- الشخصيات:
ـ ممثلة في الخامسة والعشرين من عمرها
- حارس مسرح.
(مرتفع خشبي مستطيل يشكل خشبة، في الوسط مرآة ضخمة، تبدو في العمق جوقة من المتفرجين هرمين وقد علاهم الغبار بألبسة رثة، وملامح باهتة كأنهم خرجوا للتو من قبورهم، حركاتهم بطييئة، حين يضحكون يبدون وكأنهم يبكون، وحين يرفعون أياديهم للتصفيق تسمع رجات عنيفة مزعجة لا حياة فيها، تدخل ممثلة شابة عمرها خمسة وعشرون عاما، تلبس لباسا أسودا تصعد فوق المرتفع الخشبي تواجه ذلك الجمهور).
الممثلة: كان من الممكن أن أكون مندمجة في جلد الشخصية التي سأعيشها، أن أكون قد اختليت في غرفة الماكياج بعد أن عشت فيها حالة التحول من الإنسانة العادية إلى الشخصية المتخيلة، لكن ما وقع هو أنني بكل بساطة لن .. نعم لن أمثل أمامكم هذه الليلة (صمت) اسمحوا لي إنني أعتذر أمامكم لأن هناك شيئا حطم حياتي، جعلني أتيه في متاهة هذا العالم… أصبحت عمياء لا أعرف أين أسير، فقدت كل الأشياء الجميلة.. أسأل نفسي لماذا؟ ولكن لا أعرف ماذا وقع؟ هل لأنني أخطأت في اختياري؟ أم أن الآخرون هم المخطئون؟ أصبحت حائرة.. منشطرة بين الفن والحياة.. ولكن لماذا هذا التمزق؟ إن اختياري جاء كقناعة وليس بالصدفة أنا التي كنت أنتقد الأخريات.. هاته تمارس المسرح لمجرد الظهور.. والأخرى كنزوة عابرة.. (وثالثة كانت في الجامعة تعيش محبطة قانطة من دراستها ورأت في الحي الجامعي طلبة المسرح فمثلوا لها الانشراح والانطلاق)، أما أنا فلا.. أنا لا.. لست منهن، (تنفعل وتصرخ، ثم تعود لهدوئها) ولكن رغم اقتناعي بهذا الاختيار.. أصبحت منتزعة بين الفن والحياة، بين المسرح والعائلة (تجلس مستكينة ثم تظهر كطفلة في حركاتها).
أذكر بداياتي الأولى…
أول لحظة.. رأيت فيها نور الحياة تذوقت طعم الفن.. فوهبت حياتي له. نسيت كل شيء.. عشت عشق المسرح لأجل المسرح، فهل كنت أعيش وهما يتحلى عن الحياة؟ كنت كراهبة في محراب الفن كل شيء يهون في سبيله ولا يضاهي وجوده أي شيء، وحين اخترت معهد التمثيل فقد كنت أصفي حساباتي مع كل الأشياء الأخرى. لم أكن اعرف أن المرأة حين تمارس الفن في هذا الوطن تفقد قيمتها.
كنت أسمع كلام الناس ولم أكن أعيره أي اهتمام؛ كانوا يقولون إن الممثلة عاهرة، والفن عهر والممثلين منحلون خلقيا، نوع من البشر متهتك بلا قيم ولا مبادئ، يعيشون المسرح حتى في حياتهم، ويكذبون على أنفسهم وعلى عواطف الناس. ورغم كل ذلك فإن هذه الأقاويل وغيرها لم تكن تمثل بالنسبة لي أي شيء.. كانت الخشبة كل حياتي.. ليلي ونهاري حين كنت أصعد فوقها أحس وكأن الوجود اختزل في ذاتي، وأن الحياة خارج جسدي عدم فارغ.. وكان الناس ينظرون إلي نظرة فيها انحطاط . ومن أجل المداراة يقولون: برافو.. بعضهم يقول (تأخذ هيئة خطيب داعية: .."العري تهتك والمرأة شيطان أبي إلا أن يسجد وكان من الظالمين فالمرأة بلحمها العاري تثير الفتنة.. والفتنة أشد من القتل.. تزرع الشوك في مشاعر المواطنين بفعلها هذا.. فعل تستحي منه الملائكة ولهذا وحماية لمشاعر المؤمنين من الفتنة.. حماية لمجتمعنا. وجب محاكمتها محاكمة علنية" )
والبعض في المقاهي يقول:
- هل رأيت كيف عرت فخذها…
- وماذا تريد؟ هؤلاء الممثلات تعرف قيمتهم.. المشكل فيهن لا في.. هم المكبوتون. مجتمع مقموع حين يرى طرفا من جسد المرأة فوق الخشبة يتهيج كالكلب المسعور يصيبه السعار، في حين لا يعرفون أن العري فوق الخشبة ليس من الضروري أن يكون يهدف الإثارة كما تعودوا.. نوع من العواطف الرخيصة ألفوها.. وإنما فيه كذلك سمو بالجسد.. تقديس له.. ورغم كل معاناة الأقاويل ومعاناة المرضى من ناس المسرح.. مخرج يفكر في الفراش قبل الإخراج، وصاحب وكالة إشهارية يتاجر في الصور العارية… وممثل يستحلم من المداعبات البريئة كنت أعيش عالمي: المسرح..
عالم الوهم الجميل
المكان الرحب للتنفس بعيدا عن عيون الناس المتحجرين المترعين في قيم بالية..
إن الذي لا يتمتع بالقدرة على التخيل ولا يتذوق الفن ليس إنسانا.. الجسد لوحة المخرج الجميلة الألوان فيها مشاعر الممثل..
الممثل يوميا ينتحر أمام أعين الناس يعطي من دمه..
من انفعالاته من شرايين عصبه، إليهم يقدم عذابه في صحن من ذهب.. لهذه الجماهير التي تصفق.. آه التصفيق (يسمع تصفيق) لم أقل لكم صفقوا.. أصبحت أكره التصفيق لأن مثل هذه المشاعر سطحية بسيطة تشلني.. تزرع الشوك في جلدي.. رشات جلدية تحرق الممثل.. يتوهم نفسه نجما يصعد في العلياء إلى أن يكشف أنه يغوص في قاع الجحيم، مصدوع الهيكل.. آه التصفيق.. أن تصفق لإنسان معناه أن يأتي إليك ليعبر عن مشاعر صادقة فتصفق.. دناءة.. عاشق يقول لمحبوبته كلاما منتزعا من الأعماق.. وهي تصفق.. رد فعل بسيط.. مفارقة صارخة، ثم إن نفس الناس الذين يصفقون هم أنفسهم الذين يلوحون بالكلمات المكهربة في المقاهي، المسرح الذي يصفق فيه الناس مسرح بسيط للضحك الرخيص.. أذكر أنني كنت أحلم بمسرح فيه المشاعر المتوهجة، مسرح الخيط الرفيع من المشاعر الذي تحسه وأنت تعيش شخصيتك رغم عزلتك فوق الخشبة.. مسرح لا يطهر العواطف فقط.. بل الأفكار.. تطهير مزدوج للقلب والدماغ.. هذا المسرح لم يوجد بعد.. أعطاني الأمل في وجوده شخص مثل لي حلما آمنت به كقصيدة شعر، كشمس في ليل حالك.. كان يدرس معي.. محملا بالكثير من الأسئلة بحب جارف لحلم المسرح الذي لم يخلق بعد.. كان يتماهى مع «تريبليف» ويقول (تقلد واصل) إن المسرح الذي يسعى إليه لم يخلق بعد.. نصوصه لم تكتب.. خشباته لم تبن (ترجع لطبيعتها) وفي وحدته يردد دائما (تعيد تقليده) «مطلوب أشكال جديدة.. فإن لم تكن موجودة فالأفضل لا شيء» «واصل» هذا كان عاشقا للعزف على الجيتارة يدخن سجائره في صمت، يحب العزلة والسباحة في الخيال حتى ذهب.. ذهب في صمت (صمت) نعم انتحر.. ذهب بعيد نحو النهر.. الذي كان يحب الجلوس قربه.. وهناك علق نفسه في جذع شجرة .. شنق جسده المعذب.. وترك جيتارته يحملها الماء.. بعد أن أحرق كل ما كتب.. هو الذي كان يعطيني الإحساس الوهاج.. بأن علينا أن نخلق مسرحا مغايرا وحين ذهب انغلقت أمامي كل الأبواب.. واشتد أمام وجهي باب الحلم.. فوجدتني حين تخرجت من المعهد.. أقبل الواقع كما هو.. واعمل في هذا المسرح الميت الجاف.. بلا عواطف.. مسرحا يكرر نفسه وأسئلته ومضامينه.. مسرحا يكرس ما هو سائد ولا يقدم أفقا للمتخيل.. عكس ما كنت أدرس وما كنت أحلم به.. آه.. كم حلمت بصدق.. بحب وإحساس مرهف.
(تنظر سارحة نحو المرآة تتأمل جسدها بإمعان)
أيها الجسد.. كم حلمت.. كم من شخصية ارتسمت عليك.. منها من ضاع ومنها من يزال يرزح تحت أغلالك.. شفاف كنت أرى فيك عدة أرواح عشت معها وعاشت معك.. بداخلك نحاورك.. آه.. هذي يدي أم يد من؟ ساعدي.. إنني أرى ثقوبا دقيقة.. إنها ليست ثقوبي أنا.. إنها ثقوب إبر الهيروين «لماري تايرون»
(تجلس على الكرسي تضيف بصوت هادئ منفصل)
آخذ هذا الدواء لأنه ليس هناك شيء يستطيع أن يوقف الألم كل الألم. أقصد في يدي (ترفع يداها وتنظر إليها بتعاطف كئيب) لا رعشة بهما الآن.. يداها المسكينتان ولكن منذ زمن طويل كانا من أجمل ما بي.. هما وشعري وعيناي وكان لي قوام رشيق أيضا (نبرتها تبتعد أكثر في شبه حلم).
كانت يدا موسيقى، كنت اعشق البيانو اجتهدت كثيرا في دروس الموسيقى في الدير.. كانت الأم اليزابيث ومدرسة الموسيقى يقولان إن موهبتي أكثر من أي تلميذة أخرى.. وكان أبي يدفع لدروس خاصة لقد دللني كثيرا. يفعل أي شيء أطلبه. كان سيرسلني الى أوربا لأدرس بعد تخرجي من الدير. وربما ذهبت لولا أنني وقعت في حب السيد تايرون.. أو لربما أصبحت راهبة كان عندي حلمان أول أن أصبح راهبة وهذا كان الأجمل، والثاني أن أصبح موسيقية.
(تصمت لوهلة ناظرة ليديها بتبات)
لم أمسك البيانو لسنوات طويلة، حتى لو رغبت في العزف فلن أستطيع بهذه الأصابع المشوهة بعد زواجي حاولت أن استمر في التدريب ولكن كانت محاولة فاشلة، الفنادق الرخيصة القطارات القذرة.. ترك الولاد وعدم وجود بيت (تحدق في يديها باشمئزاز غريب) كم تبدو يدي قبيحة ومشوهة كما لو كانا قد قاسا من حادث رهيب (تطلق ضحكة صغيرة غريبة) أظن أنهما فعلا قد قاسا من حادث لو فكرت جيدا.
(فجأة تدفع يديها خلف ظهرها) لن أنظر إليهما (ثم بتحد وتأكيد لنفسها) ولكن حتى يداي لن يستطيعا لمسي الآن (تجلب يديها أمامها متعمدة تحدق بهما بهدوء) إنهما بعيدتان.. يمكنني رؤيتهما ولكن الألم قد زال ذهب به الدواء.. هذا الدواء.. إنه يقتل الألم.. يرجعك الى الوراء.. حتى تبتعد عن متناول يده يجعل الماضي هو الحقيقة الوحيدة.
(تنتهي من تشخيصها تتكوم وكأن بها برد وتنتحب بكاءا حارا)
آه إنني أبكي.. دموعا أحسها ساخنة.. دافئة.. تنزل على وجنتي .. آه.. إنها دموع حقيقية.. كل هذا العشق وكل هذا الحلم.. وهذه الجمرات بداخلي.. فماذا وقع لي إذن؟ أي هاوية ردمتني؟ هل ما كنت أعيشه خطأ؟ أم إن ما فيه الآن هو الخطأ؟ لا أعرف ماذا أقول؟ .. ولكني وجدت نفسي قد أحببت من غير أن أتوقع.. أحببت رجلا وأحبني فأصبحت أقول مع نفسي.. إن هذا المسرح فراغ.. الكل فيه وهم.. الفن كذب على العواطف.. وهم نموه على ذواتنا على فشلنا في الحياة.. على خيانتنا، خذلاننا في المعيش واليومي.. هو ما يجعلنا نتعاطى الفن.. لكي نخبئ فشلنا في الحياة.. أقول هذا لأنني وجدت نفسي أعيش لحظة حب.. لقد أحببت رجلا.. لماذا أعيد هذا الكلام؟.. هل أحبه فعلا؟.. لا أعرف. وهل ما أعيشه هو الحب؟ لا أدري.. رجل عادي لا يفهم في الفن؟.. أنا محلقة في السماء وهو لا يؤمن إلا بمنطق الواقع.. أنا ممثلة أحرك الفراغ.. وأخلق منه حيوات متعددة.. هذا الكرسي مثلا أحركه أبعث فيه العواطف أجعل منه شيئا ذا قيمة (تأخذ الكرسي وتلعب معه في هيئة فرس، ثم حصن) أما هو فلا يرى الواقع الا من جانبه المادي المحض.. من منطق مردوديته الاستهلاكية.. ورغم هذا التناقض بيني وبينه فإنني أستمر في العيش معه.. هل هو حب أم رغبة في التدمير؟ لا أدري؟ .. ولكن شلني حبه.. حطمني.. ورغم ذلك أنا منتشية.. هو يكره فني.. يرى في علاقتي مع أصدقائي الممثلين ميوعة وتهتكا أخلاقيا.. هو لا يؤمن بشيء اسمه الفن.. ورغم ذلك أجدني مندفعة نحوه. هل هو حب أم لا؟ لا أعرف.. ربما أجدني في حاجة الى جسد من لحم ودم وعظم..بعدما مللت الفراغ.. هل فقدت إيماني في المتخيل.. فاكتشفت أن هذا الكرسي الذي أحركه وأخلق منه غيرما هو يبقى في النهاية غير كرسي من خشب جامد.. تعبت إنني منهوكة (تسقط على الكرسي) أطياف.. «نينا» تحاصرني.. توقظ في الجمرات الملتهبة.. أحن «نينا» التي ترقد في (تقف متهالكة وهي تعيش شخصية «نينا»).. كم تعبت لو أستريح. لو أستريح. أنا نورس.. ليس هكذا .. أنا ممثلة.. نعم حقا. لكنه هو .. لم يكن يؤمن بالمسرح كان يسخر من أحلامي .. وشيئا فشيئا فقدت أنا أيضا إيماني.. وخار عزمي.. ثم فوق ذلك هموم الحب.. والغيرة.. والخوف الدائم على الطفل.. أصبحت تافهة.. مثلت بلا معنى.. لم أكن أعرف ماذا أفعل بيدي.. ولا أجيد الوقوف على الخشبة.. ولا أتحكم في صوتي.. أنا نورس.. كلا ليس هكذا عم أتحدث؟ أتحدث عن المسرح.. الآن لم أعد كذلك.. أنا الآن ممثلة حقيقية أمثل باستمتاع بإعجاب.. لأنتشي على الخشبة أسير أفكر.. وأفكر، وأشعر بقواي الروحية تنمو يوما بعد يوم… فهمت أن المهم في عملنا سواء نلعب على المسرح –أم نكتب- ليست الشهرة.. ليس البريق ليس ما كنت أحلم به.. بل القدرة على الصبر.. فلتعرف كيف تحمل صليبك.. ولتؤمن إنني أومن ولذلك لا تألم بتلك الدرجة وعندما أفكر بدوري في الحياة لا أعود أخشاها.
(تقف لحظة صمت)
ولكن أين الإيمان؟ وأين هو الصليب؟ إنني منخورة الداخل فارغة بلا هدف أسير.. وهن عزمي.. وتلاشى إيماني.. وحتى هو ربما لأنه يعذبني أتمسك به، لأنه خلال ضربه وعنفه وتعذيبه لي أحس بوجوده.
(تخرج من صندوق دمية ضخمة عارية. تأخذ سوطا ترسم شاربا بقلم أسود على وجهها وتضع فوق رأسها قبعة تلبس حذاء جنود ضخم، تمشي بخطوات عسكرية)
آه عزيزتي.. كنت نائمة.. مازلت أحبك.. لكنك تخفين أشياءا عديدة آه ياعزيزتي.. صراخك يجعلني أتمتع بوجودي.. وأقول مع نفسي إنني موجود (صمت) أين تنظرين؟ هنا.. أو هناك.. آه في السقف (صمت) يبدو ضخما وواسعا.. أين سرحت عيناك؟ .. إيه.. في تلك الحشرة الضخمة اللاصقة في السقف (صمت) تريدين أن أقتلها.. حاضر.. انظري الى سأقضي عليها هكذا .. سأضغط على أمعائها الصفراء والخضراء.. إنها صلبة.. ولكنها لن تقهرني سأحولها الى نقطة دم صغيرة… تحت حذائي (صمت) لم يبق لك حشرة أخرى تعلقين عليها عيونك الجميلة.. حدقي هنا.. الآن.. في عيني إنني أقرأ ما تقوله عيناك.. حدقي جيدا (صمت) العالم من غيرك أكذوبة هل تريدين أن أحكي لك قصة المرأة التي شنقت نفسها لأن وزجها لم يرد أن يمارس معها الجنس، هل تعرفين أين كان
(صمت) كان يقضي حاجته.. آه حكيتها لك؟.. سأحكي لك إذن قصة الفتاة التي انتحرت لأنها خبأت رسالة عشيقها في سروال زوجها… هذه أيضا تعرفينها (صمت) وماذا سنفعل الآن؟.. لا أريد أن نبقى هكذا.. لابد أن نفعل شيئا.. لا أتحمل الفراغ.. يذكرني بالموت.. يجب أن نملأ وقتنا بأي شيء. آه.. الضرب.. هل أضربك؟.. نعم سأضربك.. أين هذه المرة؟ في دماغك.. سأضربك بقوة أكثر.. اصرخي أكثر حتى أسمع توجعاتك جيدا.
(تأخذ في الضرب. تنفجر الدمية. ترتخي فوقها (متهالكة). ثم تنهض بإعياء. تمسح عنها الأصباغ. وتغير ملابسها وتضعها في صندوق).
لقد أصبحت لا أومن بهذا الفن الذي يسمونه عظيما. لماذا؟ أقولها معكم زمعي.. ربما لأنها مهنة الوهم.. وأنني بقدر ما عشت مشاعر وهمية أخاف أن أبقى وحيدة أخاف من العزلة في الحياة.. ولكن خوفي ليس خوف ممثلة. إنه خوف امرأة تعاني وضعا شاذا في بلد متخلف. وضعا يجعلها حين تعيش وحدها تصبح متهمة، وضعا لا يرى في المرأة آلة للتفريخ والزواج ورغم أنني أثور على هذا الواقع داخليا.. لكن لا أملك أن أفعل شيئا أخاف وأرتكن لنفسي وأفكر بمنطق امرأة عادية وبسيطة وأفكر فقط برجل ذو شوارب ضخمة. وأطفال يملأون البيت زعيقا وصراخا من حولي.. أظن الآن أنني مارست المسرح ربما لأنه لم يكن هناك رجل، وحين جاء الرجل ملأ الشاغر في حياتي فذهب الفن.. ولكن كذلك لكي نمارس الفن لا بد أن تتحرر نظرتنا القامعة لجسد المرأة أن نتعامل مع العري بطلاقة (تنظر إلى جزء من فخذها العاري) أفعل هذه الأشياء وأنا أخاف من زوجي لأنني جئت فقط لأعتذر لكم فوجدتني أتحدث كثيرا ربما لأبحث عن مبرر مع ذاتي.. ربما أن الممثلة في جعلتني أتعرى أمامكم، هاته الممثلة التي كانت.. والتي أرى من خلالها خطأي واضحا .. إنني لم أختر بقناعة كنت أفرغ ما لم أعشه في الواقع.. كنت أعيش الفراغ في الخشبة في حين أن الفن يجب أن يعاش انطلاقا من الامتلاء. يجب أن تكون الرغبة ممتلئة.. أن تكون الروح ناضجة. روح الفنان وكذلك روح الجمهور حتى نختار بقناعة.. لقد كنت أسير في هذا الطريق ليس انطلاقا من قناعة ولكن بحكم العادة.. وبخكم الأشياء التي كان من الممكن أن أفعلها ففعلتها.. فقد وجدت نفسي أمثل بدون أن أطرح السؤال.. بدون أن أعرف طبيعة هاته الطريق وأنا الآن أقولها: على كل فنان.. كل ممثل أن يطرح على نفسه السؤال يجب أن يعيش قلق الأسئلة يوميا.. لماذا أنا هكذا؟ لماذا الناس هكذا؟ لماذا المسرح في المجتمع؟.. هل هو السبيل الوحيد؟ ما يبرر اختياري؟ إذا لم أمثل ماذا سيقع لي؟ وماذا سيقع للناس؟ لأن مهمة الفنان ليست كأي مهنة، إنها تكسير للثابت. مهنة (السؤال القلق).
(تنتبه لحظة للخلف فتجد حارس المسرح وهو (يتلصص عليها في هاته اللحظة تشتغل الأضواء. فيظهر أن الجمهور الذي كان هو مجرد دمى).
الممثلة: ماذا هناك؟
الحارس؟ فلتسمحي لي.. هناك سيد بالخارج يسأل عنك
الممثلة: قل له إنني آتية.
الحارس: (يهم بالخروج) ولكن اسمحي لي بملاحظة
الممثلة: بخصوص ماذا؟
الحارس: بخصوص ما رأيت الآن. أظنها المسرحية الجديدة
الممثلة: (ساهية لحظة) تفضل
الحارس:لأول مرة أحس أنك لا تبالغين في تمثيبلك. بل عشت شخصيتك بعمق مما أكسبك صدقا وحرارة
الممثلة: شكرا ولكن هذه ليست مسرحية جديدة ولا مسرحية أصلا.
الحارس: على أية حال لا أعرف لماذا تسمون ما ليس بمسرح مسرحا فتكذبون بذلك. على الناس
الممثلة: وما أدراك أنت بالمسرح؟
الحارس: أنا. اعذريني عن فضولي الزائد. ولكن عشت داخل المسرح اربعين سنة رأيت جميع الممثلين، الكتاب، المخرجين، رأيتهم في جميع حالاتهم.. كما شاهدت جميع المسرحيات التي قدمت فوق هذه الخشبة، وما خرجت به هو أن المسرح كلما اقترب من الحياة والطبيعة كان صادقا وأصبح بذلك فنا عظيما وكلما ابتعد عنهما وحاول أصحابه أن يهرجوا تحول إلى مضيعة وقتلا للوقت.
الممثلة: ملاحظة ذكية..
الحارس: أقول هذا لأنني أنا الذي أحمل مصائبكم
الممثلة: مصائبنا
الحارس: نعم حينما تخرجون في منتصف الليل وتذهبون للسهر أو النوم تتركون لي وحدي هاته العلبة السوداء المأهولة بالكائنات فتخرج لي الشخصيات منها. يصبح هذا الفضاء كمستشفى شخصيات معذبة. تناديني وتصرخ.. واحدة تقول إنها لم تقدم بالصورة المطلوبة وأخرى تشتكي من ممثل استعملها لإضحاك الجمهور عليها وثالثة توضح أن المخرج لم يفهمها.. شخصيات عديدة.. تربطني بها صداقة قديمة.. وقد قضيت عمري أنفس عنها وأصلح ما اعوج فيها.
الممثلة: هذا جميل. لم يخطر ببالي..
الحارس: ولن يخطر ببالك لأن لا أحد فكر في وكأني لست من الدنيا. ربما هذا عيبي فلا أنا من ناس المسرح ولا من ناس الواقع بين هذا وذاك. عتبة الخروج والدخول ولكن ولا مرة في حياتي أعطيت لي فرصة لكي أتكلم.
الممثلة: ها أنت تكلمت الآن.
الحارس: نعم تكلمت لأني أعرف أنك ستذهبين.
الممثلة: ولماذا لم تقل للآخرين؟
الحارس: يكفيني أن أربط صداقة حقيقية مع الشخصيات المريضة التي يتركونها..
الممثلة: المريضة..
الحارس: نعم. خطأك أنت دخلت هذا المسرح لأنه مريض. أنا الذي أعرفه فيه جرثومة عفنة تكبر يوما عن يوم..
الممثلة: ما هي؟
الحارس: إنهم يمارسون الفن وعيونهم مغلقة وآذانهم لا تسمع شيئا. لا يتنفسون هواء الحارات التي يسكنونها. ولا يصغون لقلق الناس البسطاء الذين يشاهدونهم، خذيني أنا مثلا.. لا أحد فيهم فكر أن يسألني عن إحساسي اتجاه هذا المشهد أو ذاك.. مجرد بالونات هوائية منتفخة بالكذب والرياء.. هؤلاء هم ناس هذا المسرح. ولهذا فعندما تذهبين.. لا تتأسفي على المسرح فهناك الحياة. فهي كبيرة وواسعة تستحق أن تعاش، فحاولي أن تعيشها بكل قوة
(الممثلة تبقى واقفة في خشوع كأنها تودع هذا الفضاء في صمت ثم تخرج مسرعة)
الحارس: (كأنه يخاطب شخصيات واقعية فوق الخشبة) لا. ليس الآن. العرض سيبدأ بعد قليل.
(يخرج)
(يسمع ضجيج الجمهور بالخارج، وهم يتنون التذاكر. صوت جرس مسترسل يعلن عن قرب بداية العرض. أصوات الممثلين وهم في الكواليس. يلبسون ملابسهم، مرور بعضهم، وحركة دائمة للتقنيين. ثم ظلام . صمت شامل تسمع الدقات الثلاث. صمت. نهاية)
بوسلهام الضعيف
مكناس – الرباط
ـ ممثلة في الخامسة والعشرين من عمرها
- حارس مسرح.
(مرتفع خشبي مستطيل يشكل خشبة، في الوسط مرآة ضخمة، تبدو في العمق جوقة من المتفرجين هرمين وقد علاهم الغبار بألبسة رثة، وملامح باهتة كأنهم خرجوا للتو من قبورهم، حركاتهم بطييئة، حين يضحكون يبدون وكأنهم يبكون، وحين يرفعون أياديهم للتصفيق تسمع رجات عنيفة مزعجة لا حياة فيها، تدخل ممثلة شابة عمرها خمسة وعشرون عاما، تلبس لباسا أسودا تصعد فوق المرتفع الخشبي تواجه ذلك الجمهور).
الممثلة: كان من الممكن أن أكون مندمجة في جلد الشخصية التي سأعيشها، أن أكون قد اختليت في غرفة الماكياج بعد أن عشت فيها حالة التحول من الإنسانة العادية إلى الشخصية المتخيلة، لكن ما وقع هو أنني بكل بساطة لن .. نعم لن أمثل أمامكم هذه الليلة (صمت) اسمحوا لي إنني أعتذر أمامكم لأن هناك شيئا حطم حياتي، جعلني أتيه في متاهة هذا العالم… أصبحت عمياء لا أعرف أين أسير، فقدت كل الأشياء الجميلة.. أسأل نفسي لماذا؟ ولكن لا أعرف ماذا وقع؟ هل لأنني أخطأت في اختياري؟ أم أن الآخرون هم المخطئون؟ أصبحت حائرة.. منشطرة بين الفن والحياة.. ولكن لماذا هذا التمزق؟ إن اختياري جاء كقناعة وليس بالصدفة أنا التي كنت أنتقد الأخريات.. هاته تمارس المسرح لمجرد الظهور.. والأخرى كنزوة عابرة.. (وثالثة كانت في الجامعة تعيش محبطة قانطة من دراستها ورأت في الحي الجامعي طلبة المسرح فمثلوا لها الانشراح والانطلاق)، أما أنا فلا.. أنا لا.. لست منهن، (تنفعل وتصرخ، ثم تعود لهدوئها) ولكن رغم اقتناعي بهذا الاختيار.. أصبحت منتزعة بين الفن والحياة، بين المسرح والعائلة (تجلس مستكينة ثم تظهر كطفلة في حركاتها).
أذكر بداياتي الأولى…
أول لحظة.. رأيت فيها نور الحياة تذوقت طعم الفن.. فوهبت حياتي له. نسيت كل شيء.. عشت عشق المسرح لأجل المسرح، فهل كنت أعيش وهما يتحلى عن الحياة؟ كنت كراهبة في محراب الفن كل شيء يهون في سبيله ولا يضاهي وجوده أي شيء، وحين اخترت معهد التمثيل فقد كنت أصفي حساباتي مع كل الأشياء الأخرى. لم أكن اعرف أن المرأة حين تمارس الفن في هذا الوطن تفقد قيمتها.
كنت أسمع كلام الناس ولم أكن أعيره أي اهتمام؛ كانوا يقولون إن الممثلة عاهرة، والفن عهر والممثلين منحلون خلقيا، نوع من البشر متهتك بلا قيم ولا مبادئ، يعيشون المسرح حتى في حياتهم، ويكذبون على أنفسهم وعلى عواطف الناس. ورغم كل ذلك فإن هذه الأقاويل وغيرها لم تكن تمثل بالنسبة لي أي شيء.. كانت الخشبة كل حياتي.. ليلي ونهاري حين كنت أصعد فوقها أحس وكأن الوجود اختزل في ذاتي، وأن الحياة خارج جسدي عدم فارغ.. وكان الناس ينظرون إلي نظرة فيها انحطاط . ومن أجل المداراة يقولون: برافو.. بعضهم يقول (تأخذ هيئة خطيب داعية: .."العري تهتك والمرأة شيطان أبي إلا أن يسجد وكان من الظالمين فالمرأة بلحمها العاري تثير الفتنة.. والفتنة أشد من القتل.. تزرع الشوك في مشاعر المواطنين بفعلها هذا.. فعل تستحي منه الملائكة ولهذا وحماية لمشاعر المؤمنين من الفتنة.. حماية لمجتمعنا. وجب محاكمتها محاكمة علنية" )
والبعض في المقاهي يقول:
- هل رأيت كيف عرت فخذها…
- وماذا تريد؟ هؤلاء الممثلات تعرف قيمتهم.. المشكل فيهن لا في.. هم المكبوتون. مجتمع مقموع حين يرى طرفا من جسد المرأة فوق الخشبة يتهيج كالكلب المسعور يصيبه السعار، في حين لا يعرفون أن العري فوق الخشبة ليس من الضروري أن يكون يهدف الإثارة كما تعودوا.. نوع من العواطف الرخيصة ألفوها.. وإنما فيه كذلك سمو بالجسد.. تقديس له.. ورغم كل معاناة الأقاويل ومعاناة المرضى من ناس المسرح.. مخرج يفكر في الفراش قبل الإخراج، وصاحب وكالة إشهارية يتاجر في الصور العارية… وممثل يستحلم من المداعبات البريئة كنت أعيش عالمي: المسرح..
عالم الوهم الجميل
المكان الرحب للتنفس بعيدا عن عيون الناس المتحجرين المترعين في قيم بالية..
إن الذي لا يتمتع بالقدرة على التخيل ولا يتذوق الفن ليس إنسانا.. الجسد لوحة المخرج الجميلة الألوان فيها مشاعر الممثل..
الممثل يوميا ينتحر أمام أعين الناس يعطي من دمه..
من انفعالاته من شرايين عصبه، إليهم يقدم عذابه في صحن من ذهب.. لهذه الجماهير التي تصفق.. آه التصفيق (يسمع تصفيق) لم أقل لكم صفقوا.. أصبحت أكره التصفيق لأن مثل هذه المشاعر سطحية بسيطة تشلني.. تزرع الشوك في جلدي.. رشات جلدية تحرق الممثل.. يتوهم نفسه نجما يصعد في العلياء إلى أن يكشف أنه يغوص في قاع الجحيم، مصدوع الهيكل.. آه التصفيق.. أن تصفق لإنسان معناه أن يأتي إليك ليعبر عن مشاعر صادقة فتصفق.. دناءة.. عاشق يقول لمحبوبته كلاما منتزعا من الأعماق.. وهي تصفق.. رد فعل بسيط.. مفارقة صارخة، ثم إن نفس الناس الذين يصفقون هم أنفسهم الذين يلوحون بالكلمات المكهربة في المقاهي، المسرح الذي يصفق فيه الناس مسرح بسيط للضحك الرخيص.. أذكر أنني كنت أحلم بمسرح فيه المشاعر المتوهجة، مسرح الخيط الرفيع من المشاعر الذي تحسه وأنت تعيش شخصيتك رغم عزلتك فوق الخشبة.. مسرح لا يطهر العواطف فقط.. بل الأفكار.. تطهير مزدوج للقلب والدماغ.. هذا المسرح لم يوجد بعد.. أعطاني الأمل في وجوده شخص مثل لي حلما آمنت به كقصيدة شعر، كشمس في ليل حالك.. كان يدرس معي.. محملا بالكثير من الأسئلة بحب جارف لحلم المسرح الذي لم يخلق بعد.. كان يتماهى مع «تريبليف» ويقول (تقلد واصل) إن المسرح الذي يسعى إليه لم يخلق بعد.. نصوصه لم تكتب.. خشباته لم تبن (ترجع لطبيعتها) وفي وحدته يردد دائما (تعيد تقليده) «مطلوب أشكال جديدة.. فإن لم تكن موجودة فالأفضل لا شيء» «واصل» هذا كان عاشقا للعزف على الجيتارة يدخن سجائره في صمت، يحب العزلة والسباحة في الخيال حتى ذهب.. ذهب في صمت (صمت) نعم انتحر.. ذهب بعيد نحو النهر.. الذي كان يحب الجلوس قربه.. وهناك علق نفسه في جذع شجرة .. شنق جسده المعذب.. وترك جيتارته يحملها الماء.. بعد أن أحرق كل ما كتب.. هو الذي كان يعطيني الإحساس الوهاج.. بأن علينا أن نخلق مسرحا مغايرا وحين ذهب انغلقت أمامي كل الأبواب.. واشتد أمام وجهي باب الحلم.. فوجدتني حين تخرجت من المعهد.. أقبل الواقع كما هو.. واعمل في هذا المسرح الميت الجاف.. بلا عواطف.. مسرحا يكرر نفسه وأسئلته ومضامينه.. مسرحا يكرس ما هو سائد ولا يقدم أفقا للمتخيل.. عكس ما كنت أدرس وما كنت أحلم به.. آه.. كم حلمت بصدق.. بحب وإحساس مرهف.
(تنظر سارحة نحو المرآة تتأمل جسدها بإمعان)
أيها الجسد.. كم حلمت.. كم من شخصية ارتسمت عليك.. منها من ضاع ومنها من يزال يرزح تحت أغلالك.. شفاف كنت أرى فيك عدة أرواح عشت معها وعاشت معك.. بداخلك نحاورك.. آه.. هذي يدي أم يد من؟ ساعدي.. إنني أرى ثقوبا دقيقة.. إنها ليست ثقوبي أنا.. إنها ثقوب إبر الهيروين «لماري تايرون»
(تجلس على الكرسي تضيف بصوت هادئ منفصل)
آخذ هذا الدواء لأنه ليس هناك شيء يستطيع أن يوقف الألم كل الألم. أقصد في يدي (ترفع يداها وتنظر إليها بتعاطف كئيب) لا رعشة بهما الآن.. يداها المسكينتان ولكن منذ زمن طويل كانا من أجمل ما بي.. هما وشعري وعيناي وكان لي قوام رشيق أيضا (نبرتها تبتعد أكثر في شبه حلم).
كانت يدا موسيقى، كنت اعشق البيانو اجتهدت كثيرا في دروس الموسيقى في الدير.. كانت الأم اليزابيث ومدرسة الموسيقى يقولان إن موهبتي أكثر من أي تلميذة أخرى.. وكان أبي يدفع لدروس خاصة لقد دللني كثيرا. يفعل أي شيء أطلبه. كان سيرسلني الى أوربا لأدرس بعد تخرجي من الدير. وربما ذهبت لولا أنني وقعت في حب السيد تايرون.. أو لربما أصبحت راهبة كان عندي حلمان أول أن أصبح راهبة وهذا كان الأجمل، والثاني أن أصبح موسيقية.
(تصمت لوهلة ناظرة ليديها بتبات)
لم أمسك البيانو لسنوات طويلة، حتى لو رغبت في العزف فلن أستطيع بهذه الأصابع المشوهة بعد زواجي حاولت أن استمر في التدريب ولكن كانت محاولة فاشلة، الفنادق الرخيصة القطارات القذرة.. ترك الولاد وعدم وجود بيت (تحدق في يديها باشمئزاز غريب) كم تبدو يدي قبيحة ومشوهة كما لو كانا قد قاسا من حادث رهيب (تطلق ضحكة صغيرة غريبة) أظن أنهما فعلا قد قاسا من حادث لو فكرت جيدا.
(فجأة تدفع يديها خلف ظهرها) لن أنظر إليهما (ثم بتحد وتأكيد لنفسها) ولكن حتى يداي لن يستطيعا لمسي الآن (تجلب يديها أمامها متعمدة تحدق بهما بهدوء) إنهما بعيدتان.. يمكنني رؤيتهما ولكن الألم قد زال ذهب به الدواء.. هذا الدواء.. إنه يقتل الألم.. يرجعك الى الوراء.. حتى تبتعد عن متناول يده يجعل الماضي هو الحقيقة الوحيدة.
(تنتهي من تشخيصها تتكوم وكأن بها برد وتنتحب بكاءا حارا)
آه إنني أبكي.. دموعا أحسها ساخنة.. دافئة.. تنزل على وجنتي .. آه.. إنها دموع حقيقية.. كل هذا العشق وكل هذا الحلم.. وهذه الجمرات بداخلي.. فماذا وقع لي إذن؟ أي هاوية ردمتني؟ هل ما كنت أعيشه خطأ؟ أم إن ما فيه الآن هو الخطأ؟ لا أعرف ماذا أقول؟ .. ولكني وجدت نفسي قد أحببت من غير أن أتوقع.. أحببت رجلا وأحبني فأصبحت أقول مع نفسي.. إن هذا المسرح فراغ.. الكل فيه وهم.. الفن كذب على العواطف.. وهم نموه على ذواتنا على فشلنا في الحياة.. على خيانتنا، خذلاننا في المعيش واليومي.. هو ما يجعلنا نتعاطى الفن.. لكي نخبئ فشلنا في الحياة.. أقول هذا لأنني وجدت نفسي أعيش لحظة حب.. لقد أحببت رجلا.. لماذا أعيد هذا الكلام؟.. هل أحبه فعلا؟.. لا أعرف. وهل ما أعيشه هو الحب؟ لا أدري.. رجل عادي لا يفهم في الفن؟.. أنا محلقة في السماء وهو لا يؤمن إلا بمنطق الواقع.. أنا ممثلة أحرك الفراغ.. وأخلق منه حيوات متعددة.. هذا الكرسي مثلا أحركه أبعث فيه العواطف أجعل منه شيئا ذا قيمة (تأخذ الكرسي وتلعب معه في هيئة فرس، ثم حصن) أما هو فلا يرى الواقع الا من جانبه المادي المحض.. من منطق مردوديته الاستهلاكية.. ورغم هذا التناقض بيني وبينه فإنني أستمر في العيش معه.. هل هو حب أم رغبة في التدمير؟ لا أدري؟ .. ولكن شلني حبه.. حطمني.. ورغم ذلك أنا منتشية.. هو يكره فني.. يرى في علاقتي مع أصدقائي الممثلين ميوعة وتهتكا أخلاقيا.. هو لا يؤمن بشيء اسمه الفن.. ورغم ذلك أجدني مندفعة نحوه. هل هو حب أم لا؟ لا أعرف.. ربما أجدني في حاجة الى جسد من لحم ودم وعظم..بعدما مللت الفراغ.. هل فقدت إيماني في المتخيل.. فاكتشفت أن هذا الكرسي الذي أحركه وأخلق منه غيرما هو يبقى في النهاية غير كرسي من خشب جامد.. تعبت إنني منهوكة (تسقط على الكرسي) أطياف.. «نينا» تحاصرني.. توقظ في الجمرات الملتهبة.. أحن «نينا» التي ترقد في (تقف متهالكة وهي تعيش شخصية «نينا»).. كم تعبت لو أستريح. لو أستريح. أنا نورس.. ليس هكذا .. أنا ممثلة.. نعم حقا. لكنه هو .. لم يكن يؤمن بالمسرح كان يسخر من أحلامي .. وشيئا فشيئا فقدت أنا أيضا إيماني.. وخار عزمي.. ثم فوق ذلك هموم الحب.. والغيرة.. والخوف الدائم على الطفل.. أصبحت تافهة.. مثلت بلا معنى.. لم أكن أعرف ماذا أفعل بيدي.. ولا أجيد الوقوف على الخشبة.. ولا أتحكم في صوتي.. أنا نورس.. كلا ليس هكذا عم أتحدث؟ أتحدث عن المسرح.. الآن لم أعد كذلك.. أنا الآن ممثلة حقيقية أمثل باستمتاع بإعجاب.. لأنتشي على الخشبة أسير أفكر.. وأفكر، وأشعر بقواي الروحية تنمو يوما بعد يوم… فهمت أن المهم في عملنا سواء نلعب على المسرح –أم نكتب- ليست الشهرة.. ليس البريق ليس ما كنت أحلم به.. بل القدرة على الصبر.. فلتعرف كيف تحمل صليبك.. ولتؤمن إنني أومن ولذلك لا تألم بتلك الدرجة وعندما أفكر بدوري في الحياة لا أعود أخشاها.
(تقف لحظة صمت)
ولكن أين الإيمان؟ وأين هو الصليب؟ إنني منخورة الداخل فارغة بلا هدف أسير.. وهن عزمي.. وتلاشى إيماني.. وحتى هو ربما لأنه يعذبني أتمسك به، لأنه خلال ضربه وعنفه وتعذيبه لي أحس بوجوده.
(تخرج من صندوق دمية ضخمة عارية. تأخذ سوطا ترسم شاربا بقلم أسود على وجهها وتضع فوق رأسها قبعة تلبس حذاء جنود ضخم، تمشي بخطوات عسكرية)
آه عزيزتي.. كنت نائمة.. مازلت أحبك.. لكنك تخفين أشياءا عديدة آه ياعزيزتي.. صراخك يجعلني أتمتع بوجودي.. وأقول مع نفسي إنني موجود (صمت) أين تنظرين؟ هنا.. أو هناك.. آه في السقف (صمت) يبدو ضخما وواسعا.. أين سرحت عيناك؟ .. إيه.. في تلك الحشرة الضخمة اللاصقة في السقف (صمت) تريدين أن أقتلها.. حاضر.. انظري الى سأقضي عليها هكذا .. سأضغط على أمعائها الصفراء والخضراء.. إنها صلبة.. ولكنها لن تقهرني سأحولها الى نقطة دم صغيرة… تحت حذائي (صمت) لم يبق لك حشرة أخرى تعلقين عليها عيونك الجميلة.. حدقي هنا.. الآن.. في عيني إنني أقرأ ما تقوله عيناك.. حدقي جيدا (صمت) العالم من غيرك أكذوبة هل تريدين أن أحكي لك قصة المرأة التي شنقت نفسها لأن وزجها لم يرد أن يمارس معها الجنس، هل تعرفين أين كان
(صمت) كان يقضي حاجته.. آه حكيتها لك؟.. سأحكي لك إذن قصة الفتاة التي انتحرت لأنها خبأت رسالة عشيقها في سروال زوجها… هذه أيضا تعرفينها (صمت) وماذا سنفعل الآن؟.. لا أريد أن نبقى هكذا.. لابد أن نفعل شيئا.. لا أتحمل الفراغ.. يذكرني بالموت.. يجب أن نملأ وقتنا بأي شيء. آه.. الضرب.. هل أضربك؟.. نعم سأضربك.. أين هذه المرة؟ في دماغك.. سأضربك بقوة أكثر.. اصرخي أكثر حتى أسمع توجعاتك جيدا.
(تأخذ في الضرب. تنفجر الدمية. ترتخي فوقها (متهالكة). ثم تنهض بإعياء. تمسح عنها الأصباغ. وتغير ملابسها وتضعها في صندوق).
لقد أصبحت لا أومن بهذا الفن الذي يسمونه عظيما. لماذا؟ أقولها معكم زمعي.. ربما لأنها مهنة الوهم.. وأنني بقدر ما عشت مشاعر وهمية أخاف أن أبقى وحيدة أخاف من العزلة في الحياة.. ولكن خوفي ليس خوف ممثلة. إنه خوف امرأة تعاني وضعا شاذا في بلد متخلف. وضعا يجعلها حين تعيش وحدها تصبح متهمة، وضعا لا يرى في المرأة آلة للتفريخ والزواج ورغم أنني أثور على هذا الواقع داخليا.. لكن لا أملك أن أفعل شيئا أخاف وأرتكن لنفسي وأفكر بمنطق امرأة عادية وبسيطة وأفكر فقط برجل ذو شوارب ضخمة. وأطفال يملأون البيت زعيقا وصراخا من حولي.. أظن الآن أنني مارست المسرح ربما لأنه لم يكن هناك رجل، وحين جاء الرجل ملأ الشاغر في حياتي فذهب الفن.. ولكن كذلك لكي نمارس الفن لا بد أن تتحرر نظرتنا القامعة لجسد المرأة أن نتعامل مع العري بطلاقة (تنظر إلى جزء من فخذها العاري) أفعل هذه الأشياء وأنا أخاف من زوجي لأنني جئت فقط لأعتذر لكم فوجدتني أتحدث كثيرا ربما لأبحث عن مبرر مع ذاتي.. ربما أن الممثلة في جعلتني أتعرى أمامكم، هاته الممثلة التي كانت.. والتي أرى من خلالها خطأي واضحا .. إنني لم أختر بقناعة كنت أفرغ ما لم أعشه في الواقع.. كنت أعيش الفراغ في الخشبة في حين أن الفن يجب أن يعاش انطلاقا من الامتلاء. يجب أن تكون الرغبة ممتلئة.. أن تكون الروح ناضجة. روح الفنان وكذلك روح الجمهور حتى نختار بقناعة.. لقد كنت أسير في هذا الطريق ليس انطلاقا من قناعة ولكن بحكم العادة.. وبخكم الأشياء التي كان من الممكن أن أفعلها ففعلتها.. فقد وجدت نفسي أمثل بدون أن أطرح السؤال.. بدون أن أعرف طبيعة هاته الطريق وأنا الآن أقولها: على كل فنان.. كل ممثل أن يطرح على نفسه السؤال يجب أن يعيش قلق الأسئلة يوميا.. لماذا أنا هكذا؟ لماذا الناس هكذا؟ لماذا المسرح في المجتمع؟.. هل هو السبيل الوحيد؟ ما يبرر اختياري؟ إذا لم أمثل ماذا سيقع لي؟ وماذا سيقع للناس؟ لأن مهمة الفنان ليست كأي مهنة، إنها تكسير للثابت. مهنة (السؤال القلق).
(تنتبه لحظة للخلف فتجد حارس المسرح وهو (يتلصص عليها في هاته اللحظة تشتغل الأضواء. فيظهر أن الجمهور الذي كان هو مجرد دمى).
الممثلة: ماذا هناك؟
الحارس؟ فلتسمحي لي.. هناك سيد بالخارج يسأل عنك
الممثلة: قل له إنني آتية.
الحارس: (يهم بالخروج) ولكن اسمحي لي بملاحظة
الممثلة: بخصوص ماذا؟
الحارس: بخصوص ما رأيت الآن. أظنها المسرحية الجديدة
الممثلة: (ساهية لحظة) تفضل
الحارس:لأول مرة أحس أنك لا تبالغين في تمثيبلك. بل عشت شخصيتك بعمق مما أكسبك صدقا وحرارة
الممثلة: شكرا ولكن هذه ليست مسرحية جديدة ولا مسرحية أصلا.
الحارس: على أية حال لا أعرف لماذا تسمون ما ليس بمسرح مسرحا فتكذبون بذلك. على الناس
الممثلة: وما أدراك أنت بالمسرح؟
الحارس: أنا. اعذريني عن فضولي الزائد. ولكن عشت داخل المسرح اربعين سنة رأيت جميع الممثلين، الكتاب، المخرجين، رأيتهم في جميع حالاتهم.. كما شاهدت جميع المسرحيات التي قدمت فوق هذه الخشبة، وما خرجت به هو أن المسرح كلما اقترب من الحياة والطبيعة كان صادقا وأصبح بذلك فنا عظيما وكلما ابتعد عنهما وحاول أصحابه أن يهرجوا تحول إلى مضيعة وقتلا للوقت.
الممثلة: ملاحظة ذكية..
الحارس: أقول هذا لأنني أنا الذي أحمل مصائبكم
الممثلة: مصائبنا
الحارس: نعم حينما تخرجون في منتصف الليل وتذهبون للسهر أو النوم تتركون لي وحدي هاته العلبة السوداء المأهولة بالكائنات فتخرج لي الشخصيات منها. يصبح هذا الفضاء كمستشفى شخصيات معذبة. تناديني وتصرخ.. واحدة تقول إنها لم تقدم بالصورة المطلوبة وأخرى تشتكي من ممثل استعملها لإضحاك الجمهور عليها وثالثة توضح أن المخرج لم يفهمها.. شخصيات عديدة.. تربطني بها صداقة قديمة.. وقد قضيت عمري أنفس عنها وأصلح ما اعوج فيها.
الممثلة: هذا جميل. لم يخطر ببالي..
الحارس: ولن يخطر ببالك لأن لا أحد فكر في وكأني لست من الدنيا. ربما هذا عيبي فلا أنا من ناس المسرح ولا من ناس الواقع بين هذا وذاك. عتبة الخروج والدخول ولكن ولا مرة في حياتي أعطيت لي فرصة لكي أتكلم.
الممثلة: ها أنت تكلمت الآن.
الحارس: نعم تكلمت لأني أعرف أنك ستذهبين.
الممثلة: ولماذا لم تقل للآخرين؟
الحارس: يكفيني أن أربط صداقة حقيقية مع الشخصيات المريضة التي يتركونها..
الممثلة: المريضة..
الحارس: نعم. خطأك أنت دخلت هذا المسرح لأنه مريض. أنا الذي أعرفه فيه جرثومة عفنة تكبر يوما عن يوم..
الممثلة: ما هي؟
الحارس: إنهم يمارسون الفن وعيونهم مغلقة وآذانهم لا تسمع شيئا. لا يتنفسون هواء الحارات التي يسكنونها. ولا يصغون لقلق الناس البسطاء الذين يشاهدونهم، خذيني أنا مثلا.. لا أحد فيهم فكر أن يسألني عن إحساسي اتجاه هذا المشهد أو ذاك.. مجرد بالونات هوائية منتفخة بالكذب والرياء.. هؤلاء هم ناس هذا المسرح. ولهذا فعندما تذهبين.. لا تتأسفي على المسرح فهناك الحياة. فهي كبيرة وواسعة تستحق أن تعاش، فحاولي أن تعيشها بكل قوة
(الممثلة تبقى واقفة في خشوع كأنها تودع هذا الفضاء في صمت ثم تخرج مسرعة)
الحارس: (كأنه يخاطب شخصيات واقعية فوق الخشبة) لا. ليس الآن. العرض سيبدأ بعد قليل.
(يخرج)
(يسمع ضجيج الجمهور بالخارج، وهم يتنون التذاكر. صوت جرس مسترسل يعلن عن قرب بداية العرض. أصوات الممثلين وهم في الكواليس. يلبسون ملابسهم، مرور بعضهم، وحركة دائمة للتقنيين. ثم ظلام . صمت شامل تسمع الدقات الثلاث. صمت. نهاية)
بوسلهام الضعيف
مكناس – الرباط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق