⏪⏬
كنت صغيرة، لا تتجاوز أحلامي فضاء طفولتي، وعندما كبرت، ضاقت بي سماء وطني، حالي مثل حال آلاف العراقيين الذين تضيق بهم فسحة العيش الكريم، ليس بسبب جفاف ضرع دجلة والفرات، وليس بسبب يباب حقول البصرة وبساتينها، وليس بسبب نفاد حقول
نفط الرميلة ومجنون، لا.. السبب أكبر وأقوى من أن نعي، ونفهم لماذا نترك أوطاننا، نترك التربة التي وارينا فيها أحباءنا وأصدقاءنا، وبعضا من أعضائنا التي بُترت رغمًا عنا.
كبرتُ، وأحلامي ما زالت طرية، ندية، ربما لأنني لم أتناول سكاكر الحلوى وأنم بأمان، وربما لأني ولدت وفي يدي لعبة مسدس من البلاستيك، وربما لأن أول صوت طرق أذني دوي طائرة ونواح أمي على فقد أخي، أخي الذي قطعت جسده شظايا صاروخ معادٍ.
سافرتُ مع والديّ إلى الخليج، وكانت هذه المرة الأولى التي أغادر فيها أرض الوطن، وأيضًا المرة الأولى التي أركب فيها عباب البحر، حيث السفر على متن باخرة قديمة وكبيرة، خُيل لي أنها ستغرق وهي تجوب بحر الخليج العميق، أبحرت الباخرة من ميناء «أبو فلوس» في البصرة، إلى ميناء «جبل علي» في دبي، يومان والباخرة تتأرجح بين أمواج الخليج العملاقة، وكأنها مهد خشبي صغير يحمل قلوبنا الضعيفة، أرواحنا التي تنشد السلام.
أحيانا نستسلم، ونولج أنفسنا في مغامرة نتائجها أقسى من دمار الحروب، التي تشوه ملامح أوطاننا. لكننا نأمل الوصول إلى ضفة نتنفس على أرضها صفاء أفكارنا الداخلية؛ ضفة نتذوق عبرها معنى إنسانيتنا؛ ضفة حنونة «طينها حر» نرسم عليها آمالنا، رغم علمنا جيدا أن لا ضفة تشبه ضفة «شط العرب»، تلك التي تركنا عليها آثارنا، ذات صباح. أحسست بأن مغامرة والدي كانت أشبه بالفرار من جلودنا، وما أصعب أن نتعرى من جلودنا. حين وطأت قدماي أرض الخليج، اختنقت من رطوبتها، رائحة الغربة كانت تحاصرني في كل مكان، كنتُ يوميًا أغتسل بدموع أمي، أصبّح على ترنيمة الحنين للوطن والأهل والدار، بدلا من أغاني فيروز، وأنام على صوت أنينها وهي تتذكر أخي.
وجدنا الأمان في الخليج؛ لكننا فقدناه أكثر في داخلنا، وجدنا كل شيء جميلا ومتاحا؛ لكننا صرنا أصغر في أعيننا. ما زال الضباب يغلف أيامي، كل شيء مبهم، افتراضي، فنحن الآن غرباء. لا نملك سوى جوازات سفر مختومة بتأشيرة زيارة، وصندوق صغير فيه مصوغات أمي. تركنا خلفنا ذلك «الكنتور» الذي كان يحمي هذا الصندوق، والدار التي كانت تضمنا، والمدينة التي كانت تحتضن دارنا، والوطن الذي ابتلع أبناءه، أرض وطني الحبلى بزهور النرجس، والنخل، وأطفال أيتام.
نهار دبق بكل شيء، ساكن فيه البحر، والشجر المهجّن، والنوارس الغافية على سطح «بحيرة خالد»، والوافدون المنغمسون بتوفير لقمة العيش، ذاك النهار نهضت على صراخ أمي وهي تطلب من أبي أن يعود بنا إلى البصرة
– هل يعجبكَ أن أموت هنا؟ لا أتحمل هذه الغربة والوحدة، أشعر كأني سجينة في هذه الشقة الصغيرة.
– سنعود حين تهدأ الأوضاع.
– وإن لم تهدأ؟ ولن تهدأ، العراق ضاع، سرقه اللصوص.
– إن لم يرجع العراق كما كان فسنهاجر إلى دولة أخرى.
فركتُ عيني جيدا، ضغطت على أذني، أنصت إلى دقات قلبي وهي تخفق مرتبكة، متوجعة، متألمة: ما ذنبنا؟ ما قالته أمي ذلك اليوم نبوءة تحققت، وما فكر به أبي حدث أيضا، وضعتُ على قلبي اللجام، كممتُ فمي بالصمت، أسرجتُ أيامي بصهوة المجهول، ذاكرتي فقط غنية بصوت رنين الرطب وهو يتساقط على أرض جافة في شهر أغسطس/آب اللهّاب، ذاكرتي حبلى بشباب قُطع صيوان آذانهم، أو وُشمت جباههم، حبلى برائحة التراب حين يلامسه المطر، حبلى بصورة أم عاتي التي تجوب شوارع المدينة بحثًا عن عاتي، الذي فُقد في معركة «ديزفول»، حبلى بطفولتي التي أشتاق إليها، بالنوم فوق سطح المنزل في ليالي الصيف، بقرص خبز حار، تخرجه والدتنا من التنور، مبتسمة وحبات العرق كأنها لؤلؤ مصفوف فوق جبينها، رائحة الخير تفوح منه، فنأكله آمنين. لم نمكث في دبي طويلًا، غادرناها إلى كوبنهاغن، وهذه المرة لم أشعر بالغربة فحسب؛ بل تلبستني من قدمي حتى قلبي. نزلنا في مطار كوبنهاغن، حيث كان بانتظارنا صديقٌ قديم لأبي، بعد الانتهاء من إجراءات ختم الجوازات واستلام الحقائب، توجهنا نحو باب الخروج من صالة القادمين، لنلتقي بالحاج محمد صديق الوالد، وكان معه ابنه فهد.
يا للدهشة
بعد دهر من الأوجاع ألتقي بالشاب الذي طالما أعجبت به. ألتقيه هنا، على أرض ليست أرضنا، وتحت سماء ليست مثل سمائنا، ألتقيه ونحن شبه مشرّدين، يا للوجع الذي يأبى أن يغادرنا.
– لم تتغيري، ما زلتِ جميلة.
بادرني بهذه الجملة وهو يقترب للتحية. تعرقتُ رغم الثلج الذي كان يتساقط في الخارج، شعرتُ بدبيب روح وحياة وشيء من الأمل يسري في عروقي من جديد.
– شكرًا.
هذا كل ما استطعت أن أنطق به تلك اللحظة.
استضافنا الحاج محمد في بيته بضعة أيام، حتى نستطيع أن نرتب أوضاعنا في بلد المهجر الجديد. لاحظت أن فهد لم يتواجد كثيرا، كان كثير الغياب، وإن حضر فحضوره لساعات معدودة، ثم يغادر. كنتُ أمنّي النفس بأحلامي وذكرياتي، فهد كان حبيبي، أو ربما توهمت كما هي أحلام المراهقة التي تُجهض مع أول عاصفة. لا، هو بالتأكيد حبيبي، وإلا لماذا ارتجف قلبي، وتعرّقت روحي حين رأيته من جديد؟ حبّي له كان أشبه بسحابة، لم أمسك بها، أمطرت قليلا من فيروز الأحلام، ونشوة اللقاء، وكرز الأمنيات، ثم رحلتْ صوب العدم. قررتُ أن أبادر حين يأتي لزيارتنا، نعم، لمَ لا أبادر وأطلب منه أن نجلس ونتحدث ونستعيد شريط الذكريات معًا؟ لعله يبوح بما لم يقله، لعلّي أرى وجودي في بريق عينيه. وتساءلت: هل حبنا كان فرصة جاءت في زمن يخلو من الفرص السعيدة؟ ولم أنتظر الرد طويلا، فجميع الأشياء والأماكن كانت تشير إلى زاوية «نعم» التي سرعان ما تلاشت ملامحها مع نهايات مغلقة. في اليوم التالي طُرق الباب، خفق قلبي بدقّات متسارعة، كان فهد.. دخل غرفة الجلوس وإلى جانبه امرأة شقراء، ممتلئة القوام:
-أعرفكم بزوجتي ماندي.
٭ قاصة عراقية مقيمة في الشارقة
كنت صغيرة، لا تتجاوز أحلامي فضاء طفولتي، وعندما كبرت، ضاقت بي سماء وطني، حالي مثل حال آلاف العراقيين الذين تضيق بهم فسحة العيش الكريم، ليس بسبب جفاف ضرع دجلة والفرات، وليس بسبب يباب حقول البصرة وبساتينها، وليس بسبب نفاد حقول
نفط الرميلة ومجنون، لا.. السبب أكبر وأقوى من أن نعي، ونفهم لماذا نترك أوطاننا، نترك التربة التي وارينا فيها أحباءنا وأصدقاءنا، وبعضا من أعضائنا التي بُترت رغمًا عنا.
كبرتُ، وأحلامي ما زالت طرية، ندية، ربما لأنني لم أتناول سكاكر الحلوى وأنم بأمان، وربما لأني ولدت وفي يدي لعبة مسدس من البلاستيك، وربما لأن أول صوت طرق أذني دوي طائرة ونواح أمي على فقد أخي، أخي الذي قطعت جسده شظايا صاروخ معادٍ.
سافرتُ مع والديّ إلى الخليج، وكانت هذه المرة الأولى التي أغادر فيها أرض الوطن، وأيضًا المرة الأولى التي أركب فيها عباب البحر، حيث السفر على متن باخرة قديمة وكبيرة، خُيل لي أنها ستغرق وهي تجوب بحر الخليج العميق، أبحرت الباخرة من ميناء «أبو فلوس» في البصرة، إلى ميناء «جبل علي» في دبي، يومان والباخرة تتأرجح بين أمواج الخليج العملاقة، وكأنها مهد خشبي صغير يحمل قلوبنا الضعيفة، أرواحنا التي تنشد السلام.
أحيانا نستسلم، ونولج أنفسنا في مغامرة نتائجها أقسى من دمار الحروب، التي تشوه ملامح أوطاننا. لكننا نأمل الوصول إلى ضفة نتنفس على أرضها صفاء أفكارنا الداخلية؛ ضفة نتذوق عبرها معنى إنسانيتنا؛ ضفة حنونة «طينها حر» نرسم عليها آمالنا، رغم علمنا جيدا أن لا ضفة تشبه ضفة «شط العرب»، تلك التي تركنا عليها آثارنا، ذات صباح. أحسست بأن مغامرة والدي كانت أشبه بالفرار من جلودنا، وما أصعب أن نتعرى من جلودنا. حين وطأت قدماي أرض الخليج، اختنقت من رطوبتها، رائحة الغربة كانت تحاصرني في كل مكان، كنتُ يوميًا أغتسل بدموع أمي، أصبّح على ترنيمة الحنين للوطن والأهل والدار، بدلا من أغاني فيروز، وأنام على صوت أنينها وهي تتذكر أخي.
وجدنا الأمان في الخليج؛ لكننا فقدناه أكثر في داخلنا، وجدنا كل شيء جميلا ومتاحا؛ لكننا صرنا أصغر في أعيننا. ما زال الضباب يغلف أيامي، كل شيء مبهم، افتراضي، فنحن الآن غرباء. لا نملك سوى جوازات سفر مختومة بتأشيرة زيارة، وصندوق صغير فيه مصوغات أمي. تركنا خلفنا ذلك «الكنتور» الذي كان يحمي هذا الصندوق، والدار التي كانت تضمنا، والمدينة التي كانت تحتضن دارنا، والوطن الذي ابتلع أبناءه، أرض وطني الحبلى بزهور النرجس، والنخل، وأطفال أيتام.
نهار دبق بكل شيء، ساكن فيه البحر، والشجر المهجّن، والنوارس الغافية على سطح «بحيرة خالد»، والوافدون المنغمسون بتوفير لقمة العيش، ذاك النهار نهضت على صراخ أمي وهي تطلب من أبي أن يعود بنا إلى البصرة
– هل يعجبكَ أن أموت هنا؟ لا أتحمل هذه الغربة والوحدة، أشعر كأني سجينة في هذه الشقة الصغيرة.
– سنعود حين تهدأ الأوضاع.
– وإن لم تهدأ؟ ولن تهدأ، العراق ضاع، سرقه اللصوص.
– إن لم يرجع العراق كما كان فسنهاجر إلى دولة أخرى.
فركتُ عيني جيدا، ضغطت على أذني، أنصت إلى دقات قلبي وهي تخفق مرتبكة، متوجعة، متألمة: ما ذنبنا؟ ما قالته أمي ذلك اليوم نبوءة تحققت، وما فكر به أبي حدث أيضا، وضعتُ على قلبي اللجام، كممتُ فمي بالصمت، أسرجتُ أيامي بصهوة المجهول، ذاكرتي فقط غنية بصوت رنين الرطب وهو يتساقط على أرض جافة في شهر أغسطس/آب اللهّاب، ذاكرتي حبلى بشباب قُطع صيوان آذانهم، أو وُشمت جباههم، حبلى برائحة التراب حين يلامسه المطر، حبلى بصورة أم عاتي التي تجوب شوارع المدينة بحثًا عن عاتي، الذي فُقد في معركة «ديزفول»، حبلى بطفولتي التي أشتاق إليها، بالنوم فوق سطح المنزل في ليالي الصيف، بقرص خبز حار، تخرجه والدتنا من التنور، مبتسمة وحبات العرق كأنها لؤلؤ مصفوف فوق جبينها، رائحة الخير تفوح منه، فنأكله آمنين. لم نمكث في دبي طويلًا، غادرناها إلى كوبنهاغن، وهذه المرة لم أشعر بالغربة فحسب؛ بل تلبستني من قدمي حتى قلبي. نزلنا في مطار كوبنهاغن، حيث كان بانتظارنا صديقٌ قديم لأبي، بعد الانتهاء من إجراءات ختم الجوازات واستلام الحقائب، توجهنا نحو باب الخروج من صالة القادمين، لنلتقي بالحاج محمد صديق الوالد، وكان معه ابنه فهد.
يا للدهشة
بعد دهر من الأوجاع ألتقي بالشاب الذي طالما أعجبت به. ألتقيه هنا، على أرض ليست أرضنا، وتحت سماء ليست مثل سمائنا، ألتقيه ونحن شبه مشرّدين، يا للوجع الذي يأبى أن يغادرنا.
– لم تتغيري، ما زلتِ جميلة.
بادرني بهذه الجملة وهو يقترب للتحية. تعرقتُ رغم الثلج الذي كان يتساقط في الخارج، شعرتُ بدبيب روح وحياة وشيء من الأمل يسري في عروقي من جديد.
– شكرًا.
هذا كل ما استطعت أن أنطق به تلك اللحظة.
استضافنا الحاج محمد في بيته بضعة أيام، حتى نستطيع أن نرتب أوضاعنا في بلد المهجر الجديد. لاحظت أن فهد لم يتواجد كثيرا، كان كثير الغياب، وإن حضر فحضوره لساعات معدودة، ثم يغادر. كنتُ أمنّي النفس بأحلامي وذكرياتي، فهد كان حبيبي، أو ربما توهمت كما هي أحلام المراهقة التي تُجهض مع أول عاصفة. لا، هو بالتأكيد حبيبي، وإلا لماذا ارتجف قلبي، وتعرّقت روحي حين رأيته من جديد؟ حبّي له كان أشبه بسحابة، لم أمسك بها، أمطرت قليلا من فيروز الأحلام، ونشوة اللقاء، وكرز الأمنيات، ثم رحلتْ صوب العدم. قررتُ أن أبادر حين يأتي لزيارتنا، نعم، لمَ لا أبادر وأطلب منه أن نجلس ونتحدث ونستعيد شريط الذكريات معًا؟ لعله يبوح بما لم يقله، لعلّي أرى وجودي في بريق عينيه. وتساءلت: هل حبنا كان فرصة جاءت في زمن يخلو من الفرص السعيدة؟ ولم أنتظر الرد طويلا، فجميع الأشياء والأماكن كانت تشير إلى زاوية «نعم» التي سرعان ما تلاشت ملامحها مع نهايات مغلقة. في اليوم التالي طُرق الباب، خفق قلبي بدقّات متسارعة، كان فهد.. دخل غرفة الجلوس وإلى جانبه امرأة شقراء، ممتلئة القوام:
-أعرفكم بزوجتي ماندي.
٭ قاصة عراقية مقيمة في الشارقة
هناك تعليق واحد:
جزيل الشكر والتقدير لهذا الاهتمام
محبتي واحترامي
إرسال تعليق