⏪⏬
عندما يصدح صوت المغنية الفرنسية إديت پياف: Non, je ne regrette rien "لا أندم على أي شيء" تضع بذلك احتمالية أن كائناً
ما، مُثقلاً بكامل تاريخه وأزماته وأحزانه، قد يصبح بوسعه ألا يأسف على شيء مطلقاً. وبرغم كون الاحتمال بعيداً عن الواقع، إلا أن المغنية، ضئيلة البنية، التي تركت عائلتها في عمر الخامسة عشرة لتغني في الشوارع والكباريهات، لم تحظ بالكثير من الثقافة ولم تكن تعرف شيئاً إلا الغناء: "لم تكن تعرف اختيار الملابس المناسبة ولا انتقاء الألفاظ الصحيحة، لم تكن تعرف حتى الانحناء لجمهورها دون أن تخجل من ضآلتها"، كما قال عنها مكتشف المواهب جاك كانيتي، "صوتها العبقري لم يخرج من رأسها الصغير، بل من قلبها". فهل يكون الجهل هو ما يحمي البشر من طغيان مشاعر الندم؟
تعتقد البروفيسورة سوزان كين في بحثها "التعاطف السردي"، أن النص السردي المتخيل، وبشكل خاص ذاك المعني بخطاب الوصف الشعوري، يستدعي محاكاة عقلية من القارئ، أو المستمع في حالة إديت، عرفتها ب "التقمص العاطفي السردي" تورطه بالدخول إلى العوالم المتخيلة وتعلن مغادرته للعوالم الحقيقية، وكأنه يُسقط النص على ذاته.
وإديت، التي امتلأت الصحافة الصفراء بأحداث من قصة حياتها المأساوية كتخلي والدتها عنها في طفولتها وخسارتها لطفلتها للمرض في عامها الثاني، وفقدانها لحب حياتها مارسيل سيدران في حادث تحطم طائرة ومعاناتها الإدمان على العقاقير الطبية، بالتأكيد لديها الكثير لتندم عليه غير أنها لا تريد ربما توريط جمهورها في هذه الحالة بالذات من التعاطف.
هنا، ما تريد إديت أن تستدعيه لدى مستمعيها هو حالتها العاشقة الجديرة بالغبطة لا الإشفاق، فها هي بخفة الريشة خالية من الأسى والخيبات وحتى الذكريات، تنفض عنها غبار السالف من الأيام تأهباً للقادم الجديد... الحب الذي ولد لتوه، كما تنهي أغنيتها: "حياتي... أفراحي تبتدئ معك اليوم".
لكن، ماذا لو عمد النص إلى توريطنا في تقمصه للندم؟ وكيف يكرس المتخيل السردي الندم كدافع لشخوصه وكمحرك لتعاطف القارئ؟ وهل الأدب الإلهي مستثنى من دافع الندم في هذا السياق؟
ماذا لو...؟
يُعرّف الندم في معجم لسان العرب على أنه الأسف على فعل ما، وينطوي في معناه شعور بالحسرة ورغبة في التوبة، ويذكر قاموس ويبستر الإنكليزي أن كلمة الندم Regret بالإنكليزية هي من أصل جرماني Grata وتعني الندب أو النحيب.
أما في الفلسفة فيعرفه بروفيسور الدراسات الفلسفية كريستوفر كاولي على أنه شعور ينتج عن المقارنة اللاواقعية بين القرارات التي اتخذناها طواعية وبين نقيضها من قرارات لم تتخذ. وتعتقد جانيت لاندمان أنه شعور ذو طبيعة استثنائية يدعونا لمراجعة الماضي وتقييم دورنا فيه، ليفعّل أفكاراً متخيلة "عما كان يمكن أن يكون". ويلخص بادي مكوين مشاعر الندم بأنها رحلة خيالية في ذهن الفرد للبدائل المتاحة وغير المتاحة، والمتجسدة في السؤال: ماذا لو...؟
فالندم، إذن، كدافع للشخوص المتخيلة في الأدب، يجعل هذه الرحلة تتسم بإزاحة مزدوجة من واقعيتها: أولاً، لأنها رحلة متخيلة، وثانياً، لأنها تجري في ذهن شخصية متخيلة. وعلى هذا فإن ما يجعلنا نتقمصها كمتلقين، هو استراتيجية سردية تعمل، بحسب كين، على توظيف "المكان والزمان والشخوص الأدبية المتخيلة لتحفيز مشاعر غير واقعية في الذهن تحاكي تلك التي تنتج عن تجربة حقيقية للحدث المتخيل". وبالتالي يصبح القارئ عنصراً فاعلاً في خلق العوالم القصصية، وشريكاً في الندم.
"لا أندم على شيء"
في مذكراته "يوميات لص" يصر الكاتب الفرنسي جان جينيه على أن قلبه هو الذي قاده إلى اختيار الكون الذي يُسرّ فيه، وبرغم أن ما يقصده هو عالم اللصوصية والعيش كمنبوذ وفار من السلطات، إلا أنه يرفض إظهار أدنى شعور من الأسى أو الندم: "في سبيل ما يعرف بالشر، اخترت بكل حب أن أخوض مغامرة أوصلتني إلى السجن". وكأن الكاتب يعمد إلى إعادة استكشاف ذاته وخلق مبررات لأفعاله عبر عدم تبريرها.
يشير الفيلسوف بادي مكوين إلى حالة جينيه بما يدعوه "وجهة النظر التبريرية"، أي أن قرار الفرد بخوض تجربة ما تعتمد على عاملين أحدهما شخصي يتعلق بالطبيعة التي اتسم فيها الفرد عند خوض التجربة؛ والآخر شرطي، يرتبط بالظروف التي قادت الفرد إلى تجربته. وفي حياة الندرة والحرمان التي عاشها جينيه قد نفهم دوافعه في خلق المصير الأشد بؤساً، في ظل غياب المصير الأشد تألقاً "ليس بهدف التفرد الأعمى" كما يقول، وإنما "بغية تحقيق شيء جديد من هذه الندرة".
يطرح الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو رؤية مشابهة في روايته "العمى" حين تخلق إحدى شخصيات العمل -التي يشار إليها بألقاب بدلاً من أسماء- بُعداً فلسفياً للندم بقوله: "طالما أكون صادقاً اليوم فما يهمني ندمي غداً؟" وهو بهذا يعزو الأفعال إلى نسبية وجودها. أي أن ما يصح اليوم قد يبدو خاطئاً في وقت آخر، وقد يندم عليه، ولكن الزمن لا يغير طبيعة الفعل القائم على الصدق بالنسبة له.
ولعل ابن عربي سبق ساراماغو إلى هذا بقرون حين قال: قد يلحقُ الناسَ في أقوالهم ندمٌ/ وليسَ عندي فيما قلتهُ ندمُ. والعبد في عزلة ٍ عن كلِّ ما كتبتْ/ كفٌّ لهُ أوهمتْ منْ كفهِ ديمُ. تقع استراتيجية السرد هذه ضمن نطاق "كسر الحواجز" التي يعمل فيها النص على توريط القارئ عبر جذبه من خلال دوافع غير مألوفة لشخوصه، بحسب كين.
حفل تأبين لكل ما لم نفعله
في رواية "اختبار الندم" للكاتب خليل صويلح يعمل الندم على مستويات عدة ليس فقط من خلال شخصية الراوي، بل أيضاً عبر النساء في حياته، الراويات الفرعيات لامتداد الحبكة القصصية، وكأنه يوحّد شخوص الرواية في حالة من الندم الجماعي قبل أن يخلق هذه الحالة بشكل أعم لدى القراء. وهذا ما تطلق عليه سوزان كين "استراتيجية التعاطف السردي التفويضي"، أي أن الكاتب يفوض نصه ليمثل مشاعر الجماعة عبر التجارب الشخصية لشخوص السرد.
وفي نص صويلح، يقلب الراوي دفاتره العتيقة ورسائله وذكرياته في دمشق المتهالكة، لينقل على لسان النساء اللواتي عرفهن، مشاعر الندم على الفرص الضائعة على خلفية مشهدية الموت في البلاد التي أنهكها الحرب: "حياتنا هذه هي نوع من الانتحار بالتقسيط". وكأن هذه العبارة تمهد لمرثية أشمل لروايات لم تكتمل عن حياة الشخصيات التي وسيناريوهات لم تحدث وحيوات منقوصة وآمال مطوية بالخيبة، ليجد القارئ نفسه معنياً بالرثاء ومتورطاً فيه.
تشير لاندمان إلى طبيعة الندم الشاملة، ففي حين أن الذنب ينتج عن فعل حصل في الماضي، يمتد الندم ليشمل ما لم يحصل أيضاً. ولهذا يستهل صويلح روايته بقوله "الندم ربما هو اعتذار متأخر عن أفعال كنا نظن أننا على صواب لحظة ارتكابها، أو عدم تحقيقها لحظة التفكير فيها".
تعمد الكاتبة سحر خليفة في روايتها "مذكرات امرأة غير واقعية" إلى استراتيجية التفويض نفسها من خلال شخصية عفاف، امرأة ككل نساء الشرق، تمضي عمرها في الندم على ما لم تستطع أن تكونه، عن حياة يرسمها إجهاض الأحلام والرغبات وخيبة الجسد "طوال عمري أدرت أن أكون تفاحة ولو مرة". وبسبب انغماسها اللاواقعي في عالم من الأحلام والحسرات تتماهى مع قطتها "عنبر" لتعيش عبرها الحرية التي لم تجرؤ على عيشها.
في روايته "شديدة الصخب، لصيقة القرب" يعرض الروائي الأمريكي جوناثان فوير تأملاته على خلفية أحداث 11 سبتمبر على لسان طفل فقد والده في تفجير مبنى التجارة العالمي، وقرر البحث عن كل ما يخصه ليتعرف عليه عن قرب لم يسعفه الوقت إليه أثناء حياته. وكأنه في رحلة البحث هذه يقصد أن يقول إنه لا يؤمن بالندم على ما اقترفه في الماضي. تموت لديه كل الزلات السابقة ووحدها الأشياء التي لم يجرؤ على فعلها تحيي فيه شعور الأسى: "كان يمرّ الزمن مثل يدٍ تلوّح من قطار لطالما تمنيت لو كنت على متنه". فالندم لديه هو لقاء لم يحصل، حديث لم يجرِ، هو جثة لتجربة لفظت أنفاسها قبل أن ترى النور.
الندم الإلهي
لا يبدو أن ملامح الندم سمةً حصرية على النص البشري وطبيعة شخوصه المستوحاة من الواقع والمعرضة للتجارب والأخطاء. فالمتخيل السردي الديني أيضاً يحمل ملامح الندم. نرى هذا في الأسطورة اليونانية حين شكل الندم دافعاً تحكم بحياة هرقل ابن الإله زيوس. هرقل، الذي قتل زوجته وأطفاله أثناء نومهم بسبب لعنة الجنون التي ألقتها عليه الإلهة هيرا، كان عليه أن يتم إثني عشر عملاً مستحيلاً كي يشفى من ندمه.
لكن، إذا كانت الأسطورة اليونانية تقدم لنا سبباً خارجاً عن إرادة هرقل لارتكاب ما يستوجب الندم وهو لعنة هيرا، فإن النص التوراتي (سفر التكوين) يتركنا في حيرة أمام ندم الرب لخلقه للإنسان: "فَندم الربُّ أنَّه عَمِلَ الإنسان في الأرض، وتأسّف في قلبه".
ويبدو أن الندم هنا ينحو منحىً انتقامياً يتجلى في ترجمة الأسف إلى فعلٍ غاضب. وفي النص السماويّ وحده تبدو البداية الجديدة ممكنة لإخماد حرقة الندم، حيث يقرر الرب أن يمحو الكائنات عن وجه الأرض في حادثة الطوفان لخلق عالمٍ من أتباعٍ أشدّ وفاءً. وفي حين يبدأ القارئ بالاعتقاد أن هذا الفعل قد يكون إصلاحياً أكثر منه تدميرياً، يعود النص ليعبر عن مزاجٍ مكتئب: "لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ"."
وبينما نحاول -نحن الأرضيون- أن نتقمص السرد الذي يكتب ندمنا بالشكل الأمثل لنخفف آلامنا بإلباس الأسى مختلف الأثواب التي تجعله أعمق وأجدى عله يكون حكمةً لا انكساراً، لا يبدو -الكائن السماويّ- مكترثاً بتقديم سرد يمثلنا، بل يذهب في سبيل الترويح عن أناه الجريحة ومزاجه المضطرب إلى، خيار نعجز عنه، إلى أن يعيد صياغة العالم حوله من الرّكام، ذلك أنه يشعر بالندم.
-
*حلا علي
صحافية
عندما يصدح صوت المغنية الفرنسية إديت پياف: Non, je ne regrette rien "لا أندم على أي شيء" تضع بذلك احتمالية أن كائناً
ما، مُثقلاً بكامل تاريخه وأزماته وأحزانه، قد يصبح بوسعه ألا يأسف على شيء مطلقاً. وبرغم كون الاحتمال بعيداً عن الواقع، إلا أن المغنية، ضئيلة البنية، التي تركت عائلتها في عمر الخامسة عشرة لتغني في الشوارع والكباريهات، لم تحظ بالكثير من الثقافة ولم تكن تعرف شيئاً إلا الغناء: "لم تكن تعرف اختيار الملابس المناسبة ولا انتقاء الألفاظ الصحيحة، لم تكن تعرف حتى الانحناء لجمهورها دون أن تخجل من ضآلتها"، كما قال عنها مكتشف المواهب جاك كانيتي، "صوتها العبقري لم يخرج من رأسها الصغير، بل من قلبها". فهل يكون الجهل هو ما يحمي البشر من طغيان مشاعر الندم؟
تعتقد البروفيسورة سوزان كين في بحثها "التعاطف السردي"، أن النص السردي المتخيل، وبشكل خاص ذاك المعني بخطاب الوصف الشعوري، يستدعي محاكاة عقلية من القارئ، أو المستمع في حالة إديت، عرفتها ب "التقمص العاطفي السردي" تورطه بالدخول إلى العوالم المتخيلة وتعلن مغادرته للعوالم الحقيقية، وكأنه يُسقط النص على ذاته.
وإديت، التي امتلأت الصحافة الصفراء بأحداث من قصة حياتها المأساوية كتخلي والدتها عنها في طفولتها وخسارتها لطفلتها للمرض في عامها الثاني، وفقدانها لحب حياتها مارسيل سيدران في حادث تحطم طائرة ومعاناتها الإدمان على العقاقير الطبية، بالتأكيد لديها الكثير لتندم عليه غير أنها لا تريد ربما توريط جمهورها في هذه الحالة بالذات من التعاطف.
هنا، ما تريد إديت أن تستدعيه لدى مستمعيها هو حالتها العاشقة الجديرة بالغبطة لا الإشفاق، فها هي بخفة الريشة خالية من الأسى والخيبات وحتى الذكريات، تنفض عنها غبار السالف من الأيام تأهباً للقادم الجديد... الحب الذي ولد لتوه، كما تنهي أغنيتها: "حياتي... أفراحي تبتدئ معك اليوم".
لكن، ماذا لو عمد النص إلى توريطنا في تقمصه للندم؟ وكيف يكرس المتخيل السردي الندم كدافع لشخوصه وكمحرك لتعاطف القارئ؟ وهل الأدب الإلهي مستثنى من دافع الندم في هذا السياق؟
ماذا لو...؟
يُعرّف الندم في معجم لسان العرب على أنه الأسف على فعل ما، وينطوي في معناه شعور بالحسرة ورغبة في التوبة، ويذكر قاموس ويبستر الإنكليزي أن كلمة الندم Regret بالإنكليزية هي من أصل جرماني Grata وتعني الندب أو النحيب.
أما في الفلسفة فيعرفه بروفيسور الدراسات الفلسفية كريستوفر كاولي على أنه شعور ينتج عن المقارنة اللاواقعية بين القرارات التي اتخذناها طواعية وبين نقيضها من قرارات لم تتخذ. وتعتقد جانيت لاندمان أنه شعور ذو طبيعة استثنائية يدعونا لمراجعة الماضي وتقييم دورنا فيه، ليفعّل أفكاراً متخيلة "عما كان يمكن أن يكون". ويلخص بادي مكوين مشاعر الندم بأنها رحلة خيالية في ذهن الفرد للبدائل المتاحة وغير المتاحة، والمتجسدة في السؤال: ماذا لو...؟
فالندم، إذن، كدافع للشخوص المتخيلة في الأدب، يجعل هذه الرحلة تتسم بإزاحة مزدوجة من واقعيتها: أولاً، لأنها رحلة متخيلة، وثانياً، لأنها تجري في ذهن شخصية متخيلة. وعلى هذا فإن ما يجعلنا نتقمصها كمتلقين، هو استراتيجية سردية تعمل، بحسب كين، على توظيف "المكان والزمان والشخوص الأدبية المتخيلة لتحفيز مشاعر غير واقعية في الذهن تحاكي تلك التي تنتج عن تجربة حقيقية للحدث المتخيل". وبالتالي يصبح القارئ عنصراً فاعلاً في خلق العوالم القصصية، وشريكاً في الندم.
"لا أندم على شيء"
في مذكراته "يوميات لص" يصر الكاتب الفرنسي جان جينيه على أن قلبه هو الذي قاده إلى اختيار الكون الذي يُسرّ فيه، وبرغم أن ما يقصده هو عالم اللصوصية والعيش كمنبوذ وفار من السلطات، إلا أنه يرفض إظهار أدنى شعور من الأسى أو الندم: "في سبيل ما يعرف بالشر، اخترت بكل حب أن أخوض مغامرة أوصلتني إلى السجن". وكأن الكاتب يعمد إلى إعادة استكشاف ذاته وخلق مبررات لأفعاله عبر عدم تبريرها.
يشير الفيلسوف بادي مكوين إلى حالة جينيه بما يدعوه "وجهة النظر التبريرية"، أي أن قرار الفرد بخوض تجربة ما تعتمد على عاملين أحدهما شخصي يتعلق بالطبيعة التي اتسم فيها الفرد عند خوض التجربة؛ والآخر شرطي، يرتبط بالظروف التي قادت الفرد إلى تجربته. وفي حياة الندرة والحرمان التي عاشها جينيه قد نفهم دوافعه في خلق المصير الأشد بؤساً، في ظل غياب المصير الأشد تألقاً "ليس بهدف التفرد الأعمى" كما يقول، وإنما "بغية تحقيق شيء جديد من هذه الندرة".
يطرح الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو رؤية مشابهة في روايته "العمى" حين تخلق إحدى شخصيات العمل -التي يشار إليها بألقاب بدلاً من أسماء- بُعداً فلسفياً للندم بقوله: "طالما أكون صادقاً اليوم فما يهمني ندمي غداً؟" وهو بهذا يعزو الأفعال إلى نسبية وجودها. أي أن ما يصح اليوم قد يبدو خاطئاً في وقت آخر، وقد يندم عليه، ولكن الزمن لا يغير طبيعة الفعل القائم على الصدق بالنسبة له.
ولعل ابن عربي سبق ساراماغو إلى هذا بقرون حين قال: قد يلحقُ الناسَ في أقوالهم ندمٌ/ وليسَ عندي فيما قلتهُ ندمُ. والعبد في عزلة ٍ عن كلِّ ما كتبتْ/ كفٌّ لهُ أوهمتْ منْ كفهِ ديمُ. تقع استراتيجية السرد هذه ضمن نطاق "كسر الحواجز" التي يعمل فيها النص على توريط القارئ عبر جذبه من خلال دوافع غير مألوفة لشخوصه، بحسب كين.
حفل تأبين لكل ما لم نفعله
في رواية "اختبار الندم" للكاتب خليل صويلح يعمل الندم على مستويات عدة ليس فقط من خلال شخصية الراوي، بل أيضاً عبر النساء في حياته، الراويات الفرعيات لامتداد الحبكة القصصية، وكأنه يوحّد شخوص الرواية في حالة من الندم الجماعي قبل أن يخلق هذه الحالة بشكل أعم لدى القراء. وهذا ما تطلق عليه سوزان كين "استراتيجية التعاطف السردي التفويضي"، أي أن الكاتب يفوض نصه ليمثل مشاعر الجماعة عبر التجارب الشخصية لشخوص السرد.
وفي نص صويلح، يقلب الراوي دفاتره العتيقة ورسائله وذكرياته في دمشق المتهالكة، لينقل على لسان النساء اللواتي عرفهن، مشاعر الندم على الفرص الضائعة على خلفية مشهدية الموت في البلاد التي أنهكها الحرب: "حياتنا هذه هي نوع من الانتحار بالتقسيط". وكأن هذه العبارة تمهد لمرثية أشمل لروايات لم تكتمل عن حياة الشخصيات التي وسيناريوهات لم تحدث وحيوات منقوصة وآمال مطوية بالخيبة، ليجد القارئ نفسه معنياً بالرثاء ومتورطاً فيه.
تشير لاندمان إلى طبيعة الندم الشاملة، ففي حين أن الذنب ينتج عن فعل حصل في الماضي، يمتد الندم ليشمل ما لم يحصل أيضاً. ولهذا يستهل صويلح روايته بقوله "الندم ربما هو اعتذار متأخر عن أفعال كنا نظن أننا على صواب لحظة ارتكابها، أو عدم تحقيقها لحظة التفكير فيها".
تعمد الكاتبة سحر خليفة في روايتها "مذكرات امرأة غير واقعية" إلى استراتيجية التفويض نفسها من خلال شخصية عفاف، امرأة ككل نساء الشرق، تمضي عمرها في الندم على ما لم تستطع أن تكونه، عن حياة يرسمها إجهاض الأحلام والرغبات وخيبة الجسد "طوال عمري أدرت أن أكون تفاحة ولو مرة". وبسبب انغماسها اللاواقعي في عالم من الأحلام والحسرات تتماهى مع قطتها "عنبر" لتعيش عبرها الحرية التي لم تجرؤ على عيشها.
في روايته "شديدة الصخب، لصيقة القرب" يعرض الروائي الأمريكي جوناثان فوير تأملاته على خلفية أحداث 11 سبتمبر على لسان طفل فقد والده في تفجير مبنى التجارة العالمي، وقرر البحث عن كل ما يخصه ليتعرف عليه عن قرب لم يسعفه الوقت إليه أثناء حياته. وكأنه في رحلة البحث هذه يقصد أن يقول إنه لا يؤمن بالندم على ما اقترفه في الماضي. تموت لديه كل الزلات السابقة ووحدها الأشياء التي لم يجرؤ على فعلها تحيي فيه شعور الأسى: "كان يمرّ الزمن مثل يدٍ تلوّح من قطار لطالما تمنيت لو كنت على متنه". فالندم لديه هو لقاء لم يحصل، حديث لم يجرِ، هو جثة لتجربة لفظت أنفاسها قبل أن ترى النور.
الندم الإلهي
لا يبدو أن ملامح الندم سمةً حصرية على النص البشري وطبيعة شخوصه المستوحاة من الواقع والمعرضة للتجارب والأخطاء. فالمتخيل السردي الديني أيضاً يحمل ملامح الندم. نرى هذا في الأسطورة اليونانية حين شكل الندم دافعاً تحكم بحياة هرقل ابن الإله زيوس. هرقل، الذي قتل زوجته وأطفاله أثناء نومهم بسبب لعنة الجنون التي ألقتها عليه الإلهة هيرا، كان عليه أن يتم إثني عشر عملاً مستحيلاً كي يشفى من ندمه.
لكن، إذا كانت الأسطورة اليونانية تقدم لنا سبباً خارجاً عن إرادة هرقل لارتكاب ما يستوجب الندم وهو لعنة هيرا، فإن النص التوراتي (سفر التكوين) يتركنا في حيرة أمام ندم الرب لخلقه للإنسان: "فَندم الربُّ أنَّه عَمِلَ الإنسان في الأرض، وتأسّف في قلبه".
ويبدو أن الندم هنا ينحو منحىً انتقامياً يتجلى في ترجمة الأسف إلى فعلٍ غاضب. وفي النص السماويّ وحده تبدو البداية الجديدة ممكنة لإخماد حرقة الندم، حيث يقرر الرب أن يمحو الكائنات عن وجه الأرض في حادثة الطوفان لخلق عالمٍ من أتباعٍ أشدّ وفاءً. وفي حين يبدأ القارئ بالاعتقاد أن هذا الفعل قد يكون إصلاحياً أكثر منه تدميرياً، يعود النص ليعبر عن مزاجٍ مكتئب: "لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ"."
وبينما نحاول -نحن الأرضيون- أن نتقمص السرد الذي يكتب ندمنا بالشكل الأمثل لنخفف آلامنا بإلباس الأسى مختلف الأثواب التي تجعله أعمق وأجدى عله يكون حكمةً لا انكساراً، لا يبدو -الكائن السماويّ- مكترثاً بتقديم سرد يمثلنا، بل يذهب في سبيل الترويح عن أناه الجريحة ومزاجه المضطرب إلى، خيار نعجز عنه، إلى أن يعيد صياغة العالم حوله من الرّكام، ذلك أنه يشعر بالندم.
-
*حلا علي
صحافية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق