اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

فتحيّة دبّش .. السّاردة النّاقدة ...** صفيّة قم بن عبد الجليل

الأديبة فتحيّة دبّش
الأديبة فتحيّة دبّش
ـ 1 ـ من هي فتحيّة دبّش؟
شهادة: عرفتها صدفة من خلال كتاباتِها اللاّفتةِ وجرأتِها ووضوحِ ردودها على قرّائها ومتابعيها على الشبكة العنكبوتيّة، وما كان يخطر على بالي أنّها تونسيّة لحما ودما وانتماء وهوى… حتّى استبدّ بي الشغف بحرفها ذات يوم وفتحتُ معها حوارا قصيرا على الخاصّ، على غير عادتي مع من تستهويني كتاباتهم ! فآنستني طلاقتُها وتلقائيّتُها وحضورُ بديهتها… فكانت سعادتي عارمة يومها وحدّثتُ بها وعنها صديقاتي المقرّبات
وأشرتُ عليهنّ بطلب صداقتها والتعرّف على جمال حرفها وعمق تفكيرها وبُعد رؤاها، فاستجبن، وأضحت فتحيّة صديقة افتراضيّة، لكنّها قريبةٌ جدّا من القلب والعقل والحرف، وصرتُ من متابعيها والمدمنين على حرفها. ومن الصّدف أيضا أن جمعت بيننا صفحة الأستاذ فؤاد نصر الدين ـ رحمه الله ـ القصّة القصيرة جدّا في مختبر السرديات، وكان من المأمول أن نلتقي في الإسكندريّة في الدورة الثالثةبعد أن وُجّهت إلينا الدعوة، لو لم يرحل صاحب الصفحة والمشرف على المهرجان فجأة ذات فجر قُبيل الندوة بأيّام قليلة. وظلّ الحرفُ قناةَ تواصلنا وبعضَ الحوارات السريعة من حين لآخر، لضيق الوقت وكثرة المشاغل ولكنّ الرغبة في اللّقاء ظلّت ملحاحا حتّى أعلمتني فتحيّة أنّها ستعود إلى مسقط رأسها لفترة وجيزة ثمّ ستغادر إلى مقرّ إقامتها عبر مطار المنستير فجرا، واقترحتْ عليّ أن ألتقيها هناك. بعد تقليب الاقتراح على وجوهه اقترحتُ عليها أن تأتي إلى بيتي قبل يوم من سفرها وأن نقضّي الليلة معا ثمّ أوصلها إلى المطار، فقبلتْ.كنتُ سعيدة جدّا بذلك ولا أزال، وعرفتُ يقينا أنّ طينة فتحيّة نادرة، وأنّها قد تخلّصت من شوائب العادات والتابوهات الكابحة لحريّة الإنسان المعرقلة لإرادته، وأكبرتُ فيها هذا أيّما إكبار. لقاؤنا الوجيز هذا الّذي حضره بعض الأصدقاء جعلني على يقين أنّها من طينة خاصّة بتلقائيتها وتواضعها ومرحها وكرمها ونبل مواقفها وطيب انتمائها وتفتّحها على محيطها بضفّتيه… وخلتني كأنّي أعرفها منذ أمد قصيّ !
الأديبة صفيّة قم بن عبد الجليل
الأديبة صفيّة قم بن عبد الجليل
ـ 2 ـ سيرتها الذّاتيّة:
من مواليد 24 ـ 4 ـ 1969/بمارث، قابس، تونس. متزوّجة وأمّ لطفلين. أستاذة سابقا بتونس ثمّ بفرنسا متحصّلة على ماجستير في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة من جامعة ليون، فرنسا. تقيم بفرنسا. صدر لها:
ـ رقصة النّار، مجموعة قصص قصيرة جدّا، طبعة أولى عن الثقافيّة للطباعة والنشر بالمنستير 2017
ـ صمتُ النواقيس، طبعة أولى، مجموعة نصوص قصيرة 2018، عنمطبعة دار تطوير لتنمية المهارات، 403، شارع رمسيس، القاهرة، مصر.
ـ رواية قيد التأليف: من كتابي إليه.
ـ نشرت الكثير من كتاباتها السرديّة والشعريّة والنقديّة على صفحات الفيسبوك وفي مواقع إلكترونيّة محترمة.
ـ أدارت وتدير مجموعة من الصفحات والمواقع الإلكترونيّة على الشبكة العنكبوتيّة.

ـ 3 ـ في كتاباتها السرديّة: من الق ق ج إلى ن ق:

رغم أنّ فتحيّة دبّش قد نشرت على صفحات الشبكة العنكبوتيّة نصوصا شعريّة ومقالات نقديّة لقيت اهتمام قرّاء ومتابعين محترمين وإعجابَهم، إلى جانب نصوص سرديّة في الق ق ج والق ق ومن الرّواية التي لمّا تُنشَرْ فسأهتمّ بكتابها البكر: رقصة النّار المنشور سنة 2017.
بدءا، يخامرني سؤالان رئيسيان وتتناسل عنهما أسئلة فرعيّة:
.1. لمَ هذا التدرّج من الق ق ج إلى ن ق فإلى الرّواية؟ هل هو عفويّ أم مقصود؟
.2. لمَ جنّست المجموع الأوّل وأحجمت عن تصنيف المجموع الثاني؟ هل هو إيمان منك بأنّ النصّ الأدبيّ لا يُقيَّد بجنس معيّن أم هو تخلٍّ عن مسؤولية التجنيس وترك حريّة التصنيف للقارئ؟ هل تؤمنين مثلي أنّ النصّ الإبداعيّ لا يعترف بتخوم وضعها النقّاد انطلاقا من نصوص بعينها ومن أدب بعينه في زمن معيّن وثقافة مخصوصة؟
رقصةالنّار: هو المنشور البكر الصّادر عن دار الثقافيّة بالمنستير2017+في 67 صفحة من الحجم المتوسّط. عليها توزّعت 54 ق ق ج لم تتجاوز الواحدة منها الصفحة أو نصف الصفحة واستهلّتها ب:
ـ إهداء وجيز إلى ” اللّذين أشعلا من سنيّ عمرهما شموعا من حروف: أمّي وأبي.”
ـ وبشكر للدكتور حمد الحاجي لتفضّله بتقديم المجموعة.
بيْد أنّنا لا نظفر بهذا التقديم الّذي أشارت إليه الكاتبة ـ كما جرت العادة ـ قبيْل المتن، بل نجد في قفا الغلاف بضعة أسطر تشير في إيجاز شديد إلى بعض تقنيات كتابة الق ق ج مشفوعة بسيرة ذاتيّة أشدَّ إيجاز بالدكتور حمد الحاجي: “تونسيّ مقيم بفرنسا، أستاذ الأدب المقارن بجامعة السربون \ باريس. كاتب وناقد أكاديميّ. متخصّص في القصّة القصيرة جدّا.”
اصطفت الكاتبة عنوان مجموعها من بين قصص المتن، وتحديدا الق ق ج السادسة والثلاثين بالصفحة الثالثة والأربعين 43
في العنوان:
ورد العنوان مركّبا إضافيّا: إضافة اسم المرّة النكرة رقصة إلى النّار المعرفة، لتحقيق الإنزياح والعدول بالمعنى من أصل معناه وهو الإيقاع الواعي المنتظم للعاقل المتدرّب المتحكّم في حركاته عادة إلى النّار غير العاقلة التي لا يخضع لهيبُها لأيّ نظام أو قانون أو تقنين… فأيَّ نار تعني الكاتبةُ وهي لم تصفها؟ أهي النّار الحقيقيّة أم المجازيّة كنار الحيرة أو نار الشوق أو نار الغضب أو نار الحبّ أو نار العشق الإلهيّ…؟
باب التأويل مفتوح على مصراعيه، وبهذا العنوان المكثّف المضغوط استطاعت الكاتبة أن تزرع في القارئ حبّ الاستكشاف والمتابعة.
وقبل أن نلج النصّ الذي اختارته الكاتبة عنوانا لمجموعتها فإنّ تقاطعات عديدة معه تستدعيها ذاكرتُنا:
ـ ذاتُ العنوان وُضع لمعزوفة موسيقيّة صامتة للفنّان الأسبانيّمنويل دي فايا.L A Danzadelfuego ـ وهو أيضا عنوان لشريط سينيمائيّ تناولت فيه المخرجة سلوى بكّار حياة حبيبة مسيكة التي اغتالها أحد عشّاقها حرقا. وإضافة إلى هذا فإنّ النار في المخيال الجماعي إنّما هي باب من أبواب التطهّر، التطهّر من الدّنس ومن الخطايا كما أنّها في الميثولوجيا الإغريقيّة سرّ القوّة والتسلّط والسيطرة ممّا حدا بروميثوس إلى سرقة قبس منها ومنحِه البشرَ لإنقاذهم من التردّيفلقي ذاك العقاب الفظيع.
أمّا الرقص فقد ارتبط عند الشعوب البدائيّة بالدين لتحقيق مآرب جماعيّةكشكر الاله على النصر، أو لطلب النجاح فى الصيد،أو الزراعة، أو لطرد الأرواح الشريرة، أو لتمثيل حدث حصل فى تاريخ قبيلتهم. كما ارتبط عند الصوفيّة برموز ودلالات الترقّي في العرفان، إذ به وبغيره يصبح الصوفيّ محترقا بالمحبّة الإلهيّة وقد بلغ أسمى المقامات الصوفيّة. فالرقصات الصوفيّة عند الدراويش المعروفة بالسّماع إنّما يتّخذونها كوسيلة لاستدعاء الحضور الإلهيّ أو بكلمة أدق إنّما ينتابهم إحساس الإنسان بعودته الشعوريّة إلى أصله.
هذا الاستقراء لبعض دلالات الرقص والنار كلّ على حدة، فماذا نجد وقد صهرتهما الكاتبة فتحيّة دبّش في عمليّة كيميائيّة عجيبة عن طريق هذا التركيب الإضافيّ؟
متن القصّة القصيرة جدّا: رقصة النّار:
بإيجاز واضح وتكثيف شديد وضعتْنا الكاتبة في مشهد احتفاليّ بمختلف طقوسه: “اصطفّت الجموع من حولي، تعالت بعض آيات من الذكر يرتّلها شيوخ القرية.”
جملتان فعليتان، الأولى بسيطة والثانية مركّبة وكلتاهما تبدأ بفعل ماض ولا يفصل بينهما غير فاصلة، هي في ذات الوقت رابطة بين المعنيين: نحن إزاء متكلّم مفرد لا نعرف له جنسا ولا لونا ولا هويّة يقصّ عليناالمشهد بمختلف أطواره وأحداثه. فاصطفاف الجموع من حولي يشي بأنّ الأمر مدبَّر وقد سبق الإعلان عنه، بل قد يكون هؤلاء قد دُعوا إليه أو قد جيء بهم أو هم من العابرين. وفي الاصطفاف تنظيم ومن حولي معهود وكما جرت العادة، فالأمر مدروس مخطّط له، فلا فوضى ولا شغب بل نجد ضمير المتكلّم في وسط الدّائرة بقوله” اصطفّت الجموع من حولي” وبذلك ندرك أنّه لبّ الحكاية وجوهرها ومحرّكها. فمن يكون؟ ولمَ يلتفّون حوله؟ هل هو عريس أم جريح أم سارق أم…؟ ويزداد نهم القارئ للمعرفة بحلول الجملة الثانية: ” تعالت بعض أصوات الذِّكر يرتّلها شيوخ القرية” فبإضافة الصوت إلى المشهد الذي كان صامتا يكبر السّؤال: ماذا يحدث؟ وبتخصيص هذه الأصوات: أصوات الذِّكر دون غيرها وهي ترتيل وليست غناء أو صراخا والفاعلون شيوخ القرية دون سواهم يجد القارئ نفسه في طقوس دينيّة تدعو إلى الخشوع والإنصات والاعتبار، فهل هناك صوت أجلُّ من الذكر؟ وهل هناك أجلّ تقوى وحكمة من شيوخ القرية؟
وهذا المشهد المتحرّك الناطق يذهب بنا مذاهبَ شتّى: هل نحن في مأتم أم في عرس؟
وهذه التعمية أو الضبابيّة مقصودة بل هي استراتيجيّة مدروسة كما سنرى لاحقا لكسب اهتمام القارئ وجعلِه قارئا فاعلا متفاعلا لا مجرّد متقبّل سلبيّ.
ويزداد المشهد تعتيما ووضوحا في ذات الوقت بالجملة الثالثة التي وردت اسميّة واصفة: “بعض النّحيب اختلط بزغاريد النّسوة.”أمّا التعتيم المقصود فهو هذا المزجُ بين زغاريد النسوة الدالة على الفرح والنصر والخلاص… وبين بعض النّحيب الّذي لا ندري مأتاه: هل هو من النسوة أم من الأطفال أم من الرجال؟ ولماذا هذا القليل من النّحيب مقارنة بكثير من الزّغاريد (جمع) ولماذا إخفاء هويّة المنتحبين أو المنتحبات والتصريح بجنس المزغردات؟
أمّا الوضوح فيبرز بوعي القارئ أنّه يشهد طقوسا غريبة عجيبة تمتزج فيها الأضداد وتتعالق المتناقضات وتتضافر: جموعتصطفّ بواحد فرد لم ندرك هويّتَه ولا جنسَه غير أنّه أو أنّها سارد (ة) النصّ وراوي (ة) أحداثه، وأصوات تبدو على جانب كبير من النّشازفي كيمياء عجيبة من تلاوة الذكر مع النحيب مع الزغاريد.
كلّ هذا في ثلاث جمل قصيرة، بينها فاصلتان جامعتان رابطتان لا غير، ممّا يدلّ على سرعة الأحداث وتحرّك الصور فلكأنّه رجعُ الصّدى بالذّاكرة في لمح البصر أو أقلّ !
في الجملة الرّابعة: ” حين صوّب أخي بندقيّته نحو قلبي الّذي أذنب، انتفضتُ” بتغيّر التركيب يتغيّر المشهد وتتغيّر الفواعل. هذا التركيب الظرفيّ: المبدوء بحين والمتكوّن من جملة الظرف: “صوّب أخي بندقيّته نحو قلبي” وجملة جواب الظرف: “انتفضتُ.” يقفز بنا فجأة إلى مشهد مغاير لسابقه، إذ يُصبح ضمير المتكلّم أنا فاعلا بعد أن كان مفعولا به “انتفضتُ” فهذه الانتفاضة أو الاستفاقة من “غيبوبة المفعوليّة” أو الدهشة ممّا يرى حوله ويتعالى إلى مسامعه إنّما هي بداية الوعي بضرورة المواجهة، مواجهة فاعل آخر جديد: أخي، أخي خصمي وعدوّي منذ قابيل وهابيل. هذه المفارقة الكبرى بين الأخوّة التي هي محبّة ورحمة وصلة متينة تتحوّل إلى قتل، قتل ببندقيّته ولا ذنب غيرُ “ّذنبِ قلبها الّذي أحبّ.”
طلقة واحدة بها يرديها قتيلة فيطهّرها ويغسل “القبيلة” من العار، عار الحبّ ! أيّ مفارقة، إلهي، إله الحبّ، وأيّ صدمة يرتجّ لها القارئ بعد أن وضعتِه، الكاتبةفتحيّةَ الإبداع في طقوس غامضة وأوهمتِه بشتّى الممكنات والتأويل؟!
إنّها تقنيات القصّة القصيرة جدّا: التكثيف والإيهام والإيحاء لتحقيق المفاجأة وحبكة القفلة الّتي هي من أهمّ ما ترتكز عليها ال ق ق ج والّتي تكون على غير انتظار القارئ.
إذن من التلقّي السلبيّ لكلّ ما يحدث حولها من اصطفاف الجموع وترتيل شيوخ القرية بعضَ آياتِ الذكر وبعض النحيب وزغاريد النسوة كمن كان في ذهول من أمره تنتقل الساردة من وصف الحالة أو المشهد إلى الفعل: ” انتفضتُ” والانتفاضة عنوان وعي وإرادة وتصميم على المقاومة، وليست دليلَ خوف أو فزعمن بندقيّة أخيها المصوّبة نحو قلبها ” المذنب” لأنّه أحبّ، وتكفيه طلقةٌ واحدةٌ لتطهّره من رجس الحبّ ودنسه!
هذه الانتفاضة ليست رعشةَ الجسد بل هي جرأةُ الأنثى المؤمنة بغير ما تؤمن به “القبيلةُ” جموعا وشيوخا ونسوة وأهلا. هي انتفاضةُ التمرّدِ على تعاليمَ موروثةٍ سقيمةٍ لم تتنزّل من السّماء بل وضعها الذّكور عنتا وجهلا للسيطرة على الأنثى وتدجينها ونزع إرادتها في اختيار حبيبها وشريك حياتها، في حين أنّهم أقرّوا للرجل أن يحبّ ويعشق مستشهدين بأقوال الفقهاء (ابن حزم) وسير الأنبياء والخلفاء والصالحين…

هذه الانتفاضة هي وقفة الأخت العزلاء في وجه أخيها ” حاميها وقاتلها في آن” وفي وجوه كلّ المحتفين بسفك دمها مجانا، لتذكّره بمدى جرمه وبسوء فعله إنْ ضغط على زرّ بندقيّته المصوّبة نحو قلبها. تقول: ” قلتُ له: دونك رأسي أمّا قلبي فدرعه لمسة حانية.” والإشكال هنا في دونك: دُونَكَ [كلمة وظيفيَّة]: 1- اسم فعل أمر بمعنى (خذ)، منقول عن الظرف (دون) وكاف الخطاب المتصرِّفة بحسب أحوال المخاطب “دونكَ الكتابَ- دونكم الكتابَ”. 2- اسم فعل أمر بمعنى (الزم) على سبيل الإغراء “دونكَ زيدًا”. 3- اسم فعل أمر بمعنى (حذارِ) على سبيل التحذير “دونك عصياني: احذر عصياني.
فمعنى قولها يتغيّر تماما بتغيّر معنى دونك وفيه من المخاتلة نصيب وفير، هل أرادت بها خذ رأسي أمّا قلبي فلا، أم أرادت إغراءه بأن يلزم رأسها ويكشف عمّا به من حكمة وحسن تدبير، أم أرادت تحذيره ممّا برأسها؟
جزء من القفلة مفتوح على كلّ الاحتمالات الممكنة حسب قراءة القارئ وتأويله والقرائن الموجودة في ثنايا النصّ. ويأتي الجزء الثاني من القولمبدوءابأمّا وهي حرف شرط وتأكيد، وهنا تتجلّى المقارنة بين منزلتي الرّأس والقلب: خذ هذه الرأس على أهمّيتها فهي قريبة منك أو فهي لك، افعل بها ما تشاء، أطلق رصاصتك، فجّر دماغها… “أمّا قلبي فدرعه لمسة حانية” وهنا يتيه بنا التأويل: ما درع القلب المحصِّن له؟ وهذه في حدّ ذاتها صورة شعريّة متعدّدة الدلالات. هل هو قلبٌ محصّن بخمرة الحبّ؟ هل الحبّ يقي من الموت ويحقّق البقاء، بله الخلود؟ وبالتالي فلن تنال منه رصاصتُك ولن تستطيع له أمرا… هل هو التحدّي أم الاستسلام للمصير المحتوم؟ هل وهل وهل… بل لقد طوّحت بي القراءة إلى أبعد من ذلك ممّن هذه اللّمسة الحانية؟ من الأخ المشرع بندقيته لقتلها أم من الحبيب الّذي من أجله خالفت ما جرت به العادة، واقترفت الممنوع في العرف؟ إلى غير ذلك من التأويلات الممكنة… إنّها رقصة النّار، رقصة العاشقة بين يدي سفّاحها، أخيها، بل لأقل إنّها رقصة الدّم الّذي يكاد أن يُسفكَ بطلقة لا غير وبلا أدنى سبب وجيه.

إنّ انفتاح القَفلة على هذا الكمّ من المعاني وغيرها ليس من باب الصّدفة بل هو من صلب تقنيات الق ق ج، إذ لكلّ كلمة في سياقها وتعالقها بغيرها جمهرةٌ من المعاني التي توحي بها وتُحيلُ عليها وهذا هو جوهر التكثيف والإيحاء والاختزال والإيجاز التي هي من شروط الأدب الوجيز عامة والقق ج خاصّة ونموذجا.
وبذه التقنيات وغيرها كتبت فتحيّة دبّش جلّ ق ق ج فأجادت حبكها وسبكها وجعلت القارئ الحصيف يسبح في بحور جمال إبداعها بلا مرسى. بل لعلّ على القارئ المتهيّء للسباحة أن يتسلّح برصيد وافر من الثقافة والمعرفة ليكتشف عوالم كتابتها الجليّة والخفيّة. إنّ هذه الق ق ج ليست إلّا نموذجا لنسج غزير المعاني وحياكة شتّى الدلالات وتطريزها بأقلّ الألفاظ وأيسرها: بانتظام خمس جمل قصيرة حملتنا الكاتبة إلى عالم التصوّف وعالم الميثيولوجيا والطقوس الدينيّة قديمها وحديثها ومعتقدات العامة وسلوك ” الفكر القَبليّ المتحجّر”…
والكاتبة كما عهدتُها في جلّ كتاباتها على صفحات الشبكة العنكبوتيّة أو المنشورة ترفع صوتها عاليا متمرّدا على ما لا يقبله العقل ولا ترضاه سليقة الإنسان السويّ وتقف في وجه ما يعتبره الذّكر وليس الرجل حقّا يُراد به باطلا وتفقأ عيون التابوهات في حوار مع الذّات والآخر ومع الأحياء والأموات على حدّ سواء.
شكرا لك، فتحيّة على الإمتاع. شكرا لك على الإلذاذ. هنيئا لك ولنا بهذا الحرف البهيّ والفكر النيّر.

*صفيّة قم بن عبد الجليل

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...