حين يأتي الليل يفردني خمائل أرق , وينثرني شظايا فوق الأوراق , فيتملكني الخوف , وينشب أظافره بداخلي .. يُدخلني في قمقمه , وفي أوهامه , قنينته المسحورة , ثم يرميني في فراغ الكون المتسع ... فأراني أطارد أشباحا , و أنعي عمراً أمسى خريفاً .. وأسرح في أشياءٍ مرت من زمن بعيد, , وأحيانا أقرأ , أو تأتيني شهوة الكتابة , فأكتب أشياء عالقة في الذاكرة من زمن
غابر .. أعيد قرأتها فتبدوا لي تافهة .. ليس لها قيمة تذكر, فأمزقها , وربما أكتفي بتكويرها في يدي , وألقيها بعيداً عني في سلة المهملات .. تراودني نفسي أقوم أفتح تلفازي .. أقلب في الفضائيات .. فأرى وجوهاً قد مججتها .. وسئمتها جميعاً .... بالأمس شاهدت برنامجاً لأحدى الممثلات ," صف ثالث ", أدوارها كلها إغراء , لا أذكر عملاً شاهدتها فيه , إلا وهي في مشهد ساخن .. فهي لا تقوم إلا بأدوار الإغراء , حتى ولو كان الدور المُسند إليها دور ثانوي , وربما أقحموها في مشهدٍ أو مشهدين لزوم "التحبيشة " حتى في البرنامج الذي كانت فيه , ترتدي فستان صارخاً , وشبه عاري .. حب الفضول دفعني بأن أبقي على القناة , حتى أشاهد البرنامج للنهاية , لأرى وأسمع ما تقوله للمذيعة , التي كانت أجرأ منها , في فستانها وفي الكلام , والأسئلة الجريئة التي كانت تطرحها عليها , وذلك من نوعية :
ــ تفتكري في حد تحرش بكِ قبل كده ..؟..
وعن أدوار الإغراء التي كانت تؤديها , وعن حياتها الخاصة , وعن علاقاتها العاطفية , وكانت تعرض عليها التقرير تلو التقرير , وهو عبارة عن أجزاء من أعمالها .. وأقوالها في بعض المناسبات , وعن رأي المخرجين فيها ..؟.. وما يقول عنها الشارع ..؟.. وهي تضحك , وتجيب عن كل هذا بأريحية , وبلا غضاضة , وبأنها فخورة بكل ما قامت , وما تقوم به من أدوار , وأحياناً تعلل لذلك بقولها "الورق عاوز كده ".. ولم تنسى بين الحين والحين , ترفع طرف فستانها الذي يكاد يسقط من علي كتفها , وقد أظهر جزءً لا بأس به من صدرها , كان من ضمن الأسباب التي جعلتني أتابع البرنامج , برغم كثرة تخلله بالفقرات الإعلانات الطويلة المملة , لكن حرصي علي أن أرى وأتابع هذا البرنامج , جعلني أتحمل كل هذه الفقرات المملة , والتي يكاد الأطفال يحفظونها عن ظهر قلب , ثم أخذت تعرض لها قضايا عامة , لتبدي رأيها فيها , وفيما تشاهده على الساحة الفنية , والسياسية , والاقتصادية .. ألخ .. فكان عندها إجابات معلبة وجاهزة لكل شيء, وعن أي شيء وكأنها ــ ما شاء الله ــ موسوعة علمية , تعرف ما لم يعرفه الآخرون .. وهي التي لم تُكمل تعليمها بعد , ولم تحصل علي أي شهادات جامعية , فقط مؤهلاتها كل مؤهلاتها أنها ممثلة صف ثالث , أو ثاني , وبأنها قامت ببعض عمليات التجميل العادية , كأغلب النساء والرجال علي حد زعمها , لما سألتها المذيعة عن ذلك .. وأيضاً دخلت في إحدى مسابقات الجمال , فحصلت علي لقب الوصيفة الأولى لملكة الجمال , في إحدى السنوات الغابرة .. شعرت بالملل يتسرب إلي نفسي , وبالسئامة اعتدلت في جلستي , قمت , صنعت كوباً من الشاي , وعدت إلي مكاني , أشعلت سيجارة على أريكتي , وأنا في غاية الضيق , والملل ,.
تذكرت مقولة أحد كتابنا الكبار , الذين رحلوا عن الحياة , صفر اليدين كما جاءوا, برغم أنهم قدموا للإنسانية من عصارة فكرهم من ثقافة , وإبداع , وفن راقي, ولم يحصلوا جزاء ما قدموا مالاً, كما أنهم لم يكونوا في رغدٍ من العيش كهؤلاء , مازالت كلمات أحدهم عالقة في ذهني إلي اليوم .. "من يهز رأسه يضرب عليه بالنعال, ومن يهز وسطه يملأ جيوبه بالمال, أو هكذا قال , " في احد مقالته الرائعة
ترحمت على أهل الفكر والرأي , والقلم , والعقول الجبارة النزيهة التي خرجت من الدنيا كما جاءت .. وأسفت على من بقوا منهم في ضنكٍ من العيش والحياة ...
قطع تفكيري فجأة .. صوت أنين ابنتي الصغيرة , وهي تتألم , في الغرفة المجاورة وتجض من شدة المرض , والألم الذي زاد عليها .. فهي لم يتجاوز عمرها الحادي عشر ربيعاً , مصابة باحتقان في اللوز.. مما أفقدها الشهية للأكل فأصيبت بـأنيميا حادة .. ذهبت بها لأكثر من طبيب, وكل منهم يشخص تشخيص يختلف عن الأخر, ويكتب لها "روشتا " بها قائمة من الأدوية التي تحُش الوسط , وتلتهم راتبي كله أو جله , فأسعار الأدوية مرتفعة كنار .. ودخلي لا يكاد يسدد مصاريف البيت , ولا يغطي مصاريف العلاج .."... قمت , تسحبت بلا صوت ألقيت عليها نظرة فاحصة , فوجدتها تحت الغطاء , تجض من شدة الألم .. فلم أشأ أن أوقظها , لأنها لم تنم من ليلة أمس , وعدت إلي مكاني , بعدما أقنعت نفسي , بأن العلاج لم يأخذ وقته بعد .. جلست أتابع البرنامج .. فسمعت المذيعة تتكلم عن أجور الممثلين , تلك الأجور الفلكية التي يأخذونها , وفجأة سألها عن أجرها في فلمها الأخير ,
ــ إلا بالحق أنتِ أجرك كم ..؟!..
صنت برهة, ثم ضحكت , وهي تشد طرف فستانها , لتضعه علي كتفها , حتى لا يسقط أكثر , نظرت إلي الكاميرا التي أظهرتها ملء الكادر , أخذت نفساً عميقاً, وقد وضعت ساقاً علي ساقٍ , ولم تجب بشيء إلا بالتهرب من السؤال, في دعابة سمجة وتحت حجة الخوف من الضرائب, والعين التي تخاف منها وتلاحقها , فهي تؤمن بالعين والحسد .. والأدهى وأمر من كل هذا وذاك .. استقلت أجرها الذي تعدى الحدود ....
شعرت بالملل يتسرب الى نفسى .. وغصة في حلقي .. والاكتئاب زاد وغطّا , مع خنقة كادت تقتلني .. شعرت بانقباض في صدري , أخذت نفساً عميقاً .. تحاملت علي نفسي , تسنّدت علي الحائط فتحت الحاسوب قلبت فيه .. لا جديد في المجلدات , فدخلت على " الانترنت " ...
" هذا العالم الافتراضي الذي أشبه بالخيال , يذكرني بالحفلات التنكرية , التي كانت تصنع في الماضي .. " الانترنت " الذي وصل إلي حد الإدمان , مع كثير من الناس بكل فئاتهم العمرية المختلفة , أكل عقول , وعيون الناس ... هذا العالم الذي نهرول اليه , هروباً من واقعنا الأليم , ومن عالمنا القاسي , إلي هذا العالم الذي هو أشبه بعالم الأحلام لنعيش فيه بعقولنا , وأرواحنا " ...
فتحت برنامج التواصل الاجتماعي " فيس بوك ".. علقت على بعض الأصدقاء .. ثم قمت بتحديث الصفحة .. اقتحمت غرفة الدردشة إحدى الأصدقاء , أرسلت لي رسالة قرأتها , رددت عليها .. تجاوبت معها بعض الوقت .. شعرت بالملل يتسرب إليّ من جديد .. فأنا رجلٌ ملول بطبعي .. أرسلت لها " لايك" , تبعته بوردة حمراء جميلة , ثم استأذنت منها بلطفٍ, وخرجت من غرفة الدردشة , وسحبت " فيشة " الكمبيوتر .. وقمت
تمددت علي السرير , بعد ما أطفأت المصباح , فتحت التلفاز من جديد .... " موجز لأهم وأخر الأنباء "... أنا لم أتابع الأخبار منذ فترة ليست بالقليلة , ضغطت علي "الريمونت ", بحثاً عن شيء مفيد , أو مفرح , أو حتى مضحك , فقد سئمت كل شيء , فأنا لا أحب نشرات الأخبار , ولا مواقع الصحف , والجرائد .. والمجلات .. لا يعنينني منها إلا صفحات الأدب , والإبداع فقط لا غير..لم أتعرف علي أخر الأخبار, فأنا لست سياسي , ولا أحب السياسة , ولا لعبة الكرة , فقط أحب أن أتطلع في العناوين .....
" زمان كان العالم أحسن حظا من اليوم , علي الأقل لم تكن فيه كل هذه الحروب .. ولا المجاعات .. ولا الأزمات الاقتصادية الطاحنة , ولا كل هذه الأمراض .. لا فقر .. لا مجاعات , ولا كل هذه الأحداث التي تقطّع الأحشاء .. وتجلب للإنسان الضغط , والكئابة , وتفقع المرارة , وتجلب السكر , بلاد دُمرت بأكملها , ودكت علي رؤوس أهلها , ومن السبب ..؟.. ومن المستفيد ..؟ .. قطعاً ابحث عن إسرائيل , وأمريكا ... " ههههههههه ".. الاستعمار البغيض , يطل برأسه من جديد , يكشف عن وجهه البغيض , ويكشر عن أنيابه , الاستعمار يريد أن يعود .. أنا لا استطيع أن أتحمل كل هذا... ولا يمكن لأعصابي أن ترى وتستحمل كل هذا الدمار, دماء تسيل هنا وهناك , ودول تهدم , وتعرض علي الفضائيات . والعالم كله يجلس ويشاهد , وكأن لسان حالهم يقول " مادامت الدماء عربية فلتنزف ولتهدم بيوتهم , ومقدساتهم علي أم رؤوسهم .. وليذهبوا جميعاً إلي الجحيم .." ..
أطفأت التلفاز .. فغرقت الغرفة في ظلامٍ دامس .. استرخيت على فراشي , في محاولة يائسة للنوم .. فجاءت الذكريات المؤلمة الموجعة استلمتني هي الأخرى لتجهز عليّ وتكمل علي البقية الباقية من عقلي .. وأخذت تؤرقني أكثر فأكثر , وراحت تسرح وتمرح في مخيلتي ــ كقنابل عنقودية ــ عقلي يكاد يطير مني , وظلت أتقلب على فراشي كالجمر, قمت بمحاولة أخيرة , حتى أهرب من كل هذا العذاب , دسست راسي في الوسادة , شعرت وكأن ناراً تشب بداخلي , تستعر في قلبي.. وشعرت وكأن بعضي يأكل بعضي , والأفكار كلاب سعرانة راحت تنهش وتجرى , تنهش في رأسي .. والمخاوف من المجهول ترعبني .. وأوهام وظنون تدمر الباقية المتبقية من نفسيتي المنهارة , فبكت , نعم بكيت , بكاءً مريراً , من غير صوتٍ , حتى لا يشعر أو يحس أحداً .. بكيت لا أدري لماذا ..؟.. ربما لما يدور حولي .. أو ربما لأن أبنتي مريضة , وليس معي ثمن علاجها الغالي .. أو ربما ...... وربما لأن تلك هي عادتي عندما تثقل علي الأحمال , ولا أستطيع أن أتحملها وربما شعوري بالظلم , وإحساسي بالقهر , وربما هناك سبب أخر , ما هو , لا اعرفه ..؟!.. ولا أدريه ..؟!.. وربما كل ذلك الأسباب جميعاً .. بكيت كأن لم أبكي من قبل , حتى انتحبت , وخارت قواي, وأفرغت كل طاقتي وشحنتي الانفعالية في البكاء .. وفجأة , سمعت صوت الأذان من بعيد يتهادى يردد , " الصلاة خير من النوم , الصلاة خير من النوم "...
قمت من فراشي , توضأت , فرشت سجادتي , صليت .. جلست في مكاني , أذكر الله , وأدعوه أن يشفي ابنتي المريضة , ويفرجها من عنده , ويرضى عنا , ويحمينا من كل مكروه وسوء .... ثم عدت إلي فراشي , وقد نفضت عن نفسي الهم , والغم , والاكتئاب , وأحسست بأن روحي المطربة قد سكنت , وهدأت بداخلي , وعقلي الذي أوشك علي الخبل والجنون استقر في مكانه , وأقنعت نفسي بأن كل هذه مخاوف , وأوهام ليس لها أي مبرر .. وليس لها أساس من الصحة , وأن للكون رب يسيره ويدبره , وكل شيء عنده بقدر , وما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , وكله عنده بمقدار , وكل مكتوب , برهة , غفلت عينيّ , ونمت نوماً عميقاً , كأن لم أن من قبل , ....
استيقظت على صوت أبنتي , وقد انشق الصبح , وجاءت تمشي في نشاط وحيوية وقد امتلأ الكون بالنور , وأصوات الخلق راحت تملأ الفضاء , قمت من فراشي , قبلتها بين عينيها , وأنا أحاول أن أخفي دموعي من شدة الفرح , وقد ابتسمت في وجهها , لما رأيتها قد قامت من فراش المرض , فتحت النافذة , لتدخل الشمس في غرفتي التي تطل علي الشارع, نظرت في ساعتي, فكانت تشير إلي السابعة صباحا ارتديت ثيابي في عجل , حتى لا أتأخر عن عملي , فتعلقت برقبتي حبيبة قلب بابا تقبلني في نفس, وتسألني بفضول طفوليّ , وبشقاوتها الجميلة في نفس الوقت :
ــ رايح فين يا بابا , رابح الشغل ..؟!
ضربت كف بكف .. وهي تقول ببراءة ,
ــ كل يوم شغل , كل يوم شغل ..؟!.
ابتسمت لها , وأنا أبحث عن حذائي القديم , وهي تبحث معي , حتى عثرنا عليه .. قربته من قدماي, بعدما مسحته بالفرشاة , وهي تقول بصوتها العذب الجميل ..
ــ تفضل يا بابا
ــ شكرا يا حبيتي . ربنا يشفيكِ ويخليكِ لي يا رب ,
ــ وأنت كمان يا بابا , ربنا يخليك لينا وما يحرمناش منك أبداً يا رب
ــ عاوزه حاجه أجيبها لك وأنا جاي معايا ,
ــ عاوزاك ترجعلنا بالسلامة يا بابا , وابقى هات لي حاجة حلوة
ــ حاضر يا روح بابا , يا للا باي , بوسا لبابا
ثم رميت بنفسي في نهر الشارع لألحق كي أمضي في دفتر الحضور والانصراف
غابر .. أعيد قرأتها فتبدوا لي تافهة .. ليس لها قيمة تذكر, فأمزقها , وربما أكتفي بتكويرها في يدي , وألقيها بعيداً عني في سلة المهملات .. تراودني نفسي أقوم أفتح تلفازي .. أقلب في الفضائيات .. فأرى وجوهاً قد مججتها .. وسئمتها جميعاً .... بالأمس شاهدت برنامجاً لأحدى الممثلات ," صف ثالث ", أدوارها كلها إغراء , لا أذكر عملاً شاهدتها فيه , إلا وهي في مشهد ساخن .. فهي لا تقوم إلا بأدوار الإغراء , حتى ولو كان الدور المُسند إليها دور ثانوي , وربما أقحموها في مشهدٍ أو مشهدين لزوم "التحبيشة " حتى في البرنامج الذي كانت فيه , ترتدي فستان صارخاً , وشبه عاري .. حب الفضول دفعني بأن أبقي على القناة , حتى أشاهد البرنامج للنهاية , لأرى وأسمع ما تقوله للمذيعة , التي كانت أجرأ منها , في فستانها وفي الكلام , والأسئلة الجريئة التي كانت تطرحها عليها , وذلك من نوعية :
ــ تفتكري في حد تحرش بكِ قبل كده ..؟..
وعن أدوار الإغراء التي كانت تؤديها , وعن حياتها الخاصة , وعن علاقاتها العاطفية , وكانت تعرض عليها التقرير تلو التقرير , وهو عبارة عن أجزاء من أعمالها .. وأقوالها في بعض المناسبات , وعن رأي المخرجين فيها ..؟.. وما يقول عنها الشارع ..؟.. وهي تضحك , وتجيب عن كل هذا بأريحية , وبلا غضاضة , وبأنها فخورة بكل ما قامت , وما تقوم به من أدوار , وأحياناً تعلل لذلك بقولها "الورق عاوز كده ".. ولم تنسى بين الحين والحين , ترفع طرف فستانها الذي يكاد يسقط من علي كتفها , وقد أظهر جزءً لا بأس به من صدرها , كان من ضمن الأسباب التي جعلتني أتابع البرنامج , برغم كثرة تخلله بالفقرات الإعلانات الطويلة المملة , لكن حرصي علي أن أرى وأتابع هذا البرنامج , جعلني أتحمل كل هذه الفقرات المملة , والتي يكاد الأطفال يحفظونها عن ظهر قلب , ثم أخذت تعرض لها قضايا عامة , لتبدي رأيها فيها , وفيما تشاهده على الساحة الفنية , والسياسية , والاقتصادية .. ألخ .. فكان عندها إجابات معلبة وجاهزة لكل شيء, وعن أي شيء وكأنها ــ ما شاء الله ــ موسوعة علمية , تعرف ما لم يعرفه الآخرون .. وهي التي لم تُكمل تعليمها بعد , ولم تحصل علي أي شهادات جامعية , فقط مؤهلاتها كل مؤهلاتها أنها ممثلة صف ثالث , أو ثاني , وبأنها قامت ببعض عمليات التجميل العادية , كأغلب النساء والرجال علي حد زعمها , لما سألتها المذيعة عن ذلك .. وأيضاً دخلت في إحدى مسابقات الجمال , فحصلت علي لقب الوصيفة الأولى لملكة الجمال , في إحدى السنوات الغابرة .. شعرت بالملل يتسرب إلي نفسي , وبالسئامة اعتدلت في جلستي , قمت , صنعت كوباً من الشاي , وعدت إلي مكاني , أشعلت سيجارة على أريكتي , وأنا في غاية الضيق , والملل ,.
تذكرت مقولة أحد كتابنا الكبار , الذين رحلوا عن الحياة , صفر اليدين كما جاءوا, برغم أنهم قدموا للإنسانية من عصارة فكرهم من ثقافة , وإبداع , وفن راقي, ولم يحصلوا جزاء ما قدموا مالاً, كما أنهم لم يكونوا في رغدٍ من العيش كهؤلاء , مازالت كلمات أحدهم عالقة في ذهني إلي اليوم .. "من يهز رأسه يضرب عليه بالنعال, ومن يهز وسطه يملأ جيوبه بالمال, أو هكذا قال , " في احد مقالته الرائعة
ترحمت على أهل الفكر والرأي , والقلم , والعقول الجبارة النزيهة التي خرجت من الدنيا كما جاءت .. وأسفت على من بقوا منهم في ضنكٍ من العيش والحياة ...
قطع تفكيري فجأة .. صوت أنين ابنتي الصغيرة , وهي تتألم , في الغرفة المجاورة وتجض من شدة المرض , والألم الذي زاد عليها .. فهي لم يتجاوز عمرها الحادي عشر ربيعاً , مصابة باحتقان في اللوز.. مما أفقدها الشهية للأكل فأصيبت بـأنيميا حادة .. ذهبت بها لأكثر من طبيب, وكل منهم يشخص تشخيص يختلف عن الأخر, ويكتب لها "روشتا " بها قائمة من الأدوية التي تحُش الوسط , وتلتهم راتبي كله أو جله , فأسعار الأدوية مرتفعة كنار .. ودخلي لا يكاد يسدد مصاريف البيت , ولا يغطي مصاريف العلاج .."... قمت , تسحبت بلا صوت ألقيت عليها نظرة فاحصة , فوجدتها تحت الغطاء , تجض من شدة الألم .. فلم أشأ أن أوقظها , لأنها لم تنم من ليلة أمس , وعدت إلي مكاني , بعدما أقنعت نفسي , بأن العلاج لم يأخذ وقته بعد .. جلست أتابع البرنامج .. فسمعت المذيعة تتكلم عن أجور الممثلين , تلك الأجور الفلكية التي يأخذونها , وفجأة سألها عن أجرها في فلمها الأخير ,
ــ إلا بالحق أنتِ أجرك كم ..؟!..
صنت برهة, ثم ضحكت , وهي تشد طرف فستانها , لتضعه علي كتفها , حتى لا يسقط أكثر , نظرت إلي الكاميرا التي أظهرتها ملء الكادر , أخذت نفساً عميقاً, وقد وضعت ساقاً علي ساقٍ , ولم تجب بشيء إلا بالتهرب من السؤال, في دعابة سمجة وتحت حجة الخوف من الضرائب, والعين التي تخاف منها وتلاحقها , فهي تؤمن بالعين والحسد .. والأدهى وأمر من كل هذا وذاك .. استقلت أجرها الذي تعدى الحدود ....
شعرت بالملل يتسرب الى نفسى .. وغصة في حلقي .. والاكتئاب زاد وغطّا , مع خنقة كادت تقتلني .. شعرت بانقباض في صدري , أخذت نفساً عميقاً .. تحاملت علي نفسي , تسنّدت علي الحائط فتحت الحاسوب قلبت فيه .. لا جديد في المجلدات , فدخلت على " الانترنت " ...
" هذا العالم الافتراضي الذي أشبه بالخيال , يذكرني بالحفلات التنكرية , التي كانت تصنع في الماضي .. " الانترنت " الذي وصل إلي حد الإدمان , مع كثير من الناس بكل فئاتهم العمرية المختلفة , أكل عقول , وعيون الناس ... هذا العالم الذي نهرول اليه , هروباً من واقعنا الأليم , ومن عالمنا القاسي , إلي هذا العالم الذي هو أشبه بعالم الأحلام لنعيش فيه بعقولنا , وأرواحنا " ...
فتحت برنامج التواصل الاجتماعي " فيس بوك ".. علقت على بعض الأصدقاء .. ثم قمت بتحديث الصفحة .. اقتحمت غرفة الدردشة إحدى الأصدقاء , أرسلت لي رسالة قرأتها , رددت عليها .. تجاوبت معها بعض الوقت .. شعرت بالملل يتسرب إليّ من جديد .. فأنا رجلٌ ملول بطبعي .. أرسلت لها " لايك" , تبعته بوردة حمراء جميلة , ثم استأذنت منها بلطفٍ, وخرجت من غرفة الدردشة , وسحبت " فيشة " الكمبيوتر .. وقمت
تمددت علي السرير , بعد ما أطفأت المصباح , فتحت التلفاز من جديد .... " موجز لأهم وأخر الأنباء "... أنا لم أتابع الأخبار منذ فترة ليست بالقليلة , ضغطت علي "الريمونت ", بحثاً عن شيء مفيد , أو مفرح , أو حتى مضحك , فقد سئمت كل شيء , فأنا لا أحب نشرات الأخبار , ولا مواقع الصحف , والجرائد .. والمجلات .. لا يعنينني منها إلا صفحات الأدب , والإبداع فقط لا غير..لم أتعرف علي أخر الأخبار, فأنا لست سياسي , ولا أحب السياسة , ولا لعبة الكرة , فقط أحب أن أتطلع في العناوين .....
" زمان كان العالم أحسن حظا من اليوم , علي الأقل لم تكن فيه كل هذه الحروب .. ولا المجاعات .. ولا الأزمات الاقتصادية الطاحنة , ولا كل هذه الأمراض .. لا فقر .. لا مجاعات , ولا كل هذه الأحداث التي تقطّع الأحشاء .. وتجلب للإنسان الضغط , والكئابة , وتفقع المرارة , وتجلب السكر , بلاد دُمرت بأكملها , ودكت علي رؤوس أهلها , ومن السبب ..؟.. ومن المستفيد ..؟ .. قطعاً ابحث عن إسرائيل , وأمريكا ... " ههههههههه ".. الاستعمار البغيض , يطل برأسه من جديد , يكشف عن وجهه البغيض , ويكشر عن أنيابه , الاستعمار يريد أن يعود .. أنا لا استطيع أن أتحمل كل هذا... ولا يمكن لأعصابي أن ترى وتستحمل كل هذا الدمار, دماء تسيل هنا وهناك , ودول تهدم , وتعرض علي الفضائيات . والعالم كله يجلس ويشاهد , وكأن لسان حالهم يقول " مادامت الدماء عربية فلتنزف ولتهدم بيوتهم , ومقدساتهم علي أم رؤوسهم .. وليذهبوا جميعاً إلي الجحيم .." ..
أطفأت التلفاز .. فغرقت الغرفة في ظلامٍ دامس .. استرخيت على فراشي , في محاولة يائسة للنوم .. فجاءت الذكريات المؤلمة الموجعة استلمتني هي الأخرى لتجهز عليّ وتكمل علي البقية الباقية من عقلي .. وأخذت تؤرقني أكثر فأكثر , وراحت تسرح وتمرح في مخيلتي ــ كقنابل عنقودية ــ عقلي يكاد يطير مني , وظلت أتقلب على فراشي كالجمر, قمت بمحاولة أخيرة , حتى أهرب من كل هذا العذاب , دسست راسي في الوسادة , شعرت وكأن ناراً تشب بداخلي , تستعر في قلبي.. وشعرت وكأن بعضي يأكل بعضي , والأفكار كلاب سعرانة راحت تنهش وتجرى , تنهش في رأسي .. والمخاوف من المجهول ترعبني .. وأوهام وظنون تدمر الباقية المتبقية من نفسيتي المنهارة , فبكت , نعم بكيت , بكاءً مريراً , من غير صوتٍ , حتى لا يشعر أو يحس أحداً .. بكيت لا أدري لماذا ..؟.. ربما لما يدور حولي .. أو ربما لأن أبنتي مريضة , وليس معي ثمن علاجها الغالي .. أو ربما ...... وربما لأن تلك هي عادتي عندما تثقل علي الأحمال , ولا أستطيع أن أتحملها وربما شعوري بالظلم , وإحساسي بالقهر , وربما هناك سبب أخر , ما هو , لا اعرفه ..؟!.. ولا أدريه ..؟!.. وربما كل ذلك الأسباب جميعاً .. بكيت كأن لم أبكي من قبل , حتى انتحبت , وخارت قواي, وأفرغت كل طاقتي وشحنتي الانفعالية في البكاء .. وفجأة , سمعت صوت الأذان من بعيد يتهادى يردد , " الصلاة خير من النوم , الصلاة خير من النوم "...
قمت من فراشي , توضأت , فرشت سجادتي , صليت .. جلست في مكاني , أذكر الله , وأدعوه أن يشفي ابنتي المريضة , ويفرجها من عنده , ويرضى عنا , ويحمينا من كل مكروه وسوء .... ثم عدت إلي فراشي , وقد نفضت عن نفسي الهم , والغم , والاكتئاب , وأحسست بأن روحي المطربة قد سكنت , وهدأت بداخلي , وعقلي الذي أوشك علي الخبل والجنون استقر في مكانه , وأقنعت نفسي بأن كل هذه مخاوف , وأوهام ليس لها أي مبرر .. وليس لها أساس من الصحة , وأن للكون رب يسيره ويدبره , وكل شيء عنده بقدر , وما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , وكله عنده بمقدار , وكل مكتوب , برهة , غفلت عينيّ , ونمت نوماً عميقاً , كأن لم أن من قبل , ....
استيقظت على صوت أبنتي , وقد انشق الصبح , وجاءت تمشي في نشاط وحيوية وقد امتلأ الكون بالنور , وأصوات الخلق راحت تملأ الفضاء , قمت من فراشي , قبلتها بين عينيها , وأنا أحاول أن أخفي دموعي من شدة الفرح , وقد ابتسمت في وجهها , لما رأيتها قد قامت من فراش المرض , فتحت النافذة , لتدخل الشمس في غرفتي التي تطل علي الشارع, نظرت في ساعتي, فكانت تشير إلي السابعة صباحا ارتديت ثيابي في عجل , حتى لا أتأخر عن عملي , فتعلقت برقبتي حبيبة قلب بابا تقبلني في نفس, وتسألني بفضول طفوليّ , وبشقاوتها الجميلة في نفس الوقت :
ــ رايح فين يا بابا , رابح الشغل ..؟!
ضربت كف بكف .. وهي تقول ببراءة ,
ــ كل يوم شغل , كل يوم شغل ..؟!.
ابتسمت لها , وأنا أبحث عن حذائي القديم , وهي تبحث معي , حتى عثرنا عليه .. قربته من قدماي, بعدما مسحته بالفرشاة , وهي تقول بصوتها العذب الجميل ..
ــ تفضل يا بابا
ــ شكرا يا حبيتي . ربنا يشفيكِ ويخليكِ لي يا رب ,
ــ وأنت كمان يا بابا , ربنا يخليك لينا وما يحرمناش منك أبداً يا رب
ــ عاوزه حاجه أجيبها لك وأنا جاي معايا ,
ــ عاوزاك ترجعلنا بالسلامة يا بابا , وابقى هات لي حاجة حلوة
ــ حاضر يا روح بابا , يا للا باي , بوسا لبابا
ثم رميت بنفسي في نهر الشارع لألحق كي أمضي في دفتر الحضور والانصراف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق