اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

كتاب " الحوار الغائب " للإمام العالم المجدد الشيخ عبد الغني العمري

⏪- 15 - : كتابة الأسفار
كتاب " الحوار الغائب "
للإمام العالم المجدد الشيخ عبد الغني العمري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول الله تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ . وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 144، 145]. والرسالة هي ما ابتعث الله به موسى إلى الناس، وأما الكلام فهو ما أسمعه من كلامه سبحانه؛ وهو اختصاص اختصه الله به. ورغم أن الوحي الرسالي كلام، إلا أن للكلام هنا معنى خاصا، انفرد به موسى من دون الرسل عليهم السلام. وهذه مرتبة، لا تُعلم إلا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجامعة لكل ما تفرق. وعندما نقول "تُعلم" فإننا لا نعني إلا العلم المجرد؛ لأن التكليم لموسى أمر ذوقي لا يعلمه إلا محمد وموسى. ورغم أن الأولياء من أمتنا، قد يحدث لهم من هذا التكليم شيء؛ إلا أنهم لن يبلغوا ذوق موسى فيه، إلا إن ذاقوه من جهة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند فنائهم فيه؛ وحتى هذا، لا يكون إلا على قدرهم في تمامه، لا في كماله. وعندما يقول الله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} بنون الجمع، فإننا نعلم أن الكاتب هو مظهر موسى، لكن بوحي من الله؛ فالجمعية هنا هي جمعية مظهر وظاهر. وأما إن أخذناها من جهة الأسماء، فإنها تعني أن "العليم" ومَن تحته من الأسماء (الحكيم على الخصوص)، ومعه "القدير" هما من تولّيا الكتابة. وفي الحالين فإن الصورة واحدة، واختلاف تفكيكها هو اعتباري فحسب. وأما قوله تعالى: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، فيعني ما يتعلّق بالتَّعرف الإلهي، وما يتعلّق بأخبار الأمم السابقة من أجل الاعتبار، وما يتعلّق بالتشريع؛ فهي ثلاثة أصناف. وقوله سبحانه {مَوْعِظَةً}، هو ما ذكرناه عن التعرّف والاعتبار؛ لأن التّعرف من نتائجه تصحيح معاملة الله، والاعتبار من نتائجه ضبط التأسي؛ وهما أمران متكاملان لا يقوم التديّن إلا بهما معا. والاعتبار داخل في التعرّف، وإن انفصل عنه من جهة الحقيقة. والسبب هو أن أحوال الأمم السابقة نفسها، هي تجليات إلهية ينبغي علمها من كونها تجليا، لا من كونها فعلا لله فحسب. وهذا الربط بين التعرّفات وأحوال الأمم، يكاد علماء الدين لا يعلمون منه شيئا، لتفريقهم بين الصور الحادثة والوجود القديم. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. ويعني سبحانه أن ما يُنسب إلى الخلق هو منسوب قبلهم إلى الله؛ وما هو حادث، هو مستند في قيامه إلى القديم. والتفريق الذي يعتمده علماء الدين قبل غيرهم، هو من أثر شركهم لا غير. وهذا الذي نصف هنا، من أكبر أسباب الغفلة في المتأخرين؛ مع كون تأخُّرهم في الزمان، يقتضي أن يعتبروا بأحوال مَن قبلهم جميعا!... وأما قول الله بعد ذلك {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فهو متعلق بتفاصيل أحكام الشريعة، التي لا غنى للعباد عن اتباعها في طريق تقرُّبهم. وهذه الثلاثة كلها، هي أسس الدين التي يقوم عليها؛ وهي مطابقة لمراتبه الثلاث: الإسلام، الذي هو مرتبة التأسّي البدني؛ والإيمان، الذي هو التعرف الاعتباري؛ ثم الإحسان، الذي هو المعرفة الشهودية. والتعرّف يكون تارة من الله وتارة من العبد؛ فإن كان من الله فهو تعرّف إلى العباد، وإن كان من العباد فهو تعرّف على الله. وهذا التعرف من الجانبيْن، هو حقيقة الدين وروحه، لمن كان من أهل الدين حقا.

ولقد قيل: إن أول من كتب التوراة الكتابة المعتادة، كان موسى نفسه (حوالي: 1512 ق.م). والأسفار المعنيّة هنا هي: "التكوين" "الخروج" "اللاويين" "العدد" "التثنية"، وهو ما يُسمّى "Pentateuch" (أسفار الناموس)؛ والذي هو ثلث محتويات "العهد القديم" فحسب. ولم تكتمل صياغة أسفار "الناموس" وحدها، إلا بعد مُضيّ أكثر من ثمانية قرون؛ وأما الأسفار التي بعدها، فقد كُتبت على مدى أكثر من 1600 سنة. ولقد كانت لغة التوراة هي العبرية، التي بقيت لغةً لِمملكتيْ إسرائيل ويهوذا، إلى وقت السبي. وقد احتفظ اليهود باللغة العبرية لغة عبادة ودين، وتكلّموا الآرامية التي كانت لغة غرب آسيا آنذاك. ولا شك أن العبرية نفسها، تطورت على مر القرون، وتغيّرت بعض أساليبها خلال ذلك. وإن أضفنا إلى ما ذكرنا، أن الترجمة إلى الآرامية ثم إلى اليونانية ستكون بحسب المعنى المـُدرَك للمترجِم نفسه، فإننا سنتبيّن أن التغيير الذي لحق النص الأصلي يكاد يكون أمرا لا مفر منه. وهذا هو ما يجعل الكتابيّين لا يعتبرون حرفية الوحي، كما يعتبرها المسلمون في القرآن والسنة؛ وهو ما سيجعل الوحي لدى الفريقيْن بمعنيين متباينين، لا بد من اعتبارهما عند النظر. وحرفية النص فيما يتعلّق بالوحي، ضرورية؛ لأن فهم الناس يختلف ويتفاوت، من واحد إلى واحد. والوحي في النهاية تعبير إلهي بلغة بشرية، يفوق من حيث المعنى ما هو متعارف عليه بين أهل تلك اللغة في الزمان. ونعني من هذا أن الكلام الإلهي في نفسه غير متقيّد بمعاني الألفاظ من جهة، وغير متقيّد بالزمان من جهة أخرى. وهذا الجانب، هو الإعجاز في القرآن؛ مع أن علماء الدين يُغفلونه كثيرا، ويبحثون عن وجوه للإعجاز غيره فيه. وما ذلك، إلا لأنهم توهّموا أن اللغة القرآنية هي لغة عربية فحسب. وقد يقول قائل من الكتابيّين: بما أن كلام الله على الصفة التي ذكرت، فإن ذلك هو مستندنا في التمسُّك بما عندنا!... فنقول: أولا، إن الوحي لديكم لم تُحافظوا على أصله؛ حتى تجوز نسبته إلى الله حقيقة. وهذا يُشبه ترجمة القرآن عندنا، التي لا نعدّها كلاما لله البتّة. بل إن كتابة القرآن باللغة العربية، بالرسم المعتاد لدى الناس من حيث اللغة، والذي يُخالف الرسم التوقيفي في أحيان كثيرة، يجعل النص المكتوب، غير القرآن؛ وإن اتحد لفظاهما. وثانيا، لأنكم لا تتمكنون من إدراك كلام الله خارج الزمان إلا إن كنتم قرآنيين. وذلك لأن القرآن هو "الكتاب" الأصلي الجامع لمعاني كل الكتب السابقة، والذي كان مكنونا قبل التجلّي (الجزئي بها والكلي بنفسه). وهو لا يُعلم خارج الزمان، إلا من الصورة الإنسانية السماوية التي لا تكون الكتب السابقة إلا نُسخا منها على قدر أصحابها. وبما أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن حقيقته ما يزيد على ما تحتمله كل حقائق الأنبياء، لذلك فإن قرآنه فيه من الأسرار ما ليس في كل الكتب السابقة. ولو كان الكتابيّون على علم بالمعاني، لأدركوا أن الفاتحة، مخصوصة به صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولا يتمكن أحد من الأنبياء من احتمال نزولها عليه.

ولنعد إلى التدوين، فنقول:
وقد أضاف بنو إسرائيل إلى أسفار "الناموس"، أسفارا تاريخية وأسفارا شعرية، وأسفارا نبوية، لتصبح أسفار العهد القديم في مجموعها تسعة وثلاثين سفرا. ويبدو أن هذه الأسفار كلها، قد أصبحت قانونية (معتمدة) منذ الترجمة اليونانية، المسماة بالترجمة السبعينية (Septuagent) التي قام بها يهود الإسكندرية، في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد؛ مع أن الأصل العبري الذي قامت عليه هذه الترجمة مفقود. وأما الترجمات إلى اللغات الأخرى التي بين أيدينا، والتي من بينها الترجمة العربية، فإنها تعتمد مخطوطات للتوراة يعود تاريخها إلى القرن التاسع أو العاشر الميلاديين. ونحو منتصف القرن الثاني الميلادي، ظهر نص Aquila""، فحلّ محل النص السبعيني لدى اليهود؛ ثم ظهرت ترجمة "Symmachus" التي كانت أكثر سعة من حيث التعبير. ثم ظهرت بعد ذلك ترجمة "Theodotion" التي كانت أقرب من حيث الأصل العبري إلى Aquila"". [ونحو منتصف القرن الثالث الميلادي، قام أوريجين الإسكندري بوضع نص مقارن قسّمه إلى عدة أعمدة، حيث وضع في العمود الأول النص التقليدي القانوني، وفي العمود الثاني ترجمة Aquila، وفي الثالث ترجمة Symmachus، وفي الرابع ترجمة Theodotion، وفي الأخير النص السبعيني مراجَعاً من قبله. وما لبثت هذه المراجعة التي قام بها للنص السبعيني حتى غدت بحد ذاتها ترجمة مستقلة، وتم تداولها على هذا الأساس. وفي هذه الأثناء أيضاً ظهرت أكثرُ من ترجمة آرامية، كانت واحدتها تدعى "ترجوم". ويتميز الترجوم بتداخل المتن مع الشروح والتعليقات، الأمر الذي يجعله أقرب إلى عامة اليهود المتكلمين بالآرامية، سواء في فلسطين أم في بقية أنحاء سوريا وبلاد الرافدين. كما ظهرت الترجمة اللاتينية في القرن الخامس الميلادي.][1].

غير أن أقدم نص للتوراة معروف إلى الآن (غير كامل)، هو ما تم اكتشافه سنة 1948م، وهو المعروف بـ "مخطوطات البحر الميّت" في كهوف وادي "قُمران"؛ والذي يُقال إنه من إنتاج فرقة يهودية غير أرثوذوكسية (الأسينيّون). وهو يفوق نص "يمنيا" بنحو قرنين من الزمان.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكنيسة الكاثوليكية، قد أضافت إلى أسفار "العهد القديم"، ثمانية أسفار مكتوبة في أصلها باليونانية، واعتبرتها قانونية من الدرجة الثانية. وأما الكنيسة البروتستانية، فقد اعتمدت في "عهدها القديم" الأسفار العبرية فقط.

وقد أُنتجت حول "التوراة" نصوص كثيرة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، أصبحت المرجع العقدي اليهودي، الذي وصل في صورته النهائية إلى ما يُعرف اليوم بـ "التلمود". وسنعود إن شاء الله إلى العقائد اليهودية في فصل مقبل من هذا الكتاب، لنتفحصها ونُفكّكها...

وأما إن عدنا إلى القرآن الذي هو آخر كلام منزل من عند الله، فإننا سنجد تدوينه قد بدأ وقت نزوله. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يُملي الآيات المنزلة عقب نزولها مباشرة، على الكَتَبة من الصحابة الكرام، والذين كان على رأسهم: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، وعثمان بن عفان؛ رضي الله عن جميعهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حريصا على أن يُحْفظ القرآن لفظا في الصدور، وكتابة في السطور؛ وهذا يجعل القرآن متفردا من بين جميع الكلام الإلهي السابق. وهذا عينه ما ذكره الله في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وهو يعني أيضا، أن الله قد تكفّل بحفظ النص القرآني (ومِن بعده بحفظ السنة النبوية)، ولم يتولّ حفظ النصوص الإلهية التي جاءت قبله في الزمان. وفي ذلك حكمة بالغة، وهي أن الرسالات في آخر الزمان (الدورة الثانية للزمان المختصة بظهور الأمة المحمدية الخاصة) ستنتهي إلى رسالة خاتمة، لا ينبغي أن يُزاحمها في مشروعيتها نص غير النص المخصوص بها (القرآن والسنة). ومع هذه الخصيصة، التي تكفي وحدها لجعل المؤمنين بالإله (الرب) يلتفّون حول الرسالة المحمدية الخاتمة، فإننا نجد -على شك في ثبوت النص لديهم- الكتابيّين يُصرّون على اتباع مظنون رِسالتهم. فكيف بهم لو أن النصوص الأصلية بقيت لديهم على الصورة التي أُنزلت عليها من عند الله!... وعلى وضوح هذا البرهان التاريخي الذي أوردناه، فإننا لا نكاد نجد الكتابيين يلتفتون إليه، بسؤالهم أنفسهم: لمَ لمْ يُحفظ النصّان التوراتي والإنجيلي من قِبل الله (مع تجاوز للأسباب)؟... وفي المقابل، لا نكاد نجد المسلمين واعين بحقيقة الحفظ الإلهي، لانشغالهم بتفاريع المسائل الفقهية والعقدية لديهم. ونعني من هذا كله، أن أول ما كان ينبغي تنبيه أجيال المسلمين إليه، مسألة الحفظ هذه؛ لتكون مدخلا إلى إدراك ختمية الرسالة المحمدية ذاتها. وإن إهمال هذا الأصل، هو ما جعل المتأخرين من المسلمين المنقطعين عن الوحي وعن المدد جميعا، يقولون بتساوي الأديان في نفسها، بعد أن وقعوا فريسة للفلاسفة الغربيين من نُقّاد اليهودية والنصرانية كـ "سْبينوزا" و"نيتشه"، أو من الفلاسفة (مع تحفظنا على التسمية)[2] الماديّين كـ "هيجل" و"ماركس".

ولو تأمل علماء الكتابيّين في التوراة وفي الإنجيل وفي القرآن، بعيدا عن العصبيات وبعيدا عن الأهواء، فإنهم سيُدركون بسرعة أن التوراة مرحلة أولى من الكلام الإلهي، وأن الإنجيل مرحلة ثانية، وأن القرآن مرحلة خاتمة. ونعني من هذا، أن اليهود اليوم لا يبرهنون بيهوديتهم إلا على ضعف إدراكهم للتوراة نفسها؛ وأن النصارى بنصرانيتهم (وهي غير المسيحية) لا يبرهنون إلا على ضعف إدراكهم للإنجيل ذاته. وهذا الذي نقوله، لا يجعل كل المسلمين مُدركين لقرآنهم؛ فهم أيضا لا يعلمون منه في الغالب إلا ما يتعلّق بالشريعة وحدها. وهكذا يكون الناس جميعا في زماننا، محتاجين إلى تجديد نظرتهم إلى القرآن الكريم، إن هم أرادوا معرفة الحقيقة كما هي في نفسها. ولسنا نعني إلا مطابقة العلم الحادث للعلم القديم، الذي يُشير إليه قول الله تعالى عن ولي من أوليائه: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65]؛ أي كان علمه عيْن علمنا.

وأما مسألة جمع القرآن، التي اكتملت صورتها النهائية في عهد الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" رضي الله عنه؛ فهي مسألة إجرائية فحسب، وليست أساسا كما يعتبرها المشككون في موثوقية النص القرآني؛ وذلك من وجوه:

1. أن "عثمان بن عفان" نفسه، واحد من كَتبة الوحي، على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وبهذا، فإن النصّ القرآني ليس غريبا عنه.

2. أن جمع القرآن قد بدأ بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان يأمر الكتبة بإلحاق الآيات بسياقاتها من مختلف السور؛ وهذا سيجعل السور بذاتها وحدات نصيّة متمايزة، لا يُمكن الخلط بينها للعالِمين. وبهذا لم تكن عملية الجمع تنتظر إلا أمرا بها، يوحّد النُّسخ فحسب. وقد استمرت عملية الجمع، على عهد الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه، ثم على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ بحيث لم يفُز عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه إلا باكتمال صورتها -كما ذكرنا- فحسب.

3. أن الحَفظة للقرآن من الصحابة كانوا من الكثرة بحيث لم يُرَ من داع إلى التوحيد الكتابي مُبكِّرا. وقد وقع بحمد الله توحيد النسخة الكتابية بوجودهم، عند استشعار الحاجة المستقبليّة إليها من قِبل الخلفاء رضي الله عنهم.

4. أن الخليفة الإلهي (أيا يكن)، هو قادر على نَسْخ القرآن من "اللوح المحفوظ" غيبا، ومن دون الحاجة إلى نُسخٍ جزئية، أو إلى مَن يحفظه كاملا أو جزئيا من الصحابة؛ ولكن أبى الله إلا أن يُثبت الأسباب. ورغم هذه المكانة التي للخليفة، فإننا سنجد المسلمين منذ القرن الأول، يجهلونها فيهم؛ إلى الحدّ الذي سيؤدي ببعض الصحابة أنفسهم إلى الخروج على الخلفاء ومقاتلتهم. وهذا يعني أن المسلمين اليوم، هم في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تاريخهم، وإلى إعادة فهم النص القرآني والحديثي، من جديد؛ إن كانوا يريدون الخروج من حالة الغفلة والتمزُّق التي يعيشونها منذ قرون طويلة.

وأما الأحاديث النبوية المعدودة لدينا شطرَ الوحي الثاني، والتي نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن كتابتها على عهده لئلا تختلط بالقرآن؛ فإن تدوينها قد تمّ على عهد الخليفة السابع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، الذي كان الممد للمحدِّثين من جهة غيبه، بمادة علمهم. وإن كان الخليفة، كما نبهنا سابقا، يُمكن أن يأتي بنسخة القرآن من الغيب؛ فإن بإمكانه أيضا أن يجمع الأحاديث الصحيحة من هناك. ولكن الحكمة اقتضت أن تتحرك الأسباب في عالم الشهادة، من أجل ذلك كله، كما أسلفنا. ووصْفُنا لعمر بن عبد العزيز بالخلافة هنا، هو بالمعنى الخاص الجامع الذي أوضحناه عند كلامنا عن داود وسليمان عليهما السلام خصوصا، والذي أثبتناه للخلفاء الستة الأولين من ورثة النبوة فينا، والذين هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، والحسن ابنه، ومعاوية الثاني؛ على الجميع السلام. وقد جمع أئمة السنة الأحاديث في الجوامع والمصنفات والمسانيد وغيرها، مما هو معلوم لأهل علم الحديث خصوصا. واعتمدوا في تصحيح الأحاديث على الإسناد وما يتعلّق به من علم الرجال، وكانوا بذلك آية في الضبط والتمحيص؛ فامتازوا عن كل الأمم السابقة فيما يتعلّق بالرواية.

ورغم أن تدوين السُّنة كان عند تمام القرن الأول، فإن هذا لا يعني أنها كانت منقطعة في وقت من الأوقات قبل ذلك؛ لأن التحديث بها من قِبل الصحابة كان جاريا به العمل، إما من أجل تبيين معاني القرآن نفسه، وإما من أجل الدلالة على ما كانت مخصوصة به من علم. وعلم السنة ينقسم إلى ما هو علم مجرد كالإخبار بغيوب الأزمنة الماضية والمستقبلية، وإلى ما يكون سندا علميا للسنة العملية المتوارثة. وهذا يجعل الدين كلّه محفوظا حفظا تاما، لا يُشكِّك فيه إلا جاهل أو ذو مرض.

ولا بأس هنا، من التعرض لطائفة "القرآنيين" الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن وحده، ويردون السنة كلّها. فهؤلاء وإن زعموا أنهم مسلمون، إلا أنهم يُشبهون أهل الكتاب كثيرا، بخروجهم عن الصراط المستقيم، إلى طريق جانبي لا بد أن يكون أهله كافرين. جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ؛ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ، كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ!»[3]. وهذا، لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو النسخة القرآنية الآدمية، والقرآن هو الحقيقة المحمدية التي منها المدد إلى كل نبي وكل رسول. فمن لا يعتبر كلام محمد (الحديث)، فهو لا يعتبر القرآن نفسه، وإن كان يزعم العكس بغية التمويه على الجاهلين. والحديث صنو القرآن، ما داما لم يخرجا إلا من الفم نفسه؛ صلى الله على صاحبه وآله وسلم؛ تارة يُجمل ما فصّله، وأخرى يُفصّل ما أجمله. وإن الأولياء من المحمديين يميّزون الحديث الصحيح، من غير طريق المحدثين؛ بل من طريق الكشف، أو تعليما مباشرا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن هذا، لمن المعلوم عندنا بالضرورة، كما يقول الفقهاء؛ وإلا فأين الصورة الإلهية وأين حقيقة مرتبتها؟!... ولو أن علماء الحديث كانوا يُصدّقون بما ذكرنا، لكانوا يرجعون في الأحاديث إلى طبقة الربانيين؛ كما كان يفعل أئمة العلم في زمن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام.

وأما قوم آخرون، فإنهم صاروا يعرضون المتن على عقولهم، فإن ردّته ردّوه؛ وهذا فسوق عن الصراط، ودخول في الابتداع الأكبر. وذلك لأن العقول إن شُهد لها بالكمال، لا تتمكن من الإحاطة بأسرار بالدين؛ فما القول وهي ناقصة!... ومن علامات نقص العقل لدينا التقيّد بالمنطق الفكري وحده، أو بالمناهج الفلسفية، أو بالتقليد لمن سبق في الزمان. وكيف يكون العبدُ مقيَّدا، موقِنا بتقييده، ثم يحكم على المطلق، ويقبل حكمه ذاك؟!... وبأي منطق؟!... أما إن قيل: إن الحديث هو كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بشر، والبشر جميعا مقيَّدون!... فليُعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان من البشر، إلا أنه مُطلق؛ بل إن من أتباعه من أولياء أمته من هم على صفة الإطلاق. ومن لا يعلم ما نتكلم فيه، فليتجاوزه إلى غيره مما هو من طوره؛ وليترك المجال لأهله. لكنّ العاقل -وإن لم يعلم- يُصدّق مَن هو أعلم منه فيما لا علم له به، من باب حسن الظن وشهادة القرائن. ونعني هنا بالأعلم من هو من أولياء هذه الأمة، لا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن النبي يجب تصديقه من قِبل جميع المؤمنين، عقلوا عنه أم لم يعقلوا!... وإلا فقدَ الإيمانُ نفسُه معناه. وهؤلاء الذين يشترطون في الحديث أن تقبله عقولهم، وإن حكم المحدثون بصحته من طريقهم، يفتقدون للإيمان من غير شك؛ لأنهم لو كانوا على إيمان، لقالوا: لعل هذا مما يفوق إدراكنا!... وأما إن كانوا يتوهمون أنه لا أعلم منهم، فتلك الطامة الكبرى!... والعبرة هنا بما في الجَنان، لا بنُطق اللسان. ولا تنفعهم حينئذ التلفيقات الفكرية التي ينتهجونها في الكفر بالحديث، أو التي يُسوغون بها الكفر لغيرهم ممن هم أجهل منهم؛ لأنها ليست معتبرة إلا عند عميِ البصائر من أمثالهم. ولقد أثّر أئمة التشكيك من المتعقلنين في زماننا، على كثير من ضعفاء الإيمان؛ وظنوا أن ذلك من تمحيص التديّن ومن قبيل السير في طريق اليقين. وما علموا أن اليقين نهاية الإيمان، وأن الإيمان هو التصديق؛ وأن الحقائق لا تنقلب. ومن لا يصدق محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فمن يصدّق بعد؟!...

وقبل أن نختم هذا الفصل، لا بد من أن نشير إلى باب في علم الحديث، ما زال ينتظر من يقوم له من الرجال: وهو المطابقة بين أحاديث أهل البيت عليهم السلام، والأحاديث النبوية المعلومة لدى أهل السنة. ونعني من هذا أيضا تكميل الأحاديث بقبول الأثبات الذين لم تُردّ روايتهم في أزمنتهم، إلا لشبهة التشيّع. ونحن الآن نعلم أن تلك الشبهة كانت سياسية، تقارب معنى المعارضة السياسية في زماننا. والموقف السياسي، لا ينبغي أن يؤثر في العلم لدى العلماء الأحقاء؛ وإلا فإننا سنصير إلى دين المـُلك لا إلى دين النبوة؛ كما هي الحال في الواقع. وأما كلام الأئمة من أهل البيت، الذي يصح نقله عنهم، فإنه فرع عن النبوة ذاتها. ومن لم يلُح له نور النبوة من كلام علي عليه السلام وأكابر بنيه، فليعلم أنه كفيف. ولسنا بكلامنا هذا، نُثبت لهم النبوة عياذا بالله؛ وإنما نحن نلحق أنوار الأقمار بنور الشمس فحسب. ولعلنا سنعود إلى خصوصية الأئمة من أهل البيت فيما يأتي من الكتاب، إن شاء الله؛ عندما يدعو الداعي إلى ذكر مرتبتهم عليهم السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] .مقال: تاريخ التوراة العبرانية "العهد القديم" لـ: فراس السواح.
[2] . نحن لا نعتبر الفلاسفة الماديين فلاسفة بالمعنى الكامل، وإنما هم كذلك بالمعنى الجزئي فقط.
[3] . أخرجه الترمذي وابن ماجة والدارمي والبيهقي في السنن الكبرى، عن المقدام بن معد يكرب، رضي الله عنه.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...