⏪⏬
هي رواية للروائية العراقية عالية ممدوح، التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية في عام 2020، والتي وصفها محمد الأشعري بأنها «من أجمل وأعمق ما كُتب في أدبنا العربي الحديث، عن بتر الأمكنة منا، أو بترنا منها، حتى يصبح الوطن يمشي
وحيدا، ونحن نمشي وحيدين بعيدا عنه» والتي تحاكي فيها بغداد في العديد من الموضوعات والإشكاليات، وأهمها مسألة الغربة وقسوتها، منذ السبعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحالي، عبر العديد من الشخصيات، التي تراها معبرة عن الواقع المكبوت، والصامت والكارثي، الذي يعيشه الشعب العراقي، قبل وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وتحقيق الديمقراطية.
و»التانكي» هو اسم بريطاني Tank، نتيجة الاستعمار البريطاني للعراق، وتمت تسميته بحي الأخطل، لكن الجميع يعرفه بالتانكي، وهو خزان للمياه موجود على سطوح المنازل ويستعمله السكان للشرب وقضاء الحاجات، وكذلك هو خزان كبير بلون الفضة المغبرة، للماء الرقراق، والديدان المتوحشة، يلعب حوله الأطفال. وهو شارع للانتلجنسيا العراقية يضم المثقفين، والفنانين، والعاهرات، وماسحي الأحذية، ومكتبة بغداد التي شيدها اليسوعيون الأمريكان. وتفوح من الحي رائحة طيبة للريحان البلدي والقداح والبرتقال. يسكن في التانكي المكعب والشغف فيه، حيث صنعه معاذ الألوسي الذي يقول: أنا المكعب، والأمل. وهو مدينة أو سفينة إنقاذ لما بقي من روح العراق، حتى يتحقق الحلم، بالحرية والجمال وحقوق الإنسان. ويضم العديد من شخصيات الرواية، مثل: أيوب الصابر، والعم مختار، ويونس، وسامي، وسنية، ومكية، وهلال أيوب، وبطلة الرواية الرئيسية عفاف أيوب. وهو المسرح العجائبي صاحب الحلم الأكبر للمستقبل، ولكنه للأسف لم يكن كذلك، وهو الآن مهجور بفعل الهجرة والتطهير العرقي، وهو محروس أيضا بفعل القوة القاهرة على صدره.
الرواية جميلة بلغتها الشعرية، المتعددة الأصوات حسب الشخصية الناطقة، بفعل السردية المتقطعة التي تلجأ إليها الروائية. لكنها متعبة بالقراءة، خاصة لغير المتدرب، ومرهقة بالموضوعات المتعددة حول العشق، والجمال، والجنون، والخمرة، والموت، والسلطة، والحرية، والاستبداد. وقد اختارت الروائية سبعة فصول، وخمسين عنوانا فرعيا، لكن في جزء منها، لا يتوافق المضمون مع العنوان. وهي موضوعات مهمة، متناثرة على صفحات الرواية، بدون أي ترتيب منطقي. فالرواية كالإنسان: يتوهج بعاطفة مدهشة أمام الجمال، ومخمور يصرخ «أنا الخمرة، والخمرة أنا» فأنا صاحب الحق والحب، ويركض مجنونا يسعى إلى الخلاص في بعض الأوقات، يلطم الجدران ووجوه العابرين، ونراه عاقلا يصدر الحكم والمواعظ في أحيان أخرى. والرواية ليست تاريخية، مع أنها تستمد من التاريخ بعض الموضوعات المهمة. كمقتلة الآشوريين عام 1933 على يد بكر صدقي، واغتيال عبد الكريم قاسم أمام أعيننا في 1963، وطرد الآباء اليسوعيين من مكتبة بغداد في 1969، والحرب مع الدولة «العبرية» عام 1973، وانفصال الحزب الشيوعي عن البعث في الجبهة الوطنية الحاكمة، حيث كان يردد الجميع: أحد الحزبين توقف حيضه، والثاني تعرض للخصاء.
والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 الذي أُلقي فيه 88 طنا من الذخائر بما يعادل سبع قنابل ذرية من حجم هيروشيما، أي قنبلة ذرية كل أسبوع، وكان تدميرا للعراق وإبادة للمجتمع ونسيجه الاجتماعي، أو تدمير حياة بكاملها، وما خلفه من قتلى وجرحى في كل شوارع الوطن، وهو يعيش بين الجماجم، كما هو حال العرب جميعا. فإما أن تُسفك الدماء، أو نبول على أنفسنا، كحال كل العراقيين، كما يراه هلال أيوب، وهنا يجعل للبول العراقي «عنوانا سَرديّا معقولا، وهو الذي يسترد مكانته الشاهقة، كما لو كنا نروي ملاذات النفط الآمنة، فالاثنان لا يرويان العطش، والاثنان لا ينتشلانني من الغرق». والاحتلال لم ينته، إنما له صور كثيرة، ومع انسحابه بجيوشه، لكنه بقي بأشخاصه الذين يروعون الوطن ويستنزفون نفطه وخيراته، ويديرون سياسييه، مع احتلال جديد، الجميع يلعبون اللعبة الطائفية القذرة التي بدأت في «2006 و2007» بالسلب والنهب، والتطهير العرقي والطائفي، ومازالت مستمرة حتى الآن.
تبدأ الرواية بالبحث عن «عفاف أيوب آل» وسؤال الدكتور النفسي «كارل فالينوا» المشرف على علاجها. وهي بنت أيوب مثال للعفة والحشمة. درست الهندسة المعمارية، لكنها انتقلت إلى كلية الفنون الجميلة، لحبها وشغفها بالرسم، والجمال الذي ترسمه بأصابعها، بألوان الصبح والغروب، والعشق والجمال. لكنها لم تكن صابرة كأبيها، وهو صاحب الطوبوغرافيا للمدينة، ومع مقتله اختفى الصبر. وخالها سامي، وكذلك ياسين الشيوعي، الذي وجد مشنوقا، بأيدي النظام، والذي كان يدافع عن المظلومين، وأصيبوا بانفصام في النفس لشهودهم على ظلم المستضعفين، ولتبريرهم جرائم ستالين، تحت شعار الضرورة. وكانت عفاف تبحث عن العشق والجمال، فأقامت علاقة غرامية مع النحات يونس، لكنها تركته بسرعة، لأنه كان يحتاج إلى «عوارة» في مكان ما من كيانه وعقله، وكان ضعيفا في كل أنحاء جسده، وروحه التي لا تعرف الجمال. وغنت له «إذا كان ذنبي أن حبك سيدي/ أتوب إلى ربي/ وإني لمرة يسامحني ربي». والجمال عند عفاف ليس جمال الصورة أو الوجه، أو الوردة، أو الطفل فقط، إنما هو قيمة كونية تمثل كل الحياة وأشكالها، فهي تعني الحرية، والعدل، والتسامح، وقبول الآخر، وحقوق الإنسان، وأن أرسم بحرية بدون متسلط على رأسي ووجداني. والجمال ليس في قيمة اللوحة، إنما ما قبل اللوحة، أي قبل الأصباغ، وما بعد اللوحة حين تزينها أصابع الفنان وألوانه، المشبعة بالروح والعشق والجمال، ولذلك تطلق صرختها دائما: تفاهة.. تفاهة. وهي ليست كلمة عادية، وليست مزحة، إنها الجانب الحقيقي في الوجود، لكن لا أحد يتملكه الغضب، ويرتدي الحداد للبؤس الذي نعيشه. والغريب أن معظم العراقيين عميان، مع أن عيونهم مفتوحة على اتساعها. و«بغداد يتيمة، كلا عمياء، لا ترى إلا بغضها وحتفها» و«أن القبح ليس نقيض الجمال، إنما الألم والعين غير المتدربة على الجمال، لا ترى ولا تحس به، حضر أو غاب». وأنا أشعر بأنني هنا سأصاب بالعمى وأختفي، لذلك أريد تنظيف حواسي جميعها، وأسافر إلى هناك، وربما إلى باريس وطن النور والعشق والحرية.
ولم تُذرف الدموع يوم وداعها في المطار، والألوسي لم يحضر لوداعها، وتذكر خطيئته يوم ذهابها إلى الفنون الجميلة بدلا من الهندسة، وكانت ترغب في أن يضعها في «بقجة» في المكعب الذي كانت تحلم به. وآخر اعتقد أنه المذنب لأنه لم يطرح عليها مسألة الزواج، وآخر النمام الذي كان يعتقد أنها كانت تتناول الحبوب المخدرة أيام الثانوية، للحب المفقود وللمكعب. لكن الجميع لم يكونوا يعرفون فسحة الحياة في باريس، وكيف كانت أصابعها ترسم برشاقة جميلة، وتقيم المعارض، وكانت تدمي قدميها للسير في باريس للتعرف عليها وشوارعها، وأيقوناتها، إلى أن شعرت بالسعادة، واللذة القصوى، حين عشقت «كيم» وهي العراقية الأصيلة ذات التاريخ المجيد، وأقامت معه علاقة غرامية، لشهور طويلة وهي تموج بالبهجة والفرح، وكانا عاريين دائما، والعري يعني البطولة والشجاعة، والامتلاء. وكانت مع النبيذ الأحمر، تغني له «أي سر فيك لست أدري، كل ما فيك من الأسرار يُغري». وكعادة-
الأوروبيين عموما- يتركها كيم إلى امرأة أخرى، فتحدث الفجيعة لعفاف، وتبدأ بالانهيار.
وهي لم تُخطف، أو تُقتل، إنما عشقت، والحب المستحيل فشل. وعندما يفشل العشق الحقيقي ينهار الإنسان. فتبدأ بالتشوش، ولم تعد تميز بين الموتى، والأكثر موتا. وبدأت صحتها تتسرب من بين يديها، فأصبحت تستيقظ مُجهدة، ومُسممة، وتصرخ لماذا هذا الهجران البغيض؟ ولماذا الكذب والمبالغات؟ وبدأت بالتدريج تناول المهدئات، والكثير من ملامحها غادرتها، وصار أنفها أقل ارتفاعا، وبدأت أصابعها بالالتواء والتشنج، وفمها ازداد انكماشا، حيث اعوج الفم أيضاَ وكانت تقول للطبيب «لقد تحول وجهي من النمط الكلاسيكي، إلى النمط الاستعماري في انعدام القيمة». «وأن أعضاءنا تصل نهاية الخدمة، وأنا لا أعرف بالضبط أيهما أنجز مهمته أسرع، المرض الإفرنجي؟ أم الداء البلدي؟». ومن المؤكد أن الداء البلدي هو الذي وصل لنهاية الخدمة، لأنه غير قادر على استيعاب العقل للحداثة وتغيراتها، بما فيها العلاقات العاطفية والجنسية.
لماذا كل هذه السلبية في الرواية. تفاهة، والعراقيون عميان، والتبول على النفس، والجنون الموجود في عفاف، بمعنى اختلافها عن العراقيين بالإحساس والتذوق، ومن ثم تنهار وتصاب بانفصام في الشخصية نتيجة الحب المستحيل. دون أن تقدم الروائية أي صورة، أو طريقة في الاستبداد الشمولي الذي يمارسه على رقاب البشر وهو صاحب الكلمة الواحدة للطاغية. ولماذا الموت، والحاجة للموت في الحب، فالبشر يعيشون حياتهم العادية والجنسية، بدون أن يخطر في بالهم الموت على الإطلاق.
ثم أين هم الرجال والنساء الذين يعيشون في المكعب، وهم أصحاب الحلم، حيث كانوا يدافعون عن العراق في وجه الطغيان الأمريكي وقبله وبعده. أين؟ ولو بالإشارة إلى المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان والحرية داخل العراق، لمواجهة السلبية الموجودة، وحالة القتل والتدمير. وإلا فإن الروائية التي تعيش في بلد النور، منذ عقود، لا ترى ضرورة لذلك. ومع ذلك فهي رواية بلغة شاعرية جميلة.
هي رواية للروائية العراقية عالية ممدوح، التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية في عام 2020، والتي وصفها محمد الأشعري بأنها «من أجمل وأعمق ما كُتب في أدبنا العربي الحديث، عن بتر الأمكنة منا، أو بترنا منها، حتى يصبح الوطن يمشي
وحيدا، ونحن نمشي وحيدين بعيدا عنه» والتي تحاكي فيها بغداد في العديد من الموضوعات والإشكاليات، وأهمها مسألة الغربة وقسوتها، منذ السبعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحالي، عبر العديد من الشخصيات، التي تراها معبرة عن الواقع المكبوت، والصامت والكارثي، الذي يعيشه الشعب العراقي، قبل وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة، وتحقيق الديمقراطية.
و»التانكي» هو اسم بريطاني Tank، نتيجة الاستعمار البريطاني للعراق، وتمت تسميته بحي الأخطل، لكن الجميع يعرفه بالتانكي، وهو خزان للمياه موجود على سطوح المنازل ويستعمله السكان للشرب وقضاء الحاجات، وكذلك هو خزان كبير بلون الفضة المغبرة، للماء الرقراق، والديدان المتوحشة، يلعب حوله الأطفال. وهو شارع للانتلجنسيا العراقية يضم المثقفين، والفنانين، والعاهرات، وماسحي الأحذية، ومكتبة بغداد التي شيدها اليسوعيون الأمريكان. وتفوح من الحي رائحة طيبة للريحان البلدي والقداح والبرتقال. يسكن في التانكي المكعب والشغف فيه، حيث صنعه معاذ الألوسي الذي يقول: أنا المكعب، والأمل. وهو مدينة أو سفينة إنقاذ لما بقي من روح العراق، حتى يتحقق الحلم، بالحرية والجمال وحقوق الإنسان. ويضم العديد من شخصيات الرواية، مثل: أيوب الصابر، والعم مختار، ويونس، وسامي، وسنية، ومكية، وهلال أيوب، وبطلة الرواية الرئيسية عفاف أيوب. وهو المسرح العجائبي صاحب الحلم الأكبر للمستقبل، ولكنه للأسف لم يكن كذلك، وهو الآن مهجور بفعل الهجرة والتطهير العرقي، وهو محروس أيضا بفعل القوة القاهرة على صدره.
الرواية جميلة بلغتها الشعرية، المتعددة الأصوات حسب الشخصية الناطقة، بفعل السردية المتقطعة التي تلجأ إليها الروائية. لكنها متعبة بالقراءة، خاصة لغير المتدرب، ومرهقة بالموضوعات المتعددة حول العشق، والجمال، والجنون، والخمرة، والموت، والسلطة، والحرية، والاستبداد. وقد اختارت الروائية سبعة فصول، وخمسين عنوانا فرعيا، لكن في جزء منها، لا يتوافق المضمون مع العنوان. وهي موضوعات مهمة، متناثرة على صفحات الرواية، بدون أي ترتيب منطقي. فالرواية كالإنسان: يتوهج بعاطفة مدهشة أمام الجمال، ومخمور يصرخ «أنا الخمرة، والخمرة أنا» فأنا صاحب الحق والحب، ويركض مجنونا يسعى إلى الخلاص في بعض الأوقات، يلطم الجدران ووجوه العابرين، ونراه عاقلا يصدر الحكم والمواعظ في أحيان أخرى. والرواية ليست تاريخية، مع أنها تستمد من التاريخ بعض الموضوعات المهمة. كمقتلة الآشوريين عام 1933 على يد بكر صدقي، واغتيال عبد الكريم قاسم أمام أعيننا في 1963، وطرد الآباء اليسوعيين من مكتبة بغداد في 1969، والحرب مع الدولة «العبرية» عام 1973، وانفصال الحزب الشيوعي عن البعث في الجبهة الوطنية الحاكمة، حيث كان يردد الجميع: أحد الحزبين توقف حيضه، والثاني تعرض للخصاء.
والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 الذي أُلقي فيه 88 طنا من الذخائر بما يعادل سبع قنابل ذرية من حجم هيروشيما، أي قنبلة ذرية كل أسبوع، وكان تدميرا للعراق وإبادة للمجتمع ونسيجه الاجتماعي، أو تدمير حياة بكاملها، وما خلفه من قتلى وجرحى في كل شوارع الوطن، وهو يعيش بين الجماجم، كما هو حال العرب جميعا. فإما أن تُسفك الدماء، أو نبول على أنفسنا، كحال كل العراقيين، كما يراه هلال أيوب، وهنا يجعل للبول العراقي «عنوانا سَرديّا معقولا، وهو الذي يسترد مكانته الشاهقة، كما لو كنا نروي ملاذات النفط الآمنة، فالاثنان لا يرويان العطش، والاثنان لا ينتشلانني من الغرق». والاحتلال لم ينته، إنما له صور كثيرة، ومع انسحابه بجيوشه، لكنه بقي بأشخاصه الذين يروعون الوطن ويستنزفون نفطه وخيراته، ويديرون سياسييه، مع احتلال جديد، الجميع يلعبون اللعبة الطائفية القذرة التي بدأت في «2006 و2007» بالسلب والنهب، والتطهير العرقي والطائفي، ومازالت مستمرة حتى الآن.
تبدأ الرواية بالبحث عن «عفاف أيوب آل» وسؤال الدكتور النفسي «كارل فالينوا» المشرف على علاجها. وهي بنت أيوب مثال للعفة والحشمة. درست الهندسة المعمارية، لكنها انتقلت إلى كلية الفنون الجميلة، لحبها وشغفها بالرسم، والجمال الذي ترسمه بأصابعها، بألوان الصبح والغروب، والعشق والجمال. لكنها لم تكن صابرة كأبيها، وهو صاحب الطوبوغرافيا للمدينة، ومع مقتله اختفى الصبر. وخالها سامي، وكذلك ياسين الشيوعي، الذي وجد مشنوقا، بأيدي النظام، والذي كان يدافع عن المظلومين، وأصيبوا بانفصام في النفس لشهودهم على ظلم المستضعفين، ولتبريرهم جرائم ستالين، تحت شعار الضرورة. وكانت عفاف تبحث عن العشق والجمال، فأقامت علاقة غرامية مع النحات يونس، لكنها تركته بسرعة، لأنه كان يحتاج إلى «عوارة» في مكان ما من كيانه وعقله، وكان ضعيفا في كل أنحاء جسده، وروحه التي لا تعرف الجمال. وغنت له «إذا كان ذنبي أن حبك سيدي/ أتوب إلى ربي/ وإني لمرة يسامحني ربي». والجمال عند عفاف ليس جمال الصورة أو الوجه، أو الوردة، أو الطفل فقط، إنما هو قيمة كونية تمثل كل الحياة وأشكالها، فهي تعني الحرية، والعدل، والتسامح، وقبول الآخر، وحقوق الإنسان، وأن أرسم بحرية بدون متسلط على رأسي ووجداني. والجمال ليس في قيمة اللوحة، إنما ما قبل اللوحة، أي قبل الأصباغ، وما بعد اللوحة حين تزينها أصابع الفنان وألوانه، المشبعة بالروح والعشق والجمال، ولذلك تطلق صرختها دائما: تفاهة.. تفاهة. وهي ليست كلمة عادية، وليست مزحة، إنها الجانب الحقيقي في الوجود، لكن لا أحد يتملكه الغضب، ويرتدي الحداد للبؤس الذي نعيشه. والغريب أن معظم العراقيين عميان، مع أن عيونهم مفتوحة على اتساعها. و«بغداد يتيمة، كلا عمياء، لا ترى إلا بغضها وحتفها» و«أن القبح ليس نقيض الجمال، إنما الألم والعين غير المتدربة على الجمال، لا ترى ولا تحس به، حضر أو غاب». وأنا أشعر بأنني هنا سأصاب بالعمى وأختفي، لذلك أريد تنظيف حواسي جميعها، وأسافر إلى هناك، وربما إلى باريس وطن النور والعشق والحرية.
ولم تُذرف الدموع يوم وداعها في المطار، والألوسي لم يحضر لوداعها، وتذكر خطيئته يوم ذهابها إلى الفنون الجميلة بدلا من الهندسة، وكانت ترغب في أن يضعها في «بقجة» في المكعب الذي كانت تحلم به. وآخر اعتقد أنه المذنب لأنه لم يطرح عليها مسألة الزواج، وآخر النمام الذي كان يعتقد أنها كانت تتناول الحبوب المخدرة أيام الثانوية، للحب المفقود وللمكعب. لكن الجميع لم يكونوا يعرفون فسحة الحياة في باريس، وكيف كانت أصابعها ترسم برشاقة جميلة، وتقيم المعارض، وكانت تدمي قدميها للسير في باريس للتعرف عليها وشوارعها، وأيقوناتها، إلى أن شعرت بالسعادة، واللذة القصوى، حين عشقت «كيم» وهي العراقية الأصيلة ذات التاريخ المجيد، وأقامت معه علاقة غرامية، لشهور طويلة وهي تموج بالبهجة والفرح، وكانا عاريين دائما، والعري يعني البطولة والشجاعة، والامتلاء. وكانت مع النبيذ الأحمر، تغني له «أي سر فيك لست أدري، كل ما فيك من الأسرار يُغري». وكعادة-
الأوروبيين عموما- يتركها كيم إلى امرأة أخرى، فتحدث الفجيعة لعفاف، وتبدأ بالانهيار.
وهي لم تُخطف، أو تُقتل، إنما عشقت، والحب المستحيل فشل. وعندما يفشل العشق الحقيقي ينهار الإنسان. فتبدأ بالتشوش، ولم تعد تميز بين الموتى، والأكثر موتا. وبدأت صحتها تتسرب من بين يديها، فأصبحت تستيقظ مُجهدة، ومُسممة، وتصرخ لماذا هذا الهجران البغيض؟ ولماذا الكذب والمبالغات؟ وبدأت بالتدريج تناول المهدئات، والكثير من ملامحها غادرتها، وصار أنفها أقل ارتفاعا، وبدأت أصابعها بالالتواء والتشنج، وفمها ازداد انكماشا، حيث اعوج الفم أيضاَ وكانت تقول للطبيب «لقد تحول وجهي من النمط الكلاسيكي، إلى النمط الاستعماري في انعدام القيمة». «وأن أعضاءنا تصل نهاية الخدمة، وأنا لا أعرف بالضبط أيهما أنجز مهمته أسرع، المرض الإفرنجي؟ أم الداء البلدي؟». ومن المؤكد أن الداء البلدي هو الذي وصل لنهاية الخدمة، لأنه غير قادر على استيعاب العقل للحداثة وتغيراتها، بما فيها العلاقات العاطفية والجنسية.
لماذا كل هذه السلبية في الرواية. تفاهة، والعراقيون عميان، والتبول على النفس، والجنون الموجود في عفاف، بمعنى اختلافها عن العراقيين بالإحساس والتذوق، ومن ثم تنهار وتصاب بانفصام في الشخصية نتيجة الحب المستحيل. دون أن تقدم الروائية أي صورة، أو طريقة في الاستبداد الشمولي الذي يمارسه على رقاب البشر وهو صاحب الكلمة الواحدة للطاغية. ولماذا الموت، والحاجة للموت في الحب، فالبشر يعيشون حياتهم العادية والجنسية، بدون أن يخطر في بالهم الموت على الإطلاق.
ثم أين هم الرجال والنساء الذين يعيشون في المكعب، وهم أصحاب الحلم، حيث كانوا يدافعون عن العراق في وجه الطغيان الأمريكي وقبله وبعده. أين؟ ولو بالإشارة إلى المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان والحرية داخل العراق، لمواجهة السلبية الموجودة، وحالة القتل والتدمير. وإلا فإن الروائية التي تعيش في بلد النور، منذ عقود، لا ترى ضرورة لذلك. ومع ذلك فهي رواية بلغة شاعرية جميلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق