⏪⏬
سحر الشرق .. لم يتوقف عند الأدب والشعر والموسيقى والباليه ، ولكنه أثر أيضا ً فى إبداعات الفانين المستشرقين ومشاهداتهم وألوانهم .. وإحتلت إبداعات هؤلاء الفنانين عن الشرق كبرى متاحف أوروبا ، بعد أن توالى رحيلهم المغامر فى الشرق .. بلاد
الشمس والضوء والألوان الزاهية ، والذكريات الدينية والأساطير و .. عالم الحريم الغامض !
وللشرق جاذبيته بوصفه عالم "شهر زاد" وأساطير ألف ليلة وليلة ، والجزء المحرم من حياة الشرقى هو فى ذاته يفسر العلاقة الرومانسية بالمرأة ، تلك العلاقة المضطربة والمتناقضة .. وفى عالم المرأة – قدس أقداس مملكة الروح والجسد – تتداخل شتى المقولات الرومانسية : الجمال ، المتعة ، الحلم ، الإثارة ، الشغف وأيضا ً الضعف !
وجاذبية صورة المرأة بالنسبة للفنان هى رافد جمالى مثير للإبداع ، ومما لا شك فيه أن فكرة "الحرملك" كانت تعابث خيال الفنان الأوروبى كلما تذكر الشرق ، وتجعله أسير حلم يرى فيه نفسه سلطانا ً محاطا ً بعدد من الغيد الحسان !
وكان لبعض هؤلاء الفنانين محاولاتهم للتغلغل إلى عمق ظاهرة "الحريم" أو " الحرملك " وولوج هذا العالم المقدس للوصول إلى الحقيقة .. إلى سر الخدر !
دفاع غربى عن الحرملك !
الأديب والرحالة المستشرق الفرنسى "جيرار دى نيرفال – G. De Nerval" كان حريصا ً على التأكيد بأن تخلف الشرق فى القرون الثلاثة الأخيرة ( من السابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر ) مرجعه إلى ظلم وظلام الحكم العثمانى الذى خنق العبقرية العربية التى أبهرت العالم بإنجازاتها العلمية ، وقد أدى هذا الحكم الغشوم إلى "فقدان ملائكة الإسلام لأجنحتها وتبديد سحر أساطير ألف ليلة وليلة" !
كان "دى نيرفال" فى كتاباته متعاطفا ً مع الإسلام ، فقد حرص على دحض كثير من الإفتراءات التى روج لها الرحالة الغربيون عن عالم الشرق "الغارق فى الملذات" و "حيث تسود نزوات الرجل وإستبداده من أجل شهواته" !.. وتحدث عن اتجاه الشرقيين إلى التقليل من تعدد الزوجات ، مؤكدا ً على كرامة المرأة المسلمة وما حظيت به من تقدير فى المجالات الدينية والإجتماعية ، كما سمح لها بإرتياد المساجد ، والتجارة فى الأسواق .. وطالب أقرانه من الأوروبيين بأن يتخلوا عن أفكارهم الظالمة الشائعة عن الإسلام والمسلمين ، داحضا ً مزاعم "مونتسكيو" فى كتابه "رسائل فارسية" والتى يعدها أساس كل الآراء الخاطئة الشائعة فى أوروبا عن حريم الشرق !
وقد عقد دى نيرفال فصلا ً ممتعا ً عن "نساء القاهرة – Femmes du Caire" تضمن قدرا ً هائلا ً من المعلومات ، ودافع عن التقاليد الإجتماعية الإسلامية ، فشرح موقف الإسلام من المرأة وشروط الزواج ونظامه ، حتى إنتهى إلى إطراء عدالة الإسلام وحكمة القرآن ، وناشد القراء الأوروبيين أن يطرحوا عن عقولهم "متع أجواء الحرملك" وأشاد بحق المرأة المسلمة فى أن تحيا مكرمة معززة فى دار زوجها داخل جناح خاص بها وبزائراتها ..
والرحالة الفرنسى الرومانسى "بيير لوتى – Pierre Loti" وجد فى نظام الحرملك : "ميزة يتفرد بها الشرق" وأضاف : "الشرق وحده هو الذى يعرف ميزة أن تقر نسائه فى داره المحكمة الأبواب ، فلا يدع فرجة لعين أن تسلل من خلالها ، الأمر الذى لم يتح معه لأوروبى أن يكشف سر غموض عالم الحرملك" !
والرحالة المستشرق البريطانى "ادوارد لين – E.Lane" عندما تناول عمارة البيوت الإسلامية ، تحدث عن "السلاملك" أو المندرة ، الجناح المخصص للرجال وضيوفهم ، بينما تخصص للنساء أجنحة يطلق عليها "الحريم" أو "الحرملك" وأشار إلى إبتكار المعمارى المسلم فكرة "المشربية" إكراما ً لعيون النساء المسلمات صونا ً لهن من نظرات الغرباء والمتطفلين ..
كما أكد "لين" على أن الحياة داخل "الحرملك" لم تكن لمجرد الإستمتاع بالفراش الوثير الفاخر ، وإنما أيضا ً للإعداد لشئون البيت والإشراف على تعليم الصغار وتدريب الفتيات على فنون الطهى والتطريز .. وذهب إلى أن بنات الطبقة الأرستقراطية كن يدرسن الآداب العربية والفارسية والتركية والموسيقى ، ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأت فى تعلم الإنجليزية والفرنسية على المربيات والمعلمات الأجنبيات !
ديلا كروا .. و "نساء الجزائر"
كان موضوع "الحرملك" من الموضوعات التقليدية فى الفن الفرنسى ، خاصة تصوير حياة البلاط العثمانى وما يضمه من "محظيات وجوارى" !.. وقد أدى إستحالة دخول الغرباء – بصفه عامة – إلى بيوت المسلمين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وعلى الأخص "الحرملك : المحرم والمقدس" إلى إنتشار موضة رسم الموديلات الشرقيات بالإستعانة باليونانيات واليهوديات والخلاسيات ، وعندما قام الفنان الفرنسى الأشهر : "أوجست دى لا كروا – A. De Lacroix" بزيارة المغرب خلال الأعوام 1832 – 1834 كانت المشكلة الأساسية التى اعترضته : إقناع المسلمين المغاربة بأن يسمحوا له برسم نسائهم ، على الرغم من محاولاته إغرائهم بالمال ، كما دون فى مذكراته !.. فلجأ إلى رسم اليهوديات المغربيات !
أدرك "ديلاكروا" أن المرأة هى القادرة على تفجير ملكة الإبداع ، فحاول الإرتقاء بصورة المرأة الشرقية "إلهة كل الفنون" والنموذج الإنسانى الذى ما زال يحتفظ بإشعاعه التاريخى ، فتخير موضوع "الحرملك" فالمرأة الشرقية أسيرة الحرملك تجسد بُعدا ً عسير على الإدراك ، لكنها تظل تمثل جاذبية خاصة !
وعندما نتأمل رائعته "جارية مستلقية على الأريكة" 1825 متحف فيتس وليام كامبريدج ، نلمس تميزها بثراء الألوان ، وعناصر الديكور الشرقى فى بناء اللوحة : الأزياء الفاخرة ، الستائر الذهبية ، الأثاثات الخشبية المطعمة بالصدف ، الأوانى النحاسية ، النارجيلة ، حيوانات مستأنسة ، نقوش عربية .. شكل رومانسى حالم !
فهو لم يرد مجرد رسم امرأة عادية ، وإنما أراد امرأة شرقية على وجه التحديد وبكل ما تمثله من دلالات جمالية وإجتماعية .. وإذا كان بعض هؤلاء الفنانين قد حاولوا "فك رموز" الحريم الشرقى – المحرم عليهم رؤيته ومعايشته – إلا أن ديلاكروا كان الوحيد الذى واتته الفرصة التاريخية لرؤية "الحرملك" بالجزائر ، وهذه الحالة الإستثنائية لم تتح لأحد غيره من الفنانين الأوروبيين ، أدرك ديلاكروا ماهية الشرق الحقيقى فى أكثر عناصره سحرا ً وغموضا ً ، و فور عودته إلى باريس ، شرع فى رسم لوحته الشهيرة "نساء الجزائر" معتمدا ً على الذاكرة والإسكتشات التمهيدية ، وقد جسد فى بطلات لوحته ما كان ينبغى رؤيته ، وتعد رائعته "نساء الجزائر" قمة تصوير الحياة اليومية فى الفن الإستشراقى ، فشخصياتها النسائية تنضح شاعرية ورهافة ورخاء شرقيا ً يذكرنا بعالم ألف ليلة وليلة ، كما برع ديلاكروا فى إستخدام الألوان والظلال بمهارة .. السيدتان قد استغرقتا فى حديث ذو شجون ، بينما الخادمة السوداء تبدو وكأنها تتنصت على حديثهما ، كذلك تبدو المرأة إلى اليسار تجلس مستندة بمرفقها إلى حشيتين ، مستغرقة فى وحدتها مع أفكارها الخاصة ، إحدى السيدتين تمسك بمبسم النارجيلة وأمامهن صحن فاكهة ، وتبدو ملابسهن الحريرية الشرقية بكل فخامتها ، العيون الرائعة الجمال كعيون المها ، والأجساد الناعمة البضة وقد ازدانت بالحلى والقلائد والأقراط الذهبية والخلاخيل ، وعقود الياسمين التى تزين أعناقهن ، فترتبط صورة المرأة الجميلة بعمر الزهور .. والأهم أن وجوه النساء فى هذه اللوحة الخالدة.. بدعت تشع نورا ً يغلف حزن شفاف و نبل وجلال غامض ، لكنهن جسدن نمط الحياة الدافئة للمرأة الشرقية و "سكينة الروح" فى إطار جميل من الأناقة المطلقة .. والطاعة المطلقة أيضا ً !
روائع فريدريك لويس !
استمر الفن الإستشراقى ، وكذلك الروايات والشعر ، فى إعتبار "الحرملك" هو "سجن" المرأة الشرقية الذى يقف دونه الحراس النوبيون الأشداء .. ويعود الفضل إلى الفنان البريطانى "جون فردريك لويس – John Fredriek Lewis" فى تحويل صورة الحرملك إلى كيان إجتماعى أقرب إلى الطبقة الوسطى الإنجليزية فى العصر الفيكتورى ، وأصبحت لوحات الحرملك عند "لويس" ترتكز على عناصر : الأم ، الطفل ، الخادمة ، وغدا الحرملك مكانا ً أسريا ً ، ولم تعد "المحظية" هى نجمة الحرملك !.. وغدت الزوجة هى ملكة الدار ، وقد هزت مجموعة فردريك لويس عن عالم "الحرملك" الأوساط الفنية فى أوروبا ، خاصة معرض "صالون باريس" عام 1850 ، تميزت لوحاته بدقة التفاصيل ، وثراء الألوان وتألقها فى تبادل رائع بين الضوء والظلال ، وأبدع خياله فى تصوير مشاهد داخلية فى الحرملك ، فى بيت راق ، و رب الدار بين نسائه والخدم ، جالسا ً بين أكداس من الوسائد الفاخرة .. ومن أشهر لوحات الحرملك التى أبدعها : "لغة الزهور أو رسالة غرامية" و "غفوة القيلولة" و "مشهد من الحريم" و "ثرثرة الجوارى" .. بالإضافة إلى روائعه التى عانقت فيها فرشاته تفاصيل الحياة اليومية فى القاهرة .
واستمر الإتجاه فى ظهور المشاهد الأسرية : أمهات حقيقيات مهمتهن رعاية مملكتهن وأطفالهن ، مما رفع من شأن المرأة الشرقية ، وأبرز الأمثلة الدالة : لوحة "نور جديد فى الحرملك" للفنان "فردريك جودول – F. Goodall" وروائع الفنان الأمريكى "آرثر بريدجمان – A. Bridgman" عن عالم الحرملك : "الخطوات الأولى" و "درس القراءة" و "إسترخاءة الظهيرة" و "بهية الجزائرية تطرز فى دارها" ...
مما لا شك فيه ، أن هؤلاء الفنانين قد أنجزوا معرضا ً ضخما ً لـ"الحرملك" وإبداعاتهم أكثرها ساحر ، مثير ، وبعضها نتاج خيالات واهمة !.. وستظل فكرة "الحرملك" أحد المظاهر العتيدة للشرق .. يوم كان الشرق لا يزال شرقا ً ، وكانت الدهشة لا تزال دهشة ، وعالم ساحر ، غامض ، فريد ، يقود خطى هؤلاء الفنانين فى رحيلهم اليومى المغامر ، فثبتوا زمانا ً من عمر الشرق .. مرسوما ً على التوال خطوطا ً وألوانا ً !!
*عرفه عبده على
سحر الشرق .. لم يتوقف عند الأدب والشعر والموسيقى والباليه ، ولكنه أثر أيضا ً فى إبداعات الفانين المستشرقين ومشاهداتهم وألوانهم .. وإحتلت إبداعات هؤلاء الفنانين عن الشرق كبرى متاحف أوروبا ، بعد أن توالى رحيلهم المغامر فى الشرق .. بلاد
الشمس والضوء والألوان الزاهية ، والذكريات الدينية والأساطير و .. عالم الحريم الغامض !
وللشرق جاذبيته بوصفه عالم "شهر زاد" وأساطير ألف ليلة وليلة ، والجزء المحرم من حياة الشرقى هو فى ذاته يفسر العلاقة الرومانسية بالمرأة ، تلك العلاقة المضطربة والمتناقضة .. وفى عالم المرأة – قدس أقداس مملكة الروح والجسد – تتداخل شتى المقولات الرومانسية : الجمال ، المتعة ، الحلم ، الإثارة ، الشغف وأيضا ً الضعف !
وجاذبية صورة المرأة بالنسبة للفنان هى رافد جمالى مثير للإبداع ، ومما لا شك فيه أن فكرة "الحرملك" كانت تعابث خيال الفنان الأوروبى كلما تذكر الشرق ، وتجعله أسير حلم يرى فيه نفسه سلطانا ً محاطا ً بعدد من الغيد الحسان !
وكان لبعض هؤلاء الفنانين محاولاتهم للتغلغل إلى عمق ظاهرة "الحريم" أو " الحرملك " وولوج هذا العالم المقدس للوصول إلى الحقيقة .. إلى سر الخدر !
دفاع غربى عن الحرملك !
الأديب والرحالة المستشرق الفرنسى "جيرار دى نيرفال – G. De Nerval" كان حريصا ً على التأكيد بأن تخلف الشرق فى القرون الثلاثة الأخيرة ( من السابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر ) مرجعه إلى ظلم وظلام الحكم العثمانى الذى خنق العبقرية العربية التى أبهرت العالم بإنجازاتها العلمية ، وقد أدى هذا الحكم الغشوم إلى "فقدان ملائكة الإسلام لأجنحتها وتبديد سحر أساطير ألف ليلة وليلة" !
كان "دى نيرفال" فى كتاباته متعاطفا ً مع الإسلام ، فقد حرص على دحض كثير من الإفتراءات التى روج لها الرحالة الغربيون عن عالم الشرق "الغارق فى الملذات" و "حيث تسود نزوات الرجل وإستبداده من أجل شهواته" !.. وتحدث عن اتجاه الشرقيين إلى التقليل من تعدد الزوجات ، مؤكدا ً على كرامة المرأة المسلمة وما حظيت به من تقدير فى المجالات الدينية والإجتماعية ، كما سمح لها بإرتياد المساجد ، والتجارة فى الأسواق .. وطالب أقرانه من الأوروبيين بأن يتخلوا عن أفكارهم الظالمة الشائعة عن الإسلام والمسلمين ، داحضا ً مزاعم "مونتسكيو" فى كتابه "رسائل فارسية" والتى يعدها أساس كل الآراء الخاطئة الشائعة فى أوروبا عن حريم الشرق !
وقد عقد دى نيرفال فصلا ً ممتعا ً عن "نساء القاهرة – Femmes du Caire" تضمن قدرا ً هائلا ً من المعلومات ، ودافع عن التقاليد الإجتماعية الإسلامية ، فشرح موقف الإسلام من المرأة وشروط الزواج ونظامه ، حتى إنتهى إلى إطراء عدالة الإسلام وحكمة القرآن ، وناشد القراء الأوروبيين أن يطرحوا عن عقولهم "متع أجواء الحرملك" وأشاد بحق المرأة المسلمة فى أن تحيا مكرمة معززة فى دار زوجها داخل جناح خاص بها وبزائراتها ..
والرحالة الفرنسى الرومانسى "بيير لوتى – Pierre Loti" وجد فى نظام الحرملك : "ميزة يتفرد بها الشرق" وأضاف : "الشرق وحده هو الذى يعرف ميزة أن تقر نسائه فى داره المحكمة الأبواب ، فلا يدع فرجة لعين أن تسلل من خلالها ، الأمر الذى لم يتح معه لأوروبى أن يكشف سر غموض عالم الحرملك" !
والرحالة المستشرق البريطانى "ادوارد لين – E.Lane" عندما تناول عمارة البيوت الإسلامية ، تحدث عن "السلاملك" أو المندرة ، الجناح المخصص للرجال وضيوفهم ، بينما تخصص للنساء أجنحة يطلق عليها "الحريم" أو "الحرملك" وأشار إلى إبتكار المعمارى المسلم فكرة "المشربية" إكراما ً لعيون النساء المسلمات صونا ً لهن من نظرات الغرباء والمتطفلين ..
كما أكد "لين" على أن الحياة داخل "الحرملك" لم تكن لمجرد الإستمتاع بالفراش الوثير الفاخر ، وإنما أيضا ً للإعداد لشئون البيت والإشراف على تعليم الصغار وتدريب الفتيات على فنون الطهى والتطريز .. وذهب إلى أن بنات الطبقة الأرستقراطية كن يدرسن الآداب العربية والفارسية والتركية والموسيقى ، ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأت فى تعلم الإنجليزية والفرنسية على المربيات والمعلمات الأجنبيات !
ديلا كروا .. و "نساء الجزائر"
كان موضوع "الحرملك" من الموضوعات التقليدية فى الفن الفرنسى ، خاصة تصوير حياة البلاط العثمانى وما يضمه من "محظيات وجوارى" !.. وقد أدى إستحالة دخول الغرباء – بصفه عامة – إلى بيوت المسلمين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وعلى الأخص "الحرملك : المحرم والمقدس" إلى إنتشار موضة رسم الموديلات الشرقيات بالإستعانة باليونانيات واليهوديات والخلاسيات ، وعندما قام الفنان الفرنسى الأشهر : "أوجست دى لا كروا – A. De Lacroix" بزيارة المغرب خلال الأعوام 1832 – 1834 كانت المشكلة الأساسية التى اعترضته : إقناع المسلمين المغاربة بأن يسمحوا له برسم نسائهم ، على الرغم من محاولاته إغرائهم بالمال ، كما دون فى مذكراته !.. فلجأ إلى رسم اليهوديات المغربيات !
أدرك "ديلاكروا" أن المرأة هى القادرة على تفجير ملكة الإبداع ، فحاول الإرتقاء بصورة المرأة الشرقية "إلهة كل الفنون" والنموذج الإنسانى الذى ما زال يحتفظ بإشعاعه التاريخى ، فتخير موضوع "الحرملك" فالمرأة الشرقية أسيرة الحرملك تجسد بُعدا ً عسير على الإدراك ، لكنها تظل تمثل جاذبية خاصة !
وعندما نتأمل رائعته "جارية مستلقية على الأريكة" 1825 متحف فيتس وليام كامبريدج ، نلمس تميزها بثراء الألوان ، وعناصر الديكور الشرقى فى بناء اللوحة : الأزياء الفاخرة ، الستائر الذهبية ، الأثاثات الخشبية المطعمة بالصدف ، الأوانى النحاسية ، النارجيلة ، حيوانات مستأنسة ، نقوش عربية .. شكل رومانسى حالم !
فهو لم يرد مجرد رسم امرأة عادية ، وإنما أراد امرأة شرقية على وجه التحديد وبكل ما تمثله من دلالات جمالية وإجتماعية .. وإذا كان بعض هؤلاء الفنانين قد حاولوا "فك رموز" الحريم الشرقى – المحرم عليهم رؤيته ومعايشته – إلا أن ديلاكروا كان الوحيد الذى واتته الفرصة التاريخية لرؤية "الحرملك" بالجزائر ، وهذه الحالة الإستثنائية لم تتح لأحد غيره من الفنانين الأوروبيين ، أدرك ديلاكروا ماهية الشرق الحقيقى فى أكثر عناصره سحرا ً وغموضا ً ، و فور عودته إلى باريس ، شرع فى رسم لوحته الشهيرة "نساء الجزائر" معتمدا ً على الذاكرة والإسكتشات التمهيدية ، وقد جسد فى بطلات لوحته ما كان ينبغى رؤيته ، وتعد رائعته "نساء الجزائر" قمة تصوير الحياة اليومية فى الفن الإستشراقى ، فشخصياتها النسائية تنضح شاعرية ورهافة ورخاء شرقيا ً يذكرنا بعالم ألف ليلة وليلة ، كما برع ديلاكروا فى إستخدام الألوان والظلال بمهارة .. السيدتان قد استغرقتا فى حديث ذو شجون ، بينما الخادمة السوداء تبدو وكأنها تتنصت على حديثهما ، كذلك تبدو المرأة إلى اليسار تجلس مستندة بمرفقها إلى حشيتين ، مستغرقة فى وحدتها مع أفكارها الخاصة ، إحدى السيدتين تمسك بمبسم النارجيلة وأمامهن صحن فاكهة ، وتبدو ملابسهن الحريرية الشرقية بكل فخامتها ، العيون الرائعة الجمال كعيون المها ، والأجساد الناعمة البضة وقد ازدانت بالحلى والقلائد والأقراط الذهبية والخلاخيل ، وعقود الياسمين التى تزين أعناقهن ، فترتبط صورة المرأة الجميلة بعمر الزهور .. والأهم أن وجوه النساء فى هذه اللوحة الخالدة.. بدعت تشع نورا ً يغلف حزن شفاف و نبل وجلال غامض ، لكنهن جسدن نمط الحياة الدافئة للمرأة الشرقية و "سكينة الروح" فى إطار جميل من الأناقة المطلقة .. والطاعة المطلقة أيضا ً !
روائع فريدريك لويس !
استمر الفن الإستشراقى ، وكذلك الروايات والشعر ، فى إعتبار "الحرملك" هو "سجن" المرأة الشرقية الذى يقف دونه الحراس النوبيون الأشداء .. ويعود الفضل إلى الفنان البريطانى "جون فردريك لويس – John Fredriek Lewis" فى تحويل صورة الحرملك إلى كيان إجتماعى أقرب إلى الطبقة الوسطى الإنجليزية فى العصر الفيكتورى ، وأصبحت لوحات الحرملك عند "لويس" ترتكز على عناصر : الأم ، الطفل ، الخادمة ، وغدا الحرملك مكانا ً أسريا ً ، ولم تعد "المحظية" هى نجمة الحرملك !.. وغدت الزوجة هى ملكة الدار ، وقد هزت مجموعة فردريك لويس عن عالم "الحرملك" الأوساط الفنية فى أوروبا ، خاصة معرض "صالون باريس" عام 1850 ، تميزت لوحاته بدقة التفاصيل ، وثراء الألوان وتألقها فى تبادل رائع بين الضوء والظلال ، وأبدع خياله فى تصوير مشاهد داخلية فى الحرملك ، فى بيت راق ، و رب الدار بين نسائه والخدم ، جالسا ً بين أكداس من الوسائد الفاخرة .. ومن أشهر لوحات الحرملك التى أبدعها : "لغة الزهور أو رسالة غرامية" و "غفوة القيلولة" و "مشهد من الحريم" و "ثرثرة الجوارى" .. بالإضافة إلى روائعه التى عانقت فيها فرشاته تفاصيل الحياة اليومية فى القاهرة .
واستمر الإتجاه فى ظهور المشاهد الأسرية : أمهات حقيقيات مهمتهن رعاية مملكتهن وأطفالهن ، مما رفع من شأن المرأة الشرقية ، وأبرز الأمثلة الدالة : لوحة "نور جديد فى الحرملك" للفنان "فردريك جودول – F. Goodall" وروائع الفنان الأمريكى "آرثر بريدجمان – A. Bridgman" عن عالم الحرملك : "الخطوات الأولى" و "درس القراءة" و "إسترخاءة الظهيرة" و "بهية الجزائرية تطرز فى دارها" ...
مما لا شك فيه ، أن هؤلاء الفنانين قد أنجزوا معرضا ً ضخما ً لـ"الحرملك" وإبداعاتهم أكثرها ساحر ، مثير ، وبعضها نتاج خيالات واهمة !.. وستظل فكرة "الحرملك" أحد المظاهر العتيدة للشرق .. يوم كان الشرق لا يزال شرقا ً ، وكانت الدهشة لا تزال دهشة ، وعالم ساحر ، غامض ، فريد ، يقود خطى هؤلاء الفنانين فى رحيلهم اليومى المغامر ، فثبتوا زمانا ً من عمر الشرق .. مرسوما ً على التوال خطوطا ً وألوانا ً !!
*عرفه عبده على
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق