلوه صفرة وشحوب، يخضّب وجهه بالدم، تُقطع الثانية، يبتسم: - "
ركعتان في العشق، لا يصحّ وضوؤهما إلّا بالدم". يحدّق في السماء مغموراً بدمائه، أقرأ شفتيه، يُخيّل إليّ أنّه يعيش في نشوة الغياب، ونعيم القرب؛ وقبل أن تقطع رجلاه و يحزّ رأسه، يخيط أمانيه بخيط الكبرياء، يسقط من علياء الجرح ندّاً : -
أصحابي و خلّاني لا يهولنّكم هذا، سأعود إليكم بعد ثلاثين يوماً. وبعد حين من الشبهات لم يعد؛ أغلقُ طواسينه وأمضي محتاراً في أمره، يغمرني هتاف يصدح من خلف الأفق) أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ )4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: الشاعر حافظ الشيرازي.
2: الشاعر السويدي أنغمار ليكيوس.
3أبو حامد الغزالي.
4: سورة الرعد/28
1: الشاعر حافظ الشيرازي.
2: الشاعر السويدي أنغمار ليكيوس.
3أبو حامد الغزالي.
4: سورة الرعد/28
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق