1
حجر
كانت يدي صغيرة عندما التقطت ذاك الحجر الصغير من الطريق.
لم تدرك يدي الصغيرة آنذاك لماذا اختارته. لونه بنّي سكنته الشمس حيث انصهر بلون شفقها، وركنَ عميقًا في الأرض فامتصّ لون تراب معتّق. دحرجته السنون… احتكّت به الحكايات حتّى املسَّ وجهه.
كانت يدي صغيرة.
كبرت اليد، تعمّقت الأحزان في داخلي، نتف حكايات تناثرت، وذراها الريح في مسيرة الجراح، والحجر ينظر إليّ مستكينًا في حجري.
– كنت أضعه على رحمي.
– إنّه حجر وسخ. قال لي.
شيء ما تفتّت في الحنجرة، فأُخرستُ عن الكلام.
كانت يدي صغيرة جدّا. كانت عيناي تشدّان اللهب في اللهب، وتؤرّخ الجمرات نسيمًا عندما التقطته.
كبرت يدي. أنظر إلى وجهه وأرى جيوشًا غابرة عبرت من تلك الصحراء وأرى القوافل، والتاريخ يمرّ على رموش الحجر وهو يمدّ بلسانه إليّ.
– أعرف أكثر ممّا تعرفين، أكثر ممّا يعرفون، أكثر ممّا تعرف الرمال والبحار.
أمّا أنا فنسيت تاريخه في حضني. وهو… الحجر يذكر كلّ شيء عنّي، عنهم. يخبّئ كلّ الأسرار، يتنقّل من دمعة لدمعة، من بسمة لبسمة، ويقصّ الحكايات لنفسه بصمت.
لم يشكُّ مرّة من جنوني، وله نعفتُ شكواي من هروب حبيبي منّي، وبه صرخت. كان يستطيع أن يمتصّ غضبي، أنّاتي، حروفي المتراقصة والعاجزة عن الخروج.
يعرف كلّ شيء عن جدراني المهترئة، عن خزانتي التي تئنّ من قدمها، وملابسي التي عافتني، عن صراخ القطط الليليّ وعن سكّان العمارة المجاورة. يتلصّص في الليل على شخير الأحلام وزعيق العرق المعبّأ في جفون عمّال هذه البلدة المرتفعة كارتفاع حاجب أبى أن يستقيل من ارتفاعه. تلك المدينة الناهضة من الأزقّة، لا أحد يعرف صهيلها مثل هذا الحجر.
حجر… مجرّد حجر. أُسرّ له بوجع خواء ليلي، اعتصامي عن الحبّ سِنينًا، وشهقاتي الليلة وحدي مع الذكريات.
هو وحده الذي سكن منجرف الجبال في صحراء بعيدة جدّا… جدّا عن هنا… نزع عيونه من الأرض ليختلي بي وليرافقني مسافة جروح العمر، ليرافقني على أوتار عود سُلب النغم منه، مع سلب الروح والحبيبة.
حجر.
حجر.
مجرّد حجر.
كانت يدي صغيرة عندما التقطته.
أصغر من حفنة دمع. وكانت أوردة يدي كشعيرات غمسها الماء لا تقوى على الانتصاب. لكنّ عينيّ كانتا شبّاكيْ نور ونار.
حجر أملس كالماس، نقيّ كلونه، لكنّه يعرف الأسرار. أركنته إلى جبيني، وكان يسحب النهار معه حتّى آخر الليل ونحن نتبادل الحكايات.
– حجر وسخ. قال:
– ضعه حبيبي في حضنك عندما يكفّ الفرح عنك، علّك تهدأ وتنام.
هو تهليلة الأمّ وقت الضياع، زغرودة الفرح عندما تكفّ البساتين عن الثمر، وتكفّ المياه عن الانسراب في الروح. هو ترنيمة الغد عندما يستعصي علينا الغد، هو القصيدة.
– حجر وسخ. قال.
حجر سحب ريق الشمس من شعيراتها الذهبيّة إلى حضني. مزّع غربتي وأسمعني طبول الصحراء، وذلك الخيط الرفيع للموسيقى الذي ينشد خيط اللهب في ليلة قمريّة.
– أسمّيك امرأة السماء.
– وأنت قمر السماء.
آخ لذلك الحجر! هو ملك الحبّ كلّه، هو من يراه، هو من ينام في فراشه، هو من يراقب عينيه، وهو من يسمع جنون خبط الحروف على ورقه، وهو من يرى وميض العشق في عينيه، وهو الشاهد على خياناته أيضًا.
لكنّه ذلك الحجر الملعون، سيبوح بكلّ شيء عنّي.
– لم أعرف ماذا أهديك.
إليك هذا الحجر.
– حجر وسخ! قال.
يدي صغيرة.
وهو حجر.
مجرّد حجر.
حجر ولو سافر، أو أجبر على الرحيل إلى مكان ما، وانتفى من جفونك، سيأخذ بتلابيب النجاة، شادًّا أزره غير مفرّط بكبريائه.
لأنّه هو فقط من يعلم الحقيقة.
2
ذلك الشيء
ذلك الشيء يقف في ألدّ الأماكن قسوة وأشدّها شفافيّة.
قد يقسو عليك فيتكوّم فيك صلبًا، يشدّك إلى تحت، يوقف شعر رأسك فتغيب عن موطن قدميك. وإذا جال في باله أن يصل حدّ الاستواء انفجر فيك شالًّا حركتك. تحاول أن تحاوره، تناغيه، أو حتّى تغنج له، لكنّه يزداد اكفهرارًا في وجهك فلا يسعك إلّا الارتماء مهزومًا على بطنك أو جنبك. ولو انكببت على ظهرك لِتُمكّن عينيك من النظر لأعلى يكون ذلك الشيء متربّصًا لك، ويمنعك من الاستقامة أبدًا.
وأمّا أنتِ بسبب ذلك الشيء الذي عنده، عليكِ بالتخبّط، إمّا أنتِ أو هو. تحاولين ردعه، إقناعه بالتخلّص من شيئه، لكنّه كمن أصبح يحبّه، ولا يرخيه ليلًا ولا نهارًا.
كأنّه أحبّ لعبة الانتحار هذه.
– أرجوك! عليكَ أن تتغلّب عليه.
ويقول لكِ بصوت يذيب الصخر وجعًا:
– سأحاول حبيبتي.
ولا يحاول.
وأنت تناكفين صوتك لئلّا يخرج ويضايقه، تخبّئين دموعك ليلًا، تبتسمين نهارًا لكي تكوني على ما يرام.
– كيف حالكِ؟
– الحمد لله، كلّ شيء سائر على ما يرام. أنا أستر نفسي بين الحروف.
– وأنتَ؟
– أنا ما زلت أتقلّب على الجانبين، لا أقوى على الاستقامة.
– وكأنّكَ تعوّدتَ عليه.
– لا تُثقلي عليّ! مللتُ إلحاحك.
– حسنًا، وأنا مللت وهنك مع ذلك الشيء.
في ليلة ما، في زمن ما، هجم عليه ذلك الشيء، وبدأ يستفزّه، وكأنّه كان على موعد لقتله، وقتل كلّ من حوله معه.
– ربّما هم دسّوه لك في غفلة منك!
– من هم؟!
– أولئك الذين…
– آه فهمت.
– وإلّا كيف هجم عليك وفي أدقّ الأماكن رقّة، وأشدّها عنفًا؟
– لا تقلقي!
هذا كلّ ما استطاع قوله، وهو لا يعي أنّه مسكون بذلك “الشيء” منذ سنين وربّما منذ أزمان طويلة. كان ذلك الشيء يختفي ويستتر تحت جلده، ينتظر تلك اللحظة التي يرى أنّه جاء وقت الانفراج.
وكيف تنفرج لمن كان دربه ضيّقًا. ضاق دربه حتّى لم يعد بإمكانه أن يمرّ من خرم إبرة.
كلّهم مرّوا من فسحات الزمان والمكان، وأصبحت لهم في الأعالي مشاهد إلّا هو.
فذلك الشيء كان يوفّر له الدسيسة في داخله.
وما إن أحسّ أنّها ستنفرج، حتّى ظهر “الشيء” محمّلًا بكلّ تلويث العالم ليكتنز وينحشر في داخله كما لو كان قتل له نفسًا بغير حقّ.
وبدأ ينمو وينمو إلى حدّ شلّ حركته.
جلس صاحبنا يتقلّب في فراشه، ينتظر الفرج ليس من الدرب، وإنّما من ذلك الشيء الذي انسرب إلى قلبه وعينيه وملأها بكلّ لوث العالم ومنعه من الرؤية… والرؤيا. وصاحبنا ما زال ينتظر أن يملّ ذلك “الشيء” منه ويذهب من تلقاء نفسه حتّى هذه اللحظة.
حجر
كانت يدي صغيرة عندما التقطت ذاك الحجر الصغير من الطريق.
لم تدرك يدي الصغيرة آنذاك لماذا اختارته. لونه بنّي سكنته الشمس حيث انصهر بلون شفقها، وركنَ عميقًا في الأرض فامتصّ لون تراب معتّق. دحرجته السنون… احتكّت به الحكايات حتّى املسَّ وجهه.
كانت يدي صغيرة.
كبرت اليد، تعمّقت الأحزان في داخلي، نتف حكايات تناثرت، وذراها الريح في مسيرة الجراح، والحجر ينظر إليّ مستكينًا في حجري.
– كنت أضعه على رحمي.
– إنّه حجر وسخ. قال لي.
شيء ما تفتّت في الحنجرة، فأُخرستُ عن الكلام.
كانت يدي صغيرة جدّا. كانت عيناي تشدّان اللهب في اللهب، وتؤرّخ الجمرات نسيمًا عندما التقطته.
كبرت يدي. أنظر إلى وجهه وأرى جيوشًا غابرة عبرت من تلك الصحراء وأرى القوافل، والتاريخ يمرّ على رموش الحجر وهو يمدّ بلسانه إليّ.
– أعرف أكثر ممّا تعرفين، أكثر ممّا يعرفون، أكثر ممّا تعرف الرمال والبحار.
أمّا أنا فنسيت تاريخه في حضني. وهو… الحجر يذكر كلّ شيء عنّي، عنهم. يخبّئ كلّ الأسرار، يتنقّل من دمعة لدمعة، من بسمة لبسمة، ويقصّ الحكايات لنفسه بصمت.
لم يشكُّ مرّة من جنوني، وله نعفتُ شكواي من هروب حبيبي منّي، وبه صرخت. كان يستطيع أن يمتصّ غضبي، أنّاتي، حروفي المتراقصة والعاجزة عن الخروج.
يعرف كلّ شيء عن جدراني المهترئة، عن خزانتي التي تئنّ من قدمها، وملابسي التي عافتني، عن صراخ القطط الليليّ وعن سكّان العمارة المجاورة. يتلصّص في الليل على شخير الأحلام وزعيق العرق المعبّأ في جفون عمّال هذه البلدة المرتفعة كارتفاع حاجب أبى أن يستقيل من ارتفاعه. تلك المدينة الناهضة من الأزقّة، لا أحد يعرف صهيلها مثل هذا الحجر.
حجر… مجرّد حجر. أُسرّ له بوجع خواء ليلي، اعتصامي عن الحبّ سِنينًا، وشهقاتي الليلة وحدي مع الذكريات.
هو وحده الذي سكن منجرف الجبال في صحراء بعيدة جدّا… جدّا عن هنا… نزع عيونه من الأرض ليختلي بي وليرافقني مسافة جروح العمر، ليرافقني على أوتار عود سُلب النغم منه، مع سلب الروح والحبيبة.
حجر.
حجر.
مجرّد حجر.
كانت يدي صغيرة عندما التقطته.
أصغر من حفنة دمع. وكانت أوردة يدي كشعيرات غمسها الماء لا تقوى على الانتصاب. لكنّ عينيّ كانتا شبّاكيْ نور ونار.
حجر أملس كالماس، نقيّ كلونه، لكنّه يعرف الأسرار. أركنته إلى جبيني، وكان يسحب النهار معه حتّى آخر الليل ونحن نتبادل الحكايات.
– حجر وسخ. قال:
– ضعه حبيبي في حضنك عندما يكفّ الفرح عنك، علّك تهدأ وتنام.
هو تهليلة الأمّ وقت الضياع، زغرودة الفرح عندما تكفّ البساتين عن الثمر، وتكفّ المياه عن الانسراب في الروح. هو ترنيمة الغد عندما يستعصي علينا الغد، هو القصيدة.
– حجر وسخ. قال.
حجر سحب ريق الشمس من شعيراتها الذهبيّة إلى حضني. مزّع غربتي وأسمعني طبول الصحراء، وذلك الخيط الرفيع للموسيقى الذي ينشد خيط اللهب في ليلة قمريّة.
– أسمّيك امرأة السماء.
– وأنت قمر السماء.
آخ لذلك الحجر! هو ملك الحبّ كلّه، هو من يراه، هو من ينام في فراشه، هو من يراقب عينيه، وهو من يسمع جنون خبط الحروف على ورقه، وهو من يرى وميض العشق في عينيه، وهو الشاهد على خياناته أيضًا.
لكنّه ذلك الحجر الملعون، سيبوح بكلّ شيء عنّي.
– لم أعرف ماذا أهديك.
إليك هذا الحجر.
– حجر وسخ! قال.
يدي صغيرة.
وهو حجر.
مجرّد حجر.
حجر ولو سافر، أو أجبر على الرحيل إلى مكان ما، وانتفى من جفونك، سيأخذ بتلابيب النجاة، شادًّا أزره غير مفرّط بكبريائه.
لأنّه هو فقط من يعلم الحقيقة.
2
ذلك الشيء
ذلك الشيء يقف في ألدّ الأماكن قسوة وأشدّها شفافيّة.
قد يقسو عليك فيتكوّم فيك صلبًا، يشدّك إلى تحت، يوقف شعر رأسك فتغيب عن موطن قدميك. وإذا جال في باله أن يصل حدّ الاستواء انفجر فيك شالًّا حركتك. تحاول أن تحاوره، تناغيه، أو حتّى تغنج له، لكنّه يزداد اكفهرارًا في وجهك فلا يسعك إلّا الارتماء مهزومًا على بطنك أو جنبك. ولو انكببت على ظهرك لِتُمكّن عينيك من النظر لأعلى يكون ذلك الشيء متربّصًا لك، ويمنعك من الاستقامة أبدًا.
وأمّا أنتِ بسبب ذلك الشيء الذي عنده، عليكِ بالتخبّط، إمّا أنتِ أو هو. تحاولين ردعه، إقناعه بالتخلّص من شيئه، لكنّه كمن أصبح يحبّه، ولا يرخيه ليلًا ولا نهارًا.
كأنّه أحبّ لعبة الانتحار هذه.
– أرجوك! عليكَ أن تتغلّب عليه.
ويقول لكِ بصوت يذيب الصخر وجعًا:
– سأحاول حبيبتي.
ولا يحاول.
وأنت تناكفين صوتك لئلّا يخرج ويضايقه، تخبّئين دموعك ليلًا، تبتسمين نهارًا لكي تكوني على ما يرام.
– كيف حالكِ؟
– الحمد لله، كلّ شيء سائر على ما يرام. أنا أستر نفسي بين الحروف.
– وأنتَ؟
– أنا ما زلت أتقلّب على الجانبين، لا أقوى على الاستقامة.
– وكأنّكَ تعوّدتَ عليه.
– لا تُثقلي عليّ! مللتُ إلحاحك.
– حسنًا، وأنا مللت وهنك مع ذلك الشيء.
في ليلة ما، في زمن ما، هجم عليه ذلك الشيء، وبدأ يستفزّه، وكأنّه كان على موعد لقتله، وقتل كلّ من حوله معه.
– ربّما هم دسّوه لك في غفلة منك!
– من هم؟!
– أولئك الذين…
– آه فهمت.
– وإلّا كيف هجم عليك وفي أدقّ الأماكن رقّة، وأشدّها عنفًا؟
– لا تقلقي!
هذا كلّ ما استطاع قوله، وهو لا يعي أنّه مسكون بذلك “الشيء” منذ سنين وربّما منذ أزمان طويلة. كان ذلك الشيء يختفي ويستتر تحت جلده، ينتظر تلك اللحظة التي يرى أنّه جاء وقت الانفراج.
وكيف تنفرج لمن كان دربه ضيّقًا. ضاق دربه حتّى لم يعد بإمكانه أن يمرّ من خرم إبرة.
كلّهم مرّوا من فسحات الزمان والمكان، وأصبحت لهم في الأعالي مشاهد إلّا هو.
فذلك الشيء كان يوفّر له الدسيسة في داخله.
وما إن أحسّ أنّها ستنفرج، حتّى ظهر “الشيء” محمّلًا بكلّ تلويث العالم ليكتنز وينحشر في داخله كما لو كان قتل له نفسًا بغير حقّ.
وبدأ ينمو وينمو إلى حدّ شلّ حركته.
جلس صاحبنا يتقلّب في فراشه، ينتظر الفرج ليس من الدرب، وإنّما من ذلك الشيء الذي انسرب إلى قلبه وعينيه وملأها بكلّ لوث العالم ومنعه من الرؤية… والرؤيا. وصاحبنا ما زال ينتظر أن يملّ ذلك “الشيء” منه ويذهب من تلقاء نفسه حتّى هذه اللحظة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق