القاهرة ـ حازم خالد
يُعد الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد من أوائل مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية، وهو من أكثر الفنانين المصريين الذين صدرت عنهم دراسات وكتب عن حياته وأعماله، وتتميز لوحاته بقوة التكوين والبناء والطابع القومي من البيئة المصرية. ومن أشهر لوحاته: ”بنات بحري”، و”بنت البلد”، و”الخريف”، و”الشادوف”. واشترك في معارض دولية كثيرة في أوروبا، وحصل في فرنسا على وسام لجيون دوبنر 1951
وكرمته الدولة المصرية بجائزتها للفنون 1960 وقد تحول منزله في الإسكندرية لمتحف بعد وفاته.
كان ناظر النظار (رئيس الوزراء) محمد سعيد باشا يريد أن يؤهل ابنه محمود بالعلم ونيل أعلى الدرجات لكي يخلفه في النظارة، فألحقه بكلية فيكتوريا عام 1904 حتى 1908 ولتفوقه وذكائه الشديد حصل على الشهادة الابتدائية عام 1911 ثم حصل على الكفاءة بتفوق في العام التالي، وفي عام 1915 حصل على البكالوريا من مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، وأوفده والده إلى باريس لدراسة الحقوق، وهناك ارتاد الشاب الشغوف بالفن والإبداع المتاحف الفرنسية واقترب من أعمال عباقرة الفن في مختلف العصور واستهوته إبداعات الانطباعيين والتعبيريين وتأثر بمذهبهم وقلد تجاربهم قبل أن يصل إلى أسلوبه الخاص المتفرد الذي اشتهر به في نهاية العشرينيات·
حصل محمود سعيد على ليسانس الحقوق من أكاديمية باريس، وهناك عاصر انتهاء الحرب العالمية الأولى وما أفرزته من دمار بث روحاً جديدة في المجتمع الفرنسي ودافعا لانطلاقة إبداعية هائلة في مختلف نواحي الثقافة والحياة الأوروبية وكان يتطلع دائما إلى وطنه مصر التي اندلعت فيها شرارة ثورة 1919 لتتفاعل أحاسيسه مع إشراقات حافزة لفعل مغاير ضد الانكسار والرضوخ وتشبعت روحه بالتمرد على الأنماط الجاهزة والمحاكاة والتقليد، وبحث لنفسه عن “خصوصية” تمثلت في بعث الهوية المصرية بتمايزها وأجوائها الساحرة .
• ينابيع الفن
التشكيلي الراحل حسين بيكار قال في تقييمه لأعمال محمود سعيد: إن الينبوع الذي ارتوى منه محمود سعيد في مراحله الأولى هو الفن الفلمنكي، والفن الإيطالي قبل عصر النهضة حيث تأثر بقوة الفورم والشكل، عند مامساشيو وجيوفاني وجنتلي وبليني في الضوء وتدرجه· وسرعان ما تأثر بالمدرسة الفلورنسية التي لم يكن ميالاً لها في البداية – تأثر بها في بعث الألوان القوية الدنيوية، وانتقل بعد ذلك إلى التأثير بقوة التشريح في عصر النهضة وهندسة التكوين عند عباقرته المعروفين مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي ورافاييل.
ويرى بيكار أن تطور سعيد لم يتوقف عند فهم وهضم مدارس الفن الحديثة في لمسات الفرشاة العريضة عنده أصداء التأثيرية، وتميز بخصوصية في التناول وأطلق سراح الألوان القوية، فاقتربت كثيراً من المدرسة، الوحشية بألوانها الساخنة وخلطها بألوان الطينة المصرية، وسمرة الوجوه، وعبر أيضا من باب المدرسة التركيبية في تجميع العناصر المختلفة تجميعا مسرحياً جميلاً مستخدما عناصر من الحيوان والنبات والطبيعة. كما توقف عند رصانة المدرسة التكعيبية في التظليل المساعد على إبراز الشكل، وفي توزيع امتدادت التحليل الخطي والمساحي.
إن أهم ما في فن محمود سعيد من وجهة نظري أن قوته المتفردة في الفن المصري الحديث تتمثل في إشراك الحواس في التعجيل بعبور العين والوجدان لسطح اللوحة والنفاذ إلى الحقائق الباطنة التي ترددها ذاته بقوة، من خلال هضمه لمختلف المدارس الفنية بحرية الفهم، لينسخ من ذلك كله تلك الشخصية المتفردة، وهذا الطراز الخاص من الإبداع الذي يبهرنا ويجعلنا نصبح أمامه.. هذا هو محمود سعيد.
• بنت البلد
وعندما نتوقف عند أعمال محمود سعيد نجد أن رؤيته الفنية تكونت مع بداية العشرينيات كما في لوحة "هاجر"، وفي الثلاثينيات اهتدى إلى نموذج الأنثى كما في لوحة "بنت البلد" حاملة القلل التي يلفها ضوء خاص وصور الصيادين في صراعهم من أجل لقمة العيش، كما في لوحات: الصيد العجيب، وحياة الريف، والشواديف، وأمومة، ولوحاته الشاملة للطبيعة والإنسان والحيوان ونهر النيل والمراكب والخيول، وحمام الخيل في المنصورة. كما صور البسطاء في لوحات الذكر والموت والدفن والصلاة والعاطل .
حين نشاهد لوحات محمود سعيد، يخطر ببالنا أنه يحاكي الطبيعة، إلا أن الرجال والنساء والأطفال الذين يرسمهم، وحتى الحيوانات والمناظر الطبيعية والنباتات، تبدو كما لو كانت عالما خاصاً به لا يوجد على هذه الأرض ولا في هذه الدنيا التي نعرفها، عالم من الأحلام السرمدية الباقية ما بقي الفنانون المبدعون الخلاقون كمحمود سعيد.
أشخاصه ليسوا من دم ولحم مثلنا، لكنهم من طينة خاصة ذات ملمس نحاسي وبشرة صلبة لا يمكن اختراقها، وقوة هرقلية وقوام فارع، ونظرة ثابتة ترمي إلى بعيد أبعد من الأفق. شخصيات أسطورية لا نعرف من أين أقبلت. هكذا استطاع أن يجعل من الوهم حقيقة، يجسد اللا مرئي ويحوله إلى واقع ملموس، نراه رأي العين، لو أننا تأملنا ملياً لوحته الصرحية الضخمة “المدينة” التي تواجه زائر متحف الفن المصري الحديث، وما تحفل به من نساء ممشوقات ممعنات في الطول، ضاربات في الرشاقة مع اكتناز في الأبدان ذوات مذاق مصري صميم، لاجتذبتنا اللوحة على الفور إلى عالمها السحري، وذهبنا مع هؤلاء الجميلات إلى حيث لا ندري.
كان الفنان الراحل نسيجا منفرداً بين رواد الفن الحديث، ووثقت لوحاته شاعرية الحياة المصرية – الإسكندرية بنوع خاص، وصارت المقابل التشكيلي لأعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وتماثيل مختار، ولوحات راغب عياد ومحمد ناجي، وأشعار صلاح چاهين وفواد حداد.
ظل محمود سعيد في مرسمه فوق سطح الفيلا الخاصة به في جناكليس بالإسكندرية، وقد آلت ملكية هذا القصر المكون من طابقين يضمان 12 حجرة وصالتين واسعتين إلى وزارة الثقافة، وقد دفعت فيه للورثة مبلغ 17.450 سبعة عشر ألفا وأربعمائة وخمسين جنيها، وبعد وفاته أهدت أسرته أربعين لوحة، وقد تحول هذا القصر إلى متحف يحمل اسمه ويعرض للأجيال فنه العظيم، ويتحول كل عامين إلى البينالي الشهير لفناني البحر المتوسط.
رحل محمود سعيد بعد أن ترك لوحاته جوهرة السحرة والإبداع، ليعانق في يوم واحد الميلاد والموت، حيث ولد في 8 أبريل/نيسان عام 1897 وتوفي في نفس يوم وشهر ميلاده عام 1964.
(خدمة وكالة الصحافة العربية)
يُعد الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد من أوائل مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية، وهو من أكثر الفنانين المصريين الذين صدرت عنهم دراسات وكتب عن حياته وأعماله، وتتميز لوحاته بقوة التكوين والبناء والطابع القومي من البيئة المصرية. ومن أشهر لوحاته: ”بنات بحري”، و”بنت البلد”، و”الخريف”، و”الشادوف”. واشترك في معارض دولية كثيرة في أوروبا، وحصل في فرنسا على وسام لجيون دوبنر 1951
وكرمته الدولة المصرية بجائزتها للفنون 1960 وقد تحول منزله في الإسكندرية لمتحف بعد وفاته.
كان ناظر النظار (رئيس الوزراء) محمد سعيد باشا يريد أن يؤهل ابنه محمود بالعلم ونيل أعلى الدرجات لكي يخلفه في النظارة، فألحقه بكلية فيكتوريا عام 1904 حتى 1908 ولتفوقه وذكائه الشديد حصل على الشهادة الابتدائية عام 1911 ثم حصل على الكفاءة بتفوق في العام التالي، وفي عام 1915 حصل على البكالوريا من مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، وأوفده والده إلى باريس لدراسة الحقوق، وهناك ارتاد الشاب الشغوف بالفن والإبداع المتاحف الفرنسية واقترب من أعمال عباقرة الفن في مختلف العصور واستهوته إبداعات الانطباعيين والتعبيريين وتأثر بمذهبهم وقلد تجاربهم قبل أن يصل إلى أسلوبه الخاص المتفرد الذي اشتهر به في نهاية العشرينيات·
حصل محمود سعيد على ليسانس الحقوق من أكاديمية باريس، وهناك عاصر انتهاء الحرب العالمية الأولى وما أفرزته من دمار بث روحاً جديدة في المجتمع الفرنسي ودافعا لانطلاقة إبداعية هائلة في مختلف نواحي الثقافة والحياة الأوروبية وكان يتطلع دائما إلى وطنه مصر التي اندلعت فيها شرارة ثورة 1919 لتتفاعل أحاسيسه مع إشراقات حافزة لفعل مغاير ضد الانكسار والرضوخ وتشبعت روحه بالتمرد على الأنماط الجاهزة والمحاكاة والتقليد، وبحث لنفسه عن “خصوصية” تمثلت في بعث الهوية المصرية بتمايزها وأجوائها الساحرة .
• ينابيع الفن
التشكيلي الراحل حسين بيكار قال في تقييمه لأعمال محمود سعيد: إن الينبوع الذي ارتوى منه محمود سعيد في مراحله الأولى هو الفن الفلمنكي، والفن الإيطالي قبل عصر النهضة حيث تأثر بقوة الفورم والشكل، عند مامساشيو وجيوفاني وجنتلي وبليني في الضوء وتدرجه· وسرعان ما تأثر بالمدرسة الفلورنسية التي لم يكن ميالاً لها في البداية – تأثر بها في بعث الألوان القوية الدنيوية، وانتقل بعد ذلك إلى التأثير بقوة التشريح في عصر النهضة وهندسة التكوين عند عباقرته المعروفين مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي ورافاييل.
ويرى بيكار أن تطور سعيد لم يتوقف عند فهم وهضم مدارس الفن الحديثة في لمسات الفرشاة العريضة عنده أصداء التأثيرية، وتميز بخصوصية في التناول وأطلق سراح الألوان القوية، فاقتربت كثيراً من المدرسة، الوحشية بألوانها الساخنة وخلطها بألوان الطينة المصرية، وسمرة الوجوه، وعبر أيضا من باب المدرسة التركيبية في تجميع العناصر المختلفة تجميعا مسرحياً جميلاً مستخدما عناصر من الحيوان والنبات والطبيعة. كما توقف عند رصانة المدرسة التكعيبية في التظليل المساعد على إبراز الشكل، وفي توزيع امتدادت التحليل الخطي والمساحي.
إن أهم ما في فن محمود سعيد من وجهة نظري أن قوته المتفردة في الفن المصري الحديث تتمثل في إشراك الحواس في التعجيل بعبور العين والوجدان لسطح اللوحة والنفاذ إلى الحقائق الباطنة التي ترددها ذاته بقوة، من خلال هضمه لمختلف المدارس الفنية بحرية الفهم، لينسخ من ذلك كله تلك الشخصية المتفردة، وهذا الطراز الخاص من الإبداع الذي يبهرنا ويجعلنا نصبح أمامه.. هذا هو محمود سعيد.
• بنت البلد
وعندما نتوقف عند أعمال محمود سعيد نجد أن رؤيته الفنية تكونت مع بداية العشرينيات كما في لوحة "هاجر"، وفي الثلاثينيات اهتدى إلى نموذج الأنثى كما في لوحة "بنت البلد" حاملة القلل التي يلفها ضوء خاص وصور الصيادين في صراعهم من أجل لقمة العيش، كما في لوحات: الصيد العجيب، وحياة الريف، والشواديف، وأمومة، ولوحاته الشاملة للطبيعة والإنسان والحيوان ونهر النيل والمراكب والخيول، وحمام الخيل في المنصورة. كما صور البسطاء في لوحات الذكر والموت والدفن والصلاة والعاطل .
حين نشاهد لوحات محمود سعيد، يخطر ببالنا أنه يحاكي الطبيعة، إلا أن الرجال والنساء والأطفال الذين يرسمهم، وحتى الحيوانات والمناظر الطبيعية والنباتات، تبدو كما لو كانت عالما خاصاً به لا يوجد على هذه الأرض ولا في هذه الدنيا التي نعرفها، عالم من الأحلام السرمدية الباقية ما بقي الفنانون المبدعون الخلاقون كمحمود سعيد.
أشخاصه ليسوا من دم ولحم مثلنا، لكنهم من طينة خاصة ذات ملمس نحاسي وبشرة صلبة لا يمكن اختراقها، وقوة هرقلية وقوام فارع، ونظرة ثابتة ترمي إلى بعيد أبعد من الأفق. شخصيات أسطورية لا نعرف من أين أقبلت. هكذا استطاع أن يجعل من الوهم حقيقة، يجسد اللا مرئي ويحوله إلى واقع ملموس، نراه رأي العين، لو أننا تأملنا ملياً لوحته الصرحية الضخمة “المدينة” التي تواجه زائر متحف الفن المصري الحديث، وما تحفل به من نساء ممشوقات ممعنات في الطول، ضاربات في الرشاقة مع اكتناز في الأبدان ذوات مذاق مصري صميم، لاجتذبتنا اللوحة على الفور إلى عالمها السحري، وذهبنا مع هؤلاء الجميلات إلى حيث لا ندري.
كان الفنان الراحل نسيجا منفرداً بين رواد الفن الحديث، ووثقت لوحاته شاعرية الحياة المصرية – الإسكندرية بنوع خاص، وصارت المقابل التشكيلي لأعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وتماثيل مختار، ولوحات راغب عياد ومحمد ناجي، وأشعار صلاح چاهين وفواد حداد.
ظل محمود سعيد في مرسمه فوق سطح الفيلا الخاصة به في جناكليس بالإسكندرية، وقد آلت ملكية هذا القصر المكون من طابقين يضمان 12 حجرة وصالتين واسعتين إلى وزارة الثقافة، وقد دفعت فيه للورثة مبلغ 17.450 سبعة عشر ألفا وأربعمائة وخمسين جنيها، وبعد وفاته أهدت أسرته أربعين لوحة، وقد تحول هذا القصر إلى متحف يحمل اسمه ويعرض للأجيال فنه العظيم، ويتحول كل عامين إلى البينالي الشهير لفناني البحر المتوسط.
رحل محمود سعيد بعد أن ترك لوحاته جوهرة السحرة والإبداع، ليعانق في يوم واحد الميلاد والموت، حيث ولد في 8 أبريل/نيسان عام 1897 وتوفي في نفس يوم وشهر ميلاده عام 1964.
(خدمة وكالة الصحافة العربية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق