⏬
*حميد الحريزي
الرواية فاتنة العصر، حاملة أسرار الروح، مشرعة الأبواب أمام كل جديد، بانوراما حياة الشعوب، دائمة الحركة متغيرة الشكل، شعارها لا ثابت إلا المتغير، السكون هو الموت، لا تطيق الأسوار حتى وإن كانت من الذهب.
أباحت هذه الفاتنة بسرها لبعض الرواة وعلمتهم أسماء السرد الحسنى كلها، وأمر إله الجمال بفنون الإبداع بالسجود لها فأجابت طائعة إلا النقد فأبى واستكبر، متعهدًا أن يبقى مشاكسًا لها مغويها بأن تتذوق كل محرم وكل ممنوع وكل محظور، فكان التنافس والصراع للوصول للأمثل والأكمل الذي لا تحده حدود.
يبدو لي أن الروائي مهدي علي ازبين، واحد ممن اجتهدوا ليعلموا ويتعلموا أسماء السرد الحسنى وقد حصل على الكثير، فأبدع في كتابة الرواية محاولاً في كل مرة أو في كل رواية أن يلبسها ثوبًا جديدًا من حيث الشكل واللون وخيوط النسج، على القارئ أن يمعن النظر وينشط الفكر والحواس ويفتح صناديق مخزوناته الثقافية والأدبية كي يتمكن من القبض على مفتاح حصن الجمال والخيال للرواية المتمنعة الغنج المتباهية بشعرية جملها وصورها باذخة الجمال والخيال، فكانت مثالاً للتجديد روايته "هياكل خط الزوال"،
ورواية "سلالم التيه"، والآن بين أيدينا "أرجحة الوسن" التي أرجحتني معها كثيرًا حد الدوار، ولم تسقني بكأس متعتها إلا بعد جهد جهيد وإعادة القراءة لأكثر من مرة، فهي مجموعة من السلايدات والأفلام السينمائية القصيرة، عدد من القصص، أو الروايات القصيرة جدًا، لما يجري للمجتمع في الماضي القريب والحاضر، المفارقات، المغالطات، العذابات، السلوكيات بين الظاهر والمستتر، إنها لعبة فكرية إبداعية وهذا هو توصيف الرواية الرصينة كما وصفتها بحق الأديبة لطفية الدليمي "تمتاز الرواية الرصينة بأنها لعبة ذهنية تخييلية في المقام الاول بصرف النظر عن تجنيسها النوعي وتقنياتها السردية" (لطفية – روبرت ايغلستون – الرواية المعاصرة – دار المدى ط1 ص 13).
وقد توزع السرد على أكثر من (24) تتقاسمها الشخصيات التالية: هادي، أنيسة، صالح، ضياء، غسان. فضلاً عن لوحة (مرزا، أنا، الزوج، الزوجة).
الرواية فاتنة العصر، حاملة أسرار الروح، مشرعة الأبواب أمام كل جديد، بانوراما حياة الشعوب، دائمة الحركة متغيرة الشكل، شعارها لا ثابت إلا المتغير، السكون هو الموت، لا تطيق الأسوار حتى وإن كانت من الذهب.
أباحت هذه الفاتنة بسرها لبعض الرواة وعلمتهم أسماء السرد الحسنى كلها، وأمر إله الجمال بفنون الإبداع بالسجود لها فأجابت طائعة إلا النقد فأبى واستكبر، متعهدًا أن يبقى مشاكسًا لها مغويها بأن تتذوق كل محرم وكل ممنوع وكل محظور، فكان التنافس والصراع للوصول للأمثل والأكمل الذي لا تحده حدود.
يبدو لي أن الروائي مهدي علي ازبين، واحد ممن اجتهدوا ليعلموا ويتعلموا أسماء السرد الحسنى وقد حصل على الكثير، فأبدع في كتابة الرواية محاولاً في كل مرة أو في كل رواية أن يلبسها ثوبًا جديدًا من حيث الشكل واللون وخيوط النسج، على القارئ أن يمعن النظر وينشط الفكر والحواس ويفتح صناديق مخزوناته الثقافية والأدبية كي يتمكن من القبض على مفتاح حصن الجمال والخيال للرواية المتمنعة الغنج المتباهية بشعرية جملها وصورها باذخة الجمال والخيال، فكانت مثالاً للتجديد روايته "هياكل خط الزوال"،
حميد الحريزي |
وقد توزع السرد على أكثر من (24) تتقاسمها الشخصيات التالية: هادي، أنيسة، صالح، ضياء، غسان. فضلاً عن لوحة (مرزا، أنا، الزوج، الزوجة).
يعالج الروائي الظلم والتعسف والحيف الذي تعاني منه المرأة في المجتمع العراقي، سواء كان من المجتمع أو من الحكومات، في وقت تنهش فيه ذئاب السلطة من الأمن والاستخبارات العسكرية جسد المرأة الزوجة التي توضع بين خيار الإفشاء بسر زوجها المتخفي عن أزلام السلطة لأن رأسه مطلوب منها لكونه معارضًا لها، وبين ترك أطفالها الصغار وضياعها إن هي قاومت وتنمرت على الذئاب بعد أن تنكر لها أهل الزوج وتركوها وحيدة مكشوفة الظهر لتعاني الأمرين، يطالب الإخوة والأخوات الزوج بغسل (عار) هذه الزوجة/ الضحية لأنها اغتصبت من قبل عصابات السلطة مضحية بشرفها وعزتها من أجل خلاص زوجها وحماية أطفالها.
"نحن هنا لتنفيذ الواجب، حتى يسلم زوجك نفسه، أو نلقي عليه القبض" (ص51).
"امتهنوا نفسي، يغيرون على مخدعي يصحبهم الليل، يعزفون ألحانهم على جسدي، حتى أدمنتهم – يا للمرارة ويا للقهر– يسكبون لي مختلف القناني يذيبون فيها (حبوبا)، وأنا أعب صاغرة. يسقون طفلينا عصائر حينما يتعلقان بي، لا يصحون إلا في اليوم التالي، يتطوحان بعيون زائغة" (ص50).
بأبلغ العبارات وأدقها توصيفًا - كما ذكرنا سابقًا فازبيِّن يؤنسن الكلمة - يوضح لنا الروائي مدى وحشية السلطة وتهتكها وساديتها، كما يجعلك تتشظى ألمًا لظلم الأسرة ومطالبها بقتل الضحية، وحجم الإذلال الذي يتعرض له (العم) وهو يشهد امتهان الذئاب لجسد زوجة ابنه، ومرارة الأطفال وصراخهم وتعلقهم بوالدتهم فريسة قطعان الليل.
كما أن الروائي ينقل لنا نموذجًا آخر من معاناة المرأة (العرافة) التي تفقد زوجها وحبيبها في عبثيات السلطة، وظلم المجتمع واضطرارها لامتهان طريق الرذيلة وبيع الجسد من أجل لقمة العيش، ولكنهم يريدون تنظيف المدينة من عهرها رغم أنهم وأبناءهم ينتهكون عفتها ويقايضون رغيف الخبز بمتعتهم الخسيسة، حتى وصل بها الأمر منح جسدها بالمجان لمن يريد فماتت منفرجة الساقين تحت طلاب اللذة.
إنها ازدواجية المجتمع وقبح أعرافه وتقاليده، جبن الأغلبية ممن يسلطون سياطهم على المقتول ويتذللون للقاتل، إنه وجع المرأة المزدوج وقهرها الذي لا ينتهي في ظل سلطات إجرامية ومجتمع خانع متخلف.
وفي أكثر من لوحة صاخبة يكشف الروائي فساد السلطة وتهتكها ومنها اتهام من كشف سرقة شرطة النجدة لإطارات سيارات المواطنين ليلا أثناء الواجب، وحينما يطاردهم من كشف جريمتهم يتركون (جك) نجدتهم ويهربون، وفي الوقت الذي يعدّه هو دليل جريمة ضدهم يحولونه هم إلى دليل جرم ضده ويودع السجن، يهان ويذل ولا يطلق سراحه إلا بعد أن يجبر على التنازل عن الدعوى، والمفارقة الأكبر أن لا أحد من الجيران يزوره ويتفقده ويواسيه عند خروجه من السجن برغم ما قام به من أجلهم والحرص على ممتلكاتهم. إنه يبصق بوجه هذا الخنوع وهذا التنكر للمضحين من أجل حماية كرامة وملكية الآخرين.
تعرية أساليب السلطة الديكتاتورية المنهارة في سوق الناس إلى ميادين الحرب ضمن ما يسمى بـ "الجيش الشعبي"، يهرب المطلوب ولكنه يضطر إلى ارتداء ملابس الجيش الشعبي حفاظًا على كرامة عائلته.
مهدي علي ازبين في روايته "أرجحة الوسن" يقدم لنا شريطًا ملونًا من واقع حياة القهر، العهر، والمفارقة، وتجريف القيم في المجتمع العراقي، رواية بأسلوب سردي جديد خلاف التقليد الذي يروي أحداثًا متتالية متسلسلة تحكي تبدلات وتطورات شخصية واحدة أو أكثر المسندة بشخصيات ثانوية ليكوّن لنا الراوي صورة وحدثًا وظاهرة أو ظواهر لها بداية ونهاية وبؤرة، هنا تبدو الشخصية الرئيسة هي الشعب العراقي وبالخصوص الطبقة الشعبية الفقيرة المهمشة، وهي تعاني من عسف وظلم السلطة الغاشمة الفاسدة المتجبرة ورموزها وأزلامها، يظهر لنا صور تشظي القيم الاجتماعية مثل (إنا أنزلناه) وتهمة البريء دون حجة، واعتبار النزاهة والصدق والأمانة أمرًا غريبًا (يريد ايصير نزيه)، ولمن لا يقبل أن يأخذ ما لا يستحق من المال العام يكون موضعًا للهزء والسخرية (ايريد ايصير وطني)، اتهام البريء وتبرئة المتهم كما جرى للجار الذي كشف سرقات الشرطة لإطارات السيارات.
كما تضم الرواية العديد من المفارقات اليومية، لتضيف للرواية نكهة من الخفة والمزحة والطرافة كمفارقة راكب الدراجة الذي لا يعرف إيقافها مدعيًا ما لا يعلم، صحوة المدهوس فاقد الوعي الذي تتركه الشرطة عرضة للموت لتنسب تهمة دهسه إلى من ينقذه، ولكنه يصحو من غيبوبته عندما يصدم رأسه بالسيارة.
من المفارقات المضحكة المبكية حينما يصلح الجار الكهرباء لـ "العرافة"، وهي تمارس الجنس مع أحدهم فتلفظ تأوهات اللذة (أتت...أتتتتت) مع عودة التيار الكهربائي.
في الختام نقول إن مهمة الناقد الأدبي لمثل هذا النموذج من الروايات مهمة صعبة خصوصًا بعد أن أدمنا على قراءة وكتابة الرواية التقليدية التي أغلبها مطواعة غير متمنعة من حيث المضمون والتأويل والتحليل، ولكننا نرى أنها مهمة ممتعة وليست مستحيلة، فمن يبحث عن لؤلؤة البحر يجب أن يمتلك القابلية الجسدية والتجربة، وعدة الغوص الرصينة، فالرواية هي لؤلؤة في بحر الثقافة والأدب في العصر الحديث وكما يقول روبرت ايغلستون: "إن المهمة الأولى لكل ناقد أدبي للرواية المعاصرة هي متابعة ومحاولة تفهم نمط (التفكير) الملتوي والحافل بالمسالك الالتفافية في الرواية المعاصرة" (روبرت ايغلستون – الرواية المعاصرة – ترجمة وتقديم لطفية الدليمي، ص215. دار المدى2017).
لا ندعي أننا أحطنا بكل جوانب الرواية من حيث الأسلوب، والمضمون، والشكل، فهناك الكثير مما يجب أن يحظى بالدرس في هذه الرواية (الصغيرة) الرائعة.
*حميد الحريزي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق