⏪عبد الواحد لؤلؤة
⏪⏬"رلعل ابن طفيل استوحى ابن سينا حول المعرفة عن طريق التأمل الذاتي: “حَيّ بن يقظان” من المحيط الأندلسي إلى التأثير العالمي"
هذا عنوان أول رواية فلسفية في تراثنا العربي الأندلسي، كتبها ابن طفيل (1116 ـ 1185م) الفيلسوف العالم المسلم، الذي درس على
يد ابن باجّة (1085 ـ 1138م) مثل ابن رشد، والفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون الذي تسميه الأدبيات الأوروبية ميمونيديس.
تدور هذه الرواية الفلسفية حول الطفل “حيّ” الذي لا توضح الرواية حقيقة مولده، أهي ولادة طبيعية شرعية من امرأة هي شقيقة ملك جزيرة، ظلوم غشوم، لم يكن يريد لشقيقته ان تتزوج إلا من رجل كفء الملك نفسه، لكنها تزوجت سراً من قريب لها اسمه يقظان فلما أزفت الولادة خشيت الأم أن يكتشف شقيقها ذلك الزواج السري، فذهبت بوليدها إلى ساحل البحر من تلك الجزيرة، بعد أن أحكمت غلق صندوق عليه وألقت به في اليمّ، كما جرى لموسى في الحكاية المعروفة، فحمله الموج إلى جزيرة أخرى حيث التقطته ظبية كانت تبحث عن وليدها الضائع، فأرضعته وقامت على تربيته حتى أدركها الموت. وثمة حكاية أخرى يوحي بها ابن طفيل، وهو أن الطفل حيّ ولد من طينة تختمر في حرارة تلك الجزيرة، من دون أبٍ أو أم، لأن الشجر في تلك الجزيرة ينتج نساءً يلدن أطفالاً من دون زواج.
وفي الحكايتين إشارة إلى أن المولود لم ينشأ في أسرة فيها أب وأم يقومان على تعليمه وتربيته. فكان نشوء حيّ وبلوغه المعارف قد جاء عن طريق النشاط الفكري في تعلّم ذاتي، بدأ بتعلم المشي والنطق والطعام وامتد إلى معرفة الكون عن طريق تأمل النجوم والمخلوقات، وصولاً إلى إدراك وجود خالق لهذا الكون. وفي الرواية معالجات لقضايا فلسفية حول العقل والإيمان والنفس.
انتبه العلماء وفلاسفة عصر النهضة الأوروبية إلى جوانب من التراث العربي الإسلامي، وبخاصة ما أنتجه العرب المسلمون في الأندلس. وقد تجرد إدوارد بوكوك من علماء أكسفورد إلى ترجمة رواية حيّ بن يقظان إلى اللاتينية بعنوان “فيلوسوفوس آوتوديداكتوس” أي “الفيلسوف المعلّم نفسه”. وكان ذلك عام 1671 ثم توالت الترجمات عن اللاتينية في عدد من اللغات الأوروبية، بدءاً بالإنكَليزية، فأثار الكتاب جدلاً طويلا حول الإيمان وبلوغه: هل عن طريق التأمل العقلي أو عن طريق تعاليم الكنيسة ورجال الدين؟ وكانت أول ترجمة إلى الإنكَليزية من عمل سايمُن أوكلي ونشرت في لندن عام 1708 وثمة ترجمة إلى الهولندية عام 1701 وإلى الألمانية نشرت في هامبورغ عام 2004 وفي فيينّا عام 2007 إضافة إلى عدد من الترجمات إلى الإنكَليزية نشرت في لندن وأمريكا في الأعوام 1982 حتى 1999 ربما كان أحدثها كتاب محمد علي خالدي عام 2005.
كان من شأن انتشار هذا الاهتمام بقصة “حيّ بن يقظان” وترجماتها إلى عدد من اللغات الأوروبية أن التفتَ بعض الباحثين في أوروبا إلى وجود بعض التشابه بين القصة العربية الإسلامية وبين رواية دانيال ديفو الإنكَليزي (1660 ـ1721) بعنوان “روبنسُن كروسو” التي نشرت في لندن عام 1719. لكن التأثير لا يكاد يتجاوز الإطار العام للقصتين، والتشابه في مظاهر الشخصيتين الرئيستين في القصتين. حيّ يظهر وحيداً في جزيرة منعزلة، لم يكن له يدٌ في وجوده فيها. وروبنسُن كروسو يختار لنفسه العزلة في جزيرة بعيدة عن المجتمع البشري، بفعل مخالفة والده الذي منعه من السفر في البحر وتحمّل المخاطر. وحيّ يتجرّد لمواجهة شؤون العيش وحيداً سوى مصاحبة حيوانات الطبيعة في جزيرته المنعزلة. وروبنسن يمثل المستعمر البريطاني في القرن الثامن عشر، الذي يحسَب نفسه مالكاً للأرض التي نزلها، فهو يريد أن يعلّم المتوحشين اللغة والحضارة الأوروبية والدين المسيحي. وهذا ما يفعله روبنسُن مع خادمه وعبده فرايداي الذي استعبده يوم “الجمعة” من بين الأسرى في تلك الجزيرة المنعزلة عن ساحل أمريكا الجنوبية. حيّ في وحدته يحاول الوصول إلى خالق الكون عن طريق تأمّله في النجوم وتعدّد الحيوان والنبات من حوله. وكان أوّل إنسانٍ التقاه حيّ في عزلته هو أسال المتصوّف الذي قدِم من جزيرة مجاورة، طلبا للعيش متوحداً، بعد أن فقد الأمل في هداية البشر في جزيرته التي هجرها وجاء ليصاحب حيّ ويتحدث معه عن الدين والإيمان، مما شجع حيّ على العودة مع أسال إلى جزيرته. فما لبث أن خاب أمله في هداية الناس، فأقفل راجعاً. لكن روبنسُن يصرّ على تعليم فرايداي والأسرى الآخرين في الجزيرة مبادئ المسيحية والإنجيل الذي حصل على نسخة منه من سفينة تحطمت قريباً من جزيرته. وقد حصل روبنسُن على أخشاب من السفينة المحطمة فاستطاع أن يبني له كوخاً في جزيرته، وهذه إشارة إلى أن المستعمر الأوروبي يصنع من حطام البلاد التي يستعمرها مسكناً يمارس منه تعليم قيمه الحضارية، ويجاهر بأنه مالك كل شيء هنا، وأنه الملك في تلك الجزيرة التي استعمرها. بينما لا نجد شيئاً من هذا ولا قريباً منه في قصة “حيّ بن يقظان”. فالشخص هنا يطلب المعرفة عن طريق التأمل الذاتي، وإعمال العقل الفطري، غير الملوث بأفكار مسبقة عن الحياة والخلق والخالق. وهو يدرك، بتوجيه من أسال، أن الناس في جزيرته لا يتقبلون الدين والإيمان من دون مصاحبات من الأساطير، مما يبقيهم على جهلهم. لكن روبنسن يقدّم الدين جاهزاً للعبيد، بدءاً من فرايداي.
يرى بعض الباحثين أن ابن طفيل قد استوحى عمل ابن سينا حول موضوع وصول الإنسان إلى معرفة الخلق والخالق عن طريق التأمل الذاتي وملاحظة ما حول الإنسان من مخلوقات في عالم النبات والحيوان، وأن ابن سينا قد رمز إلى هذا الإنسان المتأمل باسم “حيّ” لأنه صورة من الآية الكريمة “وتفكروا في خلق الله”. ويقظان هو الحيّ الباقي أي صورة الله. والإطار العام في رواية ابن طُفيل لا تخرج عن هذه الحدود. لكن في رواية دانيال ديفو وإن كانت في شكلها الخارجي تشبه رواية ابن طفيل، نجد تصرّف الشخصيتين في طريقين مختلفين. حيّ شخصية إسلامية بقدر ما شخصية روبنسُن مسيحية، بيوريتانية، على وجه التحديد. يؤكد البيوريتاني على مفهوم العناية الإلهية وعلى أن الإنسان إذا أخطا فثمة “فعل الندامة” وهو موقف لا نلمس شبيهاً له في مفهوم الإسلام كما يعرضه حي. هذا التوجه البيوريتاني (الطُهري) كان هو الشائع في بريطانيا القرن الثامن عشر. والبيوريتان الإنكَليز هم أول من هاجر إلى أمريكا وبدأوا القضاء على أهل البلاد الأصليين، وهذا أول وجوه الاستعمار. روبنسن نفسه ساهم في أنشطة الاستعمار إذ اشترك في “استيراد العبيد من افريقيا”. فهذه النزعة الاستعمارية والأفكار المسيحية البيوريتانية جعلت من رواية “روبنسن كروسو” أول وأشهر عمل روائي في الإنكَليزية، إذ أعيد نشر طبعات جديدة من الكتاب أربع مرات خلال الأشهر التسعة الأولى من ظهوره عام 1719. والجدير بالذكر أن دانيال ديفو قد اختار العيش في إسبانيا (وريثة الأندلس) بعد خمسة قرون من حياة ابن طفيل في تلك البلاد. وقد لا يكون في هذه الحقيقة قليلاً من المغزى.
يذكر جان جاك روسّو تأثير رواية “حيّ بن يقظان” في كتاباته، ويرى أن الكتاب يجب أن يكون الأول في تربية الأولاد قبل سنّ الثانية عشرة. وثمة أصداء من رواية ابن طفيل في كتاب الأدغال من أعمال أديب الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر رديارد كبلنغ حيث نجد صورة طفل يرعى أسرة من الذئاب. إلى جانب ذلك نجد الكثير من الدراسات والأبحاث الأوروبية حول رواية روبنسُن كروسو في مغازيها الدينية والسياسية والاقتصادية، بينما لا نجد شبيهاً لذلك ولا ما يقترب منه من الدراسات العربية عن أول رواية عربية أندلسية إسلامية، كانت الأساس، في رأي أهم الباحثين في الفن الروائي، في ظهور أول وأهم رواية في الأدب الإنكَليزي، بل ربما في الآداب الأوروبية عموماً. هل من التجديف القول: زامِرُ الحيّ لا يُطرِب، ولو كان يقظان؟
*عبد الواحد لؤلؤة
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق