اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

فيديو ⏪ خطاب الموت في قصيدة الجدارية لـ محمود درويش

مصطفى الغرافي
⏫⏬
*د. مصطفى الغرافي

تثير قصيدة “الجدارية” لمحمود درويش سيلا جارفا من الأسئلة الحارقة التي تخص الوجود الفردي والمصير الجماعي. إنها رثاء استباقي لذات رقيقة حساسة حدقت طويلا في الموت واكتوت على نحو فاجع بالتواري والعدم. وهو ما سمح بتشكيل فضاء نصي يتسم
بجدل متوتر بين الذاتي والكوني، الواقعي والخيالي، السردي والدرامي، الغنائي والملحمي، الغرائبي والفجائعي؛ فهذه القصيدة الأغنية والنشيد تتكئ على شرعية جمالية نسغها الحيوي سيرة شعرية تطمح إلى القبض على المستقبل/ المستحيل الذي يحتضن سؤال الوجود عبر لوعة الغياب وفجيعة الرحيل الكبير والأخير.
خطاب الموت في قصيدة الجدارية  لـ محمود درويش
لقد أدت تجربة درويش الأولى مع قلبه العليل في منتصف الثمانينات إلى إنتاج نصوص غنائية ضمنها ديوانه “هي أغنية. هي أغنية” الصادر عام 1986 ويمكن أن نشير هنا الى قصيدتيه “حجرة العناية الفائقة” و “أنا العاشق السيئ الحظ”. أما في الجدارية فقد حاول الشاعر أن يتجاوز القصائد القصيرة والخاطفة ليبني قصيدة مركبة تقوم على الانفتاح النصي والاستفادة من الأسطورة والتصوف من أجل بناء مشاهد تزاوج بين الواقعي والخيالي، الشخصي والكوني، السردي والدرامي. وقد مكنتها هذه الاستراتيجية الجمالية من نقل التجربة الإنسانية والانفعالية في قالب فني وجمالي فاتن وأخاذ، حيث صاغت قصيدة الجدارية تجربة شاعر رقيق وحساس وضعته الأقدار في مواجهة مع الموت بكل أسلحته وجبروته في حين تقف الذات وحيدة في عزلتها القصية لا تملك سوى الجماليات تتحصن بها من أجل تأجيل موتها وتأبيد وجودها. لقد شيد درويش قصيدة خضراء عالية هي فردوسه التي يطل منها على الهاوية؛ فالجدارية عودة إلى الذات في أقصى لحظات الانتباه الوجودي وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. وقد عبر درويش عن هذا الفهم الخاص لجوهر العملية الإبداعية بالقول: “أنا كشاعر مطالب بأن أقدم شهادة شعرية هي تراجيدية سواء تعاملت مع الخارق أم مع المألوف”. فكيف تعامل درويش جماليا مع موضوعة الموت؟ وما هي أهم الملامح الجمالية التي وسمت قصيدة الجدارية التي أرادها الشاعر رثاء استباقيا للذات؟

انكسار الروح:
“الجدارية” قصيدة طويلة، تكاد تقترب من شعر الملاحم أو الأناشيد الطويلة، وقد سبقتها مجموعة من القصائد التي تنزع إلى الطول، ويغلب عليها النفس الملحمي، كأداة فنية للتعبير عن نضال الشعب الفلسطيني، وتروي مأساة خروجه من أرضه. ولذلك تبدو هذه القصائد مسكونة بهاجس البطولة وتقديس البطل الذي تبشر بظهوره، ليخلص شعبه من محنة التيه والتشرد. ويمكن اعتبار هذه القصائد مقدمات فنية وتمرينات يجرب من خلالها، درويش أدواته الإبداعية تمهيدا للنشيد الطويل، الذي أعلن غير ما مرة عن طموجه لكتابته. لكي يكون بمثابة مسيرة شعرية، تستدعي شعر الملاحم وقصص البطولة، وتستحضر كل أشكال التعبير الشعري وأكثر الموضوعات خصوصية.

وقد كانت البداية عام (1975م) عندما كتب محمود قصيدته “تلك صورتها وهو انتحار العاشق”. وهو نشيد طويل للأرض الفلسطينية حيث أعطاها بعدا إنسانيا، تحولت من خلاله إلى معشوقة يرسم لها العاشق العربي آلاف الصور ولا يملك في النهاية إلا أن ينتحر من أجلها، لأنه لا يملك غير دمه الذي يحمله على كفه. مرورا بقصيدة “الأرض “التي تعتبر بمثابة “بيان شعري”، وأهم قصائد التحدي. حيث جاءت بمفاهيم جديدة للغة والبطولة والالتزام، كما عمق خلالها درويش مفهومه للحب وجعله مرتبطا بالأرض، التي لم تعد بعدا جغرافيا ماديا بل حالة وجدانية ثم “قصيدة بيروت” 1984م. وقد جاءت هذه القصيدة رثاء ملحميا ونشيدا جنائزيا لبيروت بعد اجتياحها من طرف الجيش الإسرائيلي عام 1982م.

وفي عام 1984م، كتب درويش قصيدة “مديح الظل العالي مما يعني أنها كتبت في جو يطبعه الإحساس الخانق نتيجة حصار بيروت 1982م الذي فضح هشاشة الأنظمة الرسمية، وكشف القناع عن الواقع العربي الموبوء، الذي يكرس الهزيمة والاستسلام.
لقد كان درويش يحلم دائما أن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة لكن التجارب الأليمة التي عاشها شعبه أملت على قصائده إيقاعا مأساويا حزينا وموجعا. لم تفسح له الأحداث الفاجعة التي تعاقبت على أرضه وشعبه مجالا لتدشين القول في البطولات التاريخية المنتصرة. لم يعد يملك أمام الخيبات العربية المتوالية سوى الغناء لانكسار الروح وتمجيد ملحمة الانتصار التي يصنعها الفلسطيني بدمه وعذاباته. وقد مثل هذا النوع من الغناء أرقى أشكال المقاومة لأنه يقوي الإيمان بالمستقبل العصي على الولادة لكنه الفجر الموعود الذي يتخايل بين أرواح الفدائيين الذين يقومون بأنبل الأفعال الإنسانية في مواجهة الموت والحصار : “تربية الأمل”. وبعد أن غنى درويش طويلا للشهداء أنهكه الموت الجماعي انكفأ على ذاته يبثها أحزانه وأشجانه في مجموعة من دواوينه الأخيرة مثل “لا تعتذر عما فعلت” و”لماذا تركت الحصان وحيدا” و “سرير الغريبة” إلى “حالة حصار” و “كزهر اللوز أو أبعد” وانتهاء بنص “في حضرة الغياب” مرورا بـ “الجدارية” التي كرسها درويش بكاملها لموضوعة الموت.

يظهر التأمل الدقيق في قصيدة الجدارية أن الرؤيا الشعرية فيها أصبحت تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ. لقد اكتملت أساطير الشاعر التي بناها من الاستعارات الفذة والحزن الشفيف. ولذلك أصبح الإيقاع في هذه القصيدة أقرب إلى غناء المهد، لأن العزف لم يعد جماعيا ملحميا يمجد البطولة التي تتخذ من الشهادة سبيلا لها وإنما أصبح عزفا ذاتيا منفردا يميل إلى الغنائية المشبوبة التي تفيض عن حدود الذات وتجري أسيانة عذبة :

بحر أمامى، والجدران ترجمنى
دع عنك نفسك واسلم أيها الولد
البحر أصغر منى كيف يحملنى
والبحر أكبر منى كيف أحملة
ضاقت بى اللغة ، استلسمت للسفن
وغص بالقلب حين امتصة الزبد
بحر علىّ.. وفى الأبيض ـ الأبد
والعزف منفرد

أدرك درويش في هذه المرحلة من مسيرته الفنية أن الشعر لا يقوم بدوره في التعبير والتثوير على نحو مباشر وهذا ما يفسر التحول النوعي الذي ميز قصائده الجديدة مقارنة بالقديمة. إذ بات يتعامل مع الاستعارات باعتبارها حقيقة. وهنا صك درويش أسطورته الشعرية. لقد كان طوال الوقت يشعر “بخداع الواقع من حوله وأن عليه أن يتجاوز الواقع إلى خلود الأغنية. ولذلك انهمرت أشعاره غاصة بهذه الكرنافالات الحاشدة بالبشر من التاريخ مرة ومن الحقول مرة أخرى وهو يبدو وكأنه في حاجة إلى أن يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب جماهيره”.

عاد الشاعر في هذه القصيدة إلى ذاته يتأملها ويغني لها النشيد الطويل الذي طالما حلم بإنجازه. ومن هنا أصبح لشعره في هذه المرحلة شكل الغناء المتوحد الحزين والمكابر. إنه غناء الشاعر الممتلئ بتجربة إنسانية كبيرة وفجيعة لا يستطيع النفذ إلى كنهها العميق إلا بالغناء الشجي والشفيف. لقد أصبح الشاعر فيه هذه المرحلة “أكثر حزنا وأصبحت شخصية المحارب في الشاعر شخصية تحارب بلا أوهام. لقد فقد المحارب أوهامه لكي يبقى الغناء حيا. لقد أصبحت هذه المرحلة مرحلة الغناء الكلي الشامل زمعها أصبح الشاعر يغني دائما ومن أجل كل شئ”.

لقد بات الموت الذي يتهدد الذات الشاعرة معاناة وجودية يعيشها درويش بعمق فاجع. وهو ما جعل لحظة انتظار الموت تتحول إلى ضغط نفسي رهيب. ومن هنا شكل الموت في الجدارية حالة ذهنية يتعانق فيها الداخل والخارج نجم عنه جدل شعري لحمته وسداه حركة الخيال الشعري التي تتخذ اشكالا متنوعة بمعاونة جملة من الإمكانات التعبيرية الماتعة التي التي تجسد معاناة الذات في توهجها الشعري وهي تحاول تخليد كينوتها الرمزية. ولذلك تميز خطاب الموت في جدارية درويش بكونه يتأسس باعتباره احتفاء بالفجيعة والغياب، حيث تتحول المعاناة التي تتخذ صورة الفجيعة إلى حضور جمالي فياض وشفاف.

في هذه القصيدة التي يعتبرها درويش معلقته الأخيرة ص: 36 يعتصم الشاعر بوحدته يصيخ السمع لذاته ويغني لفجيعته لكي يصوغ ملحمته الفريدة والمتفردة التي يواصل من خلالها ديمومة الخلق والإبداع وتجديد الرؤى مستلهما عبقريته الشعرية الفذة التي مكنته من الحفر عميقا في أخاديد ذاته التي امتأت بكل أسباب الغياب فبدأت تعد العدة للرحيل الأخير: (الجدارية ص: 104)

أما أنا – وقد امتلأت
بكل أسباب الرحيل-
فلست لي
أنا لست لي
أنا لست لي …

الجدارية نشيد الذات وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. ولذلك جاءت القصيدة مفعمة ببلاغة الحياة المعتقة انطلاقا من إيمان الشاعر بأن الشعر الحقيقي لا يموت والشعراء الذين يستحقون هذه التسمية يعيشون طويلا بعد موتهم. ومن هنا كانت الجدارية تمثل نقشا غائرا تحفره الذات في ذاكرة الزمن حتى تقاوم غيابها ولذلك جاءت القصيدة مجللة بمهابة الغناء الفاجع والإيقاع الحزين. فهي النشيد الأخير التي أراد من خلاله درويش أن يكون ملاذا يدفن فيه جروح الذات في لحظة استثنائية تواجه فيها الذات موتها بجماليات الاستعارات المتوهجة التي تفيض عن حدود النص لتعانق الخلود. فقد كان درويش يتهيأ في هذا النص للموت لأنه يدرك أن لكل شيء نهاية : (الجدارية ص: 90)

لا شيء يبقى على حاله
للولادة وقت
و للموت وقت
و للصمت وقت …..
كل نهلر سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن
كل حي يسير إلى الموت
والموت ليس بملآن

تجابه الذات في هذه القصيدة لحظة فاجعة وهي تتهيأ للغياب الكبير: (الجدارية ص: 81)

يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.

وقد حاولت الذات الشاعرة التغلب على العدم والغياب الذي يتهدد وجودها الجسدي عن طريق التأسي بخلود الإبداع الشعري الذي يساعدها على تأبيد كينونتها في ذاكرة الزمن: (الجدارية ص:67)

تقول ممرضتي: كنت تهذي كثيراً
وتصرخ بي قائلاً:
لا أريد الرجوع إلى أحدٍ
لا أريد الرجوع إلى بلدٍ
بعد هذا الغياب الطويل
أريد الرجوع فقط
إلى لغتي في أقاصي الهديل!!

وقد شكل الإسم بالنسبة إلى محمود درويش مسكنا رمزيا تأوي إليه الذات في أقصى لحظات الوحدة والغربة من أجل تأكيد هويتها وتأبيد وجودها. فإسم درويش “لم يعد فقط إسم الحالة المدنية بل إسم المؤلف الذي بنى أسطورته الشعرية الشخصية انطلاقا من زواج عسير بين الحلم الجماعي والشرط الجمالي المنفتح على إبدالات الشعر المعاصر والمساهم فيه من ثمة في صنع مشهد القصيدة الجديدة ومآلها في العالم… ملتمسا لنصه الانفتاح أكثر على على غبطة الحب من ضمن انفتاحه على سؤال الوجود في غنائية ملحمية تعيد ترميم عناصر الذاكرة لمقاومة الموت والإبقاء على وعد المستقبل”. ولذلك تبدأ القصيدة بالسؤال عن الإسم: (الجدارية ص:9)

هذا هو اسْمُكَ؟
قالتْ امرأة
وغابت في الممر اللولبي.

لقد جاءت العودة إلى الإسم باعتباره هوية الذات والمسكن الرمزي للكائن: (الجدارية ص:90)

لا شئ يبقى سوى اسمي المذهب.

لقد أراد درويش أن ينقش إسمه في ذاكرة الزمن. ولذلك عمد إلى تفكيك مكونات الإسم في تشكيل لغوي فاتن يستدعي إلى الذهن نظرة الثقافة العربية إلى سحرية الحرف الذي ينطوي على خواص غامضة تتصل بالمقدر ومكتوب في الغيب: (الجدارية ص:102)

واسمي ، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى
واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين
دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /

ينطوي هذا التفكيك للاسم على دلالات رمزية وإيحائية تومئ إلى شاعر عاشق منكسر، قريب من تخوم الموت الذي يتهدد وجوده الجسدي. فكيف تعامل درويش جماليا مع الموت؟ وما أبرز العناصر التي توسل بها من أجل القبض على متخيل الموت؟

خطاب الموت في جدارية محمود درويش

عناصر بناء متخيل الموت:
يشتبك درويش في الجدارية مع فكرة موته فيشحذ جميع أسلحته الفنية ويستثمر خبرته الجمالية من أجل القبض على الموت حالة ذهنية وشعورية يعيشها الشاعر بعمق وجودي وحسرة فاجعة، ويطمح درويش في هذه القيدة إلى أن يرسم صورة كلية للموت كما تتصوره الذات الشاعرة وتتخيله. مستفيدة في ذلك من مختلف الأدوات التعبيرية التي طورها درويش في مسيرته الشعرية المتدفقة. حيث يستدعي في هذه القصيدة عالما ميثولوجيا يزخر بالأبعاد الغرائبية، إضافة الى إشارات عديدة مستمدة من نصوص دينية وثقافية تغني التجربة الشعرية بما تقدم من بدائل تخييلية تمكن الشاعر من قهر الموت والتغلب عليه، حيث تشكل رموز الخصب والنماء، بالمفهوم الحضاري الشامل للكلمة. نقيضا لفكرة الموت التي يجابهها الشاعر ومقابلا لها. ولما كانت تجربة الموت تجربة فريدة واستثنائية فإن الشاعر يكشف في هذه القصيدة عن وعي جمالي يقظ يصارع الموت ويحاول التغلب عليه بتشكيل مجموعة من الصور، ترسم في مجموعها الصورة المتخيلة للموت، كما يوظف درويش استراتيجية جمالية تقوم أدوات تعبيرية يسترفدها من الأنواع الادبية المختلفة مثل لحوار الخارجي، والحوار الداخلي والسرد والتكرار، الذي يطور المواقف الانفعالية والحالات الوجدانية، ويصورها من زوايا مختلفة. من أبرز العناصر الفنية والجمالية التي سخرها درويش لبناء متخيل الموت: التشخيص الحواري والتخييل الحلمي والتشكيل الأسطوري والتفصيل السردي والترجيع الغنائي.

التشخيص الحواري:
من مظاهر الجمال في مراثي الذات عند درويش الحوار الشفيف الذي يقيمه الشاعر مع الموت، حيث يأتي الحوار تأكيدا لجدلية الحياة والموت التي يقدمها درويش في صور عديدة ومشاهد متنوعة يحاول من خلالها القبض على متخيل الموت باسستثمار القدرة التعبيرية والطاقة التشخيصية التي تنطوي عليها اللغة الشعرية. ولعل تشخيص الموت عن طريق إنشاء وضعية تحاورية بين الذات التي تستشعر قرب نهايتها وبين الموت الذي يتأهب لإنجاز مهمته أن يمثل بعدا من جماليا في قصيدة الجدارية التي تطمح إلى تعيين الموت ورسم أطيافه وأشباحه عبر تشييد متخيله؛ حيث المحاورة الشعرية أداة جمالية يلوذ بها الشاعر في مواجهة الموت والغياب: (الجدارية ص:50)

يا موت!
يا ظلي الذي سيقودني
يا ثالث الإثنين
يا لون التردد في الزمرد والزبرجد
اجلس على الكرسي!
ضع أدوات صيدك تحت نافذتي
لا تحدق يا قوي إلى شراييني
لترصد نقطة الضعف الأخيرة !

لقد استطاع درويش بفضل ما أتيح له من حدس فني وجمالي يقظ أن يرسم في الجدارية موتا مختلفا. إذ يشخصه حتى يتمكن من تعيين ملامحه وضبط ممارساته مؤسسا بذلك لجمالية جديدة في مواجهة فعل الموت، حيث يتجسد أمامنا الموت من خلال الرسم الشعري الذي أنجزه درويش موتا أليفا مختلفا عن صورته في المخيال الثقافي الجماعي. حيث يسعى الخطاب المباشر للموت الى تجريده من الجوانب المأساوية التي تصاحبه في المتخيل الإنساني و تحريره من صورته المفزعة، لتعطيه بعدا إنسانيا يجعل العلاقة بين الذات والموت ودية وغير عدائية:

ص: (الجدارية ص:59)

فلتكن العلاقة بيننا
ودية وصريحة: لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها
ولي منك التأمل في الكواكب

وإذا كان الشاعر يبدي في المقطع تأدبا ظاهرا في مخاطبة الموت، حيث يتوسل إليه أن يتمهل في إنجاز مهمته فإن هذه النبرة الاستجدائية ما تلبث أن تتحل إلى مواجهة شرسة يستثمر فيها درويش موهبته الشعرية من أجل رسم صور تسخر من الموت ومن أفعاله غير عابئة بقوته وجبروته: (الجدارية ص:57)

وأيها الموت التبس واجلس
على بلّور أيامي، كأنك واحدٌ من
أصدقائي الدائمين، كأنك المنفيّ بين
الكائنات. فوحدك المنفيّ
لا تحيا حياتك. ما حياتك غير موتي. لا
تعيش ولا تموت. وتخطف الأطفال
من عطش الحليب إلى الحيب ولم
تكن طفلا تهز له الحساسين السرير،
ولم يداعبك الملائكة الصغار ولا
قرون الأيّل الساهي، كما فعلت لنا
نحن الضيوف على الفراشة. وحدك
المنفي يا مسكين، لا امرأةٌ تضمك
بين نهديها، ولا امرأة تقاسمك
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحي
المرادف لاختلاط الأرض فينا بالسماء.
ولم تلد ولدا يجيئك ضارعا: أبتي،
أحبك. وحدك المنفي يا ملك
الملوك، ولا مديح لصولجانك. لا
صقور على حصانك. لا لآلئ حول
تاجك. أيها العاري من الرايات
والبوق المقدس! كيف تمشي هكذا
من دون حراس وجوقة منشدين
كمشية اللص الجبان.

يبدو الموت في هذه الفقرة الشعرية ضعيفا مهزوما يستثير الشفقة ويستدر العطف. لقد تخلى عنه سلطانه فظهر محروما من كل الأشياء الجميلة التي يتمتع بها الإنسان العادي، فالموت كما يكشف المقطع:

-لا يحيا حياته.
– لم يتلذذ بجمال الطفولة.
– لم يمارس الحب مع امرأة.
– لم ينعم بالأبوة.
– ملك مخذول في مملكته.

في هذا المقطع الشعري تبلغ الذات ذروة تألقها وانتصارها على الموت الذي يبدو عاجزا مستسلما أمام بهاء الحياة. لقد نجح الشاعر في تعرية الموت وإبراز نقط ضعفه عندما فتح قصيدته أمام دفق الحياة وتيارها الجارف وما تغدقه على الإنسان من فيض جمالي يجعل الإنسان يعيش فرحا طفوليا لا ينقضي. في اللحظة التي تلتحم الذات بالحياة تحقق انتصارا باهرا على أسباب فنائها حيث تكشف للموت أن قوته العمياء لا تستطيع أن تعوضه ما حرم منه (دفء العواطف) وإذا كان الموت يستطيع أن يهزم الجسد ويخضعه فإنه لا يستطيع حتما أن ينال من الحمولة الرمزية التي تكرست من خلالها الذات الشاعرة شخصية أدبية شامخة مكنها منجزها الشعري من تجاوز الفناء إلى التعلق بالأبدية حيث تمرح الأرواح المبدعة في خيلاء: (الجدارية ص:54)

هزََمَتكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها
هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين
مسلةُ المصريّ مقبرةُ الفراعنةِ النقوشُ على حجارةِ معبدٍ
هزمتكَ
وانتصرَتْ وأفلتَ من كمائنِكَ
الخلودُ
فاصنعْ بنا واصنعْ بنفسِك ما تريدُ ….

يكشف هذا المقطع أن درويش يوظف الكتابة الشعرية التي نقشها على صفحات جداريته أداة لمواجهة الموت والامحاء. فقد شكلت هذه القصيدة الطويلة ” مواجهة للموت بسلاح الذاكرة الحية التي تختزن قدراً وفيراً من الأحداث والرموز الثقافية. إنه يقدم. عبرها. على إشهار الكتابة بكل ما تختزنه من حدود معرفية وحدود خيالية في وجه الموت الذي يتربص بالجسد. وهو بعبارة أخرى يفضح عري الموت وجبنه بالإشارة إلى كونه لا يستطيع أن ينال من ضحيته سوى الأعضاء الهشة، لكنه في القابل لا يقوى على ابتزاز حمولته الرمزية تلك التي ستمكنه من المكوث خالداً في ملكوت الأفكار والتوهج الرمزي والجمالي” . ولا أدل على ذلك من أن الشاعر يعتبر قصيدة الجدارية “معلقة أخيرة ” (الجدارية ص:36) يرفعها في وجه الفناء في مسعى للإفلات من فخاخه وكمائنه التي ينصبها لبني الانسان المنذورين للغياب والنسيان. فالفن يستطيع أن يكفل للشاعر إمكانية الانتصار على الموت، مثلما انتصرت الأغاني في بلاد الرافدين ومسلة المصري، ومقابر الفراعنة. ولا شك أن درويش خالد لا محالة، بما ابتكره من صور وأخيلة في أشعاره التي شكلت أسطورة الشعر الفلسطيني والإنساني في كل تحولاتـــه وانتشـــــــاره: (الجدارية ص:68)

خضراء أرض قصيدتي
خضراء عالية على مهل أدونها
على وزن النوارس في كتاب الماء
خضراء أرض قصيدتي
خضراء عالية على نهل أدونها
على وزن السنابل في كتاب الحقل
كلام الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد … البعيد

لقد آمن درويش بأن الشاعر المبدع سليل الخلود فما نقشه الأسلاف من فنون على الجدران ظل متوهجا في ذاكرة الزمن. فالكتابة تحقيق للكينونة، ونهاية لاغتراب الذات المبدعة:

أنا من تقول له الحروف الغامض: (الجدارية ص:34)
اكتب تكن !
واقرأ تجد
وإذا أردت القول فافعل، يتحد
ضداك في المعنى
وباطنك الشفيف هو القصيد

ومن هنا جاءت قصيدة الجدارية مسكونة بهاجس الرغبة في مواجهة الموت والانتصار عليه عن طريق الاحتماء بالتراث الشعري الذي أنجزه أسلاف درويش من الشعراء الكبار الذين عانقوا الخلود بعدما نجحت نصوصهم في تجاوز أسباب الفناء: (الجدارية ص:30)

رأيت ريني شار
يجلس مع هيدغر
…………
رأيت المعري يطرد نقاده (الجدارية ص:31)
من قصيدته :
لست أعمى
لأبصر ما تبصرون.

لقد استحضر درويش الشعراء الذين عبروا عن وعي حاد تجاه الموت متخذا من الإشارة إلى أسمائهم دعامة دلالية وإيحائية تساعده على مواجهة الغياب الذي يتهدد وجوده الجسدي، حيث يحاور نصوصهم ويتعلم منها تحدي الموت والتغلب عليه. لقد تعلم من نصوص أسلافه أن يمد بصره وبصيرته إلى الماوراء فهناك دائما على الأرض ما يستحق الحياة: (الجدارية ص:49)

أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادِك، ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقٌي من حياتي
قرب خيمتك، انتظِرْني ريثما أنهي
قراءة طرْفة بنِ العبْد. يغْريني
الوجوديٌون باستنزاف كلِ هنيْهة
حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة

عندما يخاطب درويش الموت قائلا ” انتظِرْني ريثما أنهي قراءة طرْفة بنِ العبْد” فإنه لا يقصد بفعل “القراءة” صرف العمر في الاستزادة من المعارف والعلوم ولكنه يستخدمه للإشارة إلى تنفيذ وصية طرفة في استغلال ما تبقى من لحظات عمره في النهل من متع الحياة التي اختزلها في عبارة شعرية كثيفة ودالة ” حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة”.

يمثل استحضار طرفة بن العبد في هذا السياق النصي إشارة إلى أن درويش اختار هذا الشاعر ليكون رفيقه فيما تبقى له من عمره. حيث يعتبر طرفة من أبرز الشعراء الذين أقاموا حوارا عميقا مع الموت في معلقته الشهيرة. لقد أدرك على حداثة سنه أن الإنسان يحمل في جسده بذور فنائه. وما دام الموت قدر الكائن فقد قرر الشاعر أن يواجهه بالإغراق في متع الحياة والانهماك في ملذاتها. وهو في هذا التصور قريب من الوجوديين الذين آمنوا بعبثية الوجود الإنساني؛ فالوجود من عدم وإلى العدم يصير. ذلك ما اقتنع به الشاعر الشاب عندما أعلن في معلقته التي رفعها نشيدا عاليا في وجه الفناء أنه من العبث أن يعيش الإنسان بعيدا عن متع الحياة وملذاتها.

عندما يعمد درويش إلى استحضار أسلافه من الشعراء الذين أدمنوا التأمل في تجربة الموت فإنه يستخدمهم قناعا يكثف من خلاله الأبعاد الدلالية والرمزية التي أراد توصيلها لقارئه من خلال الجدارية بعد أن يؤول نصوصهم بما يتوافق وتجربته الخاصة. وهو إجراء يمكن الشاعر من خلق نوع من الحلول بين الماضي والحاضر مما يغني الرؤية الشعرية التي تصبح أكثر عمقا واتساعا لقدرتها على الوصل بين ما هو ماض غابر وما هو حاضر آني. يقول كمال أبو ديب إن “لغة الأسطورة حين تدخل في النص تؤدي دورا جوهريا هو فتح النص تماما؛ فتحه تزامنيا؛ أي على صعيد العلاقات المتشكلة ضمن بنية النص بين المكون الأسطوري والمكون التجريبس، ثم توالديا أي على صعيد العلاقات بين النص بوصفه بنية كلية وتاريخ الثقافة بأكملها من حيث تنبع الأسطور. إن الأسطورة بهذا التصور فعل توتير حاد في النص وفتح لبؤرة إشعاعات داخلية وخارجية في النص”‘. تنبثق أهمية استدعاء الشخصية- الرمز من قدرتها على رفد النص الشعري بتوتر درامي حاد يساعد الشاعر على توصيل تجربته الوجدانية إلى المتلقي بكثير من النجاعة ويرجع ذلك إلى المفارقة الجمالية التي تنجم عن توظيف شخصية تاريخية تتصل تجربتها العاطفية والانفعالية في كثير من نواحيها مع تجربة الشاعر مما يخلق التباسا من شأنه أن يعمق التجربة الجمالية التي تعبر عنها القصيدة؛ ذلك أن ضمير المتكلم الذي يأتينا من القصيدة هو صوت الشخصية وليس صوت الشاعر، لكن الصوت الذي ينبعث من الأغوار السحيقة للقصيدة ليس صوت الشخصية ولا صوت الشاعر ولكنه صوت مركب ينجم عن تفاعل وتداخل صوت الشاعر وصوت الشخصية وكأن الشاعر يعزف لحنين متزامنين.

التخييل الحلمي:
تنطلق قصيدة الجدارية من رؤيا حلمية تنبؤية لا تعترف بالحدود المنطقية بين الأشياء، حيث يظهر درويش في هذه القصيدة احتفاء بالصيغ المجازية والتراكيب الاستعارية التي ترد في سياق إبداعي حلمي يؤثر البصيرة على البصر، والحدس على الاستنباط: (الجدارية ص:41)

خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها.
ولي منها: تأمل نرجس في ماء صورته
ولي منها وضوح الظل في المترادفات
ودقة المعنى.

ولى منها: حمار الحكمة المنسيّ فوق التل
يسخر من خرافتها وواقعها.
ولي منها: احتقان الرمز بالأضداد
لا التجسيد يرجعها من الذكرى
ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى.

يوظف درويش الحلم في قصيدته الجدارية توظيفا جماليا حيث يشغل الشاعر تقنيات النقل والإزاحة التي تميز عوالم الحلم من أجل تخليق الرؤيا وإعادة صياغة العالم صياغة جديدة تقوم على الوهم والالتباس وهو ما يساعد على تقديم رؤيا غير مألوفة للكائنات والموجودات: (الجدارية ص: 10)

جئتُ قبل ميعادي
فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي:
“ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟”
ولم أسمع هتَافَ الطيَبينَ، ولا
أنينَ الخاطئينَ، أنا وحيد في البياض،
أنا وحيدُ…
لا شيء يُوجِعُني على باب القيامةِ.
لا الزمانُ ولا العواطفُ. لا أُحِسُّ بخفَّةِ
الأشياء أو ثقل
الهواجس. لم أجد أحداً لأسأل:
أين “أيني” الآن؟ أين مدينة
الموتى، وأين أنا؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا… في اللا زمان،
ولا وُجُودُ

لقد توسل درويش بالحلم في هذا المقطع باعتباره أداة تعبيرية وتقنية جمالية مكنته من إنشاء كون متخيل يتشكل من مشاهد بصرية لا تتحقق بشكي كلي إلا عند إغماض العينين والدخول في غيبوبة الحواس.

لقد تمكن درويش عن طريق استرفاد تقنية الحلم من التأليف بين المتضادات والمتعارضات من أجل تشكيل منظومة متجانسة تمكن من تجميع صورة ذهنية لقيامة متخيلة مختلفة تماما عن الفضاءات والوقائع الغنية التي شيدتها الأديان السماوية.؛ فالفضاء وجود سديمي يطغى عليه اللون الأبيض الذي ابتلع كل شئ. وهو فضاء غرائبي تغدو فيه الروح فاقدة لكل مخزونها المعرفي والشعوري الذي راكمته في حياتها السابقة، حيث ينتفي الشعور بالخفة أو الثقل. زمما يثير الانتباه أن هذا الفضاء يخلو تماما من موجوداته المفترضة فلا تسمع فيه آهات الخاطئين بسبب العذاب ولا ترتفع فيه هتافات الطيبين فرحا بالنعيم. كما أن الشاعر يكسر السياق الزمني الواقعي لصالح سياق حلمي عائم يتجاوز قوانين الواقع الطبيعي والفيزيائي عبر فعالية الحلم وآليات الترميز الشعري حيث تلعب مظاهر الانحراف الإسنادي دورا جماليا في بناء المعنى وتشكيل الدلالة. حيث تشكل الصيغ الشعرية وكيفية صناعتها للمجازات أهم الآليات المولدة للفعل الشعري التخييلي الذي تتضافر عناصره وتتساند من اجل تشكيل سياق تعبيري حلمي يمكن الشاعر من ترتيب عناصر الوجود العيني والغيبي ترتيبا جديدا يرتهن إلى مقتضيات الرؤيا الشعرية التي تستطيع تجسيد المعن التجريدي بطريقة تشكيلية هارمونية تجمع بين المرئي واللامرئي، بين الممكن والمتخيل، بين التاريخي والأسطوري. وهو ما يمكن القارئ من النفاذ إلى أسرار الذات الشاعرة التي لا تنكفئ على نفسها إلا لكي تحل في الكون وتنحل فيه فيما يشبه الحلول الصوفي الذي يؤمن بوحدة الوجود والموجودات: (الجدارية ص:27)

وتنحلٌ العناصر والمشاعر . لا
أري جسدي هناك ، ولا أحسٌ
بعنفوان الموت ، أو بحياتي الأولي .
كأنٌِي لسْت منٌي . منْ أنا ؟ أأنا
الفقيد أم الوليد ؟

من مظاهر التشكيل الحلمي في الجدارية ميل الاشتغال اللغوي في هذه القصيدة إلى التشذر باعتباره استراتيجية تعبيرية وجمالية تناهض شفافية الكتابة الواقعية التي تراهن على تشخيص الواقع المرجعي عن طريق محاكاته والمحافظة على تماسكه ووثوقيته. ولما كان الشاعر يعبر في هذه القصيدة عن تجربة حياتية فريدة تتجاوز قوانين الواقع الطبيعي والفيزيائي فقد توجهت الاستراتيجية الجمالية في هذه القصيدة إلى خلق صور وأخيلة غائمة مفارقة للإطار المتحكم في فهمها وتداولها، حيث ينشئ الشاعر بما يشكله من صور وأخيلة عالما نصيا سديميا تطفو على سطحه ذكريات متشظية ترتبط بمسير ومصير حياة محمود درويش المفعمة بالهشاشة والامحاء أمام الحضور الطاغي للموت والغياب كما يظهر من هذا المقطع الشعري الذي يهيمن عليه الالتباس وعدم اليقين: (الجدارية صص:44-45)

منْ أنت ، يا أنا ؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن ، وفي القيامة واحد .
خذْني إلي ضوء التلاشي كي أري
صيْرورتي في صورتي الأخري . فمنْ
سأكون بعدك ، يا أنا ؟ جسدي
ورائي أم أمامك ؟ منْ أنا يا
أنت ؟

في هذا المقطع يتجسد الالتباس واللايقين في حالاته القصوى. لقد تحول “أنا” الشاعر من مطلق الحضور وكلي المعرفة كما تصوره الميتافيزيقا لتلقليدية على مجرد كائن ضعيف تستبد به الشكوك وينخر النسيان ذاكرته.

يمثل اللايقين بعدا من الأبعاد المؤسسة لجمالية خطاب الموت في قصيدة الجدارية فهو أداة لتصوير حاضر سديمي تطبعه التناقضات والمفارقات التي تنسف موثوقية الواقع الحسي ومرجعية قوانينه الصارمة. حيث تطفو على سطح القصيدة مشاهد وتذكرات مبتورة وملتبسة يستعصي على الذاكرة استعادتها كليا من قبضة النسيان: . (الجدارية صص:23- 24)

وأنظر نحو
نفسي في المرايا
أَنا هُوَ ؟
هل أؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل
لأخيرِ ؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض ،
أَم فُرِضَتْ عليَّ ؟
وهل أنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ ؟

وقد نجم عن الغموض الذي يلف مصير الذات أن شاع في الجدارية إحساس أليم بالضياع في المكان والزمان، حيث غدا “الواقعي هو الخيالي الأكيد” كما عبر الشاعر في لحظة تنبؤية رؤياوية: (الجدارية ص:25)

أفرغني الهباء من الإشارة و العبارة
لم أجد وقتا لأعرف منزلتي
الهنيهة بين منزلتين لم أسأل
سؤالي بعيد عن غبش التشابه
بين بابين : الخروج أم الدخول …
و لم أجد موتا لأقتنص الحياة
ولم أجد صوتا لأصرخ : أيها
الزمن السريع خطفتني مما تقول
لي الحروف الغامضات :
الواقعي هو الخيالي الأكيد

لقد أصبح الماضي والحاضر امحاء ودخولا في دائرة الغياب الأبدي باعتباره الرحيل الكبير والأخير، لكن الحركة لا تتوقف بل تعاود انبثاقها وتجددها حيث تتحول النهاية عند درويش إلى بداية جديدة مضادة للنهايات المحددة: (الجدارية ص:16)

سنكون يوما ما نريد ُ
لا الرحلةُ ابتدأتْ ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكما ءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات :
أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةُ ،

ولذلك يعمد درويش إلى تدبير لحظة ما بعد اليوم بكثير من الألفة والدعة: (الجدارية ص:49).

فيا موت انتظرني ريثما أنهى
تدابير الجنازة في الربيع الهش
حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه سأقول صبّوني
بحرف النون حيث تعبُّ روحي
سورة الرحمن في القرآن وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي
ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو
زهر المحبطين يذّكر الموتى
بموت الحب قبل أوانه
وضعوا على التابوت
سبع سنابل خضراء،
وبعض شقائق النعمان ، إن وجدت
وإلا فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس

يظهر الشاعر في هذا المقطع رباطة جأش منقطعة النظير في مواجهة الموت إذ لا يكتفي بعدم المبالاة بالغياب الكبير بل يحتفي بموته ويستعد له بيقظة وجودية عميقة حيث لا ينس أن يدبر تفاصيل الرحيل في حياته مادام الموت ليس نهاية ولكنه تحول في الوجود وانتقال من حال إلى حال. رحلة الحياة لا تنتهي بالموت ولكنها تستأنف مسيرتها قد تغير طرقها لكن باتجاه الأبهى والأجمل باتجاه أعلى الجداريات وأرض القصيدة الخضراء التي تستدعي إلى الذهن صورة تموز القتيل المنبعث للحياة كل ربيع وخطى جلجامش الخضراء التي يستعيد الشاعر رحلته الرمزية بحثا عن نبتة الخلود السحرية. وهو ما يجعل حركة الرؤيا الشعرية تغادر دائرة الماضي والحاضر لتعانق أفقا أر حب ينفتح على المستقبل – الغد: (الجدارية ص:97)

وقلتُ : إن متُّ انتبهتُ …
لديَّ ما يكفي من الماضي
وينقُصُني غَدٌ …

يكشف هذا المقطع أن حياة الشاعر تحققت في الماضي باعتباره حيزا تم عيشه أما الغد فهو الناقص المفتوح على كل الاحتمالات. إنه تحقق تتخذ فيه الذات تجليات أخرى جديدة في مرايا المستقبل بما هو غياب يتخذ معنى العبور إلى الحضور في صورة أخرى حاول الشاعر اسشراف ملامحها من خلال الطاقة الإبداعية التي يتيحها له المخيلة. حيث استثمر الرؤيا الحلمية في إعادة تأثيث فضاء المستقبل باحتمالات متنوعة يستعين الشاعر في إنشائها بخيال مجنح يستطيع أن يرسم واقعا جديدا تتبادل فيه الأشياء هويتها ومواقعها: (الجدارية ص:12)

– سأصير يوماً فكرةً….
– سأصير يوما طائرا…
– سأصير يوماً شاعراً…
– سأصيرُ يوماً كرمةً…

تنبثق شعرية هذا الصور من رؤيا حلمية تفصيلية شاملة لحالات الوجع القصوى التي تستبد بالذات الشاعرة في عزلتها القاسية وهي تواجه مصيرها المحتوم؛ فلم يتبق للذات في أقسى لحظات غربتها الوجودية من ملاذ غير الشعر- الرؤيا تحتمي به من أجل الإفلات من ضغط حالات الحصار الجسدي والزمني فالشاعر لن يصير سوى ما يريد، حيث تجربة الحياة والموت “مشدودة إلى المستقبل بقدر ما هي مشدودة إلى الواقع. إنها معاناة للواقع الذي يتضمن معنى الموت واستشراف للمستقبل الذي يحمل معنى التجدد والانبعاث”.

لقد تمكن الشاعر عن طريق الرؤيا والحلم من أن يعيد ترتيب الأشياء في المستقبل بعدما تحرر من وطأة ذاكرته المشدودة إلى الماضي وعاداته. لقد أصبح الشاعر ذاتا منذورة للمستقبل تؤثت فضاءه وترتب أشياءه بكل ما أوتيت من حدس رؤياوي يسعفها في خلق حالة شعرية غير معهودة في تاريخ الشعرية التقليدية وقد تجسدت هذه الرؤيا في مجموعة من اللفتات التعبيرية والإسنادات المجازية التي تستفز حساسية القارئ وتستثير في قلبه ووجدانه أقصى حالات الوجد.

التشكيل الأسطوري:
يمثل استدعاء الأسطورة عنصرا تكوينيا في بناء جمالية خطاب الموت في جدارية محمود درويش. ذلك أن لجوء الشاعر إلى تطعيم قصيدته بمناصات أسطورية فرضته الحالة الانفعالية التي استبدت بدرويش وهو يجابه لحظة ملتبسة ومتوترة تمثلت في تجربة الموت وما يكتنفها من غموض واهوال تربك الذات الشاعرة وهي ترى كينونتها الهشة مهددة بالتواري والغياب بعد أن ملأت الكون بحضورها الشعري المتوهج.

لقد اختار درويش من ذاكرة الأساطير تلك التي نشأت وتخلقت في سياق صراع الإنسان مع الموت. من ذلك أسطورة الفنيق وملحمة جلجامش وشخصية المسيح حيث وردت هذه الإشارات الأسطورية مندغمة في نسيج النص الشعري اندغاما عضويا الأمر الي مكن قصيدة الجدارية من خلق لحظة شعرية غنية بالدلالات الإنسانية والحمولات التاريخية والثقافية والحضارية. فقد أشار درويش إلى الفنيق الطائر الأسطوري الذي يعمد، عندما يشيخ ويستشعر قرب نهايته، إلى حك جناحيه فيحترق لينبعث من موته ويتجدد: (الجدارية ص: 12)

سأصير يوماً طائراً، وأسُلُّ من عدمي
وجودي. كُلَّما احترقَ الجناحانِ
اقتربت من الحقيقةِ. وانبعثتُ من
الرماد. أنا حوارُ الحالمين، عَزفتُ
عن جسدي وعن نفسي لأكملَ
رحلتي الأولى إلى المعاني

وقد بلغ استدعاء الأسطورة ذروة اشتغاله في الجدارية باستحضار ملحمة جلجامش الملك السومري الأشهر الذي حلم بالخلود وسعى إلى تأبيد وجوده عن طريق البحث عن نبتة الخلود، لكن آماله ستؤول إلى الفشل لأن الفناء قدر الكائن. ونظرا لشمولية النظرة التي عالجت بها الاسطورة موضوعة الموت فقد استأثرت بخمس صفحات من الجدارية مما يدل على مدى احتفاء درويش بمغامرة الملك السومري في مسعاه إلى تأجيل موته. ولعل أهم ما يلفت النظر أن درويش يسند الكلام إلى بطل الخلود الذي يتولى سرد تفاصيا مغامرته بضمير المتكلم حيث بدأت مأساته مع الفناء بموت رفيقه أنكيدو الذي رأى فيه علامة تنذره بمصيره الأليم: (الجدارية ص:80)

ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا,
فنحن القادرين على التذكر قادرون
على التحرر,سائرون على خطى
جلجامش الخضراء من زمن الى زمن…
هباء كامل التكوين…
يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.
نام انكيدو ولم ينهض جناحي نام
ملتفا بحفنة ريشة الطيني.آلهتي
جماد الريح في أرض الخيال.ذراعيَ
اليمنى عصا خشبية .والقلب مهجور
كبئر جف فيها الماء فاتسع الصدى
الوحشي : انكيدو,خيالي لم يعد يكفي لأكمل رحلتي واقعيا,هات
أسلحتي ألمعها بملع الدمع,هات
الدمع,انكيدو. ليبكي الميت فينا
الحي.

من الواضح أن صوت الشاعر يلتبس في هذه الفقرة الشعرية بصوت جلجامش الذي يتخذ منه قناعا يعبر من خلاله عن مأساته الشخصية وهو يرى فيه مصيره الفاجع أما أنكيدو فيمثل الجزء الفاني من جلجامش بعد أن تمرس بما هو بشري مفض إلى الموت والغياب ويرمز في نفس الوقت إلى الجسدي في الشاعر الذي يؤول إلى التحلل والتلاشي.

عندما تتوارى الذات عن نصها لتمنح سلطة الكلام لغيرها فإنها تتوخى إنتاج وهم انتساب الخطاب الشعري على المتكلم وهو ما يمنحها حضورا مضاعفا، حيث تنسخ من الأنا الغيرية وجودا آخر تتشكل من خلاله سيرة مزدوجة. إن الشاعر هنا يعيد إنتاج الآخر الغيبي الذي يشاركها تجربة التحديق في الموت من أجل التوغل داخله مما يتيح لها تجاوز نقصه وتأسيس كينونة يتضاعف فيها وجودها. وهي بذلك تنجز ما يمكن تسميته بالتداخل السيري الذي يسمح بتخليد الذات وتأبيدها في الزمن. لأن الحضور هنا يغدو حضورا مزدوجا تعيش من خلاله الذات تجارب الآخرين ومصائرهم. الأمر الذي يعمق الوجود ويضاعف الحضور.

تبدو الذات في هذا المناص الأسطوري وهي تستعيد مأساة الملك السومري عارية أمام موتها. لقد اقتنعت بعد مرافقتها له في رحلته المجازية بحثا عن النبتة السحرية التي باستطاعتها أن تجعله خالدا مثل الآلهة أن الخلود حلم مستحيل لأن الفناء قدر الكائن. وأمام هذه الحقيقة الفاجعة لا يبقى من ملاذ أمام الشاعر سوى مجابهة مصيرها بالإغراق في متع الحياة التي بدأت تتفلت من بين يديه: (الجدارية ص:84)

كل شيء باطل، فاغنم
حياتك مثلما هي برهة حبلى بسائلها،
دم العشب المقطر .عش ليومك لا
لحبك. كل شيء زائل . فاحذر
غدا و عش الحياة الآن في امرأة
تحبك ، عش لجسمك لا لوهمك

إلى جانب الإشارة الأسطورية لملحمة جلجامش تحضر في الجدارية شخصية دينية هي المسيح الذي يتخذ شكل رمز يختزل ثنائية الموت والحياة فالمسيح تجسيد لمحنة الإنسان المعاصر كما يمثل رمزا للاختيار الاكثر سموا عندما ضحى بنفسه من أجل إنقاذ الآخرين حسب مرجعها الثقافي في التراث المسيحي وإن درويش يوظف هذه شخصية المسيح توظيفا رمزيا وتخييليا من أجل رفد القول الشعري بكثير من سمات الفعل الدرامي، حيث يتوحد درويش بشخصية المسيح ويستعير لسانه ليبوح بمكنونات نفس حزينة ملتاعة تواجه خطر غيابها الأبدي: (الجدارية ص:42)

أعلى من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلت للشيطان : لا . لا تمْتحِنٌِي !
لا تضعْني في الثٌنائيٌات ، واتركني
كما أنا زاهدا برواية العهد القديم
وصاعدا نحو السماء ، هناك مملكتي
خذِ التاريخ ، يا ابن أبي ، خذِ
التاريخ “ واصنعْ بالغرائز ما تريد

ينبعث درويش في هذا المقطع الشعري مسيحا جديدا يلتقي مع المسيح القديم في الموت الإسمى الذي يتمثل في الصعود إلى أعلى، ولكنه يختلف عنه رفضه لرواية العهد القديم عندما يتوجه إلى الشيطان بدلا من الله بعبارته ” لا تمْتحِنٌِي !لا تضعْني في الثٌنائيٌات” طالبا منه بذلك عدم “وضعه في التجربة”، لكن درويش سرعان ما سيدرك البون الشاسع بينه تجربته مع الموت وتلك التي اجترحها المسيح. لقد كان المسيح مجللا بالقدرة على صنع المعجزات وإتيان الخوارق مثل المشي على الماء كما ان موته كان تبشيرا بالقيامة في حين يدرك درويش تماما مقدار عجزه وانكساره. إذ قوته ومعجزته تتمثل في قدرته على ممارسة اختياراته في الحياة وفي مقدمتها التجرؤ على رفض فعل الصلب والنزول من الصليب والاستماع إلى صوت القلب وما يردد من أناشيد تجسد فرح الحياة: (الجدارية ص:92)

مثلما سار المسيح علي البحيرة،
سرت في رؤياي،
لكني نزلت عن الصليب
لأنني أخشي العلو،
ولا ابشر بالقيامة
لم أغير غير إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا.

تنزع الذات الشاعرة في هذا المقطع إلى التشبه بالمسيح على مستوى الفعل والسلوك، لكنها تميل إلى تأسيس كينونة مختلفة عن مأساة المسيح في التوجه والوجهة؛ فإذا كان المسيح يسير على الماء فإن الشاعر يسير في الرؤى. وإذا كان المسيح يختار الصعود إلى الصليب فإن الشاعر يفضل النزول عنه. وتجد هذه الاختيارات المخالفة لشريعة المسيح تبريرها شعريا في أن المسيح كان مطمئنا إلى مصيره بإيعاز من ربه. ولذلك ذهب على الموت مفتح العينين لأنه اختار مصيره عن قناعة حتى يتمكن من التبشير بالقيامة. في حين لا ريغب الشاعر في موت يجهل كنهه وحقيقته. ولذلك اختار النزول من الصليب ليواصل الاستماع إلى نبض القلب وما يبدع من أناشيد تلوذ بها الذات الشاعرة في وحدتها القصية والقاسية: (الجدارية ص:46)

فغنِّي يا إلهتي الأثيرة، يا عناةُ
قصيدتي الأولى عن التكوين ثانية
فقد يجد الرواة شهادة الميلاد
للصفصاف في حجر خريفي، وقد يجدُ
الرعاةُ البئر في أعماق أغنية، وقد
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن
المعاني من جناح فراشة علقت
بقافية، فغنِّي يا إلهتي الأثيرة
يا عناة،

تستمد هذه الابتهالات التي يقدمها درويش لعناة من دلالاتها الشعائرية في سياق هذه القصيدة التي تحتفي بالحياة وتحاول الإفلات من قبضة الموت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا؛ فهذه الإلهة الأثيرة في الجدارية هي التي استطاعت تحرير بعل الذي يتماهى معه صاحب الجدارية من الموت وإعادته إلى الحياة. والغناء هنا رمز لعنفوان الحياة التي تنتصر على الموت.

وقد يفيد درويش في بعض المواضع من جداريته من مناصات دينية مثل قصص القرآن التي يستدعيها أجل تشييد عوالم تخييلية تشكل ثنائية الموت والحياة ركنا أساسا في بنائها وتكوينها: (الجدارية ص:60)

كن صديقا طيٌِبا يا
موت ! كنْ معني ثقافيا لأدرك
كنْه حكمتِك الخبيئةِ ! ربٌما أسْرعْت
في تعليم قابيل الرماية . ربٌما
أبطأت في تدريب أيٌوبي علي
الصبر الطويل

لقد أدمج درويش في هذا المقطع الشعري قصتين من القرآن تجسدان صراع الإنسان مع الموت، حيث تنبثق معاناة الذات من المساحة التي تمتد بين فعلين دالين ينسبا في القصيدة إلى الموت يتمثلان في الإسراع في تعليم قابيل فعل القتل وبالمقابل الإبطاء في تدريب أيوب على الصبر. لكن التأمل يكشف إذ يحيل إلى تجربة الموت الأولى كونيا عندما قتل قابيل أخاه هابيل أن الموت من صنع الإنسان نفسه عندما أسهم في بلورته بإيجاد أدوات تنفيذه كما أن الإنسان هو المسؤول عن بلورة مفهوم الموت عندما التفت إليه وانكب عليه قضاياه تفكيرا وتأملا عمق من دلالته بالنسبة إلى الإنسان الذي أصبح يجترح الموت ويعانيه مرات عديدة عبر استحضاره والاستعداد له بما أبدع من طقوس وما ابتكر من أوهام وتخيلات. وبذلك يكون درويش قد نجح في المزج بين قصتين قرآنيتين مختلفتين في مسيرهما التراجيدي؛ قابيل مرتكب أول جريمة كونية وأيوب الذي يتكلف الصبر على المعاناة. مما يكشف أن الإنسان خلق فكرة الموت ثم أعد لها ما شاء له خياله من الطقوس والشعائرية لعلها تستطيع التخفيف من فداحة المصير الفاجع الذي يتهدد وجوده الهش. فالإنسان هو الوحيد من بين الكائنات الذي يستطيع أن يتحمل فكرة موته وأن يحمل موتاه. لكنه الموت الذي يؤدي إلى حياة أبهى وأجمل. إنه العبور إلى المطلق واللانهائي: (الجدارية ص:63)

فماذا يفعل التاريخ، صِنوك أو عدوّكَ
بالطبيعة عندما تتزوج الأرضَ السماءُ
وتذرف المطر المقدس؟

يتمثل البعد الأسطوري في هذا المقطع في الإشارة إلى زواج الأرض والسماء الذي ينتج منه المطر المقدس وهي إشارة إلى أسطورة البعث كما صاغتها الشعوب الزراعية، حيث الانتصار يكون للخصب على الجدب، وحيث المطر هو ماء الحياة الذي يتسلل إلى باطن الأرض، كي يُخصبها ويمنحها الحياة والتجدد، لأن تجربة الحياة والموت ” تضع الخصب مكان الجفاف والأمل مكان الموت والنصر مكان الهزيمة”.

ومن هنا حضر اللون الأخضر بكثافة في هذه القصيدة لكونه يجسد طقس البعث الذي يتحقق في فصل الربيع : (الجدارية ص:68)

خضراء أرض قصيدتي، خضراء عالية
على مهل أدوّنها، على مهل، على
وزن النوارس في كتاب الماء أكتبها
خضراء أكتبها على نثر السنابل في
كتاب الحقل،

يحيل اللون الأخضر إلى موسم الربيع الذي يرتبط بشعيرة طقسية هي عودة الحياة لتموز جالباً الخصب والنماء إلى الأرض التي تخضر وتتجدد. وفي ذلك مخايلة رمزية بين تموز الذي يتجدد في فصل الربيع وقصيدة الجدارية التي مثلت تعويذة الشاعر لقهر الموت والاحتفاء بالحياة من خلال الإبداع الذي يهزم الموت. ولذلك يجلل درويش قصيدته باللون الأخضر الذي يعود مع موسم الربيع علامة آلهة وإلهات الخصب والنماء في الأساطير الوثنية القديمة. ولا يخفى أن استدعاء عناصر أسطورة الموت والبعث يعمق من دلالات وإيحاءات قصيدة الجدارية المكرسة بكاملها لتجربة الموت والحياة فهي أسطورة ثنائية مدارها على النقيضين المتآخيين الموت والحياة وما بينهما من حالات وجودية تتأرجح بين الفرح والحزن الضحك والبكاء الحضور والغياب. وهو ما يجليه الربط الذي يقوم به القارئ بين صفة الخضرة التي ما يفتأ الشاعر يسم بها قصيدته وبين خطى جلجامش الباحث عن نبتة الخلود. فالتماثل الدلالي والمزي واضح بين حال الشاعر الذي يجابه الموت بالكتابة وجلجامش الباحث عن نبتة الخلود: (الجدارية ص:80)

فنحن القادرين على التذكر قادرون
على التحرر، سائرون على خطى
جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن

وهذه المخايلة الرمزية التي توحد بين الذات ومعادلها الموضوعي من أبرز خواص التشكيل الأسطوري، حيث يتوحد الواقع بالحلم، والممكن بالمتخيل. ولذلك نقرأ في الجدارية (ص: 83):

الأسطورة اتخذت مكانتها / المكيدة
في سياق الواقعي. وليس في وسع
القصيدة أن تغير ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أن توقف الزلزال.

لقد مثل استدعاء المكون الأسطوري عنصرا مركزيا في تكوين جمالية خطاب الموت في جدارية محمود دروبش. إذ أضفى عليها صفة القصيدة التركيبية لكونها تدمج صوت الشاعر بصوت الراوي ومن جهة وبصوت الشخصية الأسطورية من جهة أخرى، وبالإضافة إلى ذلك مثل استدعاء الأسطورة أداة من أدوات التشكيل الجمالي في هذه القصيدة التي تفيض بالشاعرية الفذة. فعن طريق دمج العناصر الأسطورية في نسيج النص تمكن درويش من المزج بين أدوات تعبيرية تنتمي لأشكال خطابية مختلفة. مثل المسرح والسرد كما مزج بين التراث العربي المحلي والتراث الإنساني العالمي إلى جانب المزج بين الأزمنة حيث يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في سياق حلمي تتفاعل فيه الواقعة التاريخية المسرودة بصياغتها المعدلة استجابة لخصوصية الإبداع الشعري الذي يطمح إلى التعبير عن فواجه الذات بما يساويها أو يفسرها معنويا ورمزيا حتى يفتح قارئه على أفق من الاحتمالات والممكنات الدلالية والانفعالية. ولذلك استنفر درويش خياله المبدع والمبتكر من أجل تعديل الوقائع التاريخية والأسطورية بما يتناسب مع السياق النصي الجديد الذي تندرج فيه وخصوصية التجربة الإنسانية التي يراد نقلها والتعبير عنها. وهو ما يجعل النص الشعري يغتني بالأبعاد الرمزية والإيحائية التي يتيحها تتنوع المستويات التعبيرية وكثافة الرسالة الشعرية.

التخييل السردي:
يطور درويش في قصيدته الجدارية بناء سرديا ودراميا من خصائصه البارزة حضور مكثف لمكونات الخطاب السردي من جهة الأقوال والأفعال يقودها ناظم خارجي هو الشاعر الذي يعمل على ترتيب الاحداث والوقائع في بناء شذري تتنظم فيه العناصر السردية وفق نظام يخضع لإيقاع وانفعالات الذات الشاعرة بما يؤدي إلى إكساب النص الشعري سمة الدرامية من حيث هو سرد فاجع لأشواق ذات تحدق في موتها وتعاتق غيابها. فالقصيدة سرد شعري لتجربة شخصية مع الموت مما يجعلها تقترب من قصيدة السيرة الذاتية التي تتناول وقائع قولية وفعلية يتداخل فيها الواقعي بالخيالي والممكن بالمتخيل. ومن هنا شكل السرد بآلياته المختلفة ووظائفه المتنوعة مكونا مركزيا من مكونات الخطاب الشعري في قصيدة “الجدارية”. إنه أداة من أدوات التشكيل الجمالي التي توسل بها درويش من أجل تشييد جماليات خطاب الموت وتوليد مساراته الدلالية واستراتيجياته النصية.

يمثل السارد في الجدارية وعيا جماليا وإبداعيا ينبثق من خلال الوحدات الحكائية التي تتخذ شكل إسقاط تخييلي للمؤلف الواقعي المتحكم في بناء النص وتشكيل جمالياته. يتعلق الامر إذن بشخصية مركزية تمثل الناظم الذاتي لنسيج النص إذ يتكفل بسرد وقائع وتفصيلات سيرية عديدة ومتنوعة ضمن سياق شعري يقترب في كثير من المواضع من الصوغ السيرذاتي حيث يستعيد السرد الشعري في الجدارية تجربة الموت كما عاشها وانفعل بها الشاعر- المؤلف الواقعي الموجود خارج النص.

يكشف النظر الدقيق في نص الجدارية من منظور السرد الشعري عن وجود صوتين سرديين يتعاقبان على تنضيد المحكيات وتقديم المشاهد؛ سارد مشارك في أحداث الحكاية ويعرف بالسارد “جواني الحكي” على نحو ما تجسده هذه الفقرة الشعرية: (الجدارية ص:10)

أنا وحيدُ …
لاشيء يُوجِعُني على باب القيامةِ .
لا الزمانُ ولا العواطفُ . لا
أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ
الهواجس . لم أَجد أَحداً لأسأل :
أَين ( أَيْني ) الآن ؟ أَين مدينةُ
الموتى ، وأَين أَنا ؟ فلا عَدَمٌ
هنا في اللا هنا … في اللازمان ،
ولا وُجُودُ

يتميز السرد في هذا المقطع الشعري بأنه سرد ذاتي مباشر على نحو ما نجد في السيرة الذاتية التي يتقاطع فيها السرد الذاتي والسرد التخييلي. وإن كان السرد الشعري في هذا المقطع يتسم بالإغراق في عوالم غرائبية متخيلة تتجاوز الواقع الحسي بوساطة الصيغ المجازية والسرد الحلمي والتكثيف الدلالي. وهو ما يسهم في إغناء الكون التخييلي والجمالي الذي يشيده النص ؛ فالأحداث التي تجري في فضاء غرائبي يتم سردها باعتماد ضمير المتكلم الذي يكشف عن سارد متماه بمرويه وملتحم بطبقات محكيه من دون مواربة أو تحفظ.

إلى جانب السرد بضمير المتكلم يتحقق السرد الشعري في بعض المقاطع من الجدارية بوساطة سارد خارجي غريب عن الحكاية. يتعلق الأمر بسارد غائب غير مشارك في الأحداث أو “براني الحكي”: (الجدارية ص:20)

في الجرّة المكسورةِ انتحبتْ نساءُ
الساحل السوريّ من طول المسافةِ ،
واحترقْنَ بشمس آبَ.

يطغى على هذه الفقرة الشعرية سرد موضوعي يتحقق من منظور سارد غائب يتموقع خارج الحكاية. ويمثل هذا الصنف من السرد الشعري بعدا من أبعاد الصوغ الجمالي في نص الجدارية، حيث يغدو المحكي أكثر غنى وفاعلية عندما يقدم من خلال وجهة نظر غائبة تسرد وتستبطن تتأمل وتعلق على ما يتصل برؤى الشاعر- الناظم الذاتي ورهاناته الجمالية ومرجعياته الثقافية. إنه جزء من الاستراتيجية الجمالية التي يطورها درويش في هذه القصيدة الغرض منها تنسيب الحقائق وتكسير رتابة الصوت الواحد.

إن صوت السارد حاضرا في نص الجدارية أوغائبا ليس عند ترجيع النظر سوى امتداد وتنويع على صوت الشاعر؛ أي إن السارد بأقنتعته المختلفة تجسيد لقناعات المؤلف الحقيقي الذي يوجد خارج النص؛ فدرويش لا ينفصل عن نصه الشعري إلا ليلتحم به من أجل تحقيق مزيد من الظهور والحضور. فالمسافة الهشة بين الصوتين السرديين لا تلبث أن تنمحي وتتلاشى لينكشف القول الشعري عن ذات مركبة يتعايش فيها الحضور والغياب بلا انفصال. وهو ما يتيح لنا القول إن تأرجح السرد في نص الجدارية ما بين ضميري المتكلم والغائب لا ليس تأشيرا على صوتين منفصلين أو شخصيتين متمايزتين ولكنه تقنية يوظفها الشاعر من أجل إغناء نصه إبداعيا وجماليا فقد مكنته هذه الاستراتيجية من تنويع زوايا التقاط المشاهد والمواقف كما عاشها الشاعر أو تخيلها، كما استضمرها أو استعادها في مسعى للإفصاح عن أشواقه ورغائبه، عن أحلامه وأهوائه، عن نزقه وحكمته. إن توزع السرد الشعري في الجدارية بين ضميري المتكلم والغائب ترميز مكثف لمحكي الذات وهي تبني خطاب موتها على نحو متخيل فريد وأخاذ. ومن هنا التحم الضميران في القصيدة بطريقة كاشفة وملغزة في نفس الآن من أجل التعبير عن الحالة الوجدانية التي تلبست الشاعر على نحو مضاعف عميق وشفاف.

إن تعدد الأصوات السردية في نص الجدارية استراتيجية جمالية توسل بها الشاعر من أجل تنويع صوره وأقنعته وهو ما أتاح له تنويع الطرائق التعبرية التي أسعفته في مضاعفة معادلاته الرمزية التي وظفها من اجل الإحالة إلى ذاتيته ومرجعيته وفق مبدأ الصوغ الذاتي الذي يسمح بإعادة بناء الذات لا كمما هي في الواقع ولكن كما تحلم أن تكون وهو ما أفصح عنه درويش بهذه العبارة الشعرية الكثيفة (سأصير يوما ما أريد) التي ترددت في مواضع متعددة من الجدارية مما يدل على مدى الإلحاح التي مارسته على نفسية الشاعر وذاكرته المبدعة. فهي اختزال للحلم الإنساني المستحيل والعصي على التحقق في الحياة التي جربها الشاعر. وتبقى صحوة ما بعد الموت لحظة مفتوحة على الممكن والمحتمل. قد يحقق للذات وجودا أكثر بهاء وامتلاء.

الترجيع الغنائي:
تنبعث من المقاطع المكونة لنسيج نص الجدارية غنائية أسيانة عذبة ناجمة عن إحساس موسيقي رفيع وجرس إيقاعي شفيف يعكس شجون ذات حزينة ومنكسرة تجابه مصيرها الأليم في صمت فاجع. ويرجع مصدر الغنائية في هذه القصيدة إلى التشكيلات الإيقاعية التي يبرع درويش عادة في التوليف بين عناصرها ليخلق تجانسا موسيقيا هارمونيا يساعد من غير شك في توصيل المضمون الدلالي والانفعالي لذات تواجه موتها بالغناء: (الجدارية ص: 41)

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها .

تكتسب النبرة الذاتية في المقاطع الغنائية نبرة خاصة إذ تكون بمثابة “دعوة لتواصل نصي ينشأ بين القارئ والذات المتكلمة في لحظة شعورية كثيفة تتقطر فيها كينونة الشاعر وتنسل إلى وجدان قارئه لحظة القراءة أي لحظة أن يعيد إنتاج دلالة القصيدة”. يبرز المكون الإيقاعي بصورة واضحة في ترديد بنيات لسانية بعينها ينتج عنها مماثلة صوتية وإيقاعية تتحول في كثير من المقاطع إلى معزوفات موسيقية وتنويعات نغمية تتداخل وتتقاطع في فضاء القصيدة مشكلة نشيدا حزينا وحائرا يقترب من النواح الذي يصحب الطقوس الشعائرية للموت.

لعل أبرز مظهر للترجيع الإيقاعي في الجدارية التكرار بأنواعه مثل تكرار لازمة بنائية محددة ونمثل لذلك بهذه العبارة الشعرية الكثيفة التي تخترق جسد هذه القصيدة الطويلة:

سأصير يوما ما أريد (الجدارية صص: 12 – 13 – 14 – 15)

التي تكررت في مواضع عديدة من الجدارية. ونظرا لمركزية هذه العبارة فقد كررها درويش في مواضع اخرى بتحوير خفيف: (الجدارية ص: 16)

سنكون يوما ما نريد.

ما من شك أن تكرار عبارة شعرية في صورة لازمة بنائية مؤشر على مدى الأهمية التي يوليها الشاعر للمضمون الذي تنطوي عليه. حيث تقوم بالإضافة إلى وظيفتها الصوتية الإيقاعية بوظيفة أخرى تتمثل في صيانة وحدة النص من التصدع والتفكك. إذ تعمل على إعادة مختلف مكونات النص مهما تشعبت إلى بؤرة دلالية وانفعالية واحدة هي اللازمة نفسها. وبذلك تحقق للنص ولاسيما الطويل وحدة الإحساس والانفعال. كما أن اللازمة تدعم المحتوى الانفعالي الذي يريد الشاعر توصيله لقارئه. إذ “تستدعي الطقوسية، حيث تتكرر عبارات معينة كما في الصلوات والشعائر الدينية”. وقد يلجأ الشاعر إلى تكرير نسق لغوي بعينه يتوخى منه رفد القصيدة بطاقة صوتية وإيقاعية تكسب النص سمة الغنائية الشجية: . (الجدارية ص: 25)

أنا لست مني إن مشيت ولم أصل.
أنا لست مني ان نطقت ولم أقل.
تنبثق شعرية الإيقاع الغنائي في هذا المقطع من تكرير نسق لغوي يقوم على التقابل والتضاد.
أتيت ‡ لم أصل
نطقت ‡ لم أقل

لقد تعاضدت الأنساق اللغوية المتقابلة تركيبيا ودلاليا من أجل توصيل الشحنة الانفعالية إلى القارئ ودفعه إلى التفاعل مع الإيحاءات العاطفية والوجدانية التي تفرزها. حيث يفيد الشاعر من خطاب التصوف بغية خلق تقابلات دلالية تتوخى التكثيف والإيجاز. لأن الذات لا تحقق كينونتها الوجودية وهويتها الإبداعية إلا عن طريق الوصول والكتابة فهي عندما تتوحد مع أشياء الوجود لا تتغيا سوى تحرير الذات من أعطابها وتناقضاتها، فالكتابة وهي طريق الوصول بالنسبة إلى الشاعر لا تطلب من الأشياء المادية المحسوسة إلا ما يخدم الباطن. إنها أداة لترميم شقوق الذات وتخليصها من آثار الجفاف العاطفي الذي أصابها بسبب العلل والأمراض التي أنهكت الجسد الهش: (الجدارية ص:78)

سأَحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ أَيَّ معنىً خارجي .
بل كي أُرمِّمَ داخلي المهجورَ من أَثر
الجفاف العاطفيِّ . حفظتُ قلبي كُلَّهُ
عن ظهر قلبٍ : لم يَعُدْ مُتَطفِّلاً
ومُدَلّلاً . تَكْفيهِ حَبَّةُ ” أَسبرين ” لكي
يلينَ ويستكينَ . كأنَّهُ جاري الغريبُ
ولستُ طَوْعَ هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يَصْدَأُ كالحديدِ ، فلا يئنُّ ولا يَحِنُّ
ولا يُجَنُّ بأوَّل المطر الإباحيِّ الحنينِ ،
ولا يرنُّ ّكعشب آبَ من الجفافِ .
كأنَّ قلبي زاهدٌ ، أَو زائدٌ
عني كحرف ” الكاف ” في التشبيهِ
حين يجفُّ ماءُ القلب تزدادُ الجمالياتُ
تجريداً ، وتدَّثرُ العواطف بالمعاطفِ ،

ومن التنويعات التي يتخذها النسق التكراري الإيقاعي في نص الجدارية أن يعمد الشاعر إلى تكرير أسئلة كثيفة متلاحقة لا ينتظر جوابا عليها: . (الجدارية ص:48)

مـاذا بعد ؟ ماذا
يفعلُ الناجون بالأرض العتيقة ؟
هل يعيدون الحكايةَ؟ ما البدايةُ؟
ما النهايـةُ؟ لم يعد أحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة ../

يكشف هذا المقطع عن حيرة باهظة تملكت الذات الشاعرة نتيجة إحساسها بالهول وهي تواجه مصيرها الفاجع، لكنها تحاول تبديد المشاعر والأحاسيس المتضاربة بسيل كثيف من الأسئلة المتلاحقة التي تعكس حيرة حقيقية استبدت بالذات فأفقدتها كثيرا من توازنها وصلابتها. الأمر الذي جعلها تعيش حالة من الالتباس وعدم اليقين ترجمته أسئلة حائرة مفتوحة: (الجدارية ص: 16)

يا اسمي: أين نحن الآن ؟
قل : ما الآن ، ما الغد ؟
ما الزمان وما المكان
وما القديم وما الجديد ؟

يفضي التأمل في البنيات اللسانية المتكررة بمختلف أشكالها ومواضعها في نص الجدارية إلى نتيجة مهمة مؤداها أنها تقوم بوظيفتين اثنتين؛ وظيفة صوتية إيقاعية ترفد النص بملمح غنائي ظاهر وبارز يكاد يرى بالعين ويلمس باليد ويتفرع عن هذه الوظيفة الجمالية وظيفة أخرى تتمثل في تعضيد المضمون الدلالي والإنفعالي الذي يطمح الشاعر إلى توصيله لقارئه وتتبيثه في ذهنه ووجدانه. فما من شك أن تكرير جمل شعرية بعينها على امتداد جسد القصيدة الطويلة يجعلها تقترب من النواح العشتاري في أساطير الموت والانبعاث، حيث الذات تؤبن نفسها وتبكي مصيرها الفاجع الأليم: (الجدارية ص: 47)

أَنا الطريدةُ والسهامُ ،
أَنا الكلامُ . أَنا المؤبِّنُ والمؤذِّنُ
والشهيدُ

وما من شك أن الترجيع الإيقاعي الناتج عن تكرار وحدات معجمية وتركيبية يسهم في خلق جو جنائزي يدفع بالقارئ إلى التفاعل مع الطقس المأثمي والفجائعي الذي يستدعيه نص الجدارية.

ومما يجدر التنبيه إليه في هذا السياق أن الغنائية في جدارية درويش ليست غنائية خالصة ولكنها تنبعث مشبوبة من ثنايا الأسطر والمقاطع الشعرية ملتبسة ببعد درامي واضح يقوم بتوتير المواقف والوقائع المسرودة أو الموصوفة. فدرويش يميل في هذه القصيدة الطويلة إلى تكييف استراتيجيته الجمالية لصالح نص مركب يبتعد عن الإنشاد المباشر ليشيد فضاء شعريا يمتح لغته وصوره من تفاصيل اليومي والمألوف. مما يؤدي إلى تداخل الشعري بالسردي والغنائي بالدرامي. وبذلك تمكن درويش من اجتراح “خط غنائي لا يتابع الخطاب الشعري السائد وميوعة الغنائية وصوتها العالي وذاتيتها النمطية بل بإحكام الصلة بين الشاعر بين الشاعر وموضوعه ووقوفه بعيدا منه بمسافة كافية تسمح بتشكيله فنيا فنكون بإزاء شعر غنائي ذاتي لا ينزلق للانغلاق في الذات”.

يشغل درويش سمة الغنائية في قصيدة الجدارية بطريقة إبداعية جعلتها تنطوي على توترات درامية نجمت عن تعدد الأنا وتنوع زوايا النظر التي تنطلق منها الذات في تشييد فضائها التخييلي: (الجدارية ص: 71)

كأني لا كأني
كلما أصغيت للقلب امتلأت
بما يقول الغيْب ، وارتفعتْ بِي
الأشجار . من حلْم إلي حلْمي
أطير وليس لي هدف أخير .
كنْت أولد منذ آلاف السنين
الشاعريٌةِ في ظلامي أبيض الكتٌان
لم أعرف تماما منْ أنا فينا ومن
حلْمي . أنا حلْمي

تبرز الأنا في قصيدة الجدارية متعددة ومنقسمة على ذاتها. وقد تجسد ذلك نصيا في تعدد “الأنوات” المنشقة عن الذات؛ فهي تحب وتكره، تفرح وتحزن، تقترب وتبتعد، تقبل وترفض، تنكفئ على نفسها تارة وتنفتح على الجماعة تارات. كل هذه الإنفعالات المتعارضة والمتناقضة يقدمها درويش في إطار تخييلي درامي أخاذ وفاتن يستثمر فيه الشاعر شذرات من سيرته الشخصية التي تحضر في شكل تفاصيل متسللة من ذاكرته. وغير خاف أن تشغيل المعطيات السيرية بهذ الشكل الإبداعي يرفد القصيدة بطاقة درامية نظرا لقدرتها الفائقة على جعل الشحنة الانفعالية تتحرك في فضاء النص أفقيا وعموديا مازجة بين الماضي والحاضر والمستقبل التي تمثل أزمنة متقابلة لكنها متقاطعة على مستوى الذات المتحكمة في عملية الصوغ الشعري على نحو ذاتي تخييلي. ولا شك أن هذا المزج بين الماضي المنقضي والحاضر الواقعي والمستقبل الاحتمالي ينجم عنه تشكيل جمالي يتداخل فيه الغنائي الفجائعي والسيري الدرامي: (الجدارية ص: 55)

وأنا أريد أن أحيا
فلي عمل على جغرافيا البركان
من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما
واليباب هو اليباب كأنني أحيا
هنا أبدا وبي شبق إلى ما لست
أعرف قد يكون الآن أبعد
قد يكون الأمس أقرب والغد الماضي
ولكني أشد الآن من يدِهِ ليعبر قربي التاريخ

ومما يسترعي النظر في الجدارية ميل درويش لأن يجعل من سيرة حياته أساطير وحكايات سحرية، حيث يندمج الخاص والعام عن طريق الربط بين الواقعي التاريخي والممكن المتخيل: (الجدارية ص: 24)

رَعَويَّةٌ أَيَّامنا رَعَويَّةٌ بين القبيلة والمدينة ، لم أَجد لَيْلاً
خُصُوصِيّاً لهودجِكِ المُكَلَّلِ بالسراب ، وقلتِ لي :
ما حاجتي لاسمي بدونكَ ؟ نادني ، فأنا خلقتُكَ
عندما سَمَّيْتَني ، وقتلتَني حين امتلكتَ الاسمَ …
كيف قتلتَني ؟ وأَنا غريبةُ كُلِّ هذا الليل ، أَدْخِلْني
إلي غابات شهوتك ، احتضنِّي واعْتَصِرْني ،
واسفُك العَسَلَ الزفافيَّ النقيَّ على قفير النحل .
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولُمَّني .
فالليل يُسْلِمُ روحَهُ لك يا غريبُ ، ولن تراني نجمةٌ
إلاّ وتعرف أَنَّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ،
فهاتِني ليكونَ لي ـ وأَنا أُحطِّمُ جَرَّتي بيديَّ ـ
حاضِريَ السعيدُ

يعمد الشاعر في هذا المقطع إلى أسطرة ذاته عن طريق نقل جملة من الأحداث والوقائع نقلا متزامنا يوظف التعبير التمثيلي الإيحائي بعيد عن التعبير التقريري المباشر. حيث تتوالى الصيغ المجازية والمعادلات الرمزية في صورة فيض جمالي يقوم على التداعي الحر لمشاعر وانفعالات ينتقيها الشاعر بعناية من ذاكرته من أجل تشكيل فضاء جمالي يمتح مكوناته الفنية والجمالية من السيرذاتي معدلا حسب مقتضيات التعبير الشعري الذي ينشد التأثير والتفعيل. وهي استراتيجية جمالية تعمدها درويش من أجل التخفيف من عبء الصياغة النثرية التي يفرضها سرد تفاصيل ووقائح حياتية مهربة شعرا من حدود السرد وبوساطة الأنا التي تطمح إلى التحرر من ضغط الواقع ووثوقية مرجعيته وقوانينه الصارمة. لقد حاول الشاعر أن يهجر العام إلى الخاص وأن يستبطن الغد لكي يطل على المستقبل في محاولة لسبر كنهه والقبض على حقيقة وهوية المصير الذي ستؤول إليه الذات بعد فنائها الجسدي. ومن هنا جنحت القصيدة إلى الامتداد الإيقاعي عبر التكرار والترجيع وفتح أفق أفق التوقع على مناطق داخل الذات عصية على الرصد بتوظيف لغة شعرية تميزت بثراء جمالي ودلالي مكنها من نقل التجربة الفاجعة التي كابدتها الذات في صورة فاتنة أخاذة. وهو ملمح من ملامح الشعرية في خطاب الموت عند درويش، حيث تقوم الاستراتيجية الجمالية في بناء خطاب الموت على اعتماد في لغة صافية “تشف عن حركة النفس وشفافية الروح دون تفجع أو مأساوية. لقد ألف الشاعر الموت وقدمه جماليا بطريقة نفذت إلى صميمنا”.

لقد أراد درويش أن يسجل في هذه القصيدة سيرة شعرية يستعيد من خلالها الماضي في قالب تخييلي يمتزج فيه السردي والدرامي، التاريخي والأسطوري، الممكن والمتخيل، الواقع والحلم. وإذا كان درويش قد حاول شيئا من هذا في قصيدته – السيرة “لماذا تركت الحصان وحيدا” فقد توخى منها تسجيل سيرة الجماعة باعتبارها “سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا لكي ينبسط فيه التاريخ”. أما في الجدارية فقصد درويش متوجه إلى تدوين سيرة شخصية تتساند فيها الممكنات الإبداعية من أجل تشييد نص إبداعي ينغرس عميقا في الحياة ليواجه فجيعة التواري والغياب: (الجدارية ص: 53)

“من معنى إلى معنى أَجيءُ .
هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني”

وهو بذلك يجسد محنة الإنسان عموما والمبدع خصوصا الذي يعيش “صراعا مستمرا بين زمن تاريخي واقعي وزمن لانهائي يسمى الخلود أو على الأقل الانبعاث المتجدد”. وقد شكلت الجدارية بما هي عمل فني فذ اختزالا لسؤال الوجود والمصير. إنها الجدار الذي يبنيه الشاعر بصبر وأناة من أجل مقاومة الموت وتأبيد كينوته في ذاكرة الزمن.

قصيدة الجدارية ملحمة الذات في مواجهة سلطة الموت. في هذه القصيدة تعلو نبرة الغناء التراجيدة ممزوجا بأبعاد أسطورية تستعيد مجازا رحلة جلجامش في معاناته الوجودية بحثا عن خلود الذات وتأبيد الكينونة. لقد أسس درويش في هذا النص الذي أراده نشيدا طويلا للحياة جماليات جديدة تعبر عن تجربة ذاتية بلغة مجازية واستعارية مكثفة تختزل آلام نفس منكسرة وقلب ملتاع. ومن هنا جاءت القصيدة محملة بدلالات رمزية وإيحائية تكشف عن شاعر متمكن من أدواته الإبداعية ووسائله التعبيرية التي يسخرها من أجل القبض على متخيل الموت كما ينعكس على وعي الذات. فهذه القصيدة نشيد وأغنية شحذ لها الشاعر كل إمكاناته الفنية والإبداعية حتى تنهض بجلال الوظيفة التي رصدت لها باعتبارها رثاء استباقيا للذات: (الجدارية ص: 11)

وكأنني قد متُّ قبل الآن …
أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما
ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ
ما أُريدُ …

الإبداع قرين الحياة في عنفوانها وتجددها. إنه التجسيد الحقيقي للذات الشاعرة حين تمتلئ بالوجود والحضور اللذين ينفيان العدم والغياب. وهل الموت إلا موت اللغة كما عبر الشاعر:( الجدارية ص:67)

تقول ممرضتي:
كُنتَ تهذي طويلاً
وتسألني:
هل الموت ما تفعلين بي الآن
أم هو موت اللغة؟!

يمكن اعتبار الجدارية بوجه عام معلقة الشاعر ووصيته الأخيرة، كما وصفها هو نفسه، (الجدارية ص: 36) فهذه القصيدة تعلن انتصار الذات المبدعة التي تنوب عن الآخرين في قهر الموت والتغلب عليه. (الجدارية ص: 61)

عُدْ يا موت وحدَك سالماً،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك. عُدْ إلى منفاك
وحدك. عُدْ إلى أدوات صيدك
وانتظرني عند باب البحر.

لقد كان الشعر دائما صنو الخلود وتوحدا بالأبد. يستعيد الفناء ليمجد الحياة. وقصيدة الجدارية لمحمود درويش نشيد نفس ملتاعة وقلب كسير يواجه الغياب الكبير، حيث لا تملك الذات الشاعرة غير الجماليات في مواجهة سلطة الموت: (الجدارية ص:79)

حين يجف ماء القلب تزداد الجماليات
تجريداً، وتدَّثر العواطف بالمعاطف
والبكارة بالمهارة.

وكأن الموت يغدو ضرورة لازمة لتصل الذات إلى ذروة الانتباه وتكمل دورة الحياة بحيث يصبح الوجود في الغياب حضورا أكثر امتلاء: (الجدارية ص:23)

ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول :
وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب .

إن هذا المعنى الذي يعطيه الشاعر للموت يقلب التصور السائد الذي يجعل الموت امحاء وغيابا أو دخولا في العدم، حيث تتحول تجربة الموت في رؤيا شعرية نبوئية إلى عين الحياة في الوقت الذي تتحول فيه الحياة هي السبات: (الجدارية ص:97)

…إن مت انتبهت.

لقد أصبح الموت بمثابة كشف للحجاب أمام الذات لتنفذ إلى جوهر الحياة وسر الوجود. إنه ولادة ثانية تصبح بعدها الذات أكثر انتباها بعد أن تتخلص من شرودها ويرفع عن عينيها الغلالة الرقيقة التي تحجب عنها الحقيقة؛ حقيقتها وحقيقة الوجود من حولها.

تكشف قصيدة الجدارية عن أكثر المشاغل حميمية وأشدها التصاقا بالوجود الإنساني، حيث ينشغل درويش في هذه القصيدة بتشييد واقع جمالي يروم التعبير عن حالة وجدانية انفعالية تتلبس الذات عندما تواجه سؤال المصير. ومن رحم المحنة والعذاب طلع علينا درويش بقصيدته النشيد الطويل الذي حاول من خلاله القبض على لحظة فريدة واستثنائية هي لحظة التحديق في الموت ومجابهة الغياب. ومن هنا جاءت القصيدة أغنية مضمخة بعبق الجماليات التي تتحصن بها الذات من التحطم والانهدام. ففي هذه القصيدة يستنفر درويش كل طاقاته الفنية وإمكاناته الجمالية من أجل تصوير دراما الغياب الفاجع بلغة شعرية كثيفة وشفافة أساسها الرمز والإيحاء. لقد امتلأ الشاعر بكل أسباب الغياب لكن شهوة الحياة التي تضطرب في عروقه جعلته يتفجر شلالا من الشعر يتدفق ممتطيا صهوة الأمل ليغني لمستقبل أبهى وأجمل.

*د. مصطفى الغرافي
 باحث في البلاغة وتحليل الخطاب.
القصيدة

هذا هُوَ اُسمُكَ /
قالتِ اُمرأةٌ ،
وغابتْ في المَمَرَّ اللولبيِّ...
أَرى السماءَ هُنَاك في مُتَناوَل ِ الأَيدي.
ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ
طُفُولَة ٍ أُخرى . ولم أَحلُمْ بأني
كنتُ أَحلُمُ . كُلُّ شيء واقعيُّ . كُنْتُ
أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً .....
وأَطيرُ . سوف أكونُ ما سأَصيرُ في

الفَلَك الأَخير ِ . وكُلُّ شيء أَبيضُ ،
اُلبحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامة ِ
بيضاءَ . والَّلا شيء أَبيضُ في
سماء المَطْلَق البيضاءِ . كَنْتُ ، ولم
أَكُنْ فأنا وحيدٌ في نواحي هذه
الأَبديَّة البيضاء . جئتُ قُبَيْل ميعادي
فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي:
"ماذا فعلتَ ، هناك، في الدنيا؟"
ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ ، ولا
أَنينَ الخاطئينَ ، أَنا وحيدٌ في البياض ،
أَنا وحيدُ ....
لا شيء يُوجِعُني على باب القيامةِ
لا الزمانُ ولا العواصفُ . لا
أُحسُّ بخفَّة الأشياء أَو ثِقَلِ
الهواجس . لم أَجد أَحداً لأسأل :
أَين " أَيْني" الآن ؟ أَين مدينةُ
الموتى’ وأين أَنا ؟ فلا عَدَمٌ
هنا في اللا هنا ... في اللا زمان،
ولا وُجُودُ

وكأنني قد متُّ قبل الآن ....
أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأًعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما
مازلتُ حيّاً في مكان ٍ ما ، وأَعرفُ

ما أُريدُ
سأَصير يوماً ما أُريدُ

سأَصير يوماً فكرة ً. لا سَيْفَ يحملُها
إلى الأرٍض اليبابِ، ولا كتابَ...
كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصدَّعَ من
تَفَتُّح عُشْبَةٍ ،
لا القُوَّةُ انتصرتْ
و لا العَدْلُ الشريدُ
سأَصير يوماً ما أُريدً
سأصير يوماً طائراً ، وأَسُلُّ من عَدَمي
وجودي . كُلَّما اُحتَرقَ الجناحان ِ
اُقتربتُ من الحقيقِة ، وانبعثتُ من
الرمادِ . أَنا حوارُ الحالمين، عَزَفْتُ
عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ
رحلتي الأولى المعنى ، فأَحْرَقَني
وغاب . أَنا الغيابُ . أَنا السماويُّ
الطريدُ

سأصير يوماً ما أُريدُ
سأصيرُ يوماً شاعراُ،
والماءُ رَهْنُ بصيرتي . لُغتي مجازٌ
للمجاز ، فلا أَقولُ ولا أشيرُ

إلى مكانٍ 0 فالمكان خطيئتي وذريعتي0
أَنا من هناك . "هُنا"يَ يقفزُ
من خُطَايَ إلى مُخَيَّلتي ...
أَنا من كُنْتُ أو سأكونُ

يَصْنَعُني ويَصْرعُني الفضاءُ اللانهائيُّ
المديدُ .

سأصير يوماً ما أُريدُ
سأَصيرُ يوماً كرمة ً،
فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن ،
وليشربْ نبيذي العابرون على
ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ !
أَنا الرسالةُ والرسولُ
أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ

سأَصير يوماً ما أُريدُ

هذا هُوَ اُسمُكَ /
قالت ِ اُمرأةٌ ،
وغابتْ في مَمَرِّ بياضها .
هذا هُوَ اُسمُكَ ، فاحفظِ اُسْمَكَ جَيِّداً
لا تختلف مَعَهُ على حَرْفٍ
ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ،
كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقَيِّ
جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى
ودَرِّبْهُ على النُطق الصحيح برفقة
الغرباء
واكتُبهُ على إحدى صُخُور الكهف،
يا اُسمي: سوف تكبَرُ حين أكبرُ
سوف تحمِلُني وأَحملُكَ
اُلغريبُ أخُ الغريب
سنأخُذُ الأُنثى بحرف العِلَّة المنذور للنايات.
يا اُسمي: أَين نحن الآن؟
قل: ما الآن، ما الغَدُ؟
ما الزمانُ وما المكانُ
وما القديمُ وما الجديدُ؟


سنكون يوماً ما نريدُ (...).

لا الرحلة ُ ابتدأتْ ، ولا الدربُ اُنتهى
لم يَبْلغِ ِ الحكماءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائق ِ النعمان ِ ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات:
أَرضُ قصيدتي خضراءُ عاليةٌ ،
كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي
وأَنا البعيدُ
أَنا البعيدُ

في كُلِّ ريح ٍ تَعْبَثُ اُمرأةٌ بشاعرها
_ خُذِ الجهةَ التي أَهديتني
اُلجهةَ التي انكَسَرتْ ،
وهاتِ أُنوثتي ،
لم يَبْقَ لي إلاّ التَأمُّل في
تجاعيد البُحَيْرَة . خُذْ غدي عنِّي
وهاتِ الأمس ، بعدَكَ ، سوف يرحَلُ
أَو يَعُودُ

_ وخُذي القصيدةَ إن أَردتِ
فليس لي فيها سواكِ
خُذي "أَنا" كِ . سأُكْملُ المنفى
بما تركَتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ..
فأيُّنا منا " أَنا " لأكون آخرَها؟
ستسقطُ نجمةٌ بين الكتابة والكلامِ
وتَنْشُرُ الذكرى خواطرها : وُلِدْنا

في زمان السيف والمزمار بين
التين والصُبَّار. كان الموتُ أَبطأَ.
كان أَوْضَح. كان هُدْنَةَ عابرين
على مَصَبِّ النهر. أَما الآن،
فالزرُّ الإلكترونيُّ يعمل وَحْدَهُ.لا
قاتلٌ يُصْغي إلى قتلى. ولا يتلو
وصيَّتَهُ شهيدُ


من أَيَّ ريح جئتِ؟
قولي ما اُسمُ جُرْحِكِ أَعرفِ
الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ!
وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني
إلى زَمَنٍ خرافيّ. ويوجعني دمي


والملحُ يوجعني... ويوجعني الوريدُ

في الجرّة المكسورةِ انتحبتْ نساءُ
الساحل السوريّ من طول المسافةِ،
واحترقْنَ بشمس آبَ. رأيتُهنَّ على
طريق النبع قبل ولادتي . وسمعتُ
صَوْتَ الماء في الفخّار يبكيهنّ:
عُدْنَ إلى السحابة يرجعِ الزَمَنُ الرغيدُ

قال الصدى:
لا شيء يرجعُ غيرُ ماضي الأقوياء
على مِسلاَّت المدى ... (ذهبيّةٌ
آثارُهُمْ ذهبيّةٌ) ورسائلِ الضعفاءِ للغَدِ،
أَعْطِنا خُبْزَ الكفاف ، وحاضراً أَقوى.
فليس لنا التقمُّصُ والحُلُولُ ولا الخُلودُ

قال الصدى:
وتعبتُ من أَملي العُضَال. تعبتُ
من شَرَك الجماليّات : ماذا بعد
بابلَ؟ كُلَّما اتَّضَحَ الطريقُ إلى
السماء، وأَسْفَرَ النثرُ في الصلوات،
وانكسر النشيدُ

خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ عاليةٌ....
تُطِلُّ عليَّ من بطحاء هاويتي...
غريبٌ أَنتَ في معناك . يكفي أَن
تكون هناك ، وحدك ، كي تصيرَ
قبيلة ً....
غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ
في وَجَع الحمامةِ،
لا لأَشرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان،
لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً
وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من
لُغَتي. ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف
الضاد، تخضعني بحرف الياء عاطفتي،
وللكلمات وَهْيَ بعيدةٌ أَرضٌ تجاوِرُ


كوكباً أَعلى. وللكلمات وَهْيَ قريبةٌ
منفى. ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول:
وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب.
وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ
الآخرين. وكُلَّما فَتَّشْتُ عَنْهُمْ لم
أَجد فيهم سوى نَفَسي الغريبِة،
هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ؟

وأَنا الغريبُ. تَعِبْتُ من "درب الحليب"
إلى الحبيب. تعبتُ من صِفَتي.
يَضيقُ الشَّكْلُ. يَتّسعُ الكلامُ. أَفيضُ
عن حاجات مفردتي. وأَنْظُرُ نحو
نفسي في المرايا:
هل أَنا هُوَ؟
هَل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْري الفصل
الأخيرِ؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض،
أم فُرِضَتْ عليَّ؟
وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدّوْرَ
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
اُنحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟

وجلستُ خلف الباب أَنظُرُ:
هل أَنا هُوَ؟

هذه لُغَتي. وهذا الصوت وَخْزُ دمي
ولكن المؤلِّف آخرٌ....
أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ
أَنا لستُ منِّي إن نَطقْتُ ولم أَقُلْ
أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ:
اُكتُبْ تَكُنْ!
واُقرأْ تَجِدْ!
وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ، يَتَّحِدْ
ضدَّاكَ في المعنى...
وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ

بَحَّارَةٌ حولي ، ولا ميناء
أَفرغني الهباءُ من الإشارِة والعبارةِ،
لم أَجد وقتاً لأعرف أَين مَنْزِلَتي،
الهُنَيْهة َ، بين مَنْزِلَتَيْن ِ. لم أَسأل
سؤالي، بعد عن غَبَش التشابُهِ
بين بابَيْنِ : الخروج أم الدخول....
ولم أَجِدْ موتاً لأقْتَنِصَ الحياةَ.

ولم أَجِدْ صوتاً لأَصرخَ : أَيُّها
الزَمَنُ السريعُ! خَطَفْتَني مما تقولُ
لي الحروفُ الغامضاتُ:
ألواقعيُّ هو الخياليُّ الأَكيدُ

يا أيها الزمَنُ الذي لم ينتظِرْ...
لم يَنْتَظِرْ أَحداً تأخَّر عن ولادتِهِ
دَعِ الماضي جديداً، فَهْوَ ذكراكَ
الوحيدةُ بيننا ، أيَّامَ كنا أَصدقاءك،
لا ضحايا مركباتك. واُترُكِ الماضي
كما هُوَ، لا يُقَادُ ولا يَقُودُ

ورأيتُ ما يتذكَّرُ الموتى وما ينسون...
هُمْ لا يكبرون ويقرأون الوَقْتَ في
ساعات أيديهمْ . وهَمْ لا يشعرون
بموتنا أَبداً و لا بحياتهِمْ . لا شيءَ
ممَّا كُنْتُ أو سأكونُ. تنحلُّ الضمائرُ
كُلُّها ."هو" في " أنا " في "أَنت".
لا كُلُّ ولا جُزْءٌ . ولا حيٌّ يقول
لمِّيتٍ : كُنِّي!

...وتنحلُّ العناصرُ والمشاعرُ. لا
أَرى جَسَدي هُنَاكَ ، ولا أُحسُّ
بعنفوان الموت ، أَو بحياتيَ الأولى.
كأنِّي لَسْتُ منّي. مَنْ أَنا؟ أَأَنا
الفقيدُ أَم الوليدُ؟


ألوقتُ صِفْرٌ. لم أُفكِّر بالولادة
حين طار الموتُ بي نحو السديم،
فلم أكُن حَيّاً ولا مَيْتاً ،
ولا عَدَمٌ هناك ، ولا وُجُودُ
تقولُ مُمَرِّضتي: أَنتَ أَحسَن حالاً.
وتحقُنُني بالمُخَدِّر: كُنْ هادئاً
وجديراً بما سوف تحلُمُ
عما قليل...

رأيتُ طبيبي الفرنسيَّ
يفتح زنزانتي
ويضربني بالعصا
يُعَاونُهُ اُثنانِ من شُرْطة الضاحيةْ

رأيتُ أَبي عائداً
من الحجِّ ، مُغمىً عليه
مُصَاباً بصرية شمسٍ حجازيّة
يقول لرفِّ ملائكةٍ حَوْلَهُ:
أَطفئوني!...
رأيتُ شباباً مغاربةً
يلعبون الكرَةْ
ويرمونني بالحجارة: عُدْ بالعبارةِ
واُترُكْ لنا أُمَّنا
يا أَبانا الذي أخطَأَ المقبرةْ!

رأيت " ريني شار"

يجلس مع" هيدغر"

على بُعْدِ مترين منِّي،

رأيتها يشربان النبيذَ

ولا يبحثان عن الشعر...

كان الحوارُ شُعَاعاً

وكان غدٌ عابرٌ ينتظرْ

رأيتُ رفاقي الثلاثَةَ ينتحبونَ

وَهُمْ
يَخيطونَ لي كَفَناً
بخُيوطِ الذَّهَبْ

رأيت المعريَّ يطرد نُقَّادَهُ
من قصيدتِهِ:
لستُ أَعمى
لأُبْصِرَ ما تبصرونْ،

فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي
إلى عَدَمٍ ...... أَو جُنُونْ

رأيتُ بلاداً تعانقُني
بأَيدٍ صَبَاحيّة: كُنْ
جديراً برائحة الخبز. كُنْ
لائقاً بزهور الرصيفْ
فما زال تَنُّورُ أُمِّكَ
مشتعلاً،
والتحيَّةُ ساخنةً كالرغيفْ!

خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ . نهرٌ واحدٌ يكفي
لأهمس للفراشة: آهِ، يا أُختي ، ونَهْرٌ واحدٌ يكفى لإغواءِ
الأساطير القديمة بالبقاء على جناح الصَّقْر ، وَهْوَ يُبَدِّلُ
الراياتِ والقممَ البعيدةَ، حيث أَنشأت الجيوشُ ممالِكَ
النسيان لي. لا شَعْبَ أَصْغَرُ من قصيدته. ولكنَّ السلاحَ
يُوَسَّعُ الكلمات للموتى وللأحياء فيها’ والحُرُفَ تُلَمِّعُ
السيفَ المُعَلَّقَ في حزام الفجر، والصحراء تنقُصُ
بالأغاني ، أَو تزيدُ

لا عُمْرَ يكفي كي أَشُدَّ نهايتي لبدايتي.

أَخَذَ الرُّعَاةُ حكايتي وتَوَغَّلُوا في العشب فوق مفاتن
الأنقاض ،وانتصروا على النسيان بالأبواق والسَّجَع
المشاع، وأَورثوني بُحَّةَ الذكرى على حَجَرِ الوداع، ولم يعودوا....

رَعَويَّةٌ أَيَّامنا رَعَويَّةٌ بين القبيلة والمدينة، لم أَجد لَيْلاً
خُصُوصيّاً لهودجِكِ المُكَلَّلِ بالسراب، وقلت لي:
ما حاجتي لاسمي بدونكَ؟ نادني، فأنا خلقتُكَ
عندما سَمَّيْتَني ، وقتلتنَي حين امتلكتَ الاسمَ....
كيف قتلتَني؟ وأَنا غريبةُ كُلِّ هذا الليل، أَدْخِلْني
إلى غابات شهوتك، اُحتضنِّي واعْتَصِرْني،
واسفُك العَسَلَ الزفافيَّ النقيَّ على قفير النحل.
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح وُلمَّني.
فالليل يُسْلمُ روحَهُ لك يا غريبُ ، ولن تراني نجمةٌ
إلاّ وتعرف أَنَّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ،
فهاتِني ليكون لي _ وأَنا أُحطِّمُ جَرَّتي بيديَّ _
حاضِريَ السعيدُ

_ هل قُلْتَ لي شيئاً يُغَيِّر لي سبيلي؟
_ لم أَقُلْ. كانت حياتي خارجي
أَنا مَنْ يُحَدِّثُ نفسَهُ:
وَقَعَتْ مُعَلَّقَتِي الأَخيرةُ عن نخيلي
وأَنا المُسَافِرُ داخلي
وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ،
لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها
وبطائرِ الدوريِّ....
لم أُولَدْ لأعرفَ أَنني سأموتُ، بل لأُحبَّ محتوياتِ ظلِّ
اللهِ
يأخُذُني الجمالُ إلى الجميل
وأُحبُّ حُبَّك ، هكذا متحرراً من ذاتِهِ وصفاتِهِ
وأَنا بديلي....
أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ:
مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار
والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات ،
بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ
بل مِنْ ليلٍ طويل....

أَنا مَنْ يحدِّثُ نَفْسَهُ
ويروِّضُ الذكرى.... أَأَنتِ أَنا؟
وثالثُنا يرفرف بيننا "لا تَنْسَيَاني دائماً"
يا مَوْتَنا ! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا ، فقد نتعلَّمُ الإشراق....
لا شَمسٌ ولا قَمَرٌ عليَّ
تركتُ ظلِّي عالقاً بغصون عَوْسَجَةٍ

فخفَّ بِيَ المكانُ
وطار بي روحي الشَّرُودُ
أَنا مَنْ يحدِّثُ نفسَهُ:
يا بنتُ: ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ؟
إن الريح تصقُلُنا وتحملنا كرائحة الخريفِ،
نضجتِ يا اُمرأتي على عُكَّازَتيَّ ،
بوسعك الآن الذهابُ على "طريق دمشق"
واثقةً من الرؤيا . مَلاَكٌ حارسٌ
وحمامتان ترفرفان على بقيَّة عمرنا ، والأرضُ عيدُ...
الأرضُ عيدُ الخاسرين( ونحن منُهمْ)

نحن من أَثَرِ النشيد الملحميِّ على المكان ، كريشةِ النَّسْرِ
العجوز خيامُنا في الريح . كُنَّا طيِّبين وزاهدين بلا تعاليم
المسيح. ولم نكُنْ أَقوى من الأعشابِ إلاّ في ختام الصَيْفِ
أَنتِ حقيقتي ، وأَنا سؤالُكِ
لم نَرِثْ شيئاً سوى اُسْميْنَا
وأَنتِ حديقتي ، وأَنا ظلالُكِ
عند مفترق النشيد الملحميِّ..
ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كُنَّ يبدأن النشيد
بسحرهنَّ وكيدهنَّ . وكُنَّ يَحْمِلْنَ المكانَ على قُرُون
الوعل من زَمَنِ المكان إلى زمان آخر ٍ....
كنا طبيعيِّين لو كانت نجومُ سمائنا أَعلى قليلاً من حجارة بئرنا والأَنبياءُ أَقلَّ إلحاحاً ، فلم يسمع مدائحَنا
الجُنُودُ....
خضراءُ، أرضُ قصيدتي خضراءُ
يحملُها الغنائيّون من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ كما هِيَ في خُصُوبتها.
ولي منها: تأمُّلُ نَرْجسٍ في ماء صُورَتِهِ
ولي منها وُضُوحُ الظلِّ في المترادفات
ودقَّةُ المعنى....
ولي منها : التَّشَابُهُ في كلام الأَنبياءِ

على سُطُوح الليلِ
لي منها : حمارُ من الحكمِة المنسيُّ فوق التلِّ
يسخَرُ من خُرافتها وواقعها....
ولي منها: احتقانُ الرمز بالأضدادِ
لا التجسيدُ يُرجِعُها من الذكرى
ولا التجريدُ يرفَعُها إلى الإشراقة الكبرى
ولي منها : "أَنا" الأُخرى
تُدَوِّنُ في مُفَكِّرَة الغائيِّين يوميَّاتها:
"إن كان هذا الحُلْمُ لا يكفي
فلي سَهَرٌ بطوليٌّ على بوابة المنفى..."
ولي منها : صَدَى لُغتي على الجدران
يكشِطُ مِلْحَهَا البحريَّ
حين يخزنني قَلْبٌ لَدُودُ....

أَعلى من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلتُ للشيطان: لا . لا تَمْتَحِنِّي!
لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني
كما أَنا زاهداً برواية العهد القديم
وصاعداً نحو السماء، هُنَاكَ مملكتي
خُذِ التاريخَ ، يا ابنَ أَبي ، خُذِ
التاريخَ... واُصنَعْ بالغرائز ما تريدُ

وَليَ السكينةُ . حَبَّةُ القمح الصغيرةُ
سوف تكفينا ، أَنا وأَخي العَدُوّ،
فساعتي لم تَأْتِ بَعْدُ. ولم يَحِنْ
وقتُ الحصاد. عليَّ أَن أَلِجَ الغيابَ
وأن أُصدِّقَ أوَّلاً قلبي وأتبعَهُ إلى
قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بَعْدُ.

لَعَلَّ شيئاً فيَّ ينُبذُني. لعلِّي واحدٌ
غيري . فلم تنضج كُرومُ التين حول
ملابس الفتيات بَعْدُ . ولم تَلِدْني
ريشةُ العنقاء. لا أَحدٌ هنالك
في انتظاري . جئْتُ قبل ،وجئتُ
بعد، فلم أَجد أحداً يُصَدِّق ما
أرى. أنا مَنْ رأى . وأنا البعيدُ
أَنا البعيدُ
مَنْ أَنتَ ، يا أَنا؟ في الطريق
اُثنانِ نَحْنُ ، وفي القيامة واحدٌ.
خُذْني إلى ضوء التلاشي كي أَرى
صَيْرُورتي في صُورَتي الأُخرى. فَمَنْ

سأكون بعدَكَ ، يا أَنا؟ جَسَدي
ورائي أم أَمامَك؟ مَنْ أَنا يا
أَنت؟كَوِّنِّي كما كَوَّنْتُكَ , اُدْهَنِّي
بزيت اللوز, كَلِّلني بتاج الأرز.
واحملني من الوادي إلى أَبديّةٍ
بيضاءَ. عَلِّمني الحياةَ على طريقتِكَ،
اُختَبِرْني ذَرَّةً في العالم العُلْوِيِّ
ساعِدْني على ضَجَر الخلود، وكُنْ
رحيماً حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورودُ....



لم تأت ساعتُنا. فلا رُسُلٌ يَقيسُونَ
الزمانَ بقبضة العشب الأخير . هل استدار؟ ولا ملائكةٌ
يزورون المكانَ ليتركَ الشعراءُ ماضِيَهُمْ على الشَّفَق
الجميل ، ويفتحوا غَدَهُمْ بأيديهمْ.
فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ ، يا عناةُ،
قصيدتي الأولى عن التكوين ثانيةً
فقد يجدُ الرُّوَاةُ شهادةَ الميلاد
للصفصاف في حَجَرٍ خريفيّ. وقد يجدُ
الرعاةُ البئرَ في أَعماق أُغنية . وقد
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين
عن المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ
بقافيةٍ ، فغنِّي يا إلهتي الأَثيرةَ
يا عناةُ، أَنا الطريدةُ والسهامُ،
أَنا الكلامُ. أَنا المؤبِّنُ والمؤذِّنُ
والشهيدُ

وما قلتُ للطَّلَلِ : الوداع. فلم أَكُنْ
ما كُنْتُ إلاّ مَرَّةً . ما كُنْتُ إلاّ
مرَّةً تكفي لأعرف كيف ينكسرُ الزمانُ
كخيمة البدويِّ في ريح الشمال،
وكيف يَنْفَطِرُ المكانُ ويرتدي الماضي
نُثَارَ المعبد المهجور . يُشبهُني كثيراً
كُلُّ ما حولي ، ولم أُشبِهْ هنا شيئاً.
شيئاً. كأنَّ الأرض ضَيِّقَةٌ على
المرضى الغنائيِّين ،أَحفادِ الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حُلْماً جميلاً لَقَّنُوا الببغاءَ شِعْر
الحب ، وانفتَحتْ أَمامَهُمُ الحُدُودُ....


وأُريدُ أَن أَحيا....
فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة. لا
لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من
دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ
عن كَثَبٍ: وماذا بعد؟ ماذا
يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة؟
هل يُعيدونَ الحكايةَ؟ ما البدايةُ؟
ما النهايةُ؟ لم يعد أَحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة..../
أَيها الموتُ اُنتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادِكَ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
قرب خيمتك، اُنتظِرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بِن العَبْد. يُغْريني
الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ
حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آُلهةٍ.../
فيا مَوْتُ ! اُنتظرني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ،
حيث وُلدتُ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ. سأقول : صُبُّوني

بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي
سورةُ الرحمن في القرآن . واُمشوا
صامتين معي على خطوات أَجدادي
ووقع الناي في أَزلي . ولا
تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ
زَهْرُ المُحْبَطين يُذكَّرُ الموتى بموت
الحُبُّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على
التابوتِ سَبْعَ سنابل خضراءَ إنْ
وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ
الكنائس للكنائس والعرائس/
أَيٌها الموت اُنتظر! حتى أُعِدَّ
حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ،والثيابَ.
هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ؟ وهل
تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء،
أم تبقى كما هِي في الخريف وفي
الشتاء؟وهل كتابٌ واحدٌ يكفي
لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ
مكتبةً؟ وما لُغَةُ الحديث هناك،
دراجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ
فُصْحى/
ويا مَوْتُ انتظرْ ،يا موتُ،....
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهنْي في الربيع
وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا
يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا وُدّيَّةً وصريحةً: لَكَ أَنتَ
ما لَكَ من حياتي حين أَملأها...
ولي منك التأمُّلُ في الكواكب:
لم يَمُتْ أَحَدٌ ومُقَامَها/
يا موت! يا ظلِّي الذي
سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا
لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ،
يا دَمَ الطاووس، يا قَنَّاصَ قلب
الذئب ، يا مَرَض الخيال! اُجلسْ
على الكرسيّ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ
تحت نافذتي. وعلِّقْ فوق باب البيت
سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ! لا تُحَدِّقْ
يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقطَةَ

الضعف الأَخيرةَ. أَنتَ أَقوى من
نظام الطبّ. أَقوى من جهاز
تَنَفُّسي. أَقوى من العَسَلِ القويّ،
ولَسْتَ محتاجاً – لتقتلني – إلى مَرَضي.
فكُنْ أَسْمى من الحشرات . كُنْ مَنْ
أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب.

كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا
تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي
الضرائب. لا تكن شُرطيّ سَيْر في
الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ
الثعالب. كُنْ
فروسياً ، بهياً، كامل الضربات . قُلْ
ما شئْتَ: " من معنى إلى معنى
أَجيءُ. هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا
أكثِّفُها ، أُعرِّفها بسُلْطاني وميزاني"../
ويا مَوْتُ انتظرْ ، واُجلس على
الكرسيّ. خُذْ كأسَ النبيذ، ولا
تفاوضْني’ فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ
إنسانٍ ومثلي لا يعارضُ خادمَ
الغيبِ . اُسترح ... فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا
اليوم من حرب النجوم. فمن أَنا
لتزورني؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار
قصيدتي. لا . ليس هذا الشأنُ
شأنَكَ. أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في
البشريِّ , لا عن فِعْلهِ أو قَوْلِهِ/
هَزَمَتْك يا موتُ الأغاني في بلاد
الرافدين. مِسَلَّةُ المصريّ ’ مقبرةُ الفراعنِة’

النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
وانتصرتْ ’ وأَفْلَتَ من كمائنك
الخُلُودُ....
فاصنع بنا , واصنع بنفسك ما تريدُ

وأَنا أُريد’ أريدُ أَن أَحيا....
فلي عَمَلٌ على جغرافيا البركان.
من أَيام لوط إلى قيامة هيروشيما
واليبابُ هو اليبابُ. كأنني أَحيا
هنا أَبداً ’ وبي شَبَقٌ إلى ما لست
أَعرف. قد يكونُ"الآن" أَبعَدَ.
قد يكونُ الأمس أَقربَ . والغَدُ الماضي.
ولكني أَشدُّ "الآن" من يَدِهِ ليعُبرَ
قربيَ التاريخُ, لا الزَّمَنُ المُدَوَّرُ’
مثل فوضى الماعز الجبليِّ . هل
أَنجو غداً من سرعة الوقت الإلكترونيّ’
أَم أَنجو غداً من بُطْء قافلتي
على الصحراء ؟ لي عَمَلٌ لآخرتي
كأني لن أَعيش غداً . ولي عَمَلٌ ليومٍ
حاضرٍ أبداً.لذا أُصغي ’ على مَهَلٍ
على مَهَل ’ لصوت النمل في قلبي:
أَعينوني على جَلَدي . وأَسمع صَرْخَةَ
الحَجَر الأسيرة : حَرِّروا جسدي . وأُبصرُ
في الكمنجة هجرةَ الأشواق من بَلَدٍ
تُرَابيّ إلى بَلَدٍ سماويّ .وأقبضُ في
يد الأُنثى علي أبَدِي الأليفِ :خُلِقْتُ
ثم عَشِقْتُ ,ثم زهقت , ثم أفقتُ
في عُشْبٍ على قبري يدلُّ عليَّ من
حين ٍ إلى حين ٍ . فما نَفْعُ الربيع
السمح إن لم يُؤْنس ِ الموتى ويُكْمِلْ
بعدهُمْ فَرَحَ الحياة ِ ونَضْرةَ النسيان ؟
تلك طريقة ٌ في فك ِّ لغز الشعر ِ ,
شعري العاطفيّ علي الأَقلِّ. وما
المنامُ سوى طريقنا الوحيدة في الكلام/
وأَيّها الموتُ التَبِسْ واجلسْ
علي بلَّوْر ِ أيامي,كأنَّكَ واحدٌ من
أصدقائي الدائمين, كأنَّكَ المنفيُّ بين
الكائنات .ووحدك المنفيُّ. لا تحيا
حياتَكَ. ما حياتُكَ غير موتي. لا
تعيش ولا تموت. وتخطف الأطفالَ
من عَطَش ِ الحليب إلي الحليب. ولم
تكن طفلاً تهزُّ له الحساسينُ السريرَ,
ولم يداعِبْكَ الملائكة ُالصغارُ ولا
قُرونُ الأيِّل الساهي, كما فَعَلَتْ لنا
نحن الضيوفَ على الفراشة. وحدك
المنفيُّ, يا مسكين, لا امرأةٌ تَضُمُّك
بين نهديها, ولا امرأةٌ تقاسِمُك
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحيِّ
المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ.
ولم تَلِدْ وَلَداً يجيئك ضارعاً: أَبتي,
أُحبُّكَ. وحدك المنفيُّ, يا مَلِكَ
الملوك, ولا مديحَ لصولجانكَ. لا
صُقُورَ علي حصانك. لا لآلىءَ حول
تاجك. أيُّها العاري من الرايات
والبُوق المُقَدَّسِ! كيف تمشي هكذا
من دون حُرَّاسٍ وجَوْقَةِ منشدين،
كَمِشْيَة اللصِّ الجبان . وأَنتَ مَنْ
أَنتَ ، المُعَظَّمُ ، عاهلُ الموتى ، القويُّ’
وقائُد الجيش الأَشورىِّ العنيدُ
فاصنع بنا’ واصنع بنفسك ما تريدُ

وأَنا أُريدُ، أُريد أَن أَحيا، وأَن
أَنساك… أَن أَنسى علاقتنا الطويلة
لا لشيءٍ، بل لأَقرأ ما تُدَوِّنُهُ
السماواتُ البعيدةُ من رسائلَ. كُلَّما
أَعددتُ نفسي لانتظار قدومِكَ
ازددتَ ابتعاداً. كلما قلتُ: ابتعدْ
عني لأُكمل دَوْرَةَ الجَسَدَيْنِ، في جَسَدٍ
يفيضُ، ظهرتَ ما بيني وبيني
ساخراً: ”لا تَنْسَ مَوْعِدَنا...’’
- متى ؟
-في ذِرْوَة النسيان
حين تُصَدِّقُ الدنيا وتعبُدُ خاشعاً
خَشَبَ الهياكل والرسومَ على جدار الكهف،
حيث تقول :’’ آثاري أَنا وأَنا ابنُ نفسي’’
- أَين موعدُنا؟
أَتأذن لي بأن أَختار مقهىً عند
باب البحر؟ -لا… لا تَقْتَرِبْ
يا ابنَ الخطيئةِ، يا ابن آدمَ من
حدود الله! لم تُولَدْ لتسأل، بل
لتعمل… - كُن صديقاً طَيِّباً يا
موت! كُنْ معنىً ثقافياً لأُدرك
كُنْهَ حكمتِكَ الخبيئةِ! رُبَّما أَسْرَعْتَ
في تعليم قابيلَ الرمايةَ. رُبَّما
أَبطأتَ في تدريب أَيُّوبٍ على
الصبر الطويل. وربما أَسْرَجْتَ لي
فَرَساً لتقتُلَني على فَرَسي. كأني
عندما أَتذكَّرُ النسيانَ تُنقِذُ حاضري
لُغَتي. كأني حاضرٌ أَبداً. كأني
طائر أَبداً. كأني مُذْ عرفتُكَ
أَدمنتْ لُغَتي هَشَاشَتَها على عرباتك
البيضاءِ، أَعلى من غيوم النوم،
أَعلى عندما يتحرَّرُ الإحساس من عبء
العناصر كُلّها. فأنا وأَنتَ على طريق
الله صوفيَّانِ محكومان بالرؤيا ولا يَرَيَان
عُدْ يا مَوْتُ وحدَكَ سالماً،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك. وَعُدْ إلى منفاك
وحدك. عُدْ إلى أدوات صيدك،
وانتظرني عند باب البحر. هَيِّئ لي
نبيذاً أَحمراً للاحتفال بعودتي لِعِيادَةِ
الأرضِ المريضة. لا تكن فظّاً غليظ
القلب! لن آتي لأَسخر منك، أَو
أَمشي على ماء البُحَيْرَة في شمال
الروح. لكنِّي -وقد أَغويتَني- أَهملتُ
خاتمةَ القصيدةِ: لم أَزفَّ إلى أَبي
أُمِّي على فَرَسي. تركتُ الباب مفتوحاً
لأندلُسِ الغنائيِّين، واخترتُ الوقوفَ
على سياج اللوز والرُمَّان، أَنفُضُ
عن عباءة جدِّيَ العالي خُيُوطَ
العنكبوت. وكان جَيْشٌ أَجنبيٌّ يعبر
الطُرُقَ القديمةَ ذاتها، ويَقِيسُ أَبعادَ
الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها....

يا موت، هل هذا هو التاريخُ،
صِنْوُكَ أَو عَدُوُّك، صاعداً ما بين
هاويتين؟ قد تبني الحمامة عُشَّها
وتبيضُ في خُوَذ الحديد. وربما ينمو
نباتُ الشِّيحِ في عَجَلاتِ مَرْكَبَةٍ مُحَطَّمةٍ
فماذا يفعل التاريخُ، صنوُكَ أو عَدُوُّكَ،
بالطبيعة عندما تتزوَّجُ الأرضَ السماءُ
وتذرفُ المَطَرَ المُقَدَّسَ؟/

أَيها الموت، انتظرني عند باب
البحر في مقهى الرومانسيِّين. لم
أَرجِعْ وقد طاشَتْ سهامُكَ مَرَّةً
إلاّ لأُودِعَ داخلي في خارجي،
وأُوزِّعَ القمح الذي امتلأتْ به رُوحي
على الشحرور حطَّ على يديَّ وكاهلي،
وأُودِّعَ الأرضَ التي تمتصُّني ملحاً، وتنثرني
حشيشاً للحصان وللغزالة. فانتظرني
ريثما أُنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان،
ولا تُصَدِّقْني أَعودُ ولا أَعودُ
وأَقول: شكراً للحياة!
ولم أكن حَيّاً ولا مَيْتاً
ووحدك، كنتَ وحدك، يا وحيدُ!
تقولُ مُمَرِّضتي: كُنْتَ تهذي
كثيراً ، وتصرخُ : يا قلبُ!
يا قَلْبُ! خُذْني
إلى دَوْرَة الماءِ.../

ما قيمةُ الروح إن كان جسمي
مريضاً، ولا يستطيعُ القيامَ
بواجبه الأوليِّ؟
فيا قلبُ، يا قلبُ أَرجعْ خُطَايَ
إليَّ ، لأمشي إلى دورة الماء
وحدي!
نسيتُ ذراعيِّ، ساقيِّ ، والركبتين
وتُفِّاحةَ الجاذبيَّةْ
نسيتُ وظيفةَ قلبي
وبستانَ حوَّاءَ في أَوَّل الأبديَّةْ
نسيتُ وظيفةَ عضوي الصغير
نسيتُ التنفُّسَ من رئتّي.
نسيتُ الكلام
أَخاف على لغتي
فاتركوا كُلَّ شيء على حاِلهِ
وأَعيدوا الحياة إلى لُغَتي!...


تقول مُمَرَّضتي: كُنَتَ تهذي
كثيراً، وتصرخ بي قائلاً:



لا أُريدُ الرجوعَ إلى أَحَد
لا أُريدُ الرجوعَ إلى بلد
بعد هذا الغياب الطويل..
أُريدُ الرجوعَ فَقَطْ
إلى لغتي في أقاصي الهديل
تقولُ مُمَرِّضتي:
كُنْتَ تهذي طويلاً، وتسألني:
هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ
أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ؟

خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةٌ
على مَهَلٍ أُدوِّنُها، على مَهَلٍ، على
وزن النوارس في كتاب الماءِ. أَكتُبُها
وأُورِثُها لمنْ يتساءلون: لمنْ نُغَنِّي
حين تنتشرُ المُلُوحَةُ في الندى؟...
خضراءُ، أكتُبُها على نَثْرِ السنابل في
كتاب الحقلِ، قَوَّسَها امتلاءٌ شاحبٌ
فيها وفيَّ. وكُلَّما صادَقْتُ أَو
آخَيْتُ سُنْبُلةً تَعَلَّمْتُ البقاءَ من
الفَنَاء وضدَّه(( أَنا حَبَّةُ القمح
التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً. وفي
موتي حياةٌ ما....))
كأني لا كأنّي
لم يمت أَحَدٌ هناك نيابةً عني.
فماذا يحفظُ الموتى من الكلمات غيرَ
الشُّكْرِ: ”إنَّ الله يرحَمُنا’’....
ويُؤْنِسُني تذكُّرُ ما نَسِيتُ مِنَ
البلاغة: ”لم أَلِدْ وَلَداً ليحمل مَوْتَ
والِدِهِ’’...
وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَدات....
سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذَّّكَر المُلائِمِ
في جُنُوح الشعر نحو النثر...
سوف تشُّبُّ أَعضائي على جُمَّيزَةٍ،
ويصُبُّ قلبي ماءَهُ الأَرضيَّ في
أَحَدِ الكواكب… مَنْ أَنا في الموت
بعدي؟ مَنْ أَنا في الموت قبلي
قال طيفٌ هامشيٌّ: ((كان أوزيريسُ
مثْلَكَ، كان مثلي. وابنُ مَرْيَمَ
كان مثلَكَ، كان مثلي. بَيْدَ أَنَّ
الجُرْحَ في الوقت المناسب يُوجِعُ
العَدَمَ المريضَ، ويَرْفَعُ الموتَ المؤقَّتَ
فكرةً....))
من أَين تأتي الشاعريَّةُ؟ من
ذكاء القلب، أَمْ من فِطْرة الإحساس
بالمجهول؟ أَمْ من وردةٍ حمراءَ
في الصحراء؟ لا الشخصيُّ شخصيُّ
ولا الكونيُّ كونيٌّ....
كأني لا كأني..../
كلما أَصغيتُ للقلب امتلأتُ

بما يقول الغَيْبُ، وارتفعتْ بِيَ
الأشجارُ. من حُلْم إلى حُلْمٍ
أَطيرُ وليس لي هَدَفٌ أَخيرٌ.
كُنْتُ أُولَدُ منذ آلاف السنين
الشاعريَّةِ في ظلامٍ أَبيض الكتّان
لم أَعرف تماماً مَنْ أَنا فينا ومن
حُلْمي. أَنا حُلْمي
كأني لا كأني....
لم تَكُنْ لُغَتي تُودِّعُ نَبْرها الرعويَّ
إلاّ في الرحيل إلى الشمال. كلابُنا
هَدَأَتْ. وماعِزُنا توشَّح بالضباب على
التلال. وشجَّ سَهْمٌ طائش وَجْهَ
اليقين. تعبتُ من لغتي تقول ولا
تقولُ على ظهور الخيل ماذا يصنعُ
الماضي بأيَّامِ امرئ القيس المُوَزَّعِ
بين قافيةٍ وقَيْصَر.../َ
كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ آلهتي،
هنالك، في بلاد الأرجوان أَضاءني
قَمَرٌ تُطَوِّقُهُ عناةُ، عناةُ سيِّدَةُ
الكِنايةِ في الحكايةِ. لم تكن تبكي على
أَحَدِ، ولكنْ من مَفَاتِنِها بَكَتْ:
هَلْ كُلُّ هذا السحرِ لي وحدي
أَما من شاعرٍ عندي
يُقَاسِمُني فَرَاغَ التَخْتِ في مجدي؟
ويقطفُ من سياج أُنوثتي
ما فاض من وردي؟
أَما من شاعر يُغْوي
حليبَ الليل في نهدي؟
أَنا الأولى
أَنا الأخرى
وحدِّي زاد عن حدِّي
وبعدي تركُضُ الغِزلانُ في الكلمات
لا قبلي… ولا بعدي/


سأحلُمُ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها/ المكيدةَ
في سياق الواقعيّ. وليس في وُسْعِ القصيدة
أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
لكني سأحلُمُ،
رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي، كما أَنا
واحداً من أَهل هذا البحر،
كفَّ عن السؤال الصعب: ((مَنْ أَنا؟
ها هنا؟ أَأَنا ابنُ أُمي؟))
لا تساوِرُني الشكوكُ ولا يحاصرني
الرعاةُ أو الملوكُ. وحاضري كغدي معي
ومعي مُفَكِّرتي الصغيرةُ: كُلَّما حَكَّ
السحابةَ طائرٌ دَوَّنتُ: فَكَّ الحُلْمُ
أَجنحتي. أنا أَيضاً أطيرُ. فَكُلُّ
حيّ طائرٌ. وأَنا أَنا، لا شيءَ
آخَرَ/

واحدٌ من أَهل هذا السهل....
في عيد الشعير أَزورُ أطلالي
البهيَّة مثل وَشْم في الهُوِيَّةِ
لا تبدِّدُها الرياحُ ولا تُؤبِّدُها..../
وفي عيد الكروم أَعُبُّ كأساً
من نبيذ الباعة المتجوِّلينَ… خفيفةٌ
روحي، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان/
وفي الربيع، أكونُ خاطرةً لسائحةٍ
ستكتُبُ في بطاقات البريد: ((على
يسار المسرح المهجور سَوْسَنَةٌ وشَخْصٌ
غامضٌ. وعلى اليمين مدينةٌ عصريَّةٌ))/))
وأَنا أَنا، لا شيء آخَرَ....
لَسْتُ من أَتباع روما الساهرينَ
على دروب الملحِ. لكنِّي أسَدِّدُ نِسْبَةً
مئويَّةً من ملح خبزي مُرْغَماً، وأَقول
للتاريخ: زَيِّنْ شاحناتِكَ بالعبيد وبالملوك الصاغرينَ، ومُرَّ....لا أَحَدٌ يقول
الآن: لا

وأَنا أَنا، لا شيء آخر
واحدٌ من أَهل هذا الليل. أَحلُمُ
بالصعود على حصاني فَوْقَ، فَوْقَ...
لأَتبع اليُنْبُوعَ خلف التلِّ
فاصمُدْ يا حصاني. لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ
………..
أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ. فانتصِبْ
أَلِفاً، وصُكَّ البرقَ. حُكَّ بحافر
الشهوات أَوعيةَ الصَدَى. واصعَدْ،
تَجَدَّدْ، وانتصبْ أَلفاً، توتَّرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفاً، ولا تسقُطْ
عن السفح الأَخير كرايةٍ مهجورةٍ في
الأَبجديَّة. لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ،
أَنت تَعِلَّتي وأَنا مجازُكَ خارج الركب
المُرَوَّضِ كالمصائرِ. فاندفِعْ واحفُرْ زماني
في مكاني يا حصاني. فالمكانُ هُوَ
الطريق، ولا طريقَ على الطريق سواكَ
تنتعلُ الرياحَ. أضئْ نُجوماً في السراب!
أَضئْ غيوماً في الغياب، وكُنْ أَخي
ودليلَ برقي يا حصاني. لا تَمُتْ
قبلي ولا بعدي عَلى السفح الأخير
ولا معي. حَدِّقْ إلى سيَّارة الإسعافِ
والموتى… لعلِّي لم أَزل حيّا/

سأَحلُمُ، لا لأُصْلِحَ أَيَّ معنىً خارجي.
بل كي أُرمِّمَ داخلي المهجورَ من أَثر
الجفاف العاطفيِّ. حفظتُ قلبي كُلَّهُ
عن ظهر قلبٍ: لم يَعُدْ مُتَطفِّلاً
ومُدَلّلاً. تَكْفيِه حَبَّةُ "أسبرين" لكي
يلينَ ويستكينَ. كأنَّهُ جاري الغريبُ
ولستُ طَوْعَ هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يَصْدَأُ كالحديدِ ’ فلا يئنُّ ولا يَحِنُّ
ولا يُجَنُّ بأوَّل المطر الإباحيِّ الحنينِ’
ولا يرنُّ كعشب آبَ من الجفافِ.
كأنَّ قلبي زاهدٌ ، أوَ زائدٌ
عني كحرف "الكاف" في التشبيِه.
حين يجفُّ ماءُ القلب تزدادُ الجمالياتُ
تجريداً ، وتدَّثرُ العواصف بالمعاطفِ،
والبكارةُ بالمهارةِ/

كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ أُولى
الأغنيات رأيتُ آثارَ القطاة على
الكلام.ولم أَكن ولداً سعيداً
كي أَقولَ: الأمس أَجملُ دائماً.
لكنَّ للذكرى يَدَيْنِ خفيفتين تُهَيِّجانِ
الأرضَ بالحُمَّى. وللذكرى روائح زهرةٍ
ليليَّةٍ تبكي وتُوقظُ في دَمِ المنفيِّ

حاجتَهُ إلى الإنشاد: ((كُوني
مُرْتَقى شَجَني أَجدْ زمني))...ولستُ
بحاجةٍ إلاّ لِخَفْقَةِ نَوْرَسٍ لأتابعَ
السُفُنَ القديمةَ . كم من الوقت
انقضى منذ اكتشفنا التوأمين : الوقتَ
والموتَ الطبيعيَّ المُرَادِفَ للحياة؟
ولم نزل نحيا كأنَّ الموتَ يُخطئنا،
فنحن القادرين على التذكُّر قادرون
على التحرُّر، سائرون على خُطى
جلجامشَ الخضراءِ من إلى زَمَنٍ.../
هباءٌ كاملُ التكوينِ....
يكسرُني الغيابُ كجرَّةِ الماءِ الصغيرة.
نام أَنكيدو ولم ينهض . جناحي نام
مُلْتَفّاً بحَفْنَةِ ريشِهِ الطينيِّ . آلهتي
جمادُ الريح في أَرض الخيال . ذِراعِيَ
اليُمْنى عصا خشبيَّةٌ . والقَلْبُ مهجورٌ
كبئرٍ جفَّ فيها الماءُ، فاتَّسعَ الصدى
الوحشيُّ: أنكيدو! خيالي لم يَعُدْ
يكفي لأكملَ رحلتي . لا بُدَّ لي من
قُوَّةٍ ليكون حُلمْي واقعيّاً . هاتِ
أَسْلِحتي أُلَمِّعْها بِملح الدمع.هاتِ
الدمعَ، أنكيدو، ليبكي المَيْتُ فينا
الحيَّ. ما أنا ؟ مَنْ ينامُ الآن
أنكيدو؟ أَنا أَم أَنت؟ آلهتي
كقبض الريحِ. فانَهضْ بي بكامل
طيشك البشريِّ ، واُحلمْ بالمساواةِ
القليلةِ بين آلهة السماء وبيننا . نحن
الذين نُعَمِّرُ الأرض الجميلةَ بين
دجلةَ والفراتِ ونحفَظُ الأسماءَ. كيف
مَلَلْتَني، يا صاحبي، وخَذَلْتَني، ما نفْعُ حكمتنا بدون
فُتُوّةٍ ....ما نفعُ حكمتنا؟ على باب المتاهِ خذلتني،
يا صاحبي ، فقتلتَني، وعلىَّ وحدي
أَحملُ الدنيا على كتفيَّ ثوراً هائجاً.
وحدي أُفتِّشُ شاردَ الخطوات عن
أَبديتي.لا بُدَّ لي من حَلِّ هذا
اللُغْزِ ، أنكيدو، سأحملُ عنكَ
عُمَركَ ما استطعتُ وما استطاعت
قُوَّتي وإرادتي أَن تحملاكَ. فمن
أنا وحدي؟ هَبَاءٌ كاملُ التكوينِ
من حولي. ولكني سأُسْنِدُ ظلُّكَ
العاري على شجر النخيل .فأين ظلُّكَ؟
أَين ظلُّكَ بعدما انكسرَتْ جُذُوعُك؟
قمَّةُ
الإنسان
هاويةٌ...
ظلمتُكَ حينما قاومتُ فيكَ الوَحْشَ،
باُمرأةٍ سَقَتْكَ حليبَها ، فـأنِسْتَ..
واستسلمتَ للبشريِّ. أَنكيدو، ترفَّقْ
بي وعُدْ من حيث مُتَّ، لعلَّنا

نجدُ الجوابَ، فمن أَنا وحدي؟
حياةُ الفرد ناقصةٌ، وينقُصُني
السؤال، فمن سأسألُ عن عبور
النهر؟ فانهض.. كفى نوماً!
تحرَّكْ قبل أَن يتكاثَرَ الحكماءُ حولي
كالثعالب: كُلُّ شيء باطلٌ، فاغنَمْ
حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً حُبُلَى بسائلها،
دَمِ العُشْب المُقَطَّرِ. عِشْ ليومك لا
لحلمك. كلُّ شيْء زائلٌ. فاحذَرْ غداً
عِشِ الحياةَ الآن في اُمرأةٍ
تحبُّكَ. عِشْ لجسمِكَ لا لِوَهْمكَ.
وانتظرْ
ولداً سيحمل عنك رُوحَكَ.
فالخلودُ هُوَ التَّنَاسُلُ في الوجود.
وكُلُّ شيءٍ باطلٌ أو زائل ، أو
[زائل أو باطلٌ
مَنْ أَنا؟
أَنشيدُ الأناشيد
أم حِكْمَةُ الجامعةْ؟
وكلانا أَنا....
وأَنا شَاعرٌ
ومَلِكْ
وحكيمٌ على حافّة البئرِ
لا غيمةٌ في يدي
لا أَحَدَ عَشَرَ كوكباً

على معبدي
ضاق بي جَسَدي
ضاق بي أَبدي
وغدي
جالسٌ مثل تاج الغبار
على مقعدي

باطلٌ، باطلُ الأباطيل... باطلْ
كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ

أَلرياحُ شماليَّةٌ
والرياحُ جنوبيَّةٌ
تُشْرِقُ الشمسُ من ذاتها
تَغْرُبُ الشمسُ في ذاتها
لا جديدَ إذاً
والزَمَنْ
كان أَمسِ،
سُدىً في سُدَى.
ألهياكلُ عاليةٌ
والسنابلُ عاليةٌ
والسماءُ إذا انخفضت مَطَرتْ
والبلادُ إذا ارتفعت أَقفرت
كُلُّ شيء إذا زاد عن حَدِّهِ
صار يوماً إلى ضدِّهِ
والحياةُ على الأرض ظلٌّ
لما لا نرى......

باطلٌ، باطلُ الأباطيل… باطلْ
كلُّ شيء على البسيطة زائلْ

مركبة 1400
و12,000 فرس
تحمل اسمي المُذَهَّبَ من
زَمَنٍ نحو آخر....
عشتُ كما لم يَعِشْ شاعرٌ
مَلكاً وحكيماً
هَرِمْتُ، سَئِمْتُ من المجدِ
لا شيءَ ينقصني
أَلهذا إذاً
كلما ازداد علمي
تعاظَمَ هَمِّي؟
فما أُورشليمُ وما العَرْشُ؟
لا شيءَ يبقى على حالِه
للولادة وَقْتٌ
وللموت وقتٌ
وللصمت وَقْتٌ
وللنُّطق وقْتٌ
وللحرب وقْتٌ
وللصُّلحِ وقْتٌ
وللوقتِ وقْتٌ
ولا شيءَ يبقى على حالِهِ....
كُلُّ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ
والبحرُ ليس بملآنَ،
لا شيءَ يبقى على حالِهِ
كُلُّ حيّ يسيرُ إلى الموت
والموتُ ليس بملآنَ،
لا شيءَ يبقى سوى اسمي المُذَهَّبِ
بعدي:
…..((سُلَيمانُ كانَ))
فماذا سيفعل موتى بأسمائهم
هل يُضيءُ الذَّهَبْ
ظلمتي الشاسعةْ
أَم نشيدُ الأناشيد
والجامعةْ؟

باطلٌ، باطلُ الأباطيل… باطلْ
كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ/.....
مثلما سار المسيحُ على البُحَيْرَةِ،
سرتُ في رؤيايَ. لكنِّي نزلتُ عن
الصليب لأَنني أَخشى العُلُوَّ، ولا
أُبَشِّرُ بالقيامةِ. لم أُغيِّرْ غَيْرَ
إيقاعي لأَسمَعَ صوتَ قلبي واضحاً.
للملحميِّين النُّسُورُ ولي أَنا: طوقُ
الحمامةِ، نجمةٌ مهجورةٌ فوق السطوح،
وشارعٌ مُتَعرِّجُ يُفْضي إلى ميناءِ
عكا - ليس أكثرَ أَو أَقلَّ-
أُريد أَن أُلقي تحيَّاتِ الصباح عليَّ
حيث تركتُني ولداً سعيدا [ لم
أَكُنْ ولداً سَعيدَ الحظِّ يومئذٍ،
ولكنَّ المسافةَ، مثلَ حدَّادينَ ممتازينَ،
تصنَعُ من حديدٍ تافهٍ قمراً]
- أَتعرفني؟-
سألتُ الظلَّ قرب السورِ،
فانتبهتْ فتاةُ ترتدي ناراً،
وقالت: هل تُكَلِّمني؟
فقلتُ: أُكَلِّمُ الشَبَحَ القرينَ
فتمتمتْ: مجنونُ ليلى آخرٌ يتفقَّد
الأطلالَ،
وانصرفتْ إلى حانوتها في آخر السُوق
القديمةِ....
ههنا كُنَّا. وكانت نَخْلَتانِ تحمِّلان
البحرَ بعضَ رسائلِ الشعراءِ....
لم نكبر كثيراً يا أَنا. فالمنظرُ
البحريُّ، والسُّورُ المُدَافِعُ عن خسارتنا،
ورائحةُ البَخُور تقول: ما زلنا هنا،
حتى لو انفصَلَ الزمانُ عن المكانِ
لعلَّنا لم نفترق أَبداً
-أَتعرفني؟
بكى الوَلَدُ الذي ضيَّعتُهُ:
….(( لم نفترق. لكننا لن نلتقي أَبداً))
وأَغْلَقَ موجتين صغيرتين على ذراعيه،
وحلَّق عالياً .....
فسألتُ: مَنْ منَّا المُهَاجِرُ؟
قلتُ للسّجَّان عند الشاطئ الغربيّ:
هل أَنت ابنُ سجّاني القديمِ؟
! نعم-
فأين أَبوك؟-
قال: أَبي توفِّيَ من سنين.
أُصيبَ بالإحباط من سَأَم الحراسة.
ثم أَوْرَثَني مُهمَّتَهُ ومهنته، وأوصاني
بان أَحمي المدينةَ من نشيدكَ.....
قُلْتُ: مُنْذُ متى تراقبني وتسجن
فيَّ نفسَكَ؟
قال: منذ كتبتَ أُولى أُغنياتك
قلت: لم تَكُ قد وُلِدْتَ
فقال: لي زَمَنٌ ولي أَزليَّةٌ،
وأُريد أن أَحيا على إيقاعِ أمريكا
وحائطِ أُورشليمَ
فقلتُ: كُنْ مَنْ أَنتَ. لكني ذهبتُ
ومَنْ تراه الآن ليس أنا، أنا شَبَحي
فقال: كفى! أَلسْتَ اسمَ الصدى
الحجريِّ؟ لم تذهَبْ ولم تَرْجِعْ إذاً
ما زلتَ داخلَ هذه الزنزانة الصفراءِ.
فاتركني وشأني!
قلتُ: هل ما زلتُ موجوداً
هنا؟ أَأَنا طليقٌ أَو سجينٌ دون
أن أدري. وهذا البحرُ خلف السور بحري؟
قال لي: أَنتَ السجينُ، سجينُ
نفسِكَ والحنينِ. ومَنْ تراهُ الآن
ليس أَنا. أَنا شَبَحي
فقلتُ مُحَدِّثاً نفسي: أَنا حيٌّ
وقلتُ: إذا التقى شَبَحانِ
في الصحراء، هل يتقاسمانِ الرملَ،
أَم يتنافسان على احتكار الليل؟/

كانت ساعَةُ الميناءِ تعمَلُ وحدها
لم يكترثْ أَحَدٌ بليل الوقت، صَيَّادو
ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
الموجَ. والعُشَّاقُ في الـ" ديسكو"
وكان الحالمون يُرَبِّتُون القُبَّراتِ النائماتِ
ويحلمون....
وقلتُ: إن متُّ انتبهتُ.....
لديَّ ما يكفي من الماضي
... وينقُصُني غَدٌ
سأسيرُ في الدرب القديم على
خُطَايَ، على هواءِ البحر. لا
امرأةٌ تراني تحت شرفتها. ولم
أملكْ من الذكرى سوى ما ينفَعُ
السَّفَرَ الطويلَ. وكان في الأيام
ما يكفي من الغد. كُنْتُ أصْغَرَ
من فراشاتي ومن غَمَّازتينِ:
خُذي النُّعَاسَ وخبِّئيني في
الرواية والمساء العاطفيّ/
وَخبِّئيني تحت إحدى النخلتين/
وعلِّميني الشِعْرَ/ قد أَتعلَّمُ
التجوال في أنحاء "هومير"/ قد
أُضيفُ إلى الحكاية وَصْفَ
عكا/ أقدمِ المدنِ الجميلةِ،
أَجملِ المدن القديمةِ /علبَةٌ
حَجَريَّةٌ يتحرَّكُ الأحياءُ والأمواتُ
في صلصالها كخليَّة النحل السجين
ويُضْرِبُونَ عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كُلَّما
/ اشتدَّ الحصارُ /وعلِّميني الشِعْرَ
قد تحتاجُ بنتٌ ما إلى أُغنية
لبعيدها: ((خُذْني ولو قَسْراً
إليكَ، وضَعْ منامي في
يَدَيْكَ)). ويذهبان إلى الصدى
مُتَعانِقَيْنِ /كأنَّني زوَّجتُ ظبياً
شارداً لغزالةٍ/ وفتحتُ أبوابَ
الكنيسةِ للحمام… /وعَلِّميني
الشِعْرَ/ مَنْ غزلتْ قميصَ
الصوف وانتظرتْ أمام الباب
أَوْلَى بالحديث عن المدى، وبخَيْبَةِ
الأَمَلِ: المُحاربُ لم يَعُدْ، أو
لن يعود، فلستَ أَنتَ مَن
انتظرتُ..../

ومثلما سار المسيحُ على البحيرة....
سرتُ في رؤيايَ. لكنِّي نزلتُ عن
الصليب لأنني أَخشى العُلُوَّ ولا
أُبشِّرُ بالقيامة. لم أُغيِّر غيرَ إيقاعي
لأَسمع صوتَ قلبي واضحاً....
للملحميِّين النُسُورُ ولي أَنا طَوْقُ
الحمامة، نَجْمَةٌ مهجورةٌ فوق السطوح،
وشارعٌ يُفضي إلى الميناء....
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ وسائلي المنويِّ… لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي. ولي
شَبَحي وصاحبُهُ. وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
طارت عن الأسوار… لي
ما كان لي. وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
والملْحُ من أَثر الدموع على
جدار البيت لي....
واسمي، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي:
ميمُ /المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني
وهذا الاسمُ لي....
ولأصدقائي، أينما كانوا، ولي
جَسَدي المُؤَقَّتُ، حاضراً أم غائباً....
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن....
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً.....
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ،
يشربني على مَهَلٍ، ولي
ما كان لي: أَمسي، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ، وعودة الروح الشريد
كأنَّ شيئاً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ....
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أَبطالِهِ....
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ...
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت-
لي.
أَما أَنا -وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل-
فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي....

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...