⏪⏬
مزاجي معتل منذ الصباح.
حاولت ماريا إعداد فراش مريح لي في غرفة الاستقبال في منزلها. شرحت لها أن لا حاجة لبذل الكثير من الجهد في هذا الشأن، حيث
أن الأسابيع الماضية أتت لي بظروف إقامة أسوأ بكثير، وأن منزلها شديد النظافة المغمور بنور الصباح ربما يكون أفضل ما حدث لإقامتي منذ أسابيع طويلة. أخبرتها أيضاً أنها لا يجب أن تحمل هم الترفيه عني، حيث أني اعتدت درجة ما من تجاهل الأصدقاء على مدار الأشهر الماضية.
لا أعرف إذا ما كان مزاجي معتل بسبب الكوابيس التي ملأت فراشي طوال ليلة أمس، أم أن الكوابيس هي تعبير عن اعتلال أعمق للمزاج. في الصباح يأخذني تطبيق الفيسبوك على هاتفي المحمول إلى كل ما حدث في مثل هذا اليوم على مدار الأعوام الماضية. يأخذني تحديداً إلى ذاكرة هذا اليوم في عام الثورة. أتذكر أنني في مثل هذا اليوم كان نومي متقطعاً في فراش وثير في بيت عمة بريهان بحي الزمالك، في انتظار أن يأخذني أول ضوء للنهار صوب التحرير. وأتذكر أنه في مثل هذا اليوم استمعت إلى خطاب مبارك الأخير في منزل عم كريم على مشارف محمد محمود، وأننا انضممنا إلى الجماهير الغفيرة التي نفد صبرها بعد طول انتظار للخطاب، مشهرة الأحذية في وجه مبارك، ومهددة بالتوجه صوب القصر الجمهوري في اليوم التالي..."يوم الجمعة العصر هنهد عليه القصر".
في يوم أو بعض يوم هُيء لنا أنا نستطيع دك القصر. كانت الجنة ملك يميننا لبعض الوقت.
---
أخبرتني المحامية المشغولة دائماً أنه عليّ تحمل المزيد من الانتظار. حاولت أن أشرح لها أن الانتظار مرهق جداً، وأن ما أخبرتني به في أول الأمر أن مدة الانتظار مجملاً ستكون تسعين يوماً. وشرحت هي لي بنفاذ صبر أن قواعد مدة الانتظار تغيرت وتتغير كل يوم، وأنه صار عليّ تحمل المزيد من الانتظار.
أنهيت أعداد كل الأوراق المطلوبة. ذيلت حفنة الاستمارات بتوقيعي، وتاريخ الاثنين القادم: ١٢ فبراير. وراجعت عدد الشيكات وتواريخ أقساط أجر مكتب المحاماة، وعدد الصور الشخصية ذات الخلفية البيضاء. أفلتت تنهيدة حارة وأنا أمد الخطى نحو مكتب البريد. من كان سيصدق أن الطريق سيأخذني إلى هنا: إلى انتظار مفتوح من أجل الحصول على حق إقامة في بلد غريب!؟ إلى أن تتحول مدة انتظاري تنقلاً ثقيلاً بين بيوت الأصدقاء!؟ إلى أن تتحول شكواي من الغربة والوحدة اختياراً واعياً باحتضان الغربة والوحدة؟
حين توجهت إلى مكتب البريد اكتشفت أن اليوم السبت، وأن لا مكاتب بريد في المدينة الصغيرة تعمل خلال عطلة نهاية الأسبوع.
سيكون علي تحمل المزيد من الانتظار.
---
يأخذني الانتظار إلى المقهى الصغير المطل على الحديقة الكبيرة. أتذكر فجأة أن أول وصول لي في هذه المدينة قبل ثلاثة أعوام أخذني إلى هذا المقهى تحديداً، وأنني يومها أحببت المدينة جداً. لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك، ولا لماذا غلب الملل والاغتراب حبي للمدينة، ولا لماذا منذ حلت الهزيمة صار الملل والاغتراب يغلبان بشكل عام.
حركة غير عادية تبعث توتراً في المقهى الهادئ. تأتي الحركة من الركن أقصى اليمين بالقرب من المدخل، حيث جلس رجل وسيدة ذوي ملابس بسيطة وكثير من الحقائب. دون كثير من التفكير أستطيع تخمين أنهم بلا مأوى. السيدة تسقط غائبة عن الوعي، بينما يجتهد الرجل ليحتفظ بنصف وعي. مجريات المقهى تسير بالرغم من التوتر. طابور الزبائن يطول، كون العاملة التي تتلقى الطلبات على الكاشير متوترة، بينما زميلتها انتقلت للطاولة مبعث التوتر للتعامل مع الحدث بدلاً من مهمتها الأصلية في تلقي الطلبات مقاسمة مع العاملة الأخرى. في غضون دقائق تصل الشرطة إلى المقهى. الزبائن مستمرون في مخاطبة العاملة بطلباتهم، بينما يلتفتون من حين لآخر إلى ذلك الركن لمتابعة الحدث.
تتقاطع نظرتي مع نظرة الشاب الذي يقف خلفي في الطابور بينما أمد بصري محاولة استشراف ما يحدث. أفكر أن ملامحه مألوفة، دون أن أتبينها، ودون أن أتوقف أمام الفكرة كثيراً. الفكرة التي تكبر في رأسي هي أن تلك السيدة قد تموت الآن في انتظار وصول سيارة الإسعاف. ماذا أتى بها إلى هنا؟ ولماذا فقدت الوعي في هذا المقهى؟ تصل سيارة الإسعاف أسرع من فكرتي، ثم تصل سيارة إسعاف ثانية بعد دقائق. تبرق في ذهني صور سيارات الإسعاف المتراصة على مشارف ميدان التحرير. تلتقي عيني بعيني الشاب ذي الملامح المألوفة مرة أخرى، يخيل لي أن حواراً صامتاً يدور بيننا. صار المقهى ممتلئاً بأفراد الشرطة والإسعاف. يتصاعد التوتر بين الموجودين، عدا ذلك الرجل الجالس في الطاولة الملاصقة للطاولة بطلة المشهد. لا تزحزحه أي من لحظات الحدث عن انهماكه في مطالعة ملف أوراق. صارت متابعته وهو مستمر في مطالعة أوراقه دون أن يرفع عينيه في سبيل التعاطف الإنساني -أو حتى الفضول- سبباً لمضاعفة توتري. لاحظت عاملة المقهى توتري فظنت أني ضقت من طول الانتظار. قررت أن تعتذر بالنيابة عن العالم، والسيدة فاقدة الوعي، والرجل صاحب ملف الأوراق، وأن تمنحني كوب القهوة مجاناً.
استغرق الأمر بعض الوقت في تقديم الإسعافات الأولية، قبل أن ينقل المسعفون السيدة وبعدها الرجل إلى سياراتي الإسعاف، ويجمع أفراد الشرطة متعلقات الغائبين عن الوعي بحرص بالغ، وينتهي المشهد. ينخفض التوتر في المقهى، ويسود الوجوم. تتقاطع نظرتي مع نظرة الشاب مألوف الملامح. صار ينقل نظرته بين حديثنا الصامت وبين شاشة هاتفه. انقضى بعض الوقت قبل أن تدخل إلى المقهى فتاة سمراء وتتجه إلى حيث يجلس الشاب. تشير له برغبتها في الانتقال إلى الطاولة التي كانت منذ دقائق مسرح التوتر. يقاوم قليلاً ثم يتبعها. تجلس هي مكان السيدة، ويتفادى هو الجلوس على نفس كرسي صاحبها. تمضي دقائق من الحديث الهامس بينهما قبل أن يرتفع صوتهما، أتبين لهجتها المصرية ولهجته الشامية، وبعض ملامح الحوار: أوراق إقامة، نقود، أشياء تود أن تشتريها ولا تملك ثمنها، أشياء يرغب هو في أن يشتريها لها.
أتابعهما وهما يغادران، بينما أواصل انتظاري، شاخصة ببصري نحو طاولتهما، ومكان السيدة.
-
مزاجي معتل منذ الصباح.
حاولت ماريا إعداد فراش مريح لي في غرفة الاستقبال في منزلها. شرحت لها أن لا حاجة لبذل الكثير من الجهد في هذا الشأن، حيث
أن الأسابيع الماضية أتت لي بظروف إقامة أسوأ بكثير، وأن منزلها شديد النظافة المغمور بنور الصباح ربما يكون أفضل ما حدث لإقامتي منذ أسابيع طويلة. أخبرتها أيضاً أنها لا يجب أن تحمل هم الترفيه عني، حيث أني اعتدت درجة ما من تجاهل الأصدقاء على مدار الأشهر الماضية.
لا أعرف إذا ما كان مزاجي معتل بسبب الكوابيس التي ملأت فراشي طوال ليلة أمس، أم أن الكوابيس هي تعبير عن اعتلال أعمق للمزاج. في الصباح يأخذني تطبيق الفيسبوك على هاتفي المحمول إلى كل ما حدث في مثل هذا اليوم على مدار الأعوام الماضية. يأخذني تحديداً إلى ذاكرة هذا اليوم في عام الثورة. أتذكر أنني في مثل هذا اليوم كان نومي متقطعاً في فراش وثير في بيت عمة بريهان بحي الزمالك، في انتظار أن يأخذني أول ضوء للنهار صوب التحرير. وأتذكر أنه في مثل هذا اليوم استمعت إلى خطاب مبارك الأخير في منزل عم كريم على مشارف محمد محمود، وأننا انضممنا إلى الجماهير الغفيرة التي نفد صبرها بعد طول انتظار للخطاب، مشهرة الأحذية في وجه مبارك، ومهددة بالتوجه صوب القصر الجمهوري في اليوم التالي..."يوم الجمعة العصر هنهد عليه القصر".
في يوم أو بعض يوم هُيء لنا أنا نستطيع دك القصر. كانت الجنة ملك يميننا لبعض الوقت.
---
أخبرتني المحامية المشغولة دائماً أنه عليّ تحمل المزيد من الانتظار. حاولت أن أشرح لها أن الانتظار مرهق جداً، وأن ما أخبرتني به في أول الأمر أن مدة الانتظار مجملاً ستكون تسعين يوماً. وشرحت هي لي بنفاذ صبر أن قواعد مدة الانتظار تغيرت وتتغير كل يوم، وأنه صار عليّ تحمل المزيد من الانتظار.
أنهيت أعداد كل الأوراق المطلوبة. ذيلت حفنة الاستمارات بتوقيعي، وتاريخ الاثنين القادم: ١٢ فبراير. وراجعت عدد الشيكات وتواريخ أقساط أجر مكتب المحاماة، وعدد الصور الشخصية ذات الخلفية البيضاء. أفلتت تنهيدة حارة وأنا أمد الخطى نحو مكتب البريد. من كان سيصدق أن الطريق سيأخذني إلى هنا: إلى انتظار مفتوح من أجل الحصول على حق إقامة في بلد غريب!؟ إلى أن تتحول مدة انتظاري تنقلاً ثقيلاً بين بيوت الأصدقاء!؟ إلى أن تتحول شكواي من الغربة والوحدة اختياراً واعياً باحتضان الغربة والوحدة؟
حين توجهت إلى مكتب البريد اكتشفت أن اليوم السبت، وأن لا مكاتب بريد في المدينة الصغيرة تعمل خلال عطلة نهاية الأسبوع.
سيكون علي تحمل المزيد من الانتظار.
---
يأخذني الانتظار إلى المقهى الصغير المطل على الحديقة الكبيرة. أتذكر فجأة أن أول وصول لي في هذه المدينة قبل ثلاثة أعوام أخذني إلى هذا المقهى تحديداً، وأنني يومها أحببت المدينة جداً. لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك، ولا لماذا غلب الملل والاغتراب حبي للمدينة، ولا لماذا منذ حلت الهزيمة صار الملل والاغتراب يغلبان بشكل عام.
حركة غير عادية تبعث توتراً في المقهى الهادئ. تأتي الحركة من الركن أقصى اليمين بالقرب من المدخل، حيث جلس رجل وسيدة ذوي ملابس بسيطة وكثير من الحقائب. دون كثير من التفكير أستطيع تخمين أنهم بلا مأوى. السيدة تسقط غائبة عن الوعي، بينما يجتهد الرجل ليحتفظ بنصف وعي. مجريات المقهى تسير بالرغم من التوتر. طابور الزبائن يطول، كون العاملة التي تتلقى الطلبات على الكاشير متوترة، بينما زميلتها انتقلت للطاولة مبعث التوتر للتعامل مع الحدث بدلاً من مهمتها الأصلية في تلقي الطلبات مقاسمة مع العاملة الأخرى. في غضون دقائق تصل الشرطة إلى المقهى. الزبائن مستمرون في مخاطبة العاملة بطلباتهم، بينما يلتفتون من حين لآخر إلى ذلك الركن لمتابعة الحدث.
تتقاطع نظرتي مع نظرة الشاب الذي يقف خلفي في الطابور بينما أمد بصري محاولة استشراف ما يحدث. أفكر أن ملامحه مألوفة، دون أن أتبينها، ودون أن أتوقف أمام الفكرة كثيراً. الفكرة التي تكبر في رأسي هي أن تلك السيدة قد تموت الآن في انتظار وصول سيارة الإسعاف. ماذا أتى بها إلى هنا؟ ولماذا فقدت الوعي في هذا المقهى؟ تصل سيارة الإسعاف أسرع من فكرتي، ثم تصل سيارة إسعاف ثانية بعد دقائق. تبرق في ذهني صور سيارات الإسعاف المتراصة على مشارف ميدان التحرير. تلتقي عيني بعيني الشاب ذي الملامح المألوفة مرة أخرى، يخيل لي أن حواراً صامتاً يدور بيننا. صار المقهى ممتلئاً بأفراد الشرطة والإسعاف. يتصاعد التوتر بين الموجودين، عدا ذلك الرجل الجالس في الطاولة الملاصقة للطاولة بطلة المشهد. لا تزحزحه أي من لحظات الحدث عن انهماكه في مطالعة ملف أوراق. صارت متابعته وهو مستمر في مطالعة أوراقه دون أن يرفع عينيه في سبيل التعاطف الإنساني -أو حتى الفضول- سبباً لمضاعفة توتري. لاحظت عاملة المقهى توتري فظنت أني ضقت من طول الانتظار. قررت أن تعتذر بالنيابة عن العالم، والسيدة فاقدة الوعي، والرجل صاحب ملف الأوراق، وأن تمنحني كوب القهوة مجاناً.
استغرق الأمر بعض الوقت في تقديم الإسعافات الأولية، قبل أن ينقل المسعفون السيدة وبعدها الرجل إلى سياراتي الإسعاف، ويجمع أفراد الشرطة متعلقات الغائبين عن الوعي بحرص بالغ، وينتهي المشهد. ينخفض التوتر في المقهى، ويسود الوجوم. تتقاطع نظرتي مع نظرة الشاب مألوف الملامح. صار ينقل نظرته بين حديثنا الصامت وبين شاشة هاتفه. انقضى بعض الوقت قبل أن تدخل إلى المقهى فتاة سمراء وتتجه إلى حيث يجلس الشاب. تشير له برغبتها في الانتقال إلى الطاولة التي كانت منذ دقائق مسرح التوتر. يقاوم قليلاً ثم يتبعها. تجلس هي مكان السيدة، ويتفادى هو الجلوس على نفس كرسي صاحبها. تمضي دقائق من الحديث الهامس بينهما قبل أن يرتفع صوتهما، أتبين لهجتها المصرية ولهجته الشامية، وبعض ملامح الحوار: أوراق إقامة، نقود، أشياء تود أن تشتريها ولا تملك ثمنها، أشياء يرغب هو في أن يشتريها لها.
أتابعهما وهما يغادران، بينما أواصل انتظاري، شاخصة ببصري نحو طاولتهما، ومكان السيدة.
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق