*عبد العزيز عسير الصافي
( تعاقب البحور )
من نصوص الياسمين نقف عند نص ( بلا أثَر )
للشاعر صالح أحمد (كناعنه) القصيدة التي اكتملت بنيتها بمقاطع طويلة متماثلة... تعاقب في كل منها اكثر من بحر تلبية لحاجة ايقاعية سنحاول الكشف عنها :
يقول في المقطع الاول :
هم يكتبونَ الأمرْ
لا يَعبرونَ النّهـرْ
مَن يُهد روحي غِمرْ
مِن بارِقاتِ الصَّبرْ
أمنَحهُ سِرَّ السِّرْ
سِرًا وعُذرَ العُذرْ
.
لا صبرَ لا مَوّالْ
لن يعشَقَ الأطفالْ
يومًا سلالَ الجوعْ
في الشعر الحديث تداخلت البحور المتناغمة التي تشترك بتفعيلات ( ما قبل الضرب) ... ولم يعد رواد الحداثة يخضعون لما فرض عليهم العروضيون من قوالب مقننة صارمة تفارق بين البحر و الآخر ... وفي بعض نصوص السياب نجد تداخلا بين الرجز والسريع .. و لا نظن الامر يخفى عليه ... بل هو يعي الحالة تماما ... ذلك لان ثورة الرواد الايقاعية تخطت الكثير من القوانين الصارمة التي اقرها اتباع الخليل .... و بحس ايقاعي يستجيب لواقع العصر الذي اختلف فيه الكثير عن التراث دونما انسلاخ تام كما حصل في المرحلة الثانية للثورة الايقاعية وهي (قصيدة النثر ) .
اقول هذا لكي يعذرنا الاخوة بتحديد اسم البحر خاصة اذا كانت وجهات النظر مختلفة أحيانا باحتساب تشكيلات الاشطر ... وعلى اي بحر هي ؟
في نص صالح احمد تطالعنا اشطر قصيرة جدا من تفعيلتين يشترك بالاولى الرجز والسريع ...ولكن الثانية التي يسميها العروضيون ( الضرب ) هي التي تحدد كون النص من السريع لا الرجز .
الثانية هي ( فعْلانْ ) بسكون العين والنون الاخيرة :
هم يكتبون الأمر ْ
لا يعبرون النهر ْ
وهكذا بقية اشطر المقطع كلها على وزن ( مستفعلن فعلان )
وبها نجد ضربات ايقاعية صاعقة متماثلة مع طرقات المطرقة الحادة الصادمة للسمع .
هذه الحدة تاتي من خلال توالي حرفين ساكنين وهما حرفان صحيحان ..اي ...لم يكن احدهما حرف مد يرطب الايقاع ... حرفان مما يعرف بالانجليزية ب
( consonants voice )
لا ( Vowels voice )
والقارئ الكريم يدرك ان طراوة حرف المد ( حرف العلة) مختلفة عن صلابة ما يسمى بالعربية بالحرف الصحيح .
ومع ان العروضيين التقليديين يقابلون بالتفعيلة نفسها ( فعلان )لحالتين متفارقتين تماما فان الذي يتلقى الايقاع يحس بفارق كبير بين قولنا مثلا :
( بالوصْل ْ -- بالبال ْ )
لتصلب بالاولى و ليونة بالثانية ... مع ذلك فقوانين العروض تعبر عن الإثنتين ب ( فعلان ) .
وعليه فان من الصعوبة التعامل مع تشكيلات المقطع الاول ثم الثاني بقوانين العروض نفسها :
لا صبر لا موال ْ
لن يعشق الاطفال ْ
يوما سلاح الجوع ْ
المقطع الثاني مختلف ايقاعيا عن الاول تماما ... مع ان التشكيلة العروضية التراثية واحدة ...والبحر واحد ... بالقوانين الخليلية .
ما يهمنا هذا الالتفات الايقاعي ... و هل جاء اعتباطا ام استجابة لمغايرة املتها الضرورة لتفارق بين النغمتين صلابة... و ليونة ؟
المقطع الاول باشطرة الستة الموزعة على ستة اسطر جاء بصوت ما ... و الاشطر الثلاثة الاخرى جاءت بصوت اخر .
الاول (صوت الراصد ) ... راصد يوثق ما يحصل على الارض من مآس...ثم يفصح عن ردة الفعل باعماقه لهذه الماساة ... مع شيء ثالث ايضا ... انه يتطلع الى المواساة :
من يهد روحي غمر ْ
من بارقات الصبر ْ
امنحه سر السر
سرا وعذر العذر
هذا ما نتمثله في المقطع الاول :
( رصد ... اوجاع ... استغاثة )
المقطع الثاني القصير الممهد لما بعده ( الثالث) ياتي
ب ( صوت الانسان المخذول ) الرجل الوطني العائد خائبا بعد بارقة من امل لاستجابة لم تتحقق ... و صبر تأمله وعوّل عليه لكنه لم يحضر ..... و ترقب لموّال لم يُنشد :
( لا صبر لا موال
لن يعشق الاطفال
يوما سلال الجوع )
تطلع لثمرة لم تمنح ... ومرارة تحديقٍ بسلال فارغة ممتلئة بالجوع .
ثم تأتي (صرخة النقمة ) ( صوت الاحتجاج الثائر ) باعلى نبراته المواجهة للاضطهاد .. و غير المستسلمة .
هنا كان لا بد ان تتبدل النغمة ... يتبدل البحر ... يتدفق الايقاع موصولا بنمط ايقاعي مختلف.... انه شكل اخر من اشكال القصيدة الحديثة الذي عُرف ب ( القصيدة المدورة ) ... وعلى بحر يلائم حالة السرد .
يتدفق الايقاع موصولا على البحر الكامل و بتشكيلة طويلة جدا على تموجات القصيدة المدورة ... وبنفَس طويل.... انه نفَس الناقم المحتج على ما يجري من مآس :
(( وإذًا.. فإنّ اللّيلَةَ الشّمطاءَ لم تَرحَل، ولم تَحبَل غيومُ الصّمت بالمأمولِ مِن صَيفٍ يُشارِكُنا ظَمانا... فاكتَسَينا خِبرَةَ الأحوالِ، والتّجوالِ في صَمتِ السّرايا والقَرايا.. فالعيونُ السّودُ لم تُكرِم سِوانا حينَما كانَ الحَديثُ عنِ المَذابِحِ في القَمَر ...))
تشكيلة طويلة جدا نتلقى الايقاع فيها متدفقا وموصولا باثنتين وعشرين تفعلية ( متفاعلن ) مع جوازاتها الزحافية المالوفة في الكامل والتي لا يهمنا الخوض فيها او تحديدها باجمعها بقدر ما يشدنا اليها من امتداد ايقاعي استطال استجابة لنَفَس هذه الصرخة الطويلة التي يطلقها ( هدير الثورة ) المتماوج بموجات صوتية تملأ الاثير .
هذا التدوير الطويل كان التفاتا ايقاعيا من بحر الى اخر . .. ولم يأت اعتباطا ... بل افصاحا عن تعدد الاصوات في القصيدة الواحدة .
و معلوم ان( القصيدة المدورة) قد بدات بنهي للناقدة نازك الملائكة ... نهي عن تجاوز الحد الاقصى لبيت الشعر العربي التراثي والمحدد بثماني تفعيلات ... وكلنا يعرف ردة فعل الشعراء على هذا النهي ... و الانسان ؛ بل... الشاعر الانسان (حريص على ما منع ) كما يقول المثل السايكولوجي .
تستمر المقاطع الاخرى في قصيدة الشاعر صالح احمد بالبنية الايقاعية نفسها ... اذ تتشكل هذه البنية بثلاثة مقاطع للجزء الواحد ... و يباين الشاعر بين هذه المقاطع الثلاثة بالمفارقة البنائية نفسها ... وعلى النحو الذي بيناه :
( ستة اشطر قصيرة على السريع )
ثم ( ثلاثة اشطر قصيرة على البحر نفسه )
ثم (تشكيلة مدورة طويلة جدا على البحر الكامل ).
شيء واحد اختلف بالجزء الاوسط الممهد لتغيير البحر . ..وهو ان الشاعر ببعض المقاطع لم يلتزم بما نوهنا عنه من فارق مميز لحروف المد الطرية عن الحروف الصحيحة المتسمة بالصلابة بل اعتمد المد فقط في اللفظة الاخيرة من الشطر الثالث .
نعني انه قد اهمل المد في بعض الاشطر ... ولكنه بالمقابل لم يجمع بين صلابة ساكنين مما يسمى بالحروف الصحيحة ... بل اعتمد مغايرة اخرى هي تغيير الضرب من ( فعلان ) الى ( فعلن ) في الشطرين الاول والثاني مع الالتزام بالمد بالثالث .
نجد ذلك في قوله :
في سرنا الاعمق
انساننا يغرق
تقنا لصوت خشوع
نود ان نؤكد ثانية على ان تعاقب البحور في قصيدة( بلا اثر ) للشاعر صالح احمد الكناعنة قد جاء تلبية لحاجة فنية كون النص قد اعتمد تعدد الاصوات .
( تعاقب البحور )
من نصوص الياسمين نقف عند نص ( بلا أثَر )
للشاعر صالح أحمد (كناعنه) القصيدة التي اكتملت بنيتها بمقاطع طويلة متماثلة... تعاقب في كل منها اكثر من بحر تلبية لحاجة ايقاعية سنحاول الكشف عنها :
يقول في المقطع الاول :
هم يكتبونَ الأمرْ
لا يَعبرونَ النّهـرْ
مَن يُهد روحي غِمرْ
مِن بارِقاتِ الصَّبرْ
أمنَحهُ سِرَّ السِّرْ
سِرًا وعُذرَ العُذرْ
.
لا صبرَ لا مَوّالْ
لن يعشَقَ الأطفالْ
يومًا سلالَ الجوعْ
في الشعر الحديث تداخلت البحور المتناغمة التي تشترك بتفعيلات ( ما قبل الضرب) ... ولم يعد رواد الحداثة يخضعون لما فرض عليهم العروضيون من قوالب مقننة صارمة تفارق بين البحر و الآخر ... وفي بعض نصوص السياب نجد تداخلا بين الرجز والسريع .. و لا نظن الامر يخفى عليه ... بل هو يعي الحالة تماما ... ذلك لان ثورة الرواد الايقاعية تخطت الكثير من القوانين الصارمة التي اقرها اتباع الخليل .... و بحس ايقاعي يستجيب لواقع العصر الذي اختلف فيه الكثير عن التراث دونما انسلاخ تام كما حصل في المرحلة الثانية للثورة الايقاعية وهي (قصيدة النثر ) .
اقول هذا لكي يعذرنا الاخوة بتحديد اسم البحر خاصة اذا كانت وجهات النظر مختلفة أحيانا باحتساب تشكيلات الاشطر ... وعلى اي بحر هي ؟
في نص صالح احمد تطالعنا اشطر قصيرة جدا من تفعيلتين يشترك بالاولى الرجز والسريع ...ولكن الثانية التي يسميها العروضيون ( الضرب ) هي التي تحدد كون النص من السريع لا الرجز .
الثانية هي ( فعْلانْ ) بسكون العين والنون الاخيرة :
هم يكتبون الأمر ْ
لا يعبرون النهر ْ
وهكذا بقية اشطر المقطع كلها على وزن ( مستفعلن فعلان )
وبها نجد ضربات ايقاعية صاعقة متماثلة مع طرقات المطرقة الحادة الصادمة للسمع .
هذه الحدة تاتي من خلال توالي حرفين ساكنين وهما حرفان صحيحان ..اي ...لم يكن احدهما حرف مد يرطب الايقاع ... حرفان مما يعرف بالانجليزية ب
( consonants voice )
لا ( Vowels voice )
والقارئ الكريم يدرك ان طراوة حرف المد ( حرف العلة) مختلفة عن صلابة ما يسمى بالعربية بالحرف الصحيح .
ومع ان العروضيين التقليديين يقابلون بالتفعيلة نفسها ( فعلان )لحالتين متفارقتين تماما فان الذي يتلقى الايقاع يحس بفارق كبير بين قولنا مثلا :
( بالوصْل ْ -- بالبال ْ )
لتصلب بالاولى و ليونة بالثانية ... مع ذلك فقوانين العروض تعبر عن الإثنتين ب ( فعلان ) .
وعليه فان من الصعوبة التعامل مع تشكيلات المقطع الاول ثم الثاني بقوانين العروض نفسها :
لا صبر لا موال ْ
لن يعشق الاطفال ْ
يوما سلاح الجوع ْ
المقطع الثاني مختلف ايقاعيا عن الاول تماما ... مع ان التشكيلة العروضية التراثية واحدة ...والبحر واحد ... بالقوانين الخليلية .
ما يهمنا هذا الالتفات الايقاعي ... و هل جاء اعتباطا ام استجابة لمغايرة املتها الضرورة لتفارق بين النغمتين صلابة... و ليونة ؟
المقطع الاول باشطرة الستة الموزعة على ستة اسطر جاء بصوت ما ... و الاشطر الثلاثة الاخرى جاءت بصوت اخر .
الاول (صوت الراصد ) ... راصد يوثق ما يحصل على الارض من مآس...ثم يفصح عن ردة الفعل باعماقه لهذه الماساة ... مع شيء ثالث ايضا ... انه يتطلع الى المواساة :
من يهد روحي غمر ْ
من بارقات الصبر ْ
امنحه سر السر
سرا وعذر العذر
هذا ما نتمثله في المقطع الاول :
( رصد ... اوجاع ... استغاثة )
المقطع الثاني القصير الممهد لما بعده ( الثالث) ياتي
ب ( صوت الانسان المخذول ) الرجل الوطني العائد خائبا بعد بارقة من امل لاستجابة لم تتحقق ... و صبر تأمله وعوّل عليه لكنه لم يحضر ..... و ترقب لموّال لم يُنشد :
( لا صبر لا موال
لن يعشق الاطفال
يوما سلال الجوع )
تطلع لثمرة لم تمنح ... ومرارة تحديقٍ بسلال فارغة ممتلئة بالجوع .
ثم تأتي (صرخة النقمة ) ( صوت الاحتجاج الثائر ) باعلى نبراته المواجهة للاضطهاد .. و غير المستسلمة .
هنا كان لا بد ان تتبدل النغمة ... يتبدل البحر ... يتدفق الايقاع موصولا بنمط ايقاعي مختلف.... انه شكل اخر من اشكال القصيدة الحديثة الذي عُرف ب ( القصيدة المدورة ) ... وعلى بحر يلائم حالة السرد .
يتدفق الايقاع موصولا على البحر الكامل و بتشكيلة طويلة جدا على تموجات القصيدة المدورة ... وبنفَس طويل.... انه نفَس الناقم المحتج على ما يجري من مآس :
(( وإذًا.. فإنّ اللّيلَةَ الشّمطاءَ لم تَرحَل، ولم تَحبَل غيومُ الصّمت بالمأمولِ مِن صَيفٍ يُشارِكُنا ظَمانا... فاكتَسَينا خِبرَةَ الأحوالِ، والتّجوالِ في صَمتِ السّرايا والقَرايا.. فالعيونُ السّودُ لم تُكرِم سِوانا حينَما كانَ الحَديثُ عنِ المَذابِحِ في القَمَر ...))
تشكيلة طويلة جدا نتلقى الايقاع فيها متدفقا وموصولا باثنتين وعشرين تفعلية ( متفاعلن ) مع جوازاتها الزحافية المالوفة في الكامل والتي لا يهمنا الخوض فيها او تحديدها باجمعها بقدر ما يشدنا اليها من امتداد ايقاعي استطال استجابة لنَفَس هذه الصرخة الطويلة التي يطلقها ( هدير الثورة ) المتماوج بموجات صوتية تملأ الاثير .
هذا التدوير الطويل كان التفاتا ايقاعيا من بحر الى اخر . .. ولم يأت اعتباطا ... بل افصاحا عن تعدد الاصوات في القصيدة الواحدة .
و معلوم ان( القصيدة المدورة) قد بدات بنهي للناقدة نازك الملائكة ... نهي عن تجاوز الحد الاقصى لبيت الشعر العربي التراثي والمحدد بثماني تفعيلات ... وكلنا يعرف ردة فعل الشعراء على هذا النهي ... و الانسان ؛ بل... الشاعر الانسان (حريص على ما منع ) كما يقول المثل السايكولوجي .
تستمر المقاطع الاخرى في قصيدة الشاعر صالح احمد بالبنية الايقاعية نفسها ... اذ تتشكل هذه البنية بثلاثة مقاطع للجزء الواحد ... و يباين الشاعر بين هذه المقاطع الثلاثة بالمفارقة البنائية نفسها ... وعلى النحو الذي بيناه :
( ستة اشطر قصيرة على السريع )
ثم ( ثلاثة اشطر قصيرة على البحر نفسه )
ثم (تشكيلة مدورة طويلة جدا على البحر الكامل ).
شيء واحد اختلف بالجزء الاوسط الممهد لتغيير البحر . ..وهو ان الشاعر ببعض المقاطع لم يلتزم بما نوهنا عنه من فارق مميز لحروف المد الطرية عن الحروف الصحيحة المتسمة بالصلابة بل اعتمد المد فقط في اللفظة الاخيرة من الشطر الثالث .
نعني انه قد اهمل المد في بعض الاشطر ... ولكنه بالمقابل لم يجمع بين صلابة ساكنين مما يسمى بالحروف الصحيحة ... بل اعتمد مغايرة اخرى هي تغيير الضرب من ( فعلان ) الى ( فعلن ) في الشطرين الاول والثاني مع الالتزام بالمد بالثالث .
نجد ذلك في قوله :
في سرنا الاعمق
انساننا يغرق
تقنا لصوت خشوع
نود ان نؤكد ثانية على ان تعاقب البحور في قصيدة( بلا اثر ) للشاعر صالح احمد الكناعنة قد جاء تلبية لحاجة فنية كون النص قد اعتمد تعدد الاصوات .
عبد العزيز عسير الصافي
باحث وناقد العراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق