د. أمل نصر
محمود سعيد (1897ـ 1964) رائد التصوير المصرى الحديث، الأرستقراطى سليل العائلات العريقة الذى كان يتم إعداده ليسير على خطى والده الباشا رئيس النظار (رئيس الوزراء)، يُوجه لدراسة القانون الطريق المعتمد لتولي المناصب الوزارية في المملكة المصرية حينئذ، فإذا به يهوى الفن ويتحول لمهنة غير ذات اعتبار بمفهوم عصره وطبقته، يمضى ضد كل الترتيبات التي رسمت مسبقاً لحياته، مما جعله يعيش دائماً على حافة التوتر
بين متناقضين، عالم ذو قواعد يُفرض عليه وعالم أثيرى يهفو إليه وقد توهجت تجربته في ظل هذه الحالة من التوتر: مهنة القضاء وما تتطلبه من قواعد رسمية ولوائح ومستندات، ومهنة الفن وما تستدعيه من حرية وتحليق وتجاوز، الحياة الأرستقراطية الرسمية الجامدة المحسوبة وحياة الطبقة الشعبية ببساطتها الخشنة وقربها من الفطرة الأولى ونقائها الغرائزي الذي لم يفسده تعقُّد الحياة. طبيعته الخجولة وخلقه الدمث ورسومه الحسية بالغة الجرأة.
كان عليه أن يحيا حياة ذات وجهين: حياة رجل القضاء الملتزم، وحياة الفنان الحر، فعاش بعبء من يحتفظ بمظهره وسلوكه الهادىء المتحفظ، بينما هو يعيش داخلياً في منطقة مخالفة مليئة بالصراع والانفعال والولع، حتى قرر أن يفض ذلك الصراع بهجره للقضاء، والتفرغ التام للفن عام 1947 وهو في الخمسين من عمره بعد أن وصل إلى منصب مستشار مخلفاً وراءه تاريخ طبقي عريق لا يعبء بالفن إلا على سبيل التفاخر الاجتماعي، ليتخلى بذلك ابن رئيس النظار ونسيب العائلة المالكة عن هالة إجتماعية براقة ليستبدلها عن قناعة بالوقوع فى غواية الفن.
وقد كانت فكرة الازدواج والصراع والجمع بين متناقضين شديدة الحضور في تجربة محمود سعيد الفنية والحياتية على أوجه عدة، ونستشف ذلك من قوله ذلك في مقولته "إن روحى تشتعل بالصراع الداخلي الذي كان وقوداً لإبداعي."
وقد ذكر محمود سعيد أن أهم الشخصيات الأدبية التي أثرت فيه كانت شخصيتا دستويفسكي وبودلير، وهو يقول "إن غرامى بديستوفسكي يتركز أساساً في شخصياته المزدوجة، الشخصية شيطان وقديس في نفس الوقت." (1), تماماً كما وصُفت شخصيات محمود سعيد خاصة "ذات الجدائل الذهبية"، ويذكر الفنان أن شخصيات ديستوفسكي المزدوجة كان لها تأثير كبير على تكوين فكرته عن المرأة وخاصة بنت البلد (بنت بحري)، فيها تكمن قمة الصراع الدرامي الشهير، حيث صورها مجسداً فيها زخم الصراع النفسي بين الاحتشام والسفور، بين الظاهر والباطن. فنموذج الأنثى في الأحياء الشعبية ظاهرها الحشمة وباطنها الرغبة، وما هذه الصراعات إلا صورة من الصراع النفسي لدى محمود سعيد بين النظام والصرامة المقننة وبين الحرية والانطلاق، بين المظهر والجوهر، لذلك تمثل بنت البلد التجسيد المادي للشخصية والخصوصية في فن محمود سعيد (2) *.
أما بودلير (1821-1867) فبالرجوع إلى سيرته الذاتية، وجدت أنه يستدعى وقفة خاصة لعقد مقارنة فرضت حضورها بين المصور محمود سعيد والشاعر الفرنسي شارل بودلير لما في حياتهما من نقاط تلاق عدة، وما في فنهما أيضاً من تفرد في تصوير المرأة يصل إلى حد الجنوح، وكذلك في مسار حياتهما وطبيعتهما ذات الملمح الإزدواجى الواضح، وكذلك ما آلت إليه التجربتان في مرحلة النضج.
وإن كانت السيرة الذاتية المكتوبة لبودلير ـ كشأن التقاليد الغربية ـ اتسمت بذلك الوضوح والشجاعة بل والجرأة في الكشف عن أدق الخصوصيات، وكذلك نوع الوسيط الفني، فنصوص بودلير المكتوبة ودواوينه الشعرية وما اتسمت به من مباشرة تكشف عن أدق المواقف والشخصيات التي كانت مثيرات له في تجربته الفنية، تنير الطريق كثيراً لفهم تجربته والاقتراب من نوازعها الحقيقية. أما محمود سعيد فلم يترك لنا أي مذكرات أو خواطر مكتوبة عن نفسه أو عن تجربته بالإضافة إلى طبيعته المتحفظة واحترامه لتقاليد الطبقة التي ينتمى إليها، بدليل أنه كان يرسم العاريات في مراسم أصدقائه من الفنانين الأجانب (بابا جورج وأنجلو بولو) بعيداً عن منزله نظراً لحساسية وضعه الاجتماعي وعمله بالقضاء، ومع ذلك فقد ترك محمود سعيد مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية تفضي لنا بكل شيئ بل وتولد قراءات عدة وتظل تطلق نوعاً من الحيرة التي لا تغلق بابها حول تجربة هذا الفنان مما خلف لنا العديد من الكتابات النقدية والتفسيرية لأعماله تُعاون في قبول شرعية تلك المقارنة بينه وبين بودلير.
ولنتوقف عند بعض نقاط التلاقي عند الفنانين الكبيرين:
"كان فرانسوا والد الشاعر بودلير من بيئة مترفة أورثته حب الفنون. كان يجيد الرسم، ويُعِد التصوير عمله الذي خلق له، وكانت موضوعاته المحببة هي الوجوه البشرية والأجسام العارية. ومهما يكن من نسبة هذه الأشكال إلى ربات الحسن وبنات الخيال، فإن الإقبال منه ـ حتى في كبره ـ على تشكيل العطاف اللدان والقسمات الحسان شاهد على نزعة حسية ومزاج شهوي، يكسوهما الخلق المهذب والروح الفنية." (3)*
كان الفارق في السن بين أبيه الكهل وأمه الصبية خمسة وثلاثين عاماً، وامتلك الأب شمائل أهل البلاط فقد كان مربياً لنجلي الدوق "شوازيل براسلين" في عهد الملكية الفرنسية، وكانت الأم رقيقة المزاج مشبوبة العاطفة مولعة بزينتها، وكانت طباعهما على اختلاف حتمي، فبينما كانت مقتنيات أبيه صور متجردة (عارية) بين الزهرة ربة الجمال، وأبولو رب الفنون وراقصات باخوس، كانت مقتنيات أمه هي صور دينية مسيحية تعلقها لتستنزل بركتها وتأنس بها من وحشتها وربما كانت هذه بذرة الإزدواجية الأولى في حياة بودلير، فقد ورث الطبعين معاً كما سأشير لاحقاً.
وعلى الرغم من ذلك الاختلاف بين أبويه فقد كانت علاقتهما هادئة نعم خلالها بودلير بطفولة هانئة. إلا أنه بوفاة الأب وزواج الأم من الكولونيل أوبيك فقد الشاب جنته الناعمة وشعر أن المرأة التي أحبها قد خانته، وتألم بهذ الزواج ألماً شديداً ولم يعرف بعدها طعم الهناء، وتحول من شاب حساس مشبوب العاطفة إلى صبي نفور مستريب قليل الكلام، وانطوت نفسه الصغيرة الغريرة على ما يشبه خيبة الرجاء في النساء، واعتقد أنه فقد مكانته الأثيرة لدى أمه. وقد أضاف له هذا الوضع تركيباً جديداً في شخصيته.
كذلك كان محمود سعيد شديد الحب لأمه، شديد التعلق بها وعاش معها حتى وفاتها، وكان يحلو له أن يقضي إلى جانبها الأمسيات، ومهما كانت ارتباطات المساء فإنه لا يغادرها قبل أن تتناول عشاءها وتأوي إلى النوم. (4)
وقد رسمها في عدة صور جميلة بهية، لكن يشوب وجهها مسحة حزن لا نعرف أسبابها، بينما لم يرسم لأبيه سوى صورة واحدة بدأها عام 1924 وأنهاها عام 1949 وربما مضطراً لكى يعرضها فى معرضه الشامل عام 1951، والصورة تحمل قدرا كبيراً من الاصطناع والتكلف، ويقال إن علاقته بأبيه لم تكن حميمة بالقدر الكافى، فقد أرغمه على دراسة القانون ولم يكن يهوى سوى الفن وقرر له الزواج مبكراً بعد عودته مباشرة من باريس عام 1922 وكان يرغب فى التفرغ للفن.
وفي المقابل بالعودة لحياة بودلير نجد تدخلاً واضحاً لزوج الأم في حياته، فقد بدأ يرشح له مستقبلاً لا يرغبه، فقد أراد أن يدخله السلك السياسي لكي يراه يوماً من رجالاته، ولكن الفتى بودلير كان مصمماً على خلافه، فقد أجمع العزم على ألا يطاوع وحياً غير وحي شيطانه. فأعلن أنه اختار لنفسه ـ دون سائر المهن القويمة المكينة ـ مهنة الأدب وإن تكن غير مضمونة ولا مأمونة وأعلن رغبته وخيب آمال أمه وزوجها. تماماً مثلما أشرت لتدخل والد محمود سعيد لتشكيل حياته وإعداده للإلتحاق بسلك القضاء وعدم الاعتداد بالفن كمهنة في طبقته الاجتماعية.
وإن كانت سطوة الأب ـ المغلفة بلا شك بالحب والرعاية ـ قد غلبت سطوة زوج الأم، فقد ترك الشاب بودلير أمه وزوجها متمرداً على قراره راحلاً إلى باريس ليصبح من رواد الحي اللاتيني، يعترك الحياة فيه بكل آلامها. ثم يقوم بعدها برحلته إلى الشرق بين أفريقيا والهند وجزر المحيط الهندي النائية. تلك الرحلة حملته بوهج جديد وحنين للآفاق البعيدة المجهولة والجمال النادر مما ورث شعره بعد هذه المرحلة نزعة حسية صوفية تعد من أخص خصائصه، كما شحذته بعشق ذلك النموذج الغرائبي لجمال المرأة الشرقية التي اتفقت في كثير من سماتها وأسرارها مع امرأة محمود سعيد.
يقول فيها بودلير:
في البلاد المتضوعة بالعطر التي تداعبها الشمس الساطعة
وتحت ظلة ظليلة من شجر وارس أرجواني
ومن نخيل تفيض على الأجفان فتوراً
عرفت غانية مستوطنة ذات فتنة لا عهد بها
لونها شاحب حار. وهذه الفاتنة السمراء
ذات جيد مشرف السمت، نبيل الالتفات
مديدة القامة هيفاء, كأنها طاردة قانصة
لها ابتسامة هادئة، وفي عينيها ثقة
لو جئت يا غانية – إلى بلاد المجد الأثيل
على ضفاف السين أو وادي اللوار النضير
أيتها الحسناء الرائعة الطلعة التي تليق زينة لقصور الأمراء
إذاً لحيتك في كنف خمائلها الوارفة
ألف مقطوعة أنت أطلعت طلعها في أفئدة الشعراء
وقد سبتهم عيناك النجلاوان فباتوا أطوع لك من عبيدك السود. (5)
ومن رحلة الشرق عاد بودلير إلى باريس واستقل بحياته نهائياً عن أمه وزوجها ليواصل مسيرته البوهيمية ويبدع أروع أشعاره في تلك الفئة من النساء التي أغرم بها.
بينمـا جاور محمود سعيد بين الفن والقـانون ودرسهما معاً، وتحمل وطأة هذا الصراع، لكنه ارتحل ارتحالاً آخر، فالشاب الذي قرر له والده أن يتزوج مبكراً من إحدى فتيات العائلات الكبيرة، والمحاط بسيدات الطبقة الراقية رحل يبحث في حواري الإسكندرية عن هاجر وحميدة ونبوية وداجية ونعيمة وبدرية وغيرهن، سيدات لوحاته الأثيرات، فهن قادرات على حمل المعاني العميقة فمشاعرهن حادة لم تغلفها هالة التحفظ ولم يحطن بسياج من التكلف ولم تفقد إحساساتهن الفطرية ألقها وحضورها، هن موصلات جيدات لشغفه وجنونه. بينما يصور نساء طبقته متحفظات محايدات الملامح لا تستطيع أن تنفذ عبر قشرة وجوههن الخارجية ولا أن تصل أبعد من سطحها الظاهر، معظمهن متزينات زائفات أسوة بنساء جويا، فنجد أسلوبه يتجلى ويأخذ أقصى أبعاد تحرره وهو يصور نساء الإسكندرية الشعبيات بداية من لوحات العري التى كان أول من عرضها في القاعات الرسمية ووصولاً إلى التصوير الرمزي المحمل بالأسطورة والتاريخ لبنت بحري.
إن محمود سعيد يختار "موديلاته" وفق نموذج للجمال مستقر فى وعيه، يبحث عن أقربهن إلى هذا النموذج فبينهن جميعاً شيئ مشترك متشابه حتى في مقاييسهم الجسدية، إنه ليس نموذجاً للجمال الإغريقي أو الأوروبي، بل ينتمي لمقاييس أفريقية الملامح، ونسب أجسادهن تقترب من نسب المرأة في منحوتات تل العمارنة, وتذكرنا بفتيات كهوف أجانتا الهندية، وهي تذكرنا أيضاً بتماثيل الحوريات في النحت الهندي، تلك التماثيل التي وصفتها الكتابات النقدية الغربية على إنها إباحية لحد بعيد ـ كما وصفت عاريات محمود سعيد ـ في حين أن مفهومها في المعتقد الهندي القديم كان أكثر سمواً وروحانية، فالأديان القديمة عرفت عبادة الخصوبة، وكانت تعنى بقضية الخلق والولادة والتناسل، وربط الإنسان البدائي الجنس بقوى سحرية تحميه من الشر والموت والفشل وتجلب له السعادة والرخاء (6).
إن القوى السحرية للجنس في المعتقدات القديمة كانت تظهر بطقوس وشعائر مختلفة منها تماثيل الحوريات الجميلات وتقتنص هذه التماثيل لحظات البهجة في العلاقات الإنسانية، الناتجة عن اتحاد الرجل والمرأة اللذين يمثلان الوحدة الأساسية في الوجود. وهن كعاريات محمود سعيد يفضن حيوية وسحرا، ويتخذن أشكالاً مثيرة، يعرضن أجسادهن ويكشفن عن فتنة ومزاج حسي جارف. فقد كان للمرأة دور هام في عملية السحر الجنسي ومازالت الطقوس السحرية تمارس اعتماداً على المرأة لزيادة خصوبة الأرض ووفرة المحاصيل وجلب المطر، وفي الهند حتى اليوم شعيرة خاصة بالاستسقاء تقوم بها النساء بالرقص عاريات في الحقل في حفل للآلهة كي يهطل المطر.
وهناك رأي يذهب إلى أن تماثيل الحب ومنها تماثيل الحوريات الهنديات تُذكر بوجوب كبح الرغبة الحسية إذا ما أراد أحد ما الخلاص في الحياة، وهذه التماثيل في المعبد وسيلة للامتحان ولاختيار الإنسان المتطوع للعبادة، فالذي يشاهد هذه المنحوتات والمشاهد ويستطيع السيطرة على عواطفه يجتاز الامتحان ويستطيع الوصول إلى الحقيقة النهائية، ويسمو إلى الحقيقة الخالدة.
فهل استطاع محمود سعيد اجتياز هذا الامتحان؟
لا أحد يعلم الإجابة. لكن بودلير لم يستطع اجتياز ذلك الامتحان، ووقع في هذا الدرك إلى أسافله، إلا أنه كان محتفظاً طوال العمر وفي جميع الأحوال التي عركته بقوة يرتفع بها على تلك الغمرات المهلكات، فهو يخوضها ويوغل فيها مرتطماً مشرفاً على العطب، ولكن لا يدعها تبلعه.
هذه المرأة الساحرة القادمة من أرض الأساطير ومن قلب الخيال الإنسانى القديم والصورة الثابتة للغريزة، شغلت محمود سعيد كما شغلت بودلير، ومثلت أيقونة عشقهما الأولى التي أبدعا متطلعان إليها أجمل الأعمال.
إن بنات محمود سعيد لسن رقيقات كبنات "بوتشيللي" ولا مسترخيات كبنات "أنجر" ولا حالمات كبنات "رافاييل"، لكنهن قويات ذوات إرادة، متحديات وجريئات أجسادهن يشدها عصب الحياة. إن فتاته ليست مذنبة كحواء "مازاتشيو"، بل هي مزهوة بطبيعتها البشرية الأرضية. ولا هي متزينة تستعرض جمالها للإستحسان كحواء "تيتسيانو" ولا سطحية باردة كفتيات "تينتوريتو" ولا هي من سبايا "روبنز".
إن إمرأته لها قوة كقوة الطبيعة وضراوة كضراوتها، فهي ليست دمية جميلة ساذجة كبنات "بوشيه"، ولا لاهية بمتع الحياة وزخارفها كبنات "فراجونار" و"رنوار". إن نساءه لسن بائسات هزيلات كزرقاوات "بيكاسو" بل هن نحاسيات لفحتهن شمس جنوبية، أجسادهن كقوالب قدت من طين جنوبي محروق. لكنهن ماكرات كبنات "جويا"، قويات البنية كبنات "ميكلانجلو"، ناضحات بالخصب كبنات كهوف "أجانتا" الهندية، متوحشات بدائيات كبنات "جوجان" التاهيتيات، مأسويات حزينات النظرة كبنات "موديلياني".
هؤلاء هن "ربات حسن" محمود سعيد، وأجد لهن شقيقات مرادفات تماماً في نساء بودلير اللاتي قدمهن في أشعاره، وتعد "جان ديفال" المعشوقة الأكثر تأثيراً في حياته وفنه أقرب هؤلاء في الشبه النفسي والحسي لنساء محمود سعيد، ويقال إنها قدمت من جزيرة هايتي إحدى جزر المحيط الأطلسي وكانت تعمل كومبارس في إحدى الفرق المسرحية المتواضعة.
كان يرى فيها الصورة العالقة في ذهنه لنساء جزر المحيط الهندي. لقد وصفت بأنها "جارية مولدة، غريرة رائعة، تعلوها جمة شعر مجعد، وهي تختال كالملكة، بل أن مشيتها تجمع بحسنها النافر شيماء الألوهية والحيوانية معاً ويمكننا مشاهدتها مجاورة للعديد من تصاوير محمود سعيد لنساء يحملن صفات مشابهة. (7)
وقد أشار محمود سعيد عام 1960 إلى ذات الجمع المتنافر في شخصية بنت البلد المصرية بقوله "في رأيي أن بنت البلد المصرية تجمع بين الإنسانية والحيوانية، بين الصفاء الروحي والاشتعال الجنسي، بين المرح الباسم والحزن القاتم، إنها وعاء كبير تغلي فيه المتناقضات وتتصارع فيه الأضداد."
وهناك نص ايميه آزار النقدي حول محمود سعيد فهو يتوازى تماما مع تلك الروح ويؤكدها فيقول:
"غنائية مثيرة للحواس، شبق متأصل للخضرة والأجساد، توق إلى رغبة لا شبع لها، شيئ من الحزن تحت هذا الأرغن الفولاذي، شيئ من أعمق أعماق الإنسان مثل صرخة كبت داخلى صماء شرسة. إن المادة لا تلبث أن تتحول إلى عنصر روحاني. ومحمود سعيد يتوصل لذلك بلا أدنى لف أو دوران محتفظاً من المادة بالطابع الأكثر مادية فيها، سواءً بتفخيم البروزات أو بتحلية استدارات الجسد ... وأمام هذه الأجساد المذهبة الفخيمة، هذه الأبدان الشهوانية ذات العطور المدوخة، هذه النظرات التي تتغشاها الرغبة التي تصل إلينا أنفاسها المحتبسة، تستحوذ علينا سيمفونيته تحمل إلينا الصوت المحتدم بالغناء الذي تؤدى به بحري وجميلاتها حديث الروح." (8) *
وقد أسمى بودلير إمراته "زهرة الشر" ورسمها بريشته تبدو في الصورة ذات عينين سوداوين نجلاوين، وشعر حالك، وشفتين غليظتين، وثديين ناهدين متباعدين بارزين، تمتلك جسماً عرف كل شيئ واستباح كل شيئ تعلوه طلعة بليدة ماكرة، وهذه هي المعشوقة التي افتتن بها الشاعر." (9)
أما امرأة محمود سعيد فيصفها رمسيس يونان بأنها " تصور لنا الجوهر الأنثوي أو ربة الأنوثة إن لم نقل شيطانها .... إنها ماكرة داهية ... تبدي زهواً وتحد ياً وخيلاءً .. إنها أقرب ما تكون إلى صورة الأنثى التي تبلورت في بعض قصصنا الشعبي، فهي تارة ست الحسن والجمال، وتارة أخرى تلك الغولة التي تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم." (10)، وقد سمى رمسيس يونان المرحلة التي قدم فيها محمود سعيد نماذج هؤلاء النسوة بأنها "مرحلة (طغيان الأنثى)" وقد بدأها في أواخر الثلاثينيات وأهم نماذجها ذات الجدائل الذهبية.
وفي نص مواز لبودلير نجده يقول:
أيتها الداخلة في قلبي الشاكي كطعنة سكين
المقبلة في قوة كعصبة من الشياطين
المفتونة المتبرجة
اتخذت سريرها ومُلكها في عقلي الراغم المسكين
ناشدت الخنجر القاطع أن يمكنني من حريتي
وهتفت بالسم الزعاف أن يغيث نذالتي
فأزرى بي السم والخنجر وناجياني
لست أهلاً لإعتاقك من أسرك المنكر
ونلاحظ أن هناك الكثير من المتشابهات بين نص رمسيس يونان حول امرأة محمود سعيد وقصيدة بودلير حول امرأته. فالكثير من قصائد بودلير تبدو وكأنها تصف بنات محمود سعيد.
وكإطار عام لتجربة الفنانين نجد أن تصوير المرأة لدى كل من محمود سعيد وبودلير يكشف عن جموح حسي بالغ ، "فبارتحال بودلير إلى باريس سرعان ما اتجه إلى النساء لكنه اختار شر النساء، يتطعم شر مذاق للإثم مع الوضاعة والفقر والقبح والمرض." (11), وبدأ ينظم حول تجاربه معهن مقطوعات قوية مدهشة في أصالتها تنم عما عاناه من تناقضات داخلية دفينة. كما يتضح فيها اتجاهه كشاعر رومانسي، فقد كان من أدوات الرومانسية استخدام المؤثرات التي تميل للجنوح والمواقف الدرامية الحادة.
من هنا فقد انضم بودلير لمجموعة من الشعراء عرفت في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين بشعراء الرذيلة، وتمت محاكمته عام 1857 بتهمة الخروج عن القيم الأخلاقية للمجتمع الفكتوري والتي علق عليها بودلير بقوله "لم يكن بوسعي أن أكتب بطريقة غير تلك التي كتبت بها، إذ أن ما كتبته كان انعكاساً صادقاً لنفس مضطربة غائصة لقيعان الرذيلة." (12)
وقد أراد بودلير أن يحرر الإنسان بجعل الفنان المثال المحتذى لذلك. ولتحقيق هذا الهدف فإن على الإنسان حسب مذهبه أن يبحث عن المتعة الحسية والجمال فى جميع أشكاله كان ذلك خيراً أم شراً. وإن كانت المرأة هي المعادل الحسي الأول عند الشاعر، حيث رفدها بجميع نوازع نفسه المضطربة، وهو واقع في أسرها، مترام عند قدميها غارق في ملاحقة دقائقها وتفاصيلها.
أما محمود سعيد فيعكس تصويره للمرأة حضوراً حسياً حاد لاتخطئه العين، وإذا كان تصوير "الموديل" العاري موضوعاً أكاديمياً لازماً في دراسة الفنون فى العالم وفي مصر حتى السبعينيات، إلا أن تصوير محمود سعيد للموديل العاري لم يكن انطلاقاً من منهج أكاديمـي واقعـي، بل هو انعكاس لشغفه الشخصي بالجسـد الأنثوي خاصة لتلك الفئة من النسـاء (موديلات يعملن بالأجر "حميدة وغيرها"، خادمات "هاجر"، بنات ليل "حياة")، وبتلك المقاييس التى سبق الإشارة إليها، ويتضح هذا في زوايا تصوير العاريات واختياره لأوضاعهن، التي لم تكن أوضاعاً أكاديمية تقليدية لإستظهار القيم التشكيلية للجسد الإنساني؛ بل كانت تحمل تداعيات حسية واضحة نستطيع أن نلمحها في العديد من أعماله مثل: نائمة، على الأريكة الزرقاء، على الوسادة الزرقاء، عارية، جارية على أرضية حمراء، ذات الهفهاف الأسود، ذات الأساور الذهبية، عروس الإسكندرية, على الوسادة الصفراء، وغيرها.
بينما نزع محمود سعيد أى ملمح حسي عند تصويره لسيدات طبقته، ربما لأنهن لم يستدعين عنده تلك الأحاسيس التي استحضرها فقط مع النساء الشعبيات. وربما لتحفظه في تصوير هذه الطبقة التى ينتمي إليها ورغبته فى إضفاء النبل عليها وتنزيهها عن تلك الأحاسيس الأرضية. وربما أيضاً كن شخصيات معروفة في المجتمع الراقي، وقد كان يهرب من تلك التكليفات بالرسم لمثل هذه النماذج. مع ملاحظة أنه كما أشرت مسبقاً قد وصل بأسلوبه الفني لأقصى حدود تحرره واكتماله عند تصويره لتلك النماذج العارية، حتى أستطيع القول بأن هناك علاقة طردية بين تحرره الشخصي واجترائه على الأعراف والتقاليد وبين تحرره الفني. في حين كان أداؤه واقعياً أكاديمياً أو تأثيرياً على أقصى تقدير عندما صور نساء طبقته.
ولم يكن محمود سعيد يظهر لوحات العاريات في المعارض العامة إلا بقدر يسير. وكانت معظم اللوحات يتم اقتناؤها وتناولها بين محبى فنه. ولم تظهر لوحاته العارية كمجموعة قوية مستقلة إلا في أول المعارض التي نظمت بعد وفاته (13). و"تفجر اللوحات العارية بما تحمله من نبرة حسية عالية نداء سبق عصره، فالجسد الإنساني، وبالذات جسد المرأة هو عورة والكشف عن المستور فيه جريمة لذلك كان تناول محمود سعيد لهذ الموضوع وقع القنابل وسط السكون وقد عالجها محمود سعيد بكل الجسارة والجرأة ولذلك كان وقعها مدوياً على المجتمع المصري المحافظ وقتئذ." (14).
وقد كانت رسومه توصف حتى من بعض الفنانين بالإباحية، فى حين أجمع معظم النقاد على طابعها الحسي الواضح وحاولوا تفسيره في عدة مواضع أعرض هنا لبعضها:
وأبدأها بما كتبه عبدالرحمن صدقي، وهو نفس المؤلف الذي قدم كتابه "الشاعر الرجيم بودلير" عن سيرة حياة الشاعر، وذلك مقتطف من مقاله "الفن المصري المعاصر" الذي نشره في الهلال يناير/كانون الثاني عام 1953:
"سمراء مشبوبة اللون متوقدة، فالمرأة ذات الجدائل الذهبية مثال للمرأة وقادة الذهن، مشبوبة الحس، متفتحة العينين لما حولها، نهمة وعميقة الحب للحياة، لا يخطىء الناظر إليها تلك السخرية من التقاليد التي ترف على شفتيها، وتلك النار التي يضطرم بها جسدها .... إنها قمينة بأن تسفك الدم وتضرم الحريق وتجر إلى الدمار فى سبيل المتعة العاجلة بالحياة غير نادمة ولامتحرجة....
النفوس كلها عنده مصبوبة على السواء في أجساد طبيعية تعمرها طبائع بشرية، وهي في الغالب الأعم تتنفس عن عبير غريب المزج من الرغبة المكبوتة ..
وجملة القول في مجموعة النساء في تصاوير محمود سعيد إنها غنية بذلك المعنى الذي يبلبل النفس ويضطرب له الحس فهو ـ غير منازع ـ أقدر الفنانين عندنا وأعمقهم في تصوير الغرائز الأولى."
أما أحمد راسم فيقول في كتابه "ظلال" 1936:
"نحب فن محمود سعيد لاشتماله على روح شهواني خفي فترى في معظم لوحاته ذلك الشىء الذي لا يمكن وصفه والذي يضغط على القلب فيجعلنا نذكر لذائذ الحياة"، "أذكر صورة تلك الزنجية وما يحوطها من شهوة وإغراء، أذكرها وهى تنظر إلينا وسآمتها تئن كأريج زهرة ذابلة في هواء حجرة يسبح فيها صمت الوحشة." (15)
وقد ألمح لتلك المعاني نقاد عديدون في كتابات أخرى مثل آيميه آزار وعزالدين نجيب وصبحي الشاروني وغيرهم.
إلا أن تـصوير كل من محمود سعيد وبودلير للمرأة لم يتوقف عند حدود التصوير الحسي والولع الغريزي ولا شيئ آخر، لكنهما انطلقا من تلك الأرض ثم حلقا بها لمجالات أرحب زادها سعة تلك الثقافة الرفيعة التي امتاز بها الفنـانان والتي رافقها حسهما المرهف وعمق تواصلهما مع الحياة والطبيعة, مما جعلهما قادران على رفـد تجربتهما بأطياف عدة: من طلاقة الغريزة إلى خصب الطبيعة، ومن الأساطير الأولى وتمائم الديانات القديمة إلى حيرة الروح وتطلعها للمطلق. وفي منطقة برزخية حاول كل من الفنانين العبور إلى الروح عبر مدارج الجسد.
لقد دار الشاعر حول القارة الأفريقية وجاب بحر الهند ومر بمدغشقر وجزيرتي موريس وبوربون، ومن هذا السفر الطويل احتقب الشاعر كما قدمنا وهجاً حارا بقي زاده طوال حياته. فما أن وقعت عيناه على جان ديفال، تحرك حنينه إلى مجالي الطبيعة في تلك الآفاق، فهيامه بها ليس هياماً بها وحدها، بل بكل تلك الآفاق من طلاقة غريزة وفتنة طبيعة. ولنتابع كيف وصفها بودلير فى إحدى قصائده:
في عينيها البراقتين جاذبية كأنهما من معادن سحرية
وفي ذاتها يأتلف الملاك الطاهر الكريم
وأبو الهول، الحيوان الطائر، ذو اللغز القديم
وكل شيئ فيها ذهب وفولاذ وبريق وجوهر (16)
ألا تنطق بهذه الصفات: ذات الجدائل الذهبية وذات الرداء الأزرق والنائمة وذات القميص الوردي وعروس الإسكندرية وذات العيون العسلية والفلاحة المصرية وبنات بحري، تلك الأعمال التي أبدعها محمود سعيد وحملت سمات التفرد الحقيقي في تجربته كمصور؟
ألا نستقرىء تلك المعاني في كتابات فؤاد كامل حول محمود سعيد التي يقول في مقطع منها "تتجسم عوالم محمود سعيد بل أصنامه الفسفورية ـ ملء العين ـ .... تضطرم بذكرى شهوات تظل تحدق فينا حتى يستخلص لنا سعيد من غضونها الحريرية وشقوقها الحيوانية مناطق الصمت الأبدي التي قد تمتد جذورها إلى عصور ما قبل الديانات القديمة ... إن وراء هذه النظرة نفساً آسية تحكي لنا ـ في يقين ـ لواعج العشق بذلك الجسد المجهول يتوقد كسرج الياقوت أو كوميض الزمرد أو كشهاب الذهب. (17)
هذا من ناحية الأوصاف الحسية أما من ناحية الأوصاف المعنوية فقد ألتقى أيضاً بودلير وسعيد فقد ردد الأول معنيين يستهويانه في هذا النوع من النساء، هذا الكسل الذي يتعارض مع نشاط الغرب المحموم، ثم سيماء الحزن وهوعنده نظير الحسن وهذا بلاشك ما تنطق به نساء محمود سعيد الذي يؤكد هذا المعنى حتى في اختياره لأوضاعهن في الرسم التي يغلب عيها الاسترخاء الكسول وعدم الاكتراث.
التقى الفنانان أيضاً في نزوعهما التعبيري وتمثلهما للرؤية الشخصية التي تبنياها للعالم، فعلى الرغم من ذلك الرسوخ المتين ذي النزوع العقلي في تكوينات محمود سعيد، فقد انبعثت من خلالها قيم تعبيرية وافرة. وتعبيرية محمود سعيد لا تغيب في فوضى الأشكال، أو في تفجرات اللون وغياب الحدود أو المبالغة في تحريف وتشويه العناصر المصورة، بل هي تعبيرية لها من قوة الحضور بل وتسلطه ما يجعلها شديدة النفاذ إلى وجدان المشاهد، بل أن من يراها يقع تحت سطوتها وسحرها منجذباً بوشائج لا يدري مصدرها إلى ذلك العالم السحري العجيب.
إن تعبيرية محمود سعيد تتأتى من وضوح في الرؤية أكسب شخصياته ذلك التحقق القوي، فالمبالغات التي يجريها على شخوصه يؤكدها بحذق حتى يصنع لها وجوداً مقبولاً مقنعاً، فلا نشعر أننا أمام شخصيات غير حقيقية بل نقبلها على هذه السحنة الخاصة. فنحن نصدق أن نساءه نحاسيات البشرة لهن بريق معدني وأن عيونهن تحمل ذلك الاتساع وتلك النظرة النافذة المحدقة التي تخترق من يشاهدها، وأنهن يقفن عاريات في أجواء الطبيعة بلا حرج كأنهن خلقن اليوم.
إن عناصر لوحاته تنعم بوفرة بالغة، فالمرأة موفورة الخصب كأنها تجسد وحدها كل الأرض، والرجال موفورون الصحة، والسحب متخمة بالأمطار, وطيوره تقف ممتلئة فنكاد لا نصدق أنها تستطيع الطيران، والنخيل ينوء بحمل ثماره، حتى حماره أبيض نظيف مرفه ممتليء بعيد عن معاناة الحمار المصري، لقد أضفى رؤيته الذاتية على العالم المحيط به بكل تفاصيله التي استهوته وصاغ منها عالمه التصويري.
أمـا تعبيرية بودلير فقد اتضحت في عباراته القصيرة الصادمة شديد الضراوة التي يكثف فيها الإحساس، ويكثر فيهـا من تجاور العديد من المعانى المتناقضة الحادة بل فيها كثير من القسوة على النفس وعلى الآخرين، فتتوالى الانفعالات فيها كوميض البرق الخاطف مما يجعل لها بالغ الأثر على مـتلقيها، وهو يؤمن شأنه شأن كافة الشعراء الرومانتيكيين في ذلك العصر "بأن المرارة والقتامة ومذاق التراب كلها من التجارب الأساسية في الحياة والفن معاً." (18)
وملمح التناقض الأخير في تجربة الفنانين نجده في وجود خط روحي مواز لذلك الخط الحسي الواضح، فبودلير كان في الوقت ذاته شاعراً ميتافيزيقياً وعميق التدين رغم عدم احترامه الظاهرى للمقدسات، كانت معرفته للأشياء تنطلق من رؤية صوفية عميقة استطاع عبرها صنع عالم خاص به شاسع كالروح وزاهى كالأحلام.
فالعطور والألوان والصور يحس بها بودلير كأشكال متعددة للروح. ولهذا فالوصول بالنسبة له يتم عبر الأحاسيس كما يتم من خلال الرغبات الجسدية والأفعال الشريرة. وعلى الرغم من أن هذا الطريق مدان كما تواطأ عليه البشر، إلا أنه بالنسبة لشاعرنا يفضي إلى النهاية، إلى عالم الروح إذ أن الوصول إلى عالم الأضواء يتم عبر عالم الغيهب والدياجير والأفكار المظلمة. وهذا ضرب من ضروب الاشتغال بعلم الباطن. والرغبة في بلوغ المطلق تجد ما يرويها أيضاً في الغابات والعطور والنساء، فعبر الأحاسيس المرهفة يمكن الوصول إلى اللذة شبه المقدسة ومن المادة تنبعث الروح بيضاء صاعدة للسماء.
ونلمح ذلك من خلال أشعاره، يقول في إحدى قصائده:
إن عينيك وابتسامتك وقدميك ...
قد أشرعت لي أبواب العالم اللانهائي الذي أعشقه
وفي قصيدة أخرى:
يا لشعرها، يا للعطر المشبع بالفتور
لئن هفت النفوس مع حلو النغمات
فإن روحي ـ يا حبيبتي ـ تسبح من عطرك في غمرات
من هذا المنطلق يحاول بودلير دائماً الصعود إلى الخالق، والتمرد على شراك المادة فيوجه الرمزي نحو السماء. ولهذا اتسمت بعض قصائده بالروح الدينية الإيمانية والطمع في العفو الإلهي. إن بودلير ظل يبحث عن الوحدة عبر التنوع واعتبر أن كل شيئ بالنسبة له شاهداً على وجود الله وطريقاً يقود إليه، فهو لهذا يوجه شعره للعاطفة ويشحنه بالرموز، حيث أن كل إشارة انعكاس لشيئ آخر. فالروح يمكن أن تسافر على خصلات الشعر وعلى أجنحة العطور حيث يمكن رؤية كل شيئ والإحساس بكل شيئ. (19)
ولنتأمل إحدى قصائد بودلير، يقول فيها:
تقدست يا إلهي، يا واهب الألم المقدس
ترياقاً مطهراً لخطايانا
ورحيقاً شاحذاً فينا القوة لتلقي الإمتاع المقدس
***
إن خطايانا عنيدة وتوبتنا جبانة..
وإننا ندفع ثمناُ باهظاً لقاء اعترافنا..
ثم نعود ثانية فرحين عبر نفس الطريق الموحل
ظانين أن دموعنا الصفيقة كافية لغسل أدراننا
وفي المقابل وعلى خط مواز شُغل محمود سعيد طوال رحلته الفنية بالموضوع الديني، فقد أخذته فكرة الموت والدفن والآخرة في باكورة حياته الفنية وشغلته فكرة التصوف والتعبد في مراحل النضج مثل لوحاته: الدفن 1926، الرسول 1924، قبور باكوس برمل الإسكندرية 1927، الدراويش "المولوية"، 1929، الصلاة 1934، الذكر 1936، المصلى 1941، دعاء المتعطل 1946، واختتمها بلوحة المقرىء في السرادق 1960.
و"ربما يكون مرجع ذلك لنشأته في رحاب مسجد أبي العباس بالإسكندرية، ومسجد الأباصيري وسيدي تمراز والعدوي وقبور السبع مشايخ، وفي هذه الأجواء شهد وسمع حلقات الذكر والاحتفالات الدينية والموالد، محاطا بعبق البخور المنبعث من قبور الأولياء الصالحين."
وفي النهاية طوى بودلير صفحة العشق السوداء، إلى صفحة أخرى جديدة تألقت فيها وجوه ذات طيبة ونقاء، وعليها مسحة السماء، وعرف الحب النقي وفيه نظم "أنشودة الخريف"، ونرى نموذجا آخر من شعره ومنه تلك الأبيات:
أيها الملاك السابح في السعادة والسرور والنور
في جسمك الساحر برء للدنف المسحور
ولكني يا ملاكي لا أسألك إلا الدعاء المبرور
أيها الملاك السابح في السعادة والنور
وفي قصيدة أخرى يقول بودلير:
إذا السموات العلية الروحانية
ينفتح فلكها المكور بعيد المنال
غائراً سحيقاً له ما للهاوية من جاذبية
للصريع الذي لا يزال متألماً حالماً بالكمال (20)
كما طوى محمود سعيد صفحة الصور الحسية، إلى صفحة جديدة هي صفحة المنظر الطبيعي الذي يحمل حسا كونياً شمولياً. فقد اختاره ضرب من المنظور المحلق يرى من خلاله العالم، يحقق به أسطورية خاصة للفراغ، فطبع مشاهده بطابع رحب تسكن فيه الروح. لقد آن لهذا الوجدان المتقد أن يهدأ ولتلك الروح القلقة أن تستريح، وليس هناك أرحب من ملكوت الطبيعة لتذوب فيه هذه الروح في خلاص نهائي شبيه بالنرفانا يحررها من وطأة المعاناة الأرضية، ولقد ترافق توقيت ذلك التوجه مع اعتزاله للقضاء عند بلوغه سن الخمسين عام 1947 ويعطينا ذلك مؤشراً هاماً، لقد انفض الصراع وانتفت أسباب التحدي وإلحاحات التمرد التي كان يطلقها في صوره، ملاذه الوحيد للحرية وممارسة الإرادة، لقد انكسرت الأغلال التي كان يرسف فيها، تلك التي أشار لها محمود سعيد في حديثه بالذات عن لوحته ذات الجدائل الذهبية:
"كانت تكبلني بقيود أتحرر شوقاً إلى التحرر منها ..، كانت الجزء الأسير في نفسه الذي يريد أن يحطم القيود ويخرج."
" كان عندي شعور طوال مدة اشتغالي بالمحاكم أني أرسف في أغلال .. وكنت أريد الخروج من هذه الأغلال إلى العالم الحر الطليق."
اتخذت الرحلة منحنى جديدا يواكب هدأة العمر ونضج السن، لم تعد اللوحة ساحة للتمرد والانفلات، بل أصبحت ساحة للتأمل والاستمتاع بعطايا الفن بعد أن استقرت التجربة واكتملت أركان نضجها. إنه يطرح متأنقاً كل خبراته. لاذ بالمنظر الطبيعي ليرتاح في نهايات العمر من وطأة الصراعات وعبء تصوير معاناة البشر وملاحقة المشاعر المضطرمة وإجهاد تصاعد الأنفاس المتلاحقة المبهورة. إنها استراحة المتعة الهادئة التي تحمل نضج الكهولة.
إن فكرة الصراع التي قدم من خلالها محمود سعيد أروع إبداعاته قد خفتت لتجيىء أعماله عامرة بالغنائية الكونية، وليست بالمعاناة البشرية بكل تناقضاتها وحيرتها بعد أن انطلق إلى العالم الحر الطليق الذي حلم به.
***
كانت هذه محاولة لقراءة جانب من تجربة الفنان الكبير محمود سعيد تؤكد أن العمل الفني الأصيل يظل يفيض بالدلالات ويحتفظ بقدرته الدائمة على التواصل معنا والإضافة لقيمنا الجمالية المعاصرة.
د. أمل نصر ـ الإسكندرية
* المراجع والهوامش
1- عن كتاب "محمود سعيد": كتاب تذكاري أصدرته وزارة الثقافة المصرية بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، صندوق التنمية الثقافية، من إعداد وتوثيق الفنان عصمت داوستاشي 1997, ص23.
2- مكرم حنين: رواد الفن التشكيلي في مصر، شل مصر، العدد 13يونيه 1996، عن كتاب "محمود سعيد" التذكاري السابق ذكره.
* استعار محمود سعيد عنوان لوحته "الدعوة إلى السفر" من اسم إحدى قصائد بودلير.
3- عبدالرحمن صدقي "الشاعر الرجيم بودلير"، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ.
* للمفارقة يذكرنا هذا النص ببعض ملامح تجربة محمود سعيد في تصويره للعاريات.
4- بدر الدين أبو غازي: محمود سعيد, ملامح من الإنسان والفنان، مجلة المجلة العدد 89 مايو 1964، ص 96.
5- عبدالرحمن صدقي، المرجع السابق ص67.
6- د. مؤيد عبدالستار: تماثيل الحب في خاجوراو .. العبادة والجنس والرقص في المعابد الهندوسية. جريدة الاتحاد http://www.alitthad.com/
7- عبدالرحمن صدقي، المرجع السابق ص 54.
8- ايميه آزار: التصوير المصري الحديث، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد 1000 ، 2005، ص30.
* "يستدعي دائماً بودلير عبق المراة الشرقية ويهيم بعطورها في قصائد عديدة ويقول في إحداها:
أيتها الربة العجيبة
السمراء الإهاب مثل جنح الظلام
المزوجة العطر بمثل رائحة المسك والتبغ
9- عبدالرحمن صدقي: المرجع السابق، ص 69.
10- نص لرمسيس يونان عن كتاب عز الدين نجيب: فجر التصوير المصري الحديث، دار المستقبل 1985 ص 174.
11- عبدالرحمن صدقي: نفس المرجع ص32.
12- عمر عبدالماجد، بودلير شاعر الخطيئة والتمرد دار البشير، عمان، الأردن، 1997.
* أرفق هنا جزء من قصيدة لبودلير تستدعيها في الذاكرة لوحة محمود سعيد "ذات الهفهاف الأسود":
في غلائلها الشفافة المتلالئة
تمشي مشيتها فتحسبها راقصة
كتلكم الأفاعي الطويلة المائسة
يرقصها على أطراف العصى حواة المعابد المقدسة
** أرفق هنا جزءين من قصيدتين لبودلير تستدعيان إلى الذاكرة لوحة محمود سعيد "عروس الإسكندرية":
فالبحر في حركته اللانهائية وصفحته الوضاءة المصقولة ..
مرآة تنعكس عليها روحك
التي ليست أقل عمقاً ومرارة من البحر
إننى مفتون بالغوص إلى أعماق ذاتك.
وفي قصيدة أخرى:
وتارة هي كالرمال الموحشة، وقبة السماء على الصحراء
كلاهما لا يحس ما يلقى ابن آدم من برجاء
وكغوارب الموج المتدفقة المطردة في صفحة الدأماء
تضطجع مسبكرة في غير اكتراث (ص72)
13- المقتطفات نقلاً عن الكتاب التذكاري حول الفنان من إعداد وتوثيق عصمت داوستاشي، صندوق التنمية الثقافية وزارة الثقافة المصرية بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، صندوق التنمية الثقافية، 1997.
14- مكرم حنين: رواد الفن التشكيلي في مصر، شل مصر، العدد 13يونيه 1996 ص220.
15- نقلاً عن الكتاب تذكاري حول الفنان السابق ذكره.
16 -عبدالرحمن صدقي: المرجع السابق، ص 85.
17- فؤاد كامل، المرجع السابق.
18- د. محمود نسيم: فجوة الحداثة العربية. إصدارات أكاديمية الفنون. سلسلة الرسائل 1 ، 2005 ص 114.
19- بودلير شاعر الخطيئة والتمرد، دار البشير، عمان، الأردن، 1997.
20 _ عبدالرحمن صدقي، المرجع السابق، ص 78 .
محمود سعيد (1897ـ 1964) رائد التصوير المصرى الحديث، الأرستقراطى سليل العائلات العريقة الذى كان يتم إعداده ليسير على خطى والده الباشا رئيس النظار (رئيس الوزراء)، يُوجه لدراسة القانون الطريق المعتمد لتولي المناصب الوزارية في المملكة المصرية حينئذ، فإذا به يهوى الفن ويتحول لمهنة غير ذات اعتبار بمفهوم عصره وطبقته، يمضى ضد كل الترتيبات التي رسمت مسبقاً لحياته، مما جعله يعيش دائماً على حافة التوتر
بين متناقضين، عالم ذو قواعد يُفرض عليه وعالم أثيرى يهفو إليه وقد توهجت تجربته في ظل هذه الحالة من التوتر: مهنة القضاء وما تتطلبه من قواعد رسمية ولوائح ومستندات، ومهنة الفن وما تستدعيه من حرية وتحليق وتجاوز، الحياة الأرستقراطية الرسمية الجامدة المحسوبة وحياة الطبقة الشعبية ببساطتها الخشنة وقربها من الفطرة الأولى ونقائها الغرائزي الذي لم يفسده تعقُّد الحياة. طبيعته الخجولة وخلقه الدمث ورسومه الحسية بالغة الجرأة.
كان عليه أن يحيا حياة ذات وجهين: حياة رجل القضاء الملتزم، وحياة الفنان الحر، فعاش بعبء من يحتفظ بمظهره وسلوكه الهادىء المتحفظ، بينما هو يعيش داخلياً في منطقة مخالفة مليئة بالصراع والانفعال والولع، حتى قرر أن يفض ذلك الصراع بهجره للقضاء، والتفرغ التام للفن عام 1947 وهو في الخمسين من عمره بعد أن وصل إلى منصب مستشار مخلفاً وراءه تاريخ طبقي عريق لا يعبء بالفن إلا على سبيل التفاخر الاجتماعي، ليتخلى بذلك ابن رئيس النظار ونسيب العائلة المالكة عن هالة إجتماعية براقة ليستبدلها عن قناعة بالوقوع فى غواية الفن.
وقد كانت فكرة الازدواج والصراع والجمع بين متناقضين شديدة الحضور في تجربة محمود سعيد الفنية والحياتية على أوجه عدة، ونستشف ذلك من قوله ذلك في مقولته "إن روحى تشتعل بالصراع الداخلي الذي كان وقوداً لإبداعي."
وقد ذكر محمود سعيد أن أهم الشخصيات الأدبية التي أثرت فيه كانت شخصيتا دستويفسكي وبودلير، وهو يقول "إن غرامى بديستوفسكي يتركز أساساً في شخصياته المزدوجة، الشخصية شيطان وقديس في نفس الوقت." (1), تماماً كما وصُفت شخصيات محمود سعيد خاصة "ذات الجدائل الذهبية"، ويذكر الفنان أن شخصيات ديستوفسكي المزدوجة كان لها تأثير كبير على تكوين فكرته عن المرأة وخاصة بنت البلد (بنت بحري)، فيها تكمن قمة الصراع الدرامي الشهير، حيث صورها مجسداً فيها زخم الصراع النفسي بين الاحتشام والسفور، بين الظاهر والباطن. فنموذج الأنثى في الأحياء الشعبية ظاهرها الحشمة وباطنها الرغبة، وما هذه الصراعات إلا صورة من الصراع النفسي لدى محمود سعيد بين النظام والصرامة المقننة وبين الحرية والانطلاق، بين المظهر والجوهر، لذلك تمثل بنت البلد التجسيد المادي للشخصية والخصوصية في فن محمود سعيد (2) *.
أما بودلير (1821-1867) فبالرجوع إلى سيرته الذاتية، وجدت أنه يستدعى وقفة خاصة لعقد مقارنة فرضت حضورها بين المصور محمود سعيد والشاعر الفرنسي شارل بودلير لما في حياتهما من نقاط تلاق عدة، وما في فنهما أيضاً من تفرد في تصوير المرأة يصل إلى حد الجنوح، وكذلك في مسار حياتهما وطبيعتهما ذات الملمح الإزدواجى الواضح، وكذلك ما آلت إليه التجربتان في مرحلة النضج.
وإن كانت السيرة الذاتية المكتوبة لبودلير ـ كشأن التقاليد الغربية ـ اتسمت بذلك الوضوح والشجاعة بل والجرأة في الكشف عن أدق الخصوصيات، وكذلك نوع الوسيط الفني، فنصوص بودلير المكتوبة ودواوينه الشعرية وما اتسمت به من مباشرة تكشف عن أدق المواقف والشخصيات التي كانت مثيرات له في تجربته الفنية، تنير الطريق كثيراً لفهم تجربته والاقتراب من نوازعها الحقيقية. أما محمود سعيد فلم يترك لنا أي مذكرات أو خواطر مكتوبة عن نفسه أو عن تجربته بالإضافة إلى طبيعته المتحفظة واحترامه لتقاليد الطبقة التي ينتمى إليها، بدليل أنه كان يرسم العاريات في مراسم أصدقائه من الفنانين الأجانب (بابا جورج وأنجلو بولو) بعيداً عن منزله نظراً لحساسية وضعه الاجتماعي وعمله بالقضاء، ومع ذلك فقد ترك محمود سعيد مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية تفضي لنا بكل شيئ بل وتولد قراءات عدة وتظل تطلق نوعاً من الحيرة التي لا تغلق بابها حول تجربة هذا الفنان مما خلف لنا العديد من الكتابات النقدية والتفسيرية لأعماله تُعاون في قبول شرعية تلك المقارنة بينه وبين بودلير.
ولنتوقف عند بعض نقاط التلاقي عند الفنانين الكبيرين:
"كان فرانسوا والد الشاعر بودلير من بيئة مترفة أورثته حب الفنون. كان يجيد الرسم، ويُعِد التصوير عمله الذي خلق له، وكانت موضوعاته المحببة هي الوجوه البشرية والأجسام العارية. ومهما يكن من نسبة هذه الأشكال إلى ربات الحسن وبنات الخيال، فإن الإقبال منه ـ حتى في كبره ـ على تشكيل العطاف اللدان والقسمات الحسان شاهد على نزعة حسية ومزاج شهوي، يكسوهما الخلق المهذب والروح الفنية." (3)*
كان الفارق في السن بين أبيه الكهل وأمه الصبية خمسة وثلاثين عاماً، وامتلك الأب شمائل أهل البلاط فقد كان مربياً لنجلي الدوق "شوازيل براسلين" في عهد الملكية الفرنسية، وكانت الأم رقيقة المزاج مشبوبة العاطفة مولعة بزينتها، وكانت طباعهما على اختلاف حتمي، فبينما كانت مقتنيات أبيه صور متجردة (عارية) بين الزهرة ربة الجمال، وأبولو رب الفنون وراقصات باخوس، كانت مقتنيات أمه هي صور دينية مسيحية تعلقها لتستنزل بركتها وتأنس بها من وحشتها وربما كانت هذه بذرة الإزدواجية الأولى في حياة بودلير، فقد ورث الطبعين معاً كما سأشير لاحقاً.
وعلى الرغم من ذلك الاختلاف بين أبويه فقد كانت علاقتهما هادئة نعم خلالها بودلير بطفولة هانئة. إلا أنه بوفاة الأب وزواج الأم من الكولونيل أوبيك فقد الشاب جنته الناعمة وشعر أن المرأة التي أحبها قد خانته، وتألم بهذ الزواج ألماً شديداً ولم يعرف بعدها طعم الهناء، وتحول من شاب حساس مشبوب العاطفة إلى صبي نفور مستريب قليل الكلام، وانطوت نفسه الصغيرة الغريرة على ما يشبه خيبة الرجاء في النساء، واعتقد أنه فقد مكانته الأثيرة لدى أمه. وقد أضاف له هذا الوضع تركيباً جديداً في شخصيته.
كذلك كان محمود سعيد شديد الحب لأمه، شديد التعلق بها وعاش معها حتى وفاتها، وكان يحلو له أن يقضي إلى جانبها الأمسيات، ومهما كانت ارتباطات المساء فإنه لا يغادرها قبل أن تتناول عشاءها وتأوي إلى النوم. (4)
وقد رسمها في عدة صور جميلة بهية، لكن يشوب وجهها مسحة حزن لا نعرف أسبابها، بينما لم يرسم لأبيه سوى صورة واحدة بدأها عام 1924 وأنهاها عام 1949 وربما مضطراً لكى يعرضها فى معرضه الشامل عام 1951، والصورة تحمل قدرا كبيراً من الاصطناع والتكلف، ويقال إن علاقته بأبيه لم تكن حميمة بالقدر الكافى، فقد أرغمه على دراسة القانون ولم يكن يهوى سوى الفن وقرر له الزواج مبكراً بعد عودته مباشرة من باريس عام 1922 وكان يرغب فى التفرغ للفن.
وفي المقابل بالعودة لحياة بودلير نجد تدخلاً واضحاً لزوج الأم في حياته، فقد بدأ يرشح له مستقبلاً لا يرغبه، فقد أراد أن يدخله السلك السياسي لكي يراه يوماً من رجالاته، ولكن الفتى بودلير كان مصمماً على خلافه، فقد أجمع العزم على ألا يطاوع وحياً غير وحي شيطانه. فأعلن أنه اختار لنفسه ـ دون سائر المهن القويمة المكينة ـ مهنة الأدب وإن تكن غير مضمونة ولا مأمونة وأعلن رغبته وخيب آمال أمه وزوجها. تماماً مثلما أشرت لتدخل والد محمود سعيد لتشكيل حياته وإعداده للإلتحاق بسلك القضاء وعدم الاعتداد بالفن كمهنة في طبقته الاجتماعية.
وإن كانت سطوة الأب ـ المغلفة بلا شك بالحب والرعاية ـ قد غلبت سطوة زوج الأم، فقد ترك الشاب بودلير أمه وزوجها متمرداً على قراره راحلاً إلى باريس ليصبح من رواد الحي اللاتيني، يعترك الحياة فيه بكل آلامها. ثم يقوم بعدها برحلته إلى الشرق بين أفريقيا والهند وجزر المحيط الهندي النائية. تلك الرحلة حملته بوهج جديد وحنين للآفاق البعيدة المجهولة والجمال النادر مما ورث شعره بعد هذه المرحلة نزعة حسية صوفية تعد من أخص خصائصه، كما شحذته بعشق ذلك النموذج الغرائبي لجمال المرأة الشرقية التي اتفقت في كثير من سماتها وأسرارها مع امرأة محمود سعيد.
يقول فيها بودلير:
في البلاد المتضوعة بالعطر التي تداعبها الشمس الساطعة
وتحت ظلة ظليلة من شجر وارس أرجواني
ومن نخيل تفيض على الأجفان فتوراً
عرفت غانية مستوطنة ذات فتنة لا عهد بها
لونها شاحب حار. وهذه الفاتنة السمراء
ذات جيد مشرف السمت، نبيل الالتفات
مديدة القامة هيفاء, كأنها طاردة قانصة
لها ابتسامة هادئة، وفي عينيها ثقة
لو جئت يا غانية – إلى بلاد المجد الأثيل
على ضفاف السين أو وادي اللوار النضير
أيتها الحسناء الرائعة الطلعة التي تليق زينة لقصور الأمراء
إذاً لحيتك في كنف خمائلها الوارفة
ألف مقطوعة أنت أطلعت طلعها في أفئدة الشعراء
وقد سبتهم عيناك النجلاوان فباتوا أطوع لك من عبيدك السود. (5)
ومن رحلة الشرق عاد بودلير إلى باريس واستقل بحياته نهائياً عن أمه وزوجها ليواصل مسيرته البوهيمية ويبدع أروع أشعاره في تلك الفئة من النساء التي أغرم بها.
بينمـا جاور محمود سعيد بين الفن والقـانون ودرسهما معاً، وتحمل وطأة هذا الصراع، لكنه ارتحل ارتحالاً آخر، فالشاب الذي قرر له والده أن يتزوج مبكراً من إحدى فتيات العائلات الكبيرة، والمحاط بسيدات الطبقة الراقية رحل يبحث في حواري الإسكندرية عن هاجر وحميدة ونبوية وداجية ونعيمة وبدرية وغيرهن، سيدات لوحاته الأثيرات، فهن قادرات على حمل المعاني العميقة فمشاعرهن حادة لم تغلفها هالة التحفظ ولم يحطن بسياج من التكلف ولم تفقد إحساساتهن الفطرية ألقها وحضورها، هن موصلات جيدات لشغفه وجنونه. بينما يصور نساء طبقته متحفظات محايدات الملامح لا تستطيع أن تنفذ عبر قشرة وجوههن الخارجية ولا أن تصل أبعد من سطحها الظاهر، معظمهن متزينات زائفات أسوة بنساء جويا، فنجد أسلوبه يتجلى ويأخذ أقصى أبعاد تحرره وهو يصور نساء الإسكندرية الشعبيات بداية من لوحات العري التى كان أول من عرضها في القاعات الرسمية ووصولاً إلى التصوير الرمزي المحمل بالأسطورة والتاريخ لبنت بحري.
إن محمود سعيد يختار "موديلاته" وفق نموذج للجمال مستقر فى وعيه، يبحث عن أقربهن إلى هذا النموذج فبينهن جميعاً شيئ مشترك متشابه حتى في مقاييسهم الجسدية، إنه ليس نموذجاً للجمال الإغريقي أو الأوروبي، بل ينتمي لمقاييس أفريقية الملامح، ونسب أجسادهن تقترب من نسب المرأة في منحوتات تل العمارنة, وتذكرنا بفتيات كهوف أجانتا الهندية، وهي تذكرنا أيضاً بتماثيل الحوريات في النحت الهندي، تلك التماثيل التي وصفتها الكتابات النقدية الغربية على إنها إباحية لحد بعيد ـ كما وصفت عاريات محمود سعيد ـ في حين أن مفهومها في المعتقد الهندي القديم كان أكثر سمواً وروحانية، فالأديان القديمة عرفت عبادة الخصوبة، وكانت تعنى بقضية الخلق والولادة والتناسل، وربط الإنسان البدائي الجنس بقوى سحرية تحميه من الشر والموت والفشل وتجلب له السعادة والرخاء (6).
إن القوى السحرية للجنس في المعتقدات القديمة كانت تظهر بطقوس وشعائر مختلفة منها تماثيل الحوريات الجميلات وتقتنص هذه التماثيل لحظات البهجة في العلاقات الإنسانية، الناتجة عن اتحاد الرجل والمرأة اللذين يمثلان الوحدة الأساسية في الوجود. وهن كعاريات محمود سعيد يفضن حيوية وسحرا، ويتخذن أشكالاً مثيرة، يعرضن أجسادهن ويكشفن عن فتنة ومزاج حسي جارف. فقد كان للمرأة دور هام في عملية السحر الجنسي ومازالت الطقوس السحرية تمارس اعتماداً على المرأة لزيادة خصوبة الأرض ووفرة المحاصيل وجلب المطر، وفي الهند حتى اليوم شعيرة خاصة بالاستسقاء تقوم بها النساء بالرقص عاريات في الحقل في حفل للآلهة كي يهطل المطر.
وهناك رأي يذهب إلى أن تماثيل الحب ومنها تماثيل الحوريات الهنديات تُذكر بوجوب كبح الرغبة الحسية إذا ما أراد أحد ما الخلاص في الحياة، وهذه التماثيل في المعبد وسيلة للامتحان ولاختيار الإنسان المتطوع للعبادة، فالذي يشاهد هذه المنحوتات والمشاهد ويستطيع السيطرة على عواطفه يجتاز الامتحان ويستطيع الوصول إلى الحقيقة النهائية، ويسمو إلى الحقيقة الخالدة.
فهل استطاع محمود سعيد اجتياز هذا الامتحان؟
لا أحد يعلم الإجابة. لكن بودلير لم يستطع اجتياز ذلك الامتحان، ووقع في هذا الدرك إلى أسافله، إلا أنه كان محتفظاً طوال العمر وفي جميع الأحوال التي عركته بقوة يرتفع بها على تلك الغمرات المهلكات، فهو يخوضها ويوغل فيها مرتطماً مشرفاً على العطب، ولكن لا يدعها تبلعه.
هذه المرأة الساحرة القادمة من أرض الأساطير ومن قلب الخيال الإنسانى القديم والصورة الثابتة للغريزة، شغلت محمود سعيد كما شغلت بودلير، ومثلت أيقونة عشقهما الأولى التي أبدعا متطلعان إليها أجمل الأعمال.
إن بنات محمود سعيد لسن رقيقات كبنات "بوتشيللي" ولا مسترخيات كبنات "أنجر" ولا حالمات كبنات "رافاييل"، لكنهن قويات ذوات إرادة، متحديات وجريئات أجسادهن يشدها عصب الحياة. إن فتاته ليست مذنبة كحواء "مازاتشيو"، بل هي مزهوة بطبيعتها البشرية الأرضية. ولا هي متزينة تستعرض جمالها للإستحسان كحواء "تيتسيانو" ولا سطحية باردة كفتيات "تينتوريتو" ولا هي من سبايا "روبنز".
إن إمرأته لها قوة كقوة الطبيعة وضراوة كضراوتها، فهي ليست دمية جميلة ساذجة كبنات "بوشيه"، ولا لاهية بمتع الحياة وزخارفها كبنات "فراجونار" و"رنوار". إن نساءه لسن بائسات هزيلات كزرقاوات "بيكاسو" بل هن نحاسيات لفحتهن شمس جنوبية، أجسادهن كقوالب قدت من طين جنوبي محروق. لكنهن ماكرات كبنات "جويا"، قويات البنية كبنات "ميكلانجلو"، ناضحات بالخصب كبنات كهوف "أجانتا" الهندية، متوحشات بدائيات كبنات "جوجان" التاهيتيات، مأسويات حزينات النظرة كبنات "موديلياني".
هؤلاء هن "ربات حسن" محمود سعيد، وأجد لهن شقيقات مرادفات تماماً في نساء بودلير اللاتي قدمهن في أشعاره، وتعد "جان ديفال" المعشوقة الأكثر تأثيراً في حياته وفنه أقرب هؤلاء في الشبه النفسي والحسي لنساء محمود سعيد، ويقال إنها قدمت من جزيرة هايتي إحدى جزر المحيط الأطلسي وكانت تعمل كومبارس في إحدى الفرق المسرحية المتواضعة.
كان يرى فيها الصورة العالقة في ذهنه لنساء جزر المحيط الهندي. لقد وصفت بأنها "جارية مولدة، غريرة رائعة، تعلوها جمة شعر مجعد، وهي تختال كالملكة، بل أن مشيتها تجمع بحسنها النافر شيماء الألوهية والحيوانية معاً ويمكننا مشاهدتها مجاورة للعديد من تصاوير محمود سعيد لنساء يحملن صفات مشابهة. (7)
وقد أشار محمود سعيد عام 1960 إلى ذات الجمع المتنافر في شخصية بنت البلد المصرية بقوله "في رأيي أن بنت البلد المصرية تجمع بين الإنسانية والحيوانية، بين الصفاء الروحي والاشتعال الجنسي، بين المرح الباسم والحزن القاتم، إنها وعاء كبير تغلي فيه المتناقضات وتتصارع فيه الأضداد."
وهناك نص ايميه آزار النقدي حول محمود سعيد فهو يتوازى تماما مع تلك الروح ويؤكدها فيقول:
"غنائية مثيرة للحواس، شبق متأصل للخضرة والأجساد، توق إلى رغبة لا شبع لها، شيئ من الحزن تحت هذا الأرغن الفولاذي، شيئ من أعمق أعماق الإنسان مثل صرخة كبت داخلى صماء شرسة. إن المادة لا تلبث أن تتحول إلى عنصر روحاني. ومحمود سعيد يتوصل لذلك بلا أدنى لف أو دوران محتفظاً من المادة بالطابع الأكثر مادية فيها، سواءً بتفخيم البروزات أو بتحلية استدارات الجسد ... وأمام هذه الأجساد المذهبة الفخيمة، هذه الأبدان الشهوانية ذات العطور المدوخة، هذه النظرات التي تتغشاها الرغبة التي تصل إلينا أنفاسها المحتبسة، تستحوذ علينا سيمفونيته تحمل إلينا الصوت المحتدم بالغناء الذي تؤدى به بحري وجميلاتها حديث الروح." (8) *
وقد أسمى بودلير إمراته "زهرة الشر" ورسمها بريشته تبدو في الصورة ذات عينين سوداوين نجلاوين، وشعر حالك، وشفتين غليظتين، وثديين ناهدين متباعدين بارزين، تمتلك جسماً عرف كل شيئ واستباح كل شيئ تعلوه طلعة بليدة ماكرة، وهذه هي المعشوقة التي افتتن بها الشاعر." (9)
أما امرأة محمود سعيد فيصفها رمسيس يونان بأنها " تصور لنا الجوهر الأنثوي أو ربة الأنوثة إن لم نقل شيطانها .... إنها ماكرة داهية ... تبدي زهواً وتحد ياً وخيلاءً .. إنها أقرب ما تكون إلى صورة الأنثى التي تبلورت في بعض قصصنا الشعبي، فهي تارة ست الحسن والجمال، وتارة أخرى تلك الغولة التي تنصب فخاخها لتنقض بعد ذلك وتلتهم." (10)، وقد سمى رمسيس يونان المرحلة التي قدم فيها محمود سعيد نماذج هؤلاء النسوة بأنها "مرحلة (طغيان الأنثى)" وقد بدأها في أواخر الثلاثينيات وأهم نماذجها ذات الجدائل الذهبية.
وفي نص مواز لبودلير نجده يقول:
أيتها الداخلة في قلبي الشاكي كطعنة سكين
المقبلة في قوة كعصبة من الشياطين
المفتونة المتبرجة
اتخذت سريرها ومُلكها في عقلي الراغم المسكين
ناشدت الخنجر القاطع أن يمكنني من حريتي
وهتفت بالسم الزعاف أن يغيث نذالتي
فأزرى بي السم والخنجر وناجياني
لست أهلاً لإعتاقك من أسرك المنكر
ونلاحظ أن هناك الكثير من المتشابهات بين نص رمسيس يونان حول امرأة محمود سعيد وقصيدة بودلير حول امرأته. فالكثير من قصائد بودلير تبدو وكأنها تصف بنات محمود سعيد.
وكإطار عام لتجربة الفنانين نجد أن تصوير المرأة لدى كل من محمود سعيد وبودلير يكشف عن جموح حسي بالغ ، "فبارتحال بودلير إلى باريس سرعان ما اتجه إلى النساء لكنه اختار شر النساء، يتطعم شر مذاق للإثم مع الوضاعة والفقر والقبح والمرض." (11), وبدأ ينظم حول تجاربه معهن مقطوعات قوية مدهشة في أصالتها تنم عما عاناه من تناقضات داخلية دفينة. كما يتضح فيها اتجاهه كشاعر رومانسي، فقد كان من أدوات الرومانسية استخدام المؤثرات التي تميل للجنوح والمواقف الدرامية الحادة.
من هنا فقد انضم بودلير لمجموعة من الشعراء عرفت في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين بشعراء الرذيلة، وتمت محاكمته عام 1857 بتهمة الخروج عن القيم الأخلاقية للمجتمع الفكتوري والتي علق عليها بودلير بقوله "لم يكن بوسعي أن أكتب بطريقة غير تلك التي كتبت بها، إذ أن ما كتبته كان انعكاساً صادقاً لنفس مضطربة غائصة لقيعان الرذيلة." (12)
وقد أراد بودلير أن يحرر الإنسان بجعل الفنان المثال المحتذى لذلك. ولتحقيق هذا الهدف فإن على الإنسان حسب مذهبه أن يبحث عن المتعة الحسية والجمال فى جميع أشكاله كان ذلك خيراً أم شراً. وإن كانت المرأة هي المعادل الحسي الأول عند الشاعر، حيث رفدها بجميع نوازع نفسه المضطربة، وهو واقع في أسرها، مترام عند قدميها غارق في ملاحقة دقائقها وتفاصيلها.
أما محمود سعيد فيعكس تصويره للمرأة حضوراً حسياً حاد لاتخطئه العين، وإذا كان تصوير "الموديل" العاري موضوعاً أكاديمياً لازماً في دراسة الفنون فى العالم وفي مصر حتى السبعينيات، إلا أن تصوير محمود سعيد للموديل العاري لم يكن انطلاقاً من منهج أكاديمـي واقعـي، بل هو انعكاس لشغفه الشخصي بالجسـد الأنثوي خاصة لتلك الفئة من النسـاء (موديلات يعملن بالأجر "حميدة وغيرها"، خادمات "هاجر"، بنات ليل "حياة")، وبتلك المقاييس التى سبق الإشارة إليها، ويتضح هذا في زوايا تصوير العاريات واختياره لأوضاعهن، التي لم تكن أوضاعاً أكاديمية تقليدية لإستظهار القيم التشكيلية للجسد الإنساني؛ بل كانت تحمل تداعيات حسية واضحة نستطيع أن نلمحها في العديد من أعماله مثل: نائمة، على الأريكة الزرقاء، على الوسادة الزرقاء، عارية، جارية على أرضية حمراء، ذات الهفهاف الأسود، ذات الأساور الذهبية، عروس الإسكندرية, على الوسادة الصفراء، وغيرها.
بينما نزع محمود سعيد أى ملمح حسي عند تصويره لسيدات طبقته، ربما لأنهن لم يستدعين عنده تلك الأحاسيس التي استحضرها فقط مع النساء الشعبيات. وربما لتحفظه في تصوير هذه الطبقة التى ينتمي إليها ورغبته فى إضفاء النبل عليها وتنزيهها عن تلك الأحاسيس الأرضية. وربما أيضاً كن شخصيات معروفة في المجتمع الراقي، وقد كان يهرب من تلك التكليفات بالرسم لمثل هذه النماذج. مع ملاحظة أنه كما أشرت مسبقاً قد وصل بأسلوبه الفني لأقصى حدود تحرره واكتماله عند تصويره لتلك النماذج العارية، حتى أستطيع القول بأن هناك علاقة طردية بين تحرره الشخصي واجترائه على الأعراف والتقاليد وبين تحرره الفني. في حين كان أداؤه واقعياً أكاديمياً أو تأثيرياً على أقصى تقدير عندما صور نساء طبقته.
ولم يكن محمود سعيد يظهر لوحات العاريات في المعارض العامة إلا بقدر يسير. وكانت معظم اللوحات يتم اقتناؤها وتناولها بين محبى فنه. ولم تظهر لوحاته العارية كمجموعة قوية مستقلة إلا في أول المعارض التي نظمت بعد وفاته (13). و"تفجر اللوحات العارية بما تحمله من نبرة حسية عالية نداء سبق عصره، فالجسد الإنساني، وبالذات جسد المرأة هو عورة والكشف عن المستور فيه جريمة لذلك كان تناول محمود سعيد لهذ الموضوع وقع القنابل وسط السكون وقد عالجها محمود سعيد بكل الجسارة والجرأة ولذلك كان وقعها مدوياً على المجتمع المصري المحافظ وقتئذ." (14).
وقد كانت رسومه توصف حتى من بعض الفنانين بالإباحية، فى حين أجمع معظم النقاد على طابعها الحسي الواضح وحاولوا تفسيره في عدة مواضع أعرض هنا لبعضها:
وأبدأها بما كتبه عبدالرحمن صدقي، وهو نفس المؤلف الذي قدم كتابه "الشاعر الرجيم بودلير" عن سيرة حياة الشاعر، وذلك مقتطف من مقاله "الفن المصري المعاصر" الذي نشره في الهلال يناير/كانون الثاني عام 1953:
"سمراء مشبوبة اللون متوقدة، فالمرأة ذات الجدائل الذهبية مثال للمرأة وقادة الذهن، مشبوبة الحس، متفتحة العينين لما حولها، نهمة وعميقة الحب للحياة، لا يخطىء الناظر إليها تلك السخرية من التقاليد التي ترف على شفتيها، وتلك النار التي يضطرم بها جسدها .... إنها قمينة بأن تسفك الدم وتضرم الحريق وتجر إلى الدمار فى سبيل المتعة العاجلة بالحياة غير نادمة ولامتحرجة....
النفوس كلها عنده مصبوبة على السواء في أجساد طبيعية تعمرها طبائع بشرية، وهي في الغالب الأعم تتنفس عن عبير غريب المزج من الرغبة المكبوتة ..
وجملة القول في مجموعة النساء في تصاوير محمود سعيد إنها غنية بذلك المعنى الذي يبلبل النفس ويضطرب له الحس فهو ـ غير منازع ـ أقدر الفنانين عندنا وأعمقهم في تصوير الغرائز الأولى."
أما أحمد راسم فيقول في كتابه "ظلال" 1936:
"نحب فن محمود سعيد لاشتماله على روح شهواني خفي فترى في معظم لوحاته ذلك الشىء الذي لا يمكن وصفه والذي يضغط على القلب فيجعلنا نذكر لذائذ الحياة"، "أذكر صورة تلك الزنجية وما يحوطها من شهوة وإغراء، أذكرها وهى تنظر إلينا وسآمتها تئن كأريج زهرة ذابلة في هواء حجرة يسبح فيها صمت الوحشة." (15)
وقد ألمح لتلك المعاني نقاد عديدون في كتابات أخرى مثل آيميه آزار وعزالدين نجيب وصبحي الشاروني وغيرهم.
إلا أن تـصوير كل من محمود سعيد وبودلير للمرأة لم يتوقف عند حدود التصوير الحسي والولع الغريزي ولا شيئ آخر، لكنهما انطلقا من تلك الأرض ثم حلقا بها لمجالات أرحب زادها سعة تلك الثقافة الرفيعة التي امتاز بها الفنـانان والتي رافقها حسهما المرهف وعمق تواصلهما مع الحياة والطبيعة, مما جعلهما قادران على رفـد تجربتهما بأطياف عدة: من طلاقة الغريزة إلى خصب الطبيعة، ومن الأساطير الأولى وتمائم الديانات القديمة إلى حيرة الروح وتطلعها للمطلق. وفي منطقة برزخية حاول كل من الفنانين العبور إلى الروح عبر مدارج الجسد.
لقد دار الشاعر حول القارة الأفريقية وجاب بحر الهند ومر بمدغشقر وجزيرتي موريس وبوربون، ومن هذا السفر الطويل احتقب الشاعر كما قدمنا وهجاً حارا بقي زاده طوال حياته. فما أن وقعت عيناه على جان ديفال، تحرك حنينه إلى مجالي الطبيعة في تلك الآفاق، فهيامه بها ليس هياماً بها وحدها، بل بكل تلك الآفاق من طلاقة غريزة وفتنة طبيعة. ولنتابع كيف وصفها بودلير فى إحدى قصائده:
في عينيها البراقتين جاذبية كأنهما من معادن سحرية
وفي ذاتها يأتلف الملاك الطاهر الكريم
وأبو الهول، الحيوان الطائر، ذو اللغز القديم
وكل شيئ فيها ذهب وفولاذ وبريق وجوهر (16)
ألا تنطق بهذه الصفات: ذات الجدائل الذهبية وذات الرداء الأزرق والنائمة وذات القميص الوردي وعروس الإسكندرية وذات العيون العسلية والفلاحة المصرية وبنات بحري، تلك الأعمال التي أبدعها محمود سعيد وحملت سمات التفرد الحقيقي في تجربته كمصور؟
ألا نستقرىء تلك المعاني في كتابات فؤاد كامل حول محمود سعيد التي يقول في مقطع منها "تتجسم عوالم محمود سعيد بل أصنامه الفسفورية ـ ملء العين ـ .... تضطرم بذكرى شهوات تظل تحدق فينا حتى يستخلص لنا سعيد من غضونها الحريرية وشقوقها الحيوانية مناطق الصمت الأبدي التي قد تمتد جذورها إلى عصور ما قبل الديانات القديمة ... إن وراء هذه النظرة نفساً آسية تحكي لنا ـ في يقين ـ لواعج العشق بذلك الجسد المجهول يتوقد كسرج الياقوت أو كوميض الزمرد أو كشهاب الذهب. (17)
هذا من ناحية الأوصاف الحسية أما من ناحية الأوصاف المعنوية فقد ألتقى أيضاً بودلير وسعيد فقد ردد الأول معنيين يستهويانه في هذا النوع من النساء، هذا الكسل الذي يتعارض مع نشاط الغرب المحموم، ثم سيماء الحزن وهوعنده نظير الحسن وهذا بلاشك ما تنطق به نساء محمود سعيد الذي يؤكد هذا المعنى حتى في اختياره لأوضاعهن في الرسم التي يغلب عيها الاسترخاء الكسول وعدم الاكتراث.
التقى الفنانان أيضاً في نزوعهما التعبيري وتمثلهما للرؤية الشخصية التي تبنياها للعالم، فعلى الرغم من ذلك الرسوخ المتين ذي النزوع العقلي في تكوينات محمود سعيد، فقد انبعثت من خلالها قيم تعبيرية وافرة. وتعبيرية محمود سعيد لا تغيب في فوضى الأشكال، أو في تفجرات اللون وغياب الحدود أو المبالغة في تحريف وتشويه العناصر المصورة، بل هي تعبيرية لها من قوة الحضور بل وتسلطه ما يجعلها شديدة النفاذ إلى وجدان المشاهد، بل أن من يراها يقع تحت سطوتها وسحرها منجذباً بوشائج لا يدري مصدرها إلى ذلك العالم السحري العجيب.
إن تعبيرية محمود سعيد تتأتى من وضوح في الرؤية أكسب شخصياته ذلك التحقق القوي، فالمبالغات التي يجريها على شخوصه يؤكدها بحذق حتى يصنع لها وجوداً مقبولاً مقنعاً، فلا نشعر أننا أمام شخصيات غير حقيقية بل نقبلها على هذه السحنة الخاصة. فنحن نصدق أن نساءه نحاسيات البشرة لهن بريق معدني وأن عيونهن تحمل ذلك الاتساع وتلك النظرة النافذة المحدقة التي تخترق من يشاهدها، وأنهن يقفن عاريات في أجواء الطبيعة بلا حرج كأنهن خلقن اليوم.
إن عناصر لوحاته تنعم بوفرة بالغة، فالمرأة موفورة الخصب كأنها تجسد وحدها كل الأرض، والرجال موفورون الصحة، والسحب متخمة بالأمطار, وطيوره تقف ممتلئة فنكاد لا نصدق أنها تستطيع الطيران، والنخيل ينوء بحمل ثماره، حتى حماره أبيض نظيف مرفه ممتليء بعيد عن معاناة الحمار المصري، لقد أضفى رؤيته الذاتية على العالم المحيط به بكل تفاصيله التي استهوته وصاغ منها عالمه التصويري.
أمـا تعبيرية بودلير فقد اتضحت في عباراته القصيرة الصادمة شديد الضراوة التي يكثف فيها الإحساس، ويكثر فيهـا من تجاور العديد من المعانى المتناقضة الحادة بل فيها كثير من القسوة على النفس وعلى الآخرين، فتتوالى الانفعالات فيها كوميض البرق الخاطف مما يجعل لها بالغ الأثر على مـتلقيها، وهو يؤمن شأنه شأن كافة الشعراء الرومانتيكيين في ذلك العصر "بأن المرارة والقتامة ومذاق التراب كلها من التجارب الأساسية في الحياة والفن معاً." (18)
وملمح التناقض الأخير في تجربة الفنانين نجده في وجود خط روحي مواز لذلك الخط الحسي الواضح، فبودلير كان في الوقت ذاته شاعراً ميتافيزيقياً وعميق التدين رغم عدم احترامه الظاهرى للمقدسات، كانت معرفته للأشياء تنطلق من رؤية صوفية عميقة استطاع عبرها صنع عالم خاص به شاسع كالروح وزاهى كالأحلام.
فالعطور والألوان والصور يحس بها بودلير كأشكال متعددة للروح. ولهذا فالوصول بالنسبة له يتم عبر الأحاسيس كما يتم من خلال الرغبات الجسدية والأفعال الشريرة. وعلى الرغم من أن هذا الطريق مدان كما تواطأ عليه البشر، إلا أنه بالنسبة لشاعرنا يفضي إلى النهاية، إلى عالم الروح إذ أن الوصول إلى عالم الأضواء يتم عبر عالم الغيهب والدياجير والأفكار المظلمة. وهذا ضرب من ضروب الاشتغال بعلم الباطن. والرغبة في بلوغ المطلق تجد ما يرويها أيضاً في الغابات والعطور والنساء، فعبر الأحاسيس المرهفة يمكن الوصول إلى اللذة شبه المقدسة ومن المادة تنبعث الروح بيضاء صاعدة للسماء.
ونلمح ذلك من خلال أشعاره، يقول في إحدى قصائده:
إن عينيك وابتسامتك وقدميك ...
قد أشرعت لي أبواب العالم اللانهائي الذي أعشقه
وفي قصيدة أخرى:
يا لشعرها، يا للعطر المشبع بالفتور
لئن هفت النفوس مع حلو النغمات
فإن روحي ـ يا حبيبتي ـ تسبح من عطرك في غمرات
من هذا المنطلق يحاول بودلير دائماً الصعود إلى الخالق، والتمرد على شراك المادة فيوجه الرمزي نحو السماء. ولهذا اتسمت بعض قصائده بالروح الدينية الإيمانية والطمع في العفو الإلهي. إن بودلير ظل يبحث عن الوحدة عبر التنوع واعتبر أن كل شيئ بالنسبة له شاهداً على وجود الله وطريقاً يقود إليه، فهو لهذا يوجه شعره للعاطفة ويشحنه بالرموز، حيث أن كل إشارة انعكاس لشيئ آخر. فالروح يمكن أن تسافر على خصلات الشعر وعلى أجنحة العطور حيث يمكن رؤية كل شيئ والإحساس بكل شيئ. (19)
ولنتأمل إحدى قصائد بودلير، يقول فيها:
تقدست يا إلهي، يا واهب الألم المقدس
ترياقاً مطهراً لخطايانا
ورحيقاً شاحذاً فينا القوة لتلقي الإمتاع المقدس
***
إن خطايانا عنيدة وتوبتنا جبانة..
وإننا ندفع ثمناُ باهظاً لقاء اعترافنا..
ثم نعود ثانية فرحين عبر نفس الطريق الموحل
ظانين أن دموعنا الصفيقة كافية لغسل أدراننا
وفي المقابل وعلى خط مواز شُغل محمود سعيد طوال رحلته الفنية بالموضوع الديني، فقد أخذته فكرة الموت والدفن والآخرة في باكورة حياته الفنية وشغلته فكرة التصوف والتعبد في مراحل النضج مثل لوحاته: الدفن 1926، الرسول 1924، قبور باكوس برمل الإسكندرية 1927، الدراويش "المولوية"، 1929، الصلاة 1934، الذكر 1936، المصلى 1941، دعاء المتعطل 1946، واختتمها بلوحة المقرىء في السرادق 1960.
و"ربما يكون مرجع ذلك لنشأته في رحاب مسجد أبي العباس بالإسكندرية، ومسجد الأباصيري وسيدي تمراز والعدوي وقبور السبع مشايخ، وفي هذه الأجواء شهد وسمع حلقات الذكر والاحتفالات الدينية والموالد، محاطا بعبق البخور المنبعث من قبور الأولياء الصالحين."
وفي النهاية طوى بودلير صفحة العشق السوداء، إلى صفحة أخرى جديدة تألقت فيها وجوه ذات طيبة ونقاء، وعليها مسحة السماء، وعرف الحب النقي وفيه نظم "أنشودة الخريف"، ونرى نموذجا آخر من شعره ومنه تلك الأبيات:
أيها الملاك السابح في السعادة والسرور والنور
في جسمك الساحر برء للدنف المسحور
ولكني يا ملاكي لا أسألك إلا الدعاء المبرور
أيها الملاك السابح في السعادة والنور
وفي قصيدة أخرى يقول بودلير:
إذا السموات العلية الروحانية
ينفتح فلكها المكور بعيد المنال
غائراً سحيقاً له ما للهاوية من جاذبية
للصريع الذي لا يزال متألماً حالماً بالكمال (20)
كما طوى محمود سعيد صفحة الصور الحسية، إلى صفحة جديدة هي صفحة المنظر الطبيعي الذي يحمل حسا كونياً شمولياً. فقد اختاره ضرب من المنظور المحلق يرى من خلاله العالم، يحقق به أسطورية خاصة للفراغ، فطبع مشاهده بطابع رحب تسكن فيه الروح. لقد آن لهذا الوجدان المتقد أن يهدأ ولتلك الروح القلقة أن تستريح، وليس هناك أرحب من ملكوت الطبيعة لتذوب فيه هذه الروح في خلاص نهائي شبيه بالنرفانا يحررها من وطأة المعاناة الأرضية، ولقد ترافق توقيت ذلك التوجه مع اعتزاله للقضاء عند بلوغه سن الخمسين عام 1947 ويعطينا ذلك مؤشراً هاماً، لقد انفض الصراع وانتفت أسباب التحدي وإلحاحات التمرد التي كان يطلقها في صوره، ملاذه الوحيد للحرية وممارسة الإرادة، لقد انكسرت الأغلال التي كان يرسف فيها، تلك التي أشار لها محمود سعيد في حديثه بالذات عن لوحته ذات الجدائل الذهبية:
"كانت تكبلني بقيود أتحرر شوقاً إلى التحرر منها ..، كانت الجزء الأسير في نفسه الذي يريد أن يحطم القيود ويخرج."
" كان عندي شعور طوال مدة اشتغالي بالمحاكم أني أرسف في أغلال .. وكنت أريد الخروج من هذه الأغلال إلى العالم الحر الطليق."
اتخذت الرحلة منحنى جديدا يواكب هدأة العمر ونضج السن، لم تعد اللوحة ساحة للتمرد والانفلات، بل أصبحت ساحة للتأمل والاستمتاع بعطايا الفن بعد أن استقرت التجربة واكتملت أركان نضجها. إنه يطرح متأنقاً كل خبراته. لاذ بالمنظر الطبيعي ليرتاح في نهايات العمر من وطأة الصراعات وعبء تصوير معاناة البشر وملاحقة المشاعر المضطرمة وإجهاد تصاعد الأنفاس المتلاحقة المبهورة. إنها استراحة المتعة الهادئة التي تحمل نضج الكهولة.
إن فكرة الصراع التي قدم من خلالها محمود سعيد أروع إبداعاته قد خفتت لتجيىء أعماله عامرة بالغنائية الكونية، وليست بالمعاناة البشرية بكل تناقضاتها وحيرتها بعد أن انطلق إلى العالم الحر الطليق الذي حلم به.
***
كانت هذه محاولة لقراءة جانب من تجربة الفنان الكبير محمود سعيد تؤكد أن العمل الفني الأصيل يظل يفيض بالدلالات ويحتفظ بقدرته الدائمة على التواصل معنا والإضافة لقيمنا الجمالية المعاصرة.
د. أمل نصر ـ الإسكندرية
* المراجع والهوامش
1- عن كتاب "محمود سعيد": كتاب تذكاري أصدرته وزارة الثقافة المصرية بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، صندوق التنمية الثقافية، من إعداد وتوثيق الفنان عصمت داوستاشي 1997, ص23.
2- مكرم حنين: رواد الفن التشكيلي في مصر، شل مصر، العدد 13يونيه 1996، عن كتاب "محمود سعيد" التذكاري السابق ذكره.
* استعار محمود سعيد عنوان لوحته "الدعوة إلى السفر" من اسم إحدى قصائد بودلير.
3- عبدالرحمن صدقي "الشاعر الرجيم بودلير"، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ.
* للمفارقة يذكرنا هذا النص ببعض ملامح تجربة محمود سعيد في تصويره للعاريات.
4- بدر الدين أبو غازي: محمود سعيد, ملامح من الإنسان والفنان، مجلة المجلة العدد 89 مايو 1964، ص 96.
5- عبدالرحمن صدقي، المرجع السابق ص67.
6- د. مؤيد عبدالستار: تماثيل الحب في خاجوراو .. العبادة والجنس والرقص في المعابد الهندوسية. جريدة الاتحاد http://www.alitthad.com/
7- عبدالرحمن صدقي، المرجع السابق ص 54.
8- ايميه آزار: التصوير المصري الحديث، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد 1000 ، 2005، ص30.
* "يستدعي دائماً بودلير عبق المراة الشرقية ويهيم بعطورها في قصائد عديدة ويقول في إحداها:
أيتها الربة العجيبة
السمراء الإهاب مثل جنح الظلام
المزوجة العطر بمثل رائحة المسك والتبغ
9- عبدالرحمن صدقي: المرجع السابق، ص 69.
10- نص لرمسيس يونان عن كتاب عز الدين نجيب: فجر التصوير المصري الحديث، دار المستقبل 1985 ص 174.
11- عبدالرحمن صدقي: نفس المرجع ص32.
12- عمر عبدالماجد، بودلير شاعر الخطيئة والتمرد دار البشير، عمان، الأردن، 1997.
* أرفق هنا جزء من قصيدة لبودلير تستدعيها في الذاكرة لوحة محمود سعيد "ذات الهفهاف الأسود":
في غلائلها الشفافة المتلالئة
تمشي مشيتها فتحسبها راقصة
كتلكم الأفاعي الطويلة المائسة
يرقصها على أطراف العصى حواة المعابد المقدسة
** أرفق هنا جزءين من قصيدتين لبودلير تستدعيان إلى الذاكرة لوحة محمود سعيد "عروس الإسكندرية":
فالبحر في حركته اللانهائية وصفحته الوضاءة المصقولة ..
مرآة تنعكس عليها روحك
التي ليست أقل عمقاً ومرارة من البحر
إننى مفتون بالغوص إلى أعماق ذاتك.
وفي قصيدة أخرى:
وتارة هي كالرمال الموحشة، وقبة السماء على الصحراء
كلاهما لا يحس ما يلقى ابن آدم من برجاء
وكغوارب الموج المتدفقة المطردة في صفحة الدأماء
تضطجع مسبكرة في غير اكتراث (ص72)
13- المقتطفات نقلاً عن الكتاب التذكاري حول الفنان من إعداد وتوثيق عصمت داوستاشي، صندوق التنمية الثقافية وزارة الثقافة المصرية بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، صندوق التنمية الثقافية، 1997.
14- مكرم حنين: رواد الفن التشكيلي في مصر، شل مصر، العدد 13يونيه 1996 ص220.
15- نقلاً عن الكتاب تذكاري حول الفنان السابق ذكره.
16 -عبدالرحمن صدقي: المرجع السابق، ص 85.
17- فؤاد كامل، المرجع السابق.
18- د. محمود نسيم: فجوة الحداثة العربية. إصدارات أكاديمية الفنون. سلسلة الرسائل 1 ، 2005 ص 114.
19- بودلير شاعر الخطيئة والتمرد، دار البشير، عمان، الأردن، 1997.
20 _ عبدالرحمن صدقي، المرجع السابق، ص 78 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق