⏪⏬
احتضنت الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط الموارد المعرفية للحضارات المحلية والمجاورة، وأنعشت تواريخها ومنتوجها المعرفي، ومن بينها كانت الفلسفة اليونانية القديمة مورداً هاما. وبالتالي، لم يكن من الغريب أن يحظى فلاسفة اليونان، كسقراط
وأفلاطون وأرسطو، بمكانة معتبرة في الثقافة الإسلامية، وأن تتواتر أسماؤهم في المدونات الفلسفية والكلامية وفي بعض المتون العقائدية والتاريخية.
كان أرسطو صاحب الحضور الأكثر تأثيراً في الثقافة الإسلامية، وبحسب ما يذكر الباحث المصري الدكتور أشرف منصور، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، لرصيف 22، فأن أرسطو هو "الشخصية المحورية صاحبة التأثير الأكبر على فلاسفة الإسلام: الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن باجة، ابن طفيل وابن رشد. وليس في الأمر غرابة، لأن فلسفة أرسطو مثّلت قمة نضوج الفكر اليوناني والعقلانية اليونانية، وقد غطى مذهبه كل المعارف الإنسانية المعروفة في عصره، وأسهم في تشكيل الفكر الإنساني من بعده. إذ وضع أرسطو مؤلفات في المنطق، العلم الطبيعي، الميتافيزيقا، الكوزمولوجيا، علم النفس، علم الحيوان، السياسة، الأخلاق وغيرها من فروع المعرفة. ومثّل أرسطو العقلانية بالنسبة لفلاسفة الإسلام، وكانت أفكاره نقاطاً خلافية بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين المتكلمين والفقهاء".
المثير، أن حضور أرسطو المكثّف في الثقافة الإسلامية، قد انتقل شيئاً فشيئاً إلى ساحة المُتخيل، إذ نُسجت عنه الكثير من القصص والروايات التي عملت على ربطه بالسردية الإسلامية التقليدية.
كيف ظهر تأثير أرسطو في الفلسفة الإسلامية؟"حضور أرسطو المكثّف في الثقافة الإسلامية انتقل شيئاً فشيئاً إلى ساحة المُتخيل، إذ نُسجت عنه الكثير من القصص والروايات التي عملت على ربطه بالسردية الإسلامية التقليدية"
بحسب ما يذكر الدكتور أشرف منصور، فأن فلسفة أرسطو قد مثلت نقطة خلافية بين كل مفكري الإسلام، وخصوصاً في مسألة قِدَم العالم، إذ "رأى الكثير من مفكري الإسلام أن هذه النظرية متعارضة مع فكرة خلق الله للعالم. فانبرى الغزالي للهجوم على فلسفة أرسطو من أجل هذه النظرية، ودافع ابن رشد عن أرسطو، وأثبت أن قِدَم العالم لا يتناقض مع العقيدة الإسلامية بل يتوافق معها، وذهب ابن رشد من ذلك إلى أن العالم أزلي الحدوث، أي أن الله في حالة خلق دائم، أزلي وأبدي، للعالم".
يضيف منصور موضحاً عمق تأثير أرسطو في الفلسفة الإسلامية: "لقد فهم كل فلاسفة الإسلام أرسطو بتأويلات أفلاطونية محدثة، ولم يكونوا مشائين مخلصين لأرسطو ونزعته العلمية الطبيعية، إلا ابن رشد الذي أراد من شروحه على أرسطو تخليص فلسفة أرسطو من التأويلات الأفلاطونية المحدثة، والابتعاد بها عن الإطار الأفلاطوني الذي وضعت فيه من العصر السكندري، وتقديم جوهرها الطبيعي العقلاني العلمي، ولذلك كانت شروح ابن رشد هذه هي التي أثرت في أوروبا بعد ذلك، عندما احتاجت لفلسفة أرسطو، ابتداءً من القرن الثالث عشر الميلادي، بعد أن سبق للعالم الإسلامي أن احتاج لأرسطو في القرن التاسع الميلادي".
على الجهة المقابلة، فإن العديد من رجال الدين المسلمين قد انبروا للهجوم على فلسفة أرسطو، فرفضوها جملةً وتفصيلاً، ومنهم على سبيل المثال، جمال الدين القفطي، في كتابه "إخبار العلماء بأخبار الحكماء"، إذ قال في معرض ترجمته لأرسطو: "غير أنه لما جال في هذا البحر برأيه غير مستند إلى كتاب مرسل ولا إلى قول نبي مرسل، ضل في الطريق وفاتته أمور لم يصل عقله إليها حالة التحقيق، وهي بقايا استبقاها من رذائل كفر المتقدمين...".
وأيضاً ابن تيمية، والذي عمل على نقض الفلسفة الأرسطية في كتابه "الرد على المنطقيين"، إذ وجه سهام نقده لأرسطو وللفلاسفة المسلمين الذين تأثروا به، وكان مما قاله في هذا الكتاب: "أرسطو وأتباعه ليس عندهم من العلم بالله إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه... وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في (علم ما بعد الطبيعة) في (مقالة اللام) وغيرها، وهو آخر منتهى فلسفته، وبينت بعض ما فيه من الجهل...".
وفي السياق نفسه، هاجم ابن القيم الجوزية، أرسطو في كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"، إذ قال: "وقد حكى أرباب المقالات، أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو. وكان مشركاً يعبد الأصنام. وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، فقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء...".
كيف قدمت الثقافة الإسلامية أرسطو كحكيم أو ناصح؟
من القصص المهمة التي تظهر مكانة أرسطو في المُتخيل الإسلامي، ما أورده ابن النديم في كتابه "الفهرست"، من أن الخليفة العباسي عبد الله المأمون كان قد رأى في منامه أرسطو طاليس جالساً على طرف سريره، ودارت بينهما مناقشة، عندما سأله الخليفة بعض الأسئلة، ومنها سؤاله: "ما الحسن؟"، فرد عليه أرسطو: "ما حسن في العقل"، فسأله المأمون ثانية: "ثم ماذا؟"، ليرد أرسطو: "ما حسن في الشرع"، فيسأل المأمون للمرة الثالثة: "ثم ماذا؟"، فأجاب أرسطو: "ما حسن عند الجمهور".
-
*محمد يسري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق