اشتد الجدل وسرت همهمات متناثرة فأمرتُ برفع الجلسةَ!
استجاب الحضور الذين أرهقهم الاجتماع الساخن، الممتد لساعات خلت مشحونة بالملل، متراوحة بين النقاش العلمي الممتع والجدل البيزنطي العقيم، وغادروا القاعة للتوِّ مسرعين كطيور تتوق لفرد أجنحتها في الهواء بعد حبس طويل.
هرع بعضهم إلى المقصف المُلحق لتناول بعض الشطائر والمشروبات الخفيفة يسكتون بها قرقرة بطونهم الخاوية، آخرون توجهوا إلى الحديقة المجاورة، متلهفين لاستنشاق النسيم العليل الخالي من (الفريون) بعيدًا عن هواء المُبردات الصناعية الذي تشبعت به رئاتهم.
طلبتُ من مساعدي أن يُعيد عليَّ ملخص المحاضرة العلمية الأخيرة، التي دوّنها بطريقة الاختزال، حيث قدمتْها خبيرةٌ أجنبية شهيرة متخصصة في مكافحة العُنف وتقويم السلوك الإجرامي الفردي والجماعي.
دار محور المحاضرة حول الارتباط الزّمني لسلوكيات العنف والجريمة، بالليالي القمرية الثلاث منتصف كل شهر عربي، بافتراض أنها فترة أقصى تعاظم للقوة المغناطيسية للقمر، نتيجة اقترابه من الأرض في هذه الليالي أكثر من أي وقت آخر، فتشتد جاذبيته وتنشأ عنها ظاهرة المد والجزر، ليس فقط على مستوى البحار والمحيطات والمسطّحات المائية كافة، بل تتأثر كل السّوائل على سطح الكرة الأرضية بما في ذلك الدّماء التي تجري في عُروق الكائنات الحيّة.
حيث يرتفع معدل الأدرينالين في الدم، وتصبح كلّ الكائنات خلالها - وليس الإنسان فحسب كما هو شائع- سريعة الغضب، شديدة الانفعال، ميّالة إلى العُنف الجسديّ بكل صوره وأشكاله، بدرجات متفاوتة، وفي الحالات الشديدة، يكون هناك نهمٌ غريب إلى إراقة الدماء، والتلذذ بالقتل.
عرضت النظريةُ نتائج لحالات تم رصدها ودراستها على مستوى العالم من العنف الفردي، والأسريّ، والمدرسيّ، واندلاع المظاهرات، وتزايد أنشطة المنظمات الإجرامية، وحالات الشّغب في السّجون، والتّجمعات العمّالية، والطّلابية، ومعسكرات الجنود، وبين المسافرين في وسائل النقل الجماعية كالحافلات والقطارات وخطف الطائرات، وتمرد البحارة وشغب الركاب، بل وبعض حالات الثورات الشعبية، والانقلابات العسكرية، وتوقيت إعلان الحروب بين الدول. تطرقت المحاضرة أيضًا إلى الهياج الذي يعتري سلوك الحيوانات البرية في الغابات والمستأنسة في الحظائر والإسطبلات ونوادي السباق وحوادث إسقاط الخيل للركاب وجنوح الحيتان في مياه الشواطئ الضحلة وهجوم القروش على السواحل الآمنة.
كالعادة لاقت النظريةُ استحسان البعض باعتبارها كشفًا علميًّا جديدًا، ولم تنجُ من استهجان الآخرين وسخريتهم اللاذعة، توالت الانتقادات للنّظرية وألصقت بصاحبتها تُهم السفه والجنون والخرف، أفلت زمام أحد المعارضين حتى كاد لفرط غضبه، أن يفتك بالمُحاضِرة، بدورها سارعت الأخيرة إلى اتخاذ سلوكه العدواني تجاهها، دليلًا دامغًا على صحة نظريتها.
وفي حركة مسرحية مباغِتة، فتحت النافذة القريبة منها على مِصراعيها، ليرى الجميع بوضوح منظر البدر الساطع في السماء، فبُهت الحضور وخسأ المُهاجِم مقهورًا، وهو يكاد يتميز من الغيظ لعجزه عن إسكاتها.
أثنت الخبيرة الدولية على تطوّع كثير من المتدينين على مستوى العالَم بصيام هذه الأيام، معتبرة الصيام بندًا أساسيًّا من تذكرة العلاج المقترحة. وناشدت الحكوماتِ البدء فورًا في تصنيع ملابس بمواصفات خاصة، على غرار ملابس روّاد الفضاء، وإلزام رعاياها بارتدائها في الليالي القمرية قسريًّا، وأوصت بإجراء عمليات حجامة إجبارية ومعاقبة الممتنعين بالحبس كفًّا لأذاهم واتقاءً لشرورهم. مُبشّرة بعد ذلك بنتائج باهرة لسلام عالمي دائم، وحياة بلا عنف على مستوى الأفراد والجماعات.
حذرت بشدة من خطورة التراخي والتقاعس عن العلاج، مع ازدياد الحالة المُزرية لكوكب الأرض، بعد انتشار الملوّثات البيئية، وعوادم المصانع والطائرات والسّيارات والقاطرات، والاتساع المضطرد لثُقب الأوزون، والانهيارات الجليدية المتزايدة في القطبين، مما يسمح بتأثير أشد للقمر، وسهولة اختراق جاذبيته للغلاف الأرضي المتصدع والمُهترِئ.
لا أدري لماذا وجدتُني فجأة من أشدّ المناصرين للنّظرية الجديدة، متحمسًا للحلِّ الغريب المطروح للمشكلة، مدفوعًا بتأثير قوة مجهولة طاغية لا قِبل لي بمقاومتها لتفنيد حُجج المُعارِضين، - بأدلة وبراهين علمية مُقنِعة، واتتني كالإلهام ساعتَها دون سابق إعداد- حتى إنني لفرط الحماس استُدرِجْتُ إلى مُلاسنة حادّة مع بعضهم على غير عادتي الهادئة الرزينة، فجأة تطورت الأحداث بسرعة لتصل إلى اشتباك بالأيدي، وتبادل اللكمات والركلات، ثم بدأت الكراسي تتطاير فوق الرؤوس.
غابت الأنوار، ليسود في الظلام هرج ومرج وتدافُعٌ، تمكّن البعض معه من القفز من النافذة، على حين ديس الكثيرون، ممن سقطوا صرعى تحت الأقدام.
بعد ساعة تقريبًا من تصاعد وتيرة الأحداث طوّق رجال الشّرطة المكان، وألقوا القبض على جميع الموجودين. قبيل وصول الشرطة بدقائق تمكنتُ من الفِرار بمعجزة، مُنتهزًا الفوضى العارمة، رددتُ التحية على الحُرّاس، وأنا أقود سيارة المُدير خارجًا من البوابة الرئيسة للمبنى الكئيب متوجهًا للتوِّ صوب المطار، سمعت النداء الأخير للإقلاع وأنا على سلم الطائرة.
في غرفتي بالفندق الأجنبي، طالعتُ في شريط الأخبار الصّباحي، أنّ الشّرطة داهمت بالأمس اجتماعًا فوضويًّا، لمجموعة من المرضى النفسيين الخطرين بالمستشفى التخصصي الكبير، وأنهم عثروا على طاقم الأطباء مُكبلين في أحد العنابر الجانبية بعد تخديرهم، بما فيهم مدير المستشفى وبعض الخبراء الأجانب.
ناشدت الشرطةُ المواطنين التعاون معها، وسرعة الإبلاغ عن أي مُشتبه به من المرضى الهاربين، كما حذرتْ من سلوكهم العدواني الخطير، إذ عُثر في قاعة الاجتماع الفسيحة والردهة المجاورة، على عدد من المصابين بإصابات بالغة بدرجات متفاوتة، وبينهم جثة واحدة، لخبيرة أجنبية زائرة.
أحمد عبد السلام
استجاب الحضور الذين أرهقهم الاجتماع الساخن، الممتد لساعات خلت مشحونة بالملل، متراوحة بين النقاش العلمي الممتع والجدل البيزنطي العقيم، وغادروا القاعة للتوِّ مسرعين كطيور تتوق لفرد أجنحتها في الهواء بعد حبس طويل.
هرع بعضهم إلى المقصف المُلحق لتناول بعض الشطائر والمشروبات الخفيفة يسكتون بها قرقرة بطونهم الخاوية، آخرون توجهوا إلى الحديقة المجاورة، متلهفين لاستنشاق النسيم العليل الخالي من (الفريون) بعيدًا عن هواء المُبردات الصناعية الذي تشبعت به رئاتهم.
طلبتُ من مساعدي أن يُعيد عليَّ ملخص المحاضرة العلمية الأخيرة، التي دوّنها بطريقة الاختزال، حيث قدمتْها خبيرةٌ أجنبية شهيرة متخصصة في مكافحة العُنف وتقويم السلوك الإجرامي الفردي والجماعي.
دار محور المحاضرة حول الارتباط الزّمني لسلوكيات العنف والجريمة، بالليالي القمرية الثلاث منتصف كل شهر عربي، بافتراض أنها فترة أقصى تعاظم للقوة المغناطيسية للقمر، نتيجة اقترابه من الأرض في هذه الليالي أكثر من أي وقت آخر، فتشتد جاذبيته وتنشأ عنها ظاهرة المد والجزر، ليس فقط على مستوى البحار والمحيطات والمسطّحات المائية كافة، بل تتأثر كل السّوائل على سطح الكرة الأرضية بما في ذلك الدّماء التي تجري في عُروق الكائنات الحيّة.
حيث يرتفع معدل الأدرينالين في الدم، وتصبح كلّ الكائنات خلالها - وليس الإنسان فحسب كما هو شائع- سريعة الغضب، شديدة الانفعال، ميّالة إلى العُنف الجسديّ بكل صوره وأشكاله، بدرجات متفاوتة، وفي الحالات الشديدة، يكون هناك نهمٌ غريب إلى إراقة الدماء، والتلذذ بالقتل.
عرضت النظريةُ نتائج لحالات تم رصدها ودراستها على مستوى العالم من العنف الفردي، والأسريّ، والمدرسيّ، واندلاع المظاهرات، وتزايد أنشطة المنظمات الإجرامية، وحالات الشّغب في السّجون، والتّجمعات العمّالية، والطّلابية، ومعسكرات الجنود، وبين المسافرين في وسائل النقل الجماعية كالحافلات والقطارات وخطف الطائرات، وتمرد البحارة وشغب الركاب، بل وبعض حالات الثورات الشعبية، والانقلابات العسكرية، وتوقيت إعلان الحروب بين الدول. تطرقت المحاضرة أيضًا إلى الهياج الذي يعتري سلوك الحيوانات البرية في الغابات والمستأنسة في الحظائر والإسطبلات ونوادي السباق وحوادث إسقاط الخيل للركاب وجنوح الحيتان في مياه الشواطئ الضحلة وهجوم القروش على السواحل الآمنة.
كالعادة لاقت النظريةُ استحسان البعض باعتبارها كشفًا علميًّا جديدًا، ولم تنجُ من استهجان الآخرين وسخريتهم اللاذعة، توالت الانتقادات للنّظرية وألصقت بصاحبتها تُهم السفه والجنون والخرف، أفلت زمام أحد المعارضين حتى كاد لفرط غضبه، أن يفتك بالمُحاضِرة، بدورها سارعت الأخيرة إلى اتخاذ سلوكه العدواني تجاهها، دليلًا دامغًا على صحة نظريتها.
وفي حركة مسرحية مباغِتة، فتحت النافذة القريبة منها على مِصراعيها، ليرى الجميع بوضوح منظر البدر الساطع في السماء، فبُهت الحضور وخسأ المُهاجِم مقهورًا، وهو يكاد يتميز من الغيظ لعجزه عن إسكاتها.
أثنت الخبيرة الدولية على تطوّع كثير من المتدينين على مستوى العالَم بصيام هذه الأيام، معتبرة الصيام بندًا أساسيًّا من تذكرة العلاج المقترحة. وناشدت الحكوماتِ البدء فورًا في تصنيع ملابس بمواصفات خاصة، على غرار ملابس روّاد الفضاء، وإلزام رعاياها بارتدائها في الليالي القمرية قسريًّا، وأوصت بإجراء عمليات حجامة إجبارية ومعاقبة الممتنعين بالحبس كفًّا لأذاهم واتقاءً لشرورهم. مُبشّرة بعد ذلك بنتائج باهرة لسلام عالمي دائم، وحياة بلا عنف على مستوى الأفراد والجماعات.
حذرت بشدة من خطورة التراخي والتقاعس عن العلاج، مع ازدياد الحالة المُزرية لكوكب الأرض، بعد انتشار الملوّثات البيئية، وعوادم المصانع والطائرات والسّيارات والقاطرات، والاتساع المضطرد لثُقب الأوزون، والانهيارات الجليدية المتزايدة في القطبين، مما يسمح بتأثير أشد للقمر، وسهولة اختراق جاذبيته للغلاف الأرضي المتصدع والمُهترِئ.
لا أدري لماذا وجدتُني فجأة من أشدّ المناصرين للنّظرية الجديدة، متحمسًا للحلِّ الغريب المطروح للمشكلة، مدفوعًا بتأثير قوة مجهولة طاغية لا قِبل لي بمقاومتها لتفنيد حُجج المُعارِضين، - بأدلة وبراهين علمية مُقنِعة، واتتني كالإلهام ساعتَها دون سابق إعداد- حتى إنني لفرط الحماس استُدرِجْتُ إلى مُلاسنة حادّة مع بعضهم على غير عادتي الهادئة الرزينة، فجأة تطورت الأحداث بسرعة لتصل إلى اشتباك بالأيدي، وتبادل اللكمات والركلات، ثم بدأت الكراسي تتطاير فوق الرؤوس.
غابت الأنوار، ليسود في الظلام هرج ومرج وتدافُعٌ، تمكّن البعض معه من القفز من النافذة، على حين ديس الكثيرون، ممن سقطوا صرعى تحت الأقدام.
بعد ساعة تقريبًا من تصاعد وتيرة الأحداث طوّق رجال الشّرطة المكان، وألقوا القبض على جميع الموجودين. قبيل وصول الشرطة بدقائق تمكنتُ من الفِرار بمعجزة، مُنتهزًا الفوضى العارمة، رددتُ التحية على الحُرّاس، وأنا أقود سيارة المُدير خارجًا من البوابة الرئيسة للمبنى الكئيب متوجهًا للتوِّ صوب المطار، سمعت النداء الأخير للإقلاع وأنا على سلم الطائرة.
في غرفتي بالفندق الأجنبي، طالعتُ في شريط الأخبار الصّباحي، أنّ الشّرطة داهمت بالأمس اجتماعًا فوضويًّا، لمجموعة من المرضى النفسيين الخطرين بالمستشفى التخصصي الكبير، وأنهم عثروا على طاقم الأطباء مُكبلين في أحد العنابر الجانبية بعد تخديرهم، بما فيهم مدير المستشفى وبعض الخبراء الأجانب.
ناشدت الشرطةُ المواطنين التعاون معها، وسرعة الإبلاغ عن أي مُشتبه به من المرضى الهاربين، كما حذرتْ من سلوكهم العدواني الخطير، إذ عُثر في قاعة الاجتماع الفسيحة والردهة المجاورة، على عدد من المصابين بإصابات بالغة بدرجات متفاوتة، وبينهم جثة واحدة، لخبيرة أجنبية زائرة.
أحمد عبد السلام
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق