هاأنا اليوم بعد أن جاءني هاتف “ناديا”في ذلك الصباح الباكر ،وأيقظني صوتها ،من وهم عشت فيه طويلا (وهم نسيانك)…أعود إليك بكل ذاكرتي،أركض إلى الخلف عمرا،لأعيش ذلك الماضي ،
أو لأجتره بمرارة الإحساس الذي ينتابنا ،ويؤكد لنا ،أن الذي مضى ،لا يعود… آه “ناديا”..لماذا هتفت لي ذلك الصباح ؟ لماذا زقزق صوتك في أذني،فرحا،بريئا. صباح الخير “هدى”،إلغي كل مواعيدك لهذا المساء،إرتدي أجمل ما في خزانتك،ويجب أن يحضر معك “يوسف”و”ذكرى”..أريد أن أفتخر بأغلى صديقة لي ،أمام الجميع. أجبت
والنوم مسيطرا على كامل جسدي: ماذا حدث ؟هل عرسك هذا المساء ،وأنا آخر من يعلم؟ وبوفاء أروع صديقة ،أجبت في شبه صرخة: وهل هذا معقول؟..كل ما هناك ،أن أخي “طارق” عاد من أمريكا ،منذ يومين ومعه شهادة “دكتوراه”..ولأننا يئسنا من عودته،سنقيم حفلا ،يجب أن تحضري،تحياتي.. ورائى الكثير من التحضيرات.. أنهيت المكالمة بسرعة حتى لا أعارض.. وطار كل النوم الذي كان مسيطرا علي،وتأكدت لحظتها ،أنني لن أنام مرة أخرى.. ربما لأيام متتالية.. يا إلهي.. بعد كل هذا العمر ،تعود،كنت أعتقد دائما ،أن جراحنا القديمة،لا يمكن أن تنزف بعد أن تندمل..لا يمكن أن تؤلمنا،ولا يمكن أن نلتفت للماضي ،عندما نمر به..ونتعداه.. لم أعتقد يوما ،أن الجرح المندمل ،ممكن أن ينزف،وبقوة،لكن نزيفه يكون ،داخليا..موجعا ورهيبا،والماضي.. أبدا لم أعتقد ،أنه سيسبقني ويقف في طريقي.. يغطي كل الآفاق أمامي،يغلق كل الأبواب والنوافذ في وجهي.. آه “ناديا”..هل قدر،أن أصادفك في منعرج ما من طرقاتي ،الطويلة ،المتداخلة..وأحبك ،وتصبحين صديقتي الوحيدة..ثم أكتشف ،دون قصد منك أو مني..أنك أخت لذلك الرجل ،الذي مر بحياتي ذات صدق..وأحبني ورفضته..وعندما رحل حاملا معه.،جرحا كبيرا،إكتشفت ،كم أحببته،ثم حاولت أن أنسى،وصدقت أني نسيت..وهاهو يعود ،بشهادة كبيرة،وأقف منهارة بين ماضي رفضت أن أمنحه إياه.. وغد ،سيكون له ،بالرغم عني… ماذا قالت “ناديا”؟ يأت صوت “يوسف”المستلقي بجانبي..بعد أن لاحظ صمتي الطويل،وأنتبه لعقارب الساعة ،التي تجاوزت ،موعد مغادرتي الفراش ،بنصف ساعة.. أنتفضت مرتبكة: لا شيئ..تدعونا فقط لحفل ،بمناسبة عودة أخيها من أمريكا،هذا المساء..وتؤكد على الدعوة. -لم تخبريني من قبل ،أن لها أخ بأمريكا (يضيف يوسف بفضول بريئ).. -لم تأت مناسبة ،للحديث عنه فقط. وتنفست الصعداء،عندما تعالى صوت “ذكرى”..ماما..ماما. أسرعت إليها ،أجاهد نفسي ،كي لا يلحظ زوجي،شيئا مما حل بي ،وأنا أردد: -جهز نفسك ،لهذا المساء. – لدي موعد مع بعض الأصدقاء،سنذهب للصيد..إعتذري لي من “ناديا” وخذي “ذكرى “فقط. آه يا زوجي العزيز..لو تدري كم ذكرى سآخذ معي..لو تكتشف حجم الذكريات التي ،ستعلق بطرف فستاني..لو تعلم أني سآخذ “ذكرى”ومعها كل الماضي…لوتعرف كل هذا ،لأغلقت علي ،كل الأبواب والنوافذ.. ولمحوت من ذاكرتي صديقة إسمها “ناديا”. وكم بدا ذلك الصباح ،طويلا..وجاء المساء..(كيف أستطيع أن أنسى ،ذلك المساء)..إلتقينا إذن ،بعد كل ذلك العمر. -تأخرت بربع ساعة..(قالت “ناديا”بعد أن حملت “ذكرى”وأمسكت بذراعي). -قلت:آسفة. -قالت: لا تأسفي عزيزتي.،لا مكان اليوم في بيتنا إلا للفرح. (ورأيتك محاطا بأمك،وعمتك..وكثير من القريبات..كثير من النساء،دائما كنت محاطا بالنساء،بالمعجبات..لهذا رفضتك،وأكدت لنفسي،أنك متمسك بي ،لأنك لم تجدني ،مع المحيطات بك يوما..) -مابك “هدى” ..تعالي لأعرفك”بطارق”لقد حدثته عنك كثيرا. ونادتك “ناديا”لتخرجك من كوكبة النساء ،ولتخرجني من وهم عشت فيه طويلا(وهم نسيانك).. وجئت..وجاء الماضي متأبطا ذراعك،وجاءت نظرتك،نفس النظرة العميقة،نفس الإبتسامة المرتبكة،نفس القوام الرياضي،نفس الشعر الأسود،نفس العينان العسليتان الواسعتان،نفس الأناقة..وقفت مقابلا لي . (ياحلما جميلا ضاع في غفلة مني،قبل أن أعيش تفاصيله الرائعة..قليلا من الرحمة سيدي ،لا قدرة لي على كل هذا السحر). مبتسم قال السحر:-أهلا “هدى” ،عرفتك من حديث “ناديا”الطويل..لكن لم أجرؤ أن أصدق أنك أنت.. هتفت “ناديا”وهي تحول نظراتها بيننا: -هل تعرفها..هل تعرفينه،لم تخبراني من قبل. أجبتها وأنت تقاوم كي تبدو عاديا: -نعم ،درسنا معا في الماضي..وكانت طالبة ممتازة.(تفجر الماضي في أعماقي ،وعاد بكل تفاصيله الصغيرة ،المؤلمة..الموجعة..)..أضفت وأنت تأخذ “ذكرى “من “ناديا”وتقبلها:-كم هي جميلة..،إستسلمت “ذكرى”لمداعباتك ،على غير عادتها مع الغرباء،وراحت تضحك بكل طفولتها،وكأنها أحست أن إسمها ،من إختيارك،وأنه كان ممكنا جدا أن تكون أباها ،لولا عنادي. إنسحبت ناديا،وهي تهمس لي: سأعود حالا.. وكنت أعلم أنها ،لن تعود حالا..لأنها أكيد إكتشفت ،أنك الحلم الذي طالما ،حكيت لها عنه. -مازلت صامتة ،لم تتغيري (قلت ،بعد أن ذهبت “ناديا”). – وهل من المفروض أن أتغير.(أجبتك وأنا أطرد صمتي الطويل. -صعب أن تمر كل هذه السنوات،دون أن يتغير في الإنسان شيئا ما (قلتها ،وأنت تحول نظرك بين بطني و”ذكرى” التي راحت تركض وتلهو. -ربما غيرت أشياء أخرى غير صمتي.(قلت مؤكدة معنى نظراتك). -وأنت ،ماذا فعلت غير الدكتوراه.(سألتك بلهجة رسمية،حاولت أن أطرد بها كل العواصف التي هبت علي منذ الصباح ). -لا شيئ..إلا أنني تعلمت أن الغربة التي عشتها في أمريكا،أرحم من غربة ،مرغم أن أعيشها مع من كنت أعتقد أنها وطني..والدكتوراه ،لم تمنحني سوى حلم ،أن ألقاك. -أرجوك “طارق”..أنا إمرأة متزوجة و.. -أظن أنني منذ أن عرفتك ،وأنت إمرأة متزوجة ،لم تمنحيني أبدا فرصة أعري قلبي أمامك.(قاطعتني بلهجة من أطلقوا سراحه،بعد عمر من السجن والتعذيب). -لا فائدة من هذا الكلام.. لم يعد وقته(قلت وأنا أتابع “ذكرى”بنظراتي). -مسكين هذا الكلام.. لم يكن له وقت ،وليس له وقت ،ولن يكون له وقت.(تابعت حديثك ،بنفس اللهجة..) حيرتني لهجتك الصارمة..وأشفقت عليك من لقاء ،كان يمكن أن لا يكون،لو لم أعرف “ناديا”،وحديث ،كان يمكن أن لا يكون ،لو رافقني “يوسف”. -قلت كمن يلقي درسا في الإصلاح: إنس الماضي ،وإبدأ حياتك ،أنت رجل تتمناك ،كل النساء و.
.
قاطعتني بابتسامة تقطر حزنا..:ماذا أفعل بكل النساء ،والمرأة الوحيدة التي تمنيتها ،أخذها غيري..ثم أخبريني ،لماذا أسميت إبنتك “ذكرى”..لماذا تصرين دائما على تعذيبي..؟ إبتسمت وأنا أنظر لبطني،وأقول مازحة ،في محاولة للتخفيف من حزنك. -ولو جاء ولدا سأسميه “إسلام”. خفف مزاحي من ثورتك الهادئة فقلت: أتركي “إسلام”سأسمي به ،أول أولادي..دعينا نتقاسم أسماء الأولاد ،بعد أن عجزنا عن إقتسام أي شيئ. ولم تدري سيدي.،أني إقتسمت معك كل شيئ،ليالي الشتاء الطويلة..ليالي الأرق،ذكريات الماضي،،وكان طيفك يأتيني ،مع حبات المطر النازفة،كل خريف..مع قصائد (بابلو نيرودا)الذي تحبه..مع الأغاني، التي أعشقها..مع كل وردة تتفتح،مع كل شارع أمر به،وأذكر ،أنك ذات حلم مررت من هنا..وكثير من الأحلام ،كثير من الأوهام.. الأوهام التي أيقظتني منها “ناديا”بمكالمة واحدة..ثلاث دقائق ،كانت كافية،لإسترجاع ماض ،بكل غموضه،بكل وجعه،ونزيفه. -سألتك قبل أن أمضي: -هل ستغفر لي ؟. فاجأك سؤال ،لم تتوقعه يصدر مني،وأجبت بصدق نبضات القلب الأولى: -لم أحقد عليك ،لحظة في حياتي. أمسكت يد “ذكرى”وأنا أهمس: -أما أنا ،فيلزمني عمر أخر،حتى أغفر لنفسي..ثلاث طعنات،واحدة لك..واحدة لي. .وواحدة لرجل لم يرتكب ذنبا ،سوى أنه تزوجني. آه “ناديا” ..لماذا هاتفتني في ذلك الصباح؟لماذا سلمت لي تذكرة ذهاب للماضي،ونسيت أن تسلمي لي ،تذكرة الإياب…لماذا سيدي؟لماذا منحتني كل ذلك الحب ،كل ذلك الصدق،كل ذلك الوجع..ورفضت أن تمنحني رصاصة،أغتال بها ذاكرتي.. وأرتاح.
سامية خنين/قسنطينة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق