للشاعرة الأمريكية كارولين فورشيه أربعة دواوين صدر أولها وهو "جَمع القبائل" عام 1976 بعد أن فاز بالنشر في سلسلة جامعة ييل للشعراء الشبان. في عام 1977 سافرت فورتشيه إلى أسبانيا لترجمة أعمال الشاعرة السلفادورية المنفية كلاريبل ألجريا Claribel Alegría.صدر ديوانها الثاني "البلد الذي بيننا" عام 1982 وفي العام نفسه صدرت ترجمتها لكلاريبل ألجيريا بعنوان "أزهار من البركان"، وفي عام 1993 أصدرت ترجمتها لمختارات من الشاعر الفرنسي روبرت ديسنوس. في عام 2000 صدر لها ديوان "ساعة زرقاء". وإلى جانب ذلك، شاركت في ترجمة مختارات من محمود درويش صدرت بالإنجليزية عام 2002.
الكولونيل
ما سمعتموه صحيح. كنت في بيته.
حملت زوجته صينية القهوة والسكر. وابنته كانت تبرد أظافرها،
وابنه خرج ليتنزه في الليل.
كان ثمة جرائد يومية، وكلاب أليفة ومسدس
بجواره على الوسادة.
وكان القمر يتمايل عاريا في طرف خيطه الأسود فوق البيت.
وعلى شاشة التليفزيون مسلسل بوليسي. كان بالإنجليزية.
كانت ثمة كِسَر زجاجات مغروسةً على السور المحيط بالبيت
لتنزع ركبتي رجل عن ساقيه أو تمزق يديه إربا
وعلى الشبابيك قضبان كالتي في محلات الخمور.
تناولنا العشاء، لحم ضأن، ونبيذا طيبا، وجرسٌ ذهبيٌّ كان
على المائدة لاستدعاء الخادمة.
أحضرت الخادمة ثمرات مانجو خضراء وملحا ونوعا من الخبز.
وسئلتُ كيف استمتعت بالبلد. كان هناك إعلان قصير بالأسبانية.
خرجت زوجته بكل شيء. ودار حديث قصير عن مدى صعوبة الحكم.
قال الببغاء في الشرفة هالو. فقال له الكولونيل اخرس، ونزع نفسه من المائدة.
قال لي صديقي بعينيه: قولي أي شيء.
عاد الكولونيل وفي يده كيس من أكياس البقالة.
أفرغ على المنضدة منه آذانا بشرية
بدت كأنها أنصاف خوخ مجفف.
وكيف يقال هذه بعبارة أخرى؟
لقد أخذ واحدة منها بين يديه، وهزَّها أمام وجهينا
ثم أسقطها في كأس ماء. وهناك عادت للحياة.
قال أنا تعبت من اللف والدوران.
أما عن حقوق أي أحد فقولي لقومك اذهبوا إلى الجحيم.
أزاح الآذان بذراعه فانتثرت على الأرض
ورفع في الهواء آخر كأس من النبيذ.
قال، هذا يصلح لقصائدك، أليس كذلك؟
آذانٌ مِن التي على الأرض التقطت فتات صوته.
آذان من التي على الأرض دُهست فيها.
---
يمكننا بشيء من المبالغة أن نقول إن كارولين فورشيه وإن تكن كاتبة هذه القصيدة إلا أنها ليست شاعرتها. فالشاعر الكامن خلف هذه القصيدة لم يقل فيها غير كلمة واحدة: هالو:
ودار حديث قصير عن مدى صعوبة الحكم.
قال الببغاء في الشرفة: هالو.
فالكولونيل الحاكم الذي يتحدث الآن عن مصاعب الحكم، ولعله كان يوشك أن يتكلم عن زهده فيه، أو اضطراره إليه خدمة لأهله وبني وطنه، قوطع في لحظة قال فيها الببغاء هالو. ما أشبه ذلك الببغاء بالطفل الذي قال ببساطة إن الإمبراطور عار. وبمجرد أن قال الببغاء مقولته “المدوية” هذه حتى تكهرب الجو، واستشرى فيه التوتر:
انتفض الكولونيل وعاد بكيس الآذان البشرية وقال في حقوق الإنسان ما يؤمن به كل طاغية في قرارة نفسه. “أما عن حقوق أي أحد فقولي لقومك اذهبوا إلى الجحيم”. ثم أزاح الآذان فسقطت على الأرض، ورفع كأسه، وواجه ضيفته بأنها هي الأخرى لم تأت إلى بيته لنصرة شعب مضطهد بل لترجع بقصيدة.
قبل أن يقول الببغاء ما قاله كان هناك برغم السور المسلح بكسر الزجاج، وبرغم القضبان، عشاءٌ وشرابٌ وجوٌّ أسري فيه طفلة وطفل وكلاب أليفة وتليفزيون مفتوح على مواد دعائية، وكان يمكن للجلسة أن تستمر دافئة هكذا وحافلة بالأكاذيب والوعود حتى النهاية لكن الببغاء قال هالو. ومعروف أن الببغاء يحاكي البشر، فلم لا يحاكي البشر الببغاء، ولن يكون ذلك بالجديد علينا، فقد سبق وتعلمنا من الغراب كيف نواري سوأة موتانا، فلم لا نتعلم من الببغاء اليوم ألا نخرس عن سوءات أحيائنا.
لم يقل الببغاء أكثر من “هالو”، لعلها تكشف عن البلد الذي تدرَّب فيه على الكلام، لعلها تقول إنه مغترب في بيت الكولونيل، وفي بلده، وفي زمنه. أو لعلها صدى الكلمة الوحيدة التي نطقت بها الأجنبية الوحيدة في تلك المقابلة. مهما تكن براءة الكلمة، لكنها أثارت غضب الكولونيل، وجعلته ينثر مقتنياته من الآذان البشرية على الأرض، ويواجه ضيفته بما تعرفه.
كان الكولونيل يتكلم عن صعوبة الحكم، عن التضحية التي يقدمها بقبوله أن يحكم بلده، ثم قال ببغاء “هالو”، وبدا أن الكولونيل لا يريد لضيفته أن تسمع صوت أحد غيره.
كان يمكن أن ينظر الكولونيل إلى الببغاء ويبتسم ثم يعود إلى الحديث عن نفسه، كان يمكن أن يأمر بإبعاد الببغاء فلا ينال أحد غيره من أذن ضيفته، كان يمكن أن يتصرف كما يليق بإنسان طبيعي متزن، لكن كلمة قيلت، فسقط القناع عن وجه المجنون الذي لا يريد أن يعلو على صوته صوت، والذي لا يحتفظ من جثث ضحاياه إلا بآذانهم.
-
*أحمد شافعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق