⏪⏬
يتناول الأديب والمفكر اللبناني ميخائيل نعيمة في كتابه "سبعون" قصة حياته بدايةً من عام 1889 وحتى عام 1959، ويجزئها إلى ثلاث مراحل: الأولى من الطفولة وحتى نهاية دراسته في روسيا، والثانية من رحلة هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحتى
عودته إلى مسقط رأسه لبنان عام 1932، والأخيرة منذ لحظة عودته وحتى بلوغه سن السبعين، اعتقادًا منه أنه سيفارق الحياة في ذاك الوقت ولكن شاءت الأقدار أن يتوفى عن عمر يناهز الـ99 عامًا.
إن لم تكن من المعجبين بنعيمة، ولا يتملكك الفضول للتعرف على التربة التي نبت فيها الكاتب، ولا يهمك التطفل على الأحداث والشخوص التي شكلت فكره وشخصيته وقلمه، فلا بأس بذلك، لأن سلسلة "سبعون" بحد ذاتها لا تخص نعيمة وحده أو بالأحرى لا تركز فقط على شخصه، ففي الوقت عينه تسرد أحداثًا ومنعطفات تاريخية مهمة في تاريخ المنطقة وتمنحنا صورةً دقيقةً وحيويةً عن مجريات الأمور في القرن التاسع عشر، حتى إن كنا نشاهد تفاصيلها من خلال ذاكرة نعيمة ذاته إلا أنها تأخذنا إلى عالم لم نألف ملامحه ولن نجد أثرًا له في كتب التاريخ التقليدية.
نبذة قصيرة عن ميخائيل نعيمة
ولد ميخائيل نعيمة في قرية بسكنتا عند سفح جبل صنين بلبنان في أكتوبر/تشرين الأول عام 1889، وأنهى دراسته في دار المعلمين الروسية (المسكوبية) في مدينة الناصرة بفلسطين، أو أرض اللبن والعسل كما سماها في كتابه، ثم تابع مسيرته التعليمية في روسيا القيصرية بمقاطعة بولتافا الأوكرانية في الفترة ما بين 1905-1911، حيث تأثر بالثقافة والأدب الروسي هناك، ثم حلم بالدراسة في السوربون عام 1912، ولكنه التحق بكلية الحقوق والآداب في جامعة واشنطن بالولايات المتحدة وتخرج فيها عام 1916، وهو أحد أبرز أعضاء الرابطة القلمية التي أسسها عرب المهجر.
وقع في حب 3 نساء ولم يتزوج إحداهن أو غيرهن، ظنًا منه أن الزواج مقبرة للمشاعر، وعاد إلى وطنه الأم وحيدًا عام 1932، ولقب بـ"ناسك الشخروب"، وله تقريبًا 32 مؤلفًا ما بين رواية وقصة وشعر، أبرزها: "العاقر" و"مذكرات الأرقش" و"الأكابر" و"همس الجفون" و"أبعد من موسكو ومن واشنطن" و"صوت العالم" و"كان يا ما كان" و"في الغربال الجديد" و"لقاء" و"نجوى الغروب".
المرحلة الأولى (1889-1911).. الطبيعة والهجرة
في هذا الجزء على الأخص، نتعرف على طفولة نعيمة التي بدأت في قرية بسكنتا خلال عهد المتصرفية ونشاهد بالتسلسل وبالتفصيل شكل الكوخ، المكون من غرفة واحدة مستطيلة، الذي أمضى فيه أول 13 سنة من حياته، ويصف لنا علاقته مع الطبيعة، حيث ولد بين الأشجار البرية والأراضي الوعرة والوديان والبساتين وأصوات العصافير وقطعان الغنم والأبقار.
ويبدأ شيئًا فشيئًا في الحديث عن بدايات علاقته مع اللغة العربية وانجذابه الكبير إلى تعابيرها ومفرداتها الغنية، وتوقه الشديد إلى دخول المدرسة، حيث كانت أولى خطواته نحو العلم في إحدى المدارس الأرثوذكسية المجانية التي افتتحتها روسيا في بلدته، وهي واحدة من المدارس الروسية التي انتشرت آنذاك في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، ففي عهد المتصرفية كانت روسيا الحامية التقليدية للأرثوذكس وفرنسا للموارنة وتركيا للمسلمين وبريطانيا للبروتستانت والدروز.
ولا يهمل نعيمة الحديث عن ظروف الهجرة التي كانت في ذاك الوقت ما زالت في ذروة عنفوانها، فيحدثنا عن أبيه الذي هاجر إلى أمريكا بحثًا عن التراب الذي يتحول ذهبًا ولكنه يعود بعد 6 سنوات من الغياب والغربة دون أن يجد ما راح يفتش عنه في أمريكا القصية، ويشرح نعيمة في هذا الفصل من الكتاب سبب هجرة والده، ويوضح أنه كان مدفوعًا برغبة ملحة من أمه اللجوج التي كانت ترى الناس يركبون البحار إلى أمريكا ويعودون منها وقد تبدل عسرهم يسرًا ويشترون بساتين التوت، لكن أبيه عاد دون أن يجني شيئًا يذكر.
ويشير بكتابه إلى كثرة المهاجرين آنذاك، وقلة من يميزون بينهم، فبالنسبة إليهم "ماركا" هي أمريكا الشمالية والبرازيل تعني أمريكا الجنوبية، وكانت الغالبية تشتري تذاكر السفر دون أن تعرف وجهتها أو أي الحظوظ والأقدار تنتظرها، وليس لديها أدنى فكرة عن طبيعة البلد الجديد أو عاداته أو لغته، وكل ما كانوا يعرفونه أن هناك ستتحق أحلامهم التي يبست في بلادهم، والغالبية أيضًا كانوا يعتمدون على "الكشة" للوصول إلى هدفهم، وهي الحمولة التي كان يتجول فيها المهاجرون ويبيعون ما فيها من ملابس وبخور ومقصات ومرايا وصلبان إلى الزبائن في المهجر.
ورغم مشاعر الاندفاع والأمل والحماس التي نشعر بها عندما نتعرف على أحوال المهاجرين، يجترنا نعيمة في الحديث إلى زاوية أخرى، أكثر ظلمةً وضيقًا، حيث يتحدث فيها عن حزن المودعين والمسافرين، وعن العبارات التي كانت تقال في أوقات الفراق، مثل "ما أحلانا وما أهنانا قبل أن تفتح الدروب إلى أمريكا".
في هذه المرحلة، نختبر هذه المشاعر أيضًا مع انتقال نعيمة إلى دار المعلمين الروسية في الناصرة بهدف الدراسة عام 1902 على باخرة تبحر من بيروت - الدامور - صيدا - صور - عكا - حيفا - يافا وبالعكس وتستغرق المسافة بين بيروت وحيفا نحو من 36 ساعة إلى 40 ساعة، وفي أثناء الرحلة نترقب انفعالاته وهواجسه من العالم الجديد.
وما يميز هذه الفترة من حياته، نضوجه الفكري الذي يتضح من شعوره بالسخط من الأناشيد والقصائد التي كانوا يلقونها إياهم تمجيدًا لسلطان أو قيصر ما، إذ كان يرى أن هذه الكلمات سم يدس في العقول.
ويتضح أيضًا من تساؤلاته الوجودية والتشكيكة عن الموت، فيقول بعد أن توفي خاله: "لقد هالني من الموت أن يكون له مثل ذلك السلطان على الناس. أفلست أسمعهم في شتى المناسبات يرددون "كلنا غلة الموت"، "الموت رحمة"، "الدائم لله"، "الموت حق"، فما داموا يعرفون أن كل حي للموت وأن لا دائم إلا الله وأن الموت الحق، فما بالهم كلما مات حي من أحيائهم ينفشون الشعور ويلطمون الخدود ويمزقون الثياب ويذرفون الدموع ويعولون ويندبون ويعاتبون ثم ينتهون بأن يلفوا أجسادهم وقلوبهم بالسواد".
وتكبر تلك التساؤلات لاحقًا عندما اختير للدراسة في روسيا القيصرية لتفوقه في تحصيله العلمي وسلوكه، وهو الحلم الذي سعى إليه بحذر شديد دون أن يتمادى أو يتكاسل، وهناك بدأت أفكاره تبحث عن إجابات تتعلق بالذات الإلهية والعدم والوجود والأبدية وبداية الخلق وزواله، ثم ينشغل تارةً أخرى بالاندماج السريع مع المجتمع الروسي والتهامه كل ما هو جديد وانغماسه في الأدب الروسي وتعرفه على منتجاتهم وقصائدهم وأعمالهم.
انتهت فترة الغليان الفكري كما أسماها، وعاد إلى لبنان وهو يخطط لإكمال مشواره التعليمي في باريس، ولكن أخيه الأكبر أقنعه بالذهاب إلى بلاد الحريات أمريكا، ليس انجذابًا للدولار والمال، كما يقال، وإنما لمجانية التعليم هناك.
المرحلة الثانية (1911 -1932).. حياة المدينة والرابطة القلمية
في هذا الشق، ينتقل نعيمة من الحديث عن تفاصيل الحياة الريفية الهادئة الهانئة في الشخروب، والقرب الروحاني الذي شعر به وهو في ذات المكان (الناصرة) الذي عاش وتجول فيه المسيح، إلى مشاعر الاستياء والامتعاض من حياة المدينة السريعة، التي يملأها الازدحام والضجيج والعجيج، كما يصف لنا برودة مشاعره عند وصوله إلى أمريكا، عقب رحلة استغرقت أكثر من 30 يومًا، ورؤيته الشوارع الواسعة وناطحات السحاب والبنايات الضخمة دون اندهاش أو ابتهاج.
يرى نعيمة، وبداخله إحساس ثقيل بالنقمة، أن المدينة لا يؤنسها شيء من الرحمة والعدل والمحبة، وكل ما فيها مطامع ومصالح ترهق الإنسان وتجره إلى الانحراف عن طبيعته وطريقه القويم، على العكس من بسكنتا المسالمة، يضيف إلى تلك المقارنة التقليدية، ملاحظات أخرى ويقول إن هذه البلاد، يقصد أمريكا، خالية من التقاليد والجذور ويسعى فيها الجميع إلى خوض المغامرات وكسب المال.
ويصفها في عبارات عدة بأنها بلاد الأسياد التي راح من أجلها يغير المهاجرون أسماءهم وكنيتهم في سبيل الاندماج مع ثقافتها ولسانها وقواعدها، وتفاديًا لسخريتها من حروفهم، فيكتب: "في عقيدة مهاجرينا، فتبدل الأماكن والأزمنة كان يقضي بتبدل الأسماء كذلك. وهكذا أصبح أخي أديب "دجو" وأخي هيكل "هنري"، وكم من مهاجر ترجم حتى اسمه وكنيته ترجمة حرفية، فبات منصور حداد مثلًا "فكتور سميث".
ورغم عثوره على حي كامل مستوطن من الجالية السورية واللبنانية في مدينة نيويورك، فإنه لم يستطع الانخراط بهم لأنه، بحسب تعبيره: "الناس ما هجروا أوطانهم إلا حملوا معهم إلى مهجرهم جميع أحقادهم وخلافاتهم وضغائنهم وترهاتهم السياسية والطائفية"، ويختم حديثه عن تجربته في تعلم اللغة الإنجليزية التي لم يكن يعرف منها كلمة واحدة وعن أولى المهن التي شغلها وبداية انتشار أعماله الأدبية ومقالاتها في مجموعة من الجرائد والمجلات مثل "الفنون" و"السائح".
وانتقالًا من تفاصيل الحياة المدنية وأساليب التقرب الاجتماعي، نعود مع نعيمة في أفكاره ومخاوفه إلى لبنان، حيث بدأت الحرب العالمية الأولى، واصفًا إياها بعبارتين مختلفتين: أولهما "النار التي شملت العالم"، والأخرى "المجزرة العالمية"، وهي المصيبة التي لم تأت وحدها، إذ تلتها نكبة أخرى مثل نكبة الجراد التي تسببت بتفشي الجوع والفقر والحرمان بين أهالي سكان جبل لبنان، وحولت بلاده إلى أرض قاحلة جافة، لا يوجد فيها حبة قمح أو شعير.
ثم نعود أدراجنا إلى أمريكا ونتعرف على تفاصيل التحاقه بالجيش للمشاركة في الحرب العالمية وتجنيده واعتقاله، وغيرها من الأحداث التي عاشها في ميدان القتال والقنابل تتطاير فوق رؤوس الجميع والمدافع لا تهدأ والجرحى لا يكفون عن الأنين والاستنجاد، وكتب حينها:
أخي! إن ضجّ بعد الحرب غربيّ بأعماله
وقدّس ذكر من ماتوا وعظّم بطش أبطاله
فلا تهزج بمن سادوا ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشعٍ دامٍ
لنبكي حظّ موتانا!
-
أخي! من نحن؟ لا وطنٌ ولا أهلٌ ولا جارُ
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعارُ
لقد خمّت بنا الدنيا كما خمّت بموتانا
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر
نواري فيه أحيانا!
وعندما انتهت الحرب، بدأت في السنوات التالية من حياته ثورة فكرية جديدة في نيويورك، إذ انضم إلى الرابطة القلمية التي سرعان ما انتشر صيتها وتعاظم شأنها وشأن الرجال العشر القائمين عليها في الـ20 من أبريل/نيسان سنة 1920.
المرحلة الثالثة (1932-1959).. تجديد العلاقة مع الماضي
ترك نعيمة أمريكا وتخلى عن بلاد المتناقضات والفرص والثراء الفاحش، وبجيبه 500 دولار أمريكي فقط، ورغم كثرة المنازل التي ألفها وألفته، وانتقل منها وإليها، فإن حنينه دومًا كان لأول منزل، ولحضن الطبيعة والخولة والسكينة المطمئنة التي تغربله من الهواجس والوساوس والذكريات والأفكار المزعجة، فهو رغم جولاته وطوفانه الكثير، لا يزال يبحث عن إجابات عن التساؤلات التي ترن في تفكيره من حين لآخر بشأن الوجود والإنسانية وأصل الإنسان وجدوى التفكير وأمور أخرى عن النظام الكوني وحركته ومساره، وغيرها من ظواهر الحياة كالحكمة من الولادة والموت، الألم واللذة، والنمو والانحلال.
وبالفعل عاد نعيمة إلى حياة الريف، وجدد علاقته بالمنجل والمجرفة والرعي والسقي وسط دهشة أهل القرية الذين اعتبروا أن هذه الأشغال لا تليق برجل مثقف ومبدع مثله، ففي كل حفل تكريم كان يقام على شرفه، كانت دهشة الناس وإعجابهم يزيد بهذا الفكر والقلم العظيم الذي ألقى على مسامعهم خطابات مختلفة عن الحياة في أمريكا والمدنية وعصر الآلة وغيرها من الرسائل الإنسانية.
ولكن في البداية آلمه تغير ملامح البلاد عليه، مع مرور الحروب عليها وانتشار آثار الانتداب على لسان الناس ومحال المدن وشوارعها، حيث سيطرت اللغة الفرنسية على تعبيراتهم وأحاديثهم، وكأن البلاد لم يكن لها وجود قبل مجيء الانتداب إليها. إلى جانب هذا، صاحبت نعيمة غصة مريرة بسبب تهالك صحة أخيه، نسيب، وتكالب المسؤوليات العائلية عليه منذ أن قرر العودة للمكان الذي أدار وجهه وظهره إليه.
وبين جميع هذه المشاغل، يحدثنا نعيمة عن صداقته مع جبران خليل جبران التي دامت 15 عامًا، ويفسر أسرار هذا التقارب الشديد والمحبوب، يستعرض بعض من المراسلات التي جرت بينهما وتفاصيل أخرى عن اتجاهات جبران الفكرية والفنية وطباعه وميوله وتحديات حياته الشخصية، وكيف بعد سنوات طويلة من التوافق الفكري والوئام استقبل خبرة وفاته.
ومن الرسائل الشخصية، ننتقل إلى أحاديث الحرب العالمية الثانية واستقلال لبنان سنة 1943 وخطابات الاستقلال التي ألقاها على الراديو في تلك المناسبة العظيمة، وما تبعها لاحقًا من ثورات وانتفاضات في الدول العربية مثل سوريا والسودان ومصر، حتى ينهي الجزء الأخير من كتابه بكلمات وداعية ودودة، خلدت اسمه وقلمه حتى يومنا الحاليّ.
يتناول الأديب والمفكر اللبناني ميخائيل نعيمة في كتابه "سبعون" قصة حياته بدايةً من عام 1889 وحتى عام 1959، ويجزئها إلى ثلاث مراحل: الأولى من الطفولة وحتى نهاية دراسته في روسيا، والثانية من رحلة هجرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحتى
عودته إلى مسقط رأسه لبنان عام 1932، والأخيرة منذ لحظة عودته وحتى بلوغه سن السبعين، اعتقادًا منه أنه سيفارق الحياة في ذاك الوقت ولكن شاءت الأقدار أن يتوفى عن عمر يناهز الـ99 عامًا.
إن لم تكن من المعجبين بنعيمة، ولا يتملكك الفضول للتعرف على التربة التي نبت فيها الكاتب، ولا يهمك التطفل على الأحداث والشخوص التي شكلت فكره وشخصيته وقلمه، فلا بأس بذلك، لأن سلسلة "سبعون" بحد ذاتها لا تخص نعيمة وحده أو بالأحرى لا تركز فقط على شخصه، ففي الوقت عينه تسرد أحداثًا ومنعطفات تاريخية مهمة في تاريخ المنطقة وتمنحنا صورةً دقيقةً وحيويةً عن مجريات الأمور في القرن التاسع عشر، حتى إن كنا نشاهد تفاصيلها من خلال ذاكرة نعيمة ذاته إلا أنها تأخذنا إلى عالم لم نألف ملامحه ولن نجد أثرًا له في كتب التاريخ التقليدية.
نبذة قصيرة عن ميخائيل نعيمة
ولد ميخائيل نعيمة في قرية بسكنتا عند سفح جبل صنين بلبنان في أكتوبر/تشرين الأول عام 1889، وأنهى دراسته في دار المعلمين الروسية (المسكوبية) في مدينة الناصرة بفلسطين، أو أرض اللبن والعسل كما سماها في كتابه، ثم تابع مسيرته التعليمية في روسيا القيصرية بمقاطعة بولتافا الأوكرانية في الفترة ما بين 1905-1911، حيث تأثر بالثقافة والأدب الروسي هناك، ثم حلم بالدراسة في السوربون عام 1912، ولكنه التحق بكلية الحقوق والآداب في جامعة واشنطن بالولايات المتحدة وتخرج فيها عام 1916، وهو أحد أبرز أعضاء الرابطة القلمية التي أسسها عرب المهجر.
وقع في حب 3 نساء ولم يتزوج إحداهن أو غيرهن، ظنًا منه أن الزواج مقبرة للمشاعر، وعاد إلى وطنه الأم وحيدًا عام 1932، ولقب بـ"ناسك الشخروب"، وله تقريبًا 32 مؤلفًا ما بين رواية وقصة وشعر، أبرزها: "العاقر" و"مذكرات الأرقش" و"الأكابر" و"همس الجفون" و"أبعد من موسكو ومن واشنطن" و"صوت العالم" و"كان يا ما كان" و"في الغربال الجديد" و"لقاء" و"نجوى الغروب".
المرحلة الأولى (1889-1911).. الطبيعة والهجرة
في هذا الجزء على الأخص، نتعرف على طفولة نعيمة التي بدأت في قرية بسكنتا خلال عهد المتصرفية ونشاهد بالتسلسل وبالتفصيل شكل الكوخ، المكون من غرفة واحدة مستطيلة، الذي أمضى فيه أول 13 سنة من حياته، ويصف لنا علاقته مع الطبيعة، حيث ولد بين الأشجار البرية والأراضي الوعرة والوديان والبساتين وأصوات العصافير وقطعان الغنم والأبقار.
ويبدأ شيئًا فشيئًا في الحديث عن بدايات علاقته مع اللغة العربية وانجذابه الكبير إلى تعابيرها ومفرداتها الغنية، وتوقه الشديد إلى دخول المدرسة، حيث كانت أولى خطواته نحو العلم في إحدى المدارس الأرثوذكسية المجانية التي افتتحتها روسيا في بلدته، وهي واحدة من المدارس الروسية التي انتشرت آنذاك في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، ففي عهد المتصرفية كانت روسيا الحامية التقليدية للأرثوذكس وفرنسا للموارنة وتركيا للمسلمين وبريطانيا للبروتستانت والدروز.
ولا يهمل نعيمة الحديث عن ظروف الهجرة التي كانت في ذاك الوقت ما زالت في ذروة عنفوانها، فيحدثنا عن أبيه الذي هاجر إلى أمريكا بحثًا عن التراب الذي يتحول ذهبًا ولكنه يعود بعد 6 سنوات من الغياب والغربة دون أن يجد ما راح يفتش عنه في أمريكا القصية، ويشرح نعيمة في هذا الفصل من الكتاب سبب هجرة والده، ويوضح أنه كان مدفوعًا برغبة ملحة من أمه اللجوج التي كانت ترى الناس يركبون البحار إلى أمريكا ويعودون منها وقد تبدل عسرهم يسرًا ويشترون بساتين التوت، لكن أبيه عاد دون أن يجني شيئًا يذكر.
ويشير بكتابه إلى كثرة المهاجرين آنذاك، وقلة من يميزون بينهم، فبالنسبة إليهم "ماركا" هي أمريكا الشمالية والبرازيل تعني أمريكا الجنوبية، وكانت الغالبية تشتري تذاكر السفر دون أن تعرف وجهتها أو أي الحظوظ والأقدار تنتظرها، وليس لديها أدنى فكرة عن طبيعة البلد الجديد أو عاداته أو لغته، وكل ما كانوا يعرفونه أن هناك ستتحق أحلامهم التي يبست في بلادهم، والغالبية أيضًا كانوا يعتمدون على "الكشة" للوصول إلى هدفهم، وهي الحمولة التي كان يتجول فيها المهاجرون ويبيعون ما فيها من ملابس وبخور ومقصات ومرايا وصلبان إلى الزبائن في المهجر.
ورغم مشاعر الاندفاع والأمل والحماس التي نشعر بها عندما نتعرف على أحوال المهاجرين، يجترنا نعيمة في الحديث إلى زاوية أخرى، أكثر ظلمةً وضيقًا، حيث يتحدث فيها عن حزن المودعين والمسافرين، وعن العبارات التي كانت تقال في أوقات الفراق، مثل "ما أحلانا وما أهنانا قبل أن تفتح الدروب إلى أمريكا".
في هذه المرحلة، نختبر هذه المشاعر أيضًا مع انتقال نعيمة إلى دار المعلمين الروسية في الناصرة بهدف الدراسة عام 1902 على باخرة تبحر من بيروت - الدامور - صيدا - صور - عكا - حيفا - يافا وبالعكس وتستغرق المسافة بين بيروت وحيفا نحو من 36 ساعة إلى 40 ساعة، وفي أثناء الرحلة نترقب انفعالاته وهواجسه من العالم الجديد.
وما يميز هذه الفترة من حياته، نضوجه الفكري الذي يتضح من شعوره بالسخط من الأناشيد والقصائد التي كانوا يلقونها إياهم تمجيدًا لسلطان أو قيصر ما، إذ كان يرى أن هذه الكلمات سم يدس في العقول.
ويتضح أيضًا من تساؤلاته الوجودية والتشكيكة عن الموت، فيقول بعد أن توفي خاله: "لقد هالني من الموت أن يكون له مثل ذلك السلطان على الناس. أفلست أسمعهم في شتى المناسبات يرددون "كلنا غلة الموت"، "الموت رحمة"، "الدائم لله"، "الموت حق"، فما داموا يعرفون أن كل حي للموت وأن لا دائم إلا الله وأن الموت الحق، فما بالهم كلما مات حي من أحيائهم ينفشون الشعور ويلطمون الخدود ويمزقون الثياب ويذرفون الدموع ويعولون ويندبون ويعاتبون ثم ينتهون بأن يلفوا أجسادهم وقلوبهم بالسواد".
وتكبر تلك التساؤلات لاحقًا عندما اختير للدراسة في روسيا القيصرية لتفوقه في تحصيله العلمي وسلوكه، وهو الحلم الذي سعى إليه بحذر شديد دون أن يتمادى أو يتكاسل، وهناك بدأت أفكاره تبحث عن إجابات تتعلق بالذات الإلهية والعدم والوجود والأبدية وبداية الخلق وزواله، ثم ينشغل تارةً أخرى بالاندماج السريع مع المجتمع الروسي والتهامه كل ما هو جديد وانغماسه في الأدب الروسي وتعرفه على منتجاتهم وقصائدهم وأعمالهم.
انتهت فترة الغليان الفكري كما أسماها، وعاد إلى لبنان وهو يخطط لإكمال مشواره التعليمي في باريس، ولكن أخيه الأكبر أقنعه بالذهاب إلى بلاد الحريات أمريكا، ليس انجذابًا للدولار والمال، كما يقال، وإنما لمجانية التعليم هناك.
المرحلة الثانية (1911 -1932).. حياة المدينة والرابطة القلمية
في هذا الشق، ينتقل نعيمة من الحديث عن تفاصيل الحياة الريفية الهادئة الهانئة في الشخروب، والقرب الروحاني الذي شعر به وهو في ذات المكان (الناصرة) الذي عاش وتجول فيه المسيح، إلى مشاعر الاستياء والامتعاض من حياة المدينة السريعة، التي يملأها الازدحام والضجيج والعجيج، كما يصف لنا برودة مشاعره عند وصوله إلى أمريكا، عقب رحلة استغرقت أكثر من 30 يومًا، ورؤيته الشوارع الواسعة وناطحات السحاب والبنايات الضخمة دون اندهاش أو ابتهاج.
يرى نعيمة، وبداخله إحساس ثقيل بالنقمة، أن المدينة لا يؤنسها شيء من الرحمة والعدل والمحبة، وكل ما فيها مطامع ومصالح ترهق الإنسان وتجره إلى الانحراف عن طبيعته وطريقه القويم، على العكس من بسكنتا المسالمة، يضيف إلى تلك المقارنة التقليدية، ملاحظات أخرى ويقول إن هذه البلاد، يقصد أمريكا، خالية من التقاليد والجذور ويسعى فيها الجميع إلى خوض المغامرات وكسب المال.
ويصفها في عبارات عدة بأنها بلاد الأسياد التي راح من أجلها يغير المهاجرون أسماءهم وكنيتهم في سبيل الاندماج مع ثقافتها ولسانها وقواعدها، وتفاديًا لسخريتها من حروفهم، فيكتب: "في عقيدة مهاجرينا، فتبدل الأماكن والأزمنة كان يقضي بتبدل الأسماء كذلك. وهكذا أصبح أخي أديب "دجو" وأخي هيكل "هنري"، وكم من مهاجر ترجم حتى اسمه وكنيته ترجمة حرفية، فبات منصور حداد مثلًا "فكتور سميث".
ورغم عثوره على حي كامل مستوطن من الجالية السورية واللبنانية في مدينة نيويورك، فإنه لم يستطع الانخراط بهم لأنه، بحسب تعبيره: "الناس ما هجروا أوطانهم إلا حملوا معهم إلى مهجرهم جميع أحقادهم وخلافاتهم وضغائنهم وترهاتهم السياسية والطائفية"، ويختم حديثه عن تجربته في تعلم اللغة الإنجليزية التي لم يكن يعرف منها كلمة واحدة وعن أولى المهن التي شغلها وبداية انتشار أعماله الأدبية ومقالاتها في مجموعة من الجرائد والمجلات مثل "الفنون" و"السائح".
وانتقالًا من تفاصيل الحياة المدنية وأساليب التقرب الاجتماعي، نعود مع نعيمة في أفكاره ومخاوفه إلى لبنان، حيث بدأت الحرب العالمية الأولى، واصفًا إياها بعبارتين مختلفتين: أولهما "النار التي شملت العالم"، والأخرى "المجزرة العالمية"، وهي المصيبة التي لم تأت وحدها، إذ تلتها نكبة أخرى مثل نكبة الجراد التي تسببت بتفشي الجوع والفقر والحرمان بين أهالي سكان جبل لبنان، وحولت بلاده إلى أرض قاحلة جافة، لا يوجد فيها حبة قمح أو شعير.
ثم نعود أدراجنا إلى أمريكا ونتعرف على تفاصيل التحاقه بالجيش للمشاركة في الحرب العالمية وتجنيده واعتقاله، وغيرها من الأحداث التي عاشها في ميدان القتال والقنابل تتطاير فوق رؤوس الجميع والمدافع لا تهدأ والجرحى لا يكفون عن الأنين والاستنجاد، وكتب حينها:
أخي! إن ضجّ بعد الحرب غربيّ بأعماله
وقدّس ذكر من ماتوا وعظّم بطش أبطاله
فلا تهزج بمن سادوا ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشعٍ دامٍ
لنبكي حظّ موتانا!
-
أخي! من نحن؟ لا وطنٌ ولا أهلٌ ولا جارُ
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعارُ
لقد خمّت بنا الدنيا كما خمّت بموتانا
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر
نواري فيه أحيانا!
وعندما انتهت الحرب، بدأت في السنوات التالية من حياته ثورة فكرية جديدة في نيويورك، إذ انضم إلى الرابطة القلمية التي سرعان ما انتشر صيتها وتعاظم شأنها وشأن الرجال العشر القائمين عليها في الـ20 من أبريل/نيسان سنة 1920.
المرحلة الثالثة (1932-1959).. تجديد العلاقة مع الماضي
ترك نعيمة أمريكا وتخلى عن بلاد المتناقضات والفرص والثراء الفاحش، وبجيبه 500 دولار أمريكي فقط، ورغم كثرة المنازل التي ألفها وألفته، وانتقل منها وإليها، فإن حنينه دومًا كان لأول منزل، ولحضن الطبيعة والخولة والسكينة المطمئنة التي تغربله من الهواجس والوساوس والذكريات والأفكار المزعجة، فهو رغم جولاته وطوفانه الكثير، لا يزال يبحث عن إجابات عن التساؤلات التي ترن في تفكيره من حين لآخر بشأن الوجود والإنسانية وأصل الإنسان وجدوى التفكير وأمور أخرى عن النظام الكوني وحركته ومساره، وغيرها من ظواهر الحياة كالحكمة من الولادة والموت، الألم واللذة، والنمو والانحلال.
وبالفعل عاد نعيمة إلى حياة الريف، وجدد علاقته بالمنجل والمجرفة والرعي والسقي وسط دهشة أهل القرية الذين اعتبروا أن هذه الأشغال لا تليق برجل مثقف ومبدع مثله، ففي كل حفل تكريم كان يقام على شرفه، كانت دهشة الناس وإعجابهم يزيد بهذا الفكر والقلم العظيم الذي ألقى على مسامعهم خطابات مختلفة عن الحياة في أمريكا والمدنية وعصر الآلة وغيرها من الرسائل الإنسانية.
ولكن في البداية آلمه تغير ملامح البلاد عليه، مع مرور الحروب عليها وانتشار آثار الانتداب على لسان الناس ومحال المدن وشوارعها، حيث سيطرت اللغة الفرنسية على تعبيراتهم وأحاديثهم، وكأن البلاد لم يكن لها وجود قبل مجيء الانتداب إليها. إلى جانب هذا، صاحبت نعيمة غصة مريرة بسبب تهالك صحة أخيه، نسيب، وتكالب المسؤوليات العائلية عليه منذ أن قرر العودة للمكان الذي أدار وجهه وظهره إليه.
وبين جميع هذه المشاغل، يحدثنا نعيمة عن صداقته مع جبران خليل جبران التي دامت 15 عامًا، ويفسر أسرار هذا التقارب الشديد والمحبوب، يستعرض بعض من المراسلات التي جرت بينهما وتفاصيل أخرى عن اتجاهات جبران الفكرية والفنية وطباعه وميوله وتحديات حياته الشخصية، وكيف بعد سنوات طويلة من التوافق الفكري والوئام استقبل خبرة وفاته.
ومن الرسائل الشخصية، ننتقل إلى أحاديث الحرب العالمية الثانية واستقلال لبنان سنة 1943 وخطابات الاستقلال التي ألقاها على الراديو في تلك المناسبة العظيمة، وما تبعها لاحقًا من ثورات وانتفاضات في الدول العربية مثل سوريا والسودان ومصر، حتى ينهي الجزء الأخير من كتابه بكلمات وداعية ودودة، خلدت اسمه وقلمه حتى يومنا الحاليّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق