كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها .
لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:
- يكفي أنني اتنفس به ..كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..
الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :
يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها ..
ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :
- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .
و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .
كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..
كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :
نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟
رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :
أسرعي أريد أن أرضع.
قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.
لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟
عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :
- أتعلمين قصة موت جدك؟
- لا ياجدتي
رغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .
لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .
فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..
ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .
كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.
ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..
كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :
- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟
في الحلم؟
- لا .. بل في الواقع ..
و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟
- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .
وكيف عرفتِ أنه جدي؟
- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط
عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..
و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟
لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .
و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح..
لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:
- يكفي أنني اتنفس به ..كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..
الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :
يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها ..
ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :
- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .
و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .
كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..
كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :
نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟
رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :
أسرعي أريد أن أرضع.
قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.
لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟
عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :
- أتعلمين قصة موت جدك؟
- لا ياجدتي
رغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .
لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .
فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..
ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .
كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.
ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..
كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :
- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟
في الحلم؟
- لا .. بل في الواقع ..
و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟
- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .
وكيف عرفتِ أنه جدي؟
- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط
عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..
و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟
لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .
و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق