اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

البولمان ..القدّاحة | قصص قصيرة ...* ريم حبيب

1
⏪⏬ القدّاحة
يمضي البرّيُّ وهو يضرب الأرضَ بقدميْه في فيافٍ أفلتتْ من عقال الطبيعة نفسِها.
ضبابٌ تكثّف أمامه، فبدا أشبهَ ببخورٍ يحترق. تماوجتْ في الجبل خيوطٌ بِيضٌ، وتداخلتْ مع ضوءٍ خافتٍ من شمسٍ غاربة.
سيقضي ليلتَه في الفيافي - ملكوتِه الذي يهيم به - حتى يرقَّ قلبُ ابنته سلمى، قال.
لقد أقسمتْ له زوجتُه "نجلا" بأنّها لن تخالفَه. وهي لم تخالفْه فعلًا. لكنّها لا تملك من أمر ابنتِها شيئًا.

داخلَ البيوت الفقيرة التعبة، سرى النبأُ كشرارةٍ هلِعة: سلمى تريد أن تتزوّج ابنَ الندّاف! طلب البرّيّ من "نجلا" أن تسكبَ لها طاسةَ الرعبة؛ فابنتُهما مسحورةٌ بلا شكّ، ولا يمكن أن تكونَ في كاملِ وعيها. وهو يفضّل أن يموت ألفَ مرّةٍ من أن يترك ابنَ الندّاف يتزوّج من وحيدته.

كالبرق، رسم خطّةً لخروج سلمى مع أمّها من القرية إلى بيتِ جدّها، الواقعِ في قريةٍ قصيّة. وحين أخبر سلمى بخطّته، وثبتْ مثلَ لبؤةٍ تدافع عن حبِّها. وكان على البرّيّ أن يَرفع الصوتَ احتجاجًا على ما أوقعه ذلك الشابُّ الأحمقُ بها.

البرّيّ رجلٌ وعرٌ، لكنّ قلبَه أبيضُ كالحليب. حين يتندّر، تقول في سرّك: "ما أمتعَه!" لكنّه حين يتكدّر، يصبح كجرفِ هاوية.

لا توجد عداوةٌ بين برّيّ وابنِ الندّاف، بل فجوة. فالبشر في النهاية لا يتساوَوْن: هناك أنسابٌ وأعراقٌ وجذور، وهناك غابةٌ تطفح بالطفيليّات. هذا ما تصوّره البرّيّ عن ابن الندّاف، ولا يمكن أن يكون للمسألة وجهٌ آخر . لكنّ كلَّ ما قاله البرّيّ لم يلقَ صدًى عند سلمى؛ فهي لم تعد غصنًا غضًّا، بل أصبحتْ قويّةً وناهضةً كشجرةٍ لا تكسرها الريح.

الحوار مع جيلٍ تعلّمَ، ودخل الجامعات، وانتمى إلى أحزاب، فيه ميلانٌ وخللٌ. ابنُ الندّاف لم يعد أجيرًا عند البرّيّ، والبرّيُّ لم يعد إقطاعيًّا بعد أن بدّد أراضيَه في عشق النساء. ثمّ جاءت الثورةُ، وأخذتْ ما بقي لديه من أملاك.

لم تمهّد سلمى الأمرَ للبرّيّ؛ فقد دخلتْ عليه فجأةً وأخبرتْه بأنّ ابن الندّاف سيأتي الليلةَ، ومعه الشيخ ليَعْقد قرانَهما. هكذا فُتحتْ كلُّ الأبواب الموصدة. لقد غيّرت الثورةُ كلَّ شيء: فابنُ الندّاف تعلّم، وهو اليوم مهندس، وعُيِّن في وظيفةٍ محترمةٍ في العاصمة، وسلمى سترافقه، وسينطلقان معًا ويبنيان مستقبلَهما، الذي لن يبدأ من نقطة الصفر؛ فالشركة منحتهما بيتًا!
---
ابتهجتْ سلمى بمجيء الليل. عطرُها ملأ المكانَ. نجلا تحضِّر المائدة؛ فالعروسان سيتناولان العشاءَ قبل أن يغادرا. كان البرّيّ يثرثر بشكلٍ عاصفٍ ومجروح. قال لسلمى: "أتمنّى أن تتراجعي عن قرارك مقابل كلِّ ما أملك!" قالت: "سأتزوّجُه!" رفع كفَّه في وجهها وقال بصوتٍ واهن: "ليت ذراعي تنقطع من المفصل إذا تزوّجتِه!" فردّت بعناد: "سأتزوّجُه!"

اندفعتْ نحو الباب تستقبل غسّان وتقودُه إلى غرفة الجلوس. غسّان شابٌّ نحيل، ضامرُ الصدر، يتحرّك مثلَ ذكر الماعز نحو أوراق الشجر. راح البرّيّ يتأمّله بصمت. همستْ سلمى لغسّان بألّا يَشعرَ بالإهانة من استقبال والدها له. وقالت له إنّهما لن يلبثا أن يمضيا معًا، وإنّ علاقتَه بوالدها ستتحسّن مع الوقت. تركتْهما جالسيْن، وذهبتْ لتُكملَ ترتيبَ حقائبها.

راح البرّيّ يدخّن بعصبيّة. حاول غسان أن يَخلق حديثًا بينهما. سأله:
- من زمان بتدخّن؟

لم يجب البرّيّ. تجاوز غسّان الصمتَ وأردف:
- أنا ما بدخِّن. بس اليوم رح دخِّن كرمالك.

أشاح البرّيّ بوجهه عنه. اقترب غسّان من علبة السجائر وأخرج لفافةً تبغ ، محاولًا تقليدَ البرّيّ. وحين انتهى، وضعها في فمه، ثم تقدّم نحوه، وبدماثةٍ سأله:
- ممكن القدّاحة؟

أعطاه البرّيّ القدّاحة وهو يرمقه ممتعضًا. أنهى غسّان سيجارتَه على عجل، وتناول أخرى بعد دقائق. طلب من البرّيّ قدّاحتَه ثانيةً، فأعطاه إيّاها، مكرِّرًا مشهدًا وحيدًا لم ينتهِ إلّا بوصول الشيخ وعقدِه قرانَ سلمى وغسّان.
--
انتهى العشاءُ ووصلت السيّارة. ارتمت سلمى في حضن البرّيّ مودِّعةً.
حانت لحظةُ المواجهة الفعليّة الأولى بين الرجُليْن. انكفأ غسّان وفكّر: يجب أن يناورَ الآن؛ فهو ابنُ الثورة، وبالسياسة سيحصل على ما يريد!

تراجع خطوةً إلى الوراء، وانشغل بحمل الحقائب. وقبل أن يغادر، التفت إلى البرّيّ قائلًا:

- عمّي!
ما أشدّ ما أوجعتْ هذه الكلمةُ البرّيَّ! لكنّه واجه غسّانَ بوجهٍ متجهِّمٍ يمتدّ عليه شاربٌ مفتول. فأكمل غسّان:
- عمّي، أنتَ حكيم، ونحن جايين على حياة جديدة، وهلّق صرت متل ابنك. فشو ممكن تنصحني نصيحة خلّيها ببالي كلّ حياتي؟

أجابه البرّيّ وهو يدير ظهرَه ويتجه إلى الداخل:
- اشترِ قدّاحة.


2
البولمان

"الحقيقة عند الرجل ليست نفسَها عند المرأة. فالحقيقة عندها تندرج في سياق الأحداث والوقائع، وما يصحّ اليوم قد لا يصحّ غدًا."

كنتُ واثقةً بأنّ ما قلتُه لن يمرّ من دون تعليقٍ أو تندُّر. لذلك لم أستغربْ حين وصف أحدُ الطلّاب المرأةَ بـ"المجنونة." أجبتُه وسط ضحك زملائه: "كلُّنا نحمل جينَ الجنون، مثلما نحمل جينَ السرطان أو جينَ العبقريّة. وتتفاوت أعراضُ ظهور هذه الجينات من شخصٍ إلى آخر."

تبادل طلّابي النظراتِ والتعليقاتِ المضحكة. وقبل أن يتحلّقوا من حولي فأتأخّرَ عن مرضاي في العيادة، لملمتُ كتبي وتناولتُ حقيبتي. وإذ بإحدى طالباتي تفاجئني بعلبة شوكولا صغيرة تدفعها نحوي قائلةً: "كلّ عام وأنت بخيرٍ يا دكتورة!"

لم أتفوّهْ بكلمة، بل شددتُ حقيبتي إلى صدري، وأسرعتُ إلى مغادرة القاعة.

ألتفتُّ ورائي وكأنّني أتحقّق من أنّ سنوات عمري لن تلحقَ بي. حين كانت تظهرُ لي، كنتُ أقفزُ عنها؛ فقد زرعتُ في داخلي وزرًا ثقيلًا في رتابة السنوات والأيّام التي فقدتْ طعمَها ولونَها. وإذ رحتُ أبحث عبثًا عن ذاتي، ألفيتُني في قفرٍ يباب، لا أثرَ لرجلٍ فيه. شعرتُ بانزياحٍ مفاجئ، كأنّ الأرضَ اهتزّت من تحت قدميّ هزّةً خفيفة. وفي لحظة وحيٍ مفاجئة، وجدتُ نفسي أدخل مكتبَ الدكتور غريب.

كان يقف أمامي بأناقته اللافتة دومًا، وأنا أشبهُ بعصفورٍ ينتظر عند النهر ليشربَ سوادَ عينيه. هببتُ كالريح وجذبتُه جانبًا: "اليوم عيدُ ميلادي. أفكّر جدّيًّا في أن نحتفل به معًا." ابتسمَ مستغربًا، ثمّ سألني عن عمري. ضحكتُ وأجبتُه: "خمسون." ردّ باستفزاز: "فقط! وماذا سنفعل؟" وقبل أن أجيبَه على وقاحته، اعتذرَ عن تلبية الدعوة لانشغاله بمناسبةٍ خاصّة.

أغادرُ المكتب وأنا أسترجعُ ما حدث بيننا. أنفاسي تتسارع. أعودُ إليه وأدخل بلا استئذان. أطلبُ إليه أن ينسى دعوتي؛ فلا يمكن أن يكونَ هو الشخصَ الذي أرغبُ في أن أقضيَ عيدَ ميلادي برفقته. أبتسمُ بسخريةٍ (لقد نلتُ منه!)، وأبرِِّرُ عودتي إليه بأنّني أرغب فقط في أن أعرف إنْ كان مدعوًّا إلى مؤتمر رابطة الأطبّاء النفسيّين في دمشق غدًا. وعندما قال إنّه لم يتلقَّ دعوةً، قلتُ إنّهم لا يدْعون إلّا الأطبّاءَ الأشهرَ في كلّ محافظة (ها قد نلتُ منه ثانيةً!). فردَّ بابتسامةٍ باردة.

أصعدُ إلى السيّارة وأتوجّه إلى عيادتي. أهزُّ رأسي كنرجسة، متناسيةً ما حدث. وسرعان ما تصلني رسالةٌ على هاتفي النقّال. الدكتور غريب يعتذر: "أوه! كنتُ وقحًا معكِ. متأسّف جدًّا. كوني بخير."

يبلّلني عرقٌ باردٌ بعد هبَّةٍ ساخنةٍ اجتاحت جسدي بأكمله.
---
تعثّرتُ بعلاقاتي كثيرًا. كنتُ باردةً دائمًا مع الرجال؛ فهياجي كان موجَّهًا إلى النجاح وتحقيقِ الذات.

تلك البرودة حطّمتْ كلَّ شيء. حتّى زواجي من الدكتور رضوان لم يستمرّ أكثرَ من ثلاثة أشهر. افترقنا بهدوءٍ كما يليق بزوجيْن حضاريّيْن. وحين سألتْني أمّي عن سبب الطلاق، أخبرتُها أنّ طباعَنا مختلفة، في حين كان السببُ الحقيقيّ جنسيًّا.

بعد طلاقنا، قدّمَ رضوان بحثًا أهداني نسخةً عنه. كان بحثًا عن المرأة التي تمارس ضربًا مُخِّيًّا من السلوك الذكَريّ. كان يقصدني بالتأكيد. لكنّ رضوان لم يُعِرْ جسدي أذُنًا، ولم يُثْلجْ رغبتي بكلمة، ولم يعرف كيف يضمُّني إليه، وكيف ينتشلني من غربتي.

لقد قضينا أيّامنا في العويل والصراخ. لذا اجتثثتُه من أعماقي، وولّى.

***

وجهي مثلُ بحيْرةٍ يصفعها المطر. أحدِّق في أرجاء العيادة التي تغصُّ بالمرضى. أطلبُ من الممرِّضة أن تُحْضرَ لي إضبارةَ أوّلِ مريض، وأن تصنعَ لي كوبَ قهوة. أجلس. يرنّ هاتفي مجدَّدًا: إنّه الدكتور غريب مجدَّدًا. أستشيطُ غضبًا وأتناول هاتفي لألقّنَه درسًا. وفي اللحظة التي يفتح فيها الخطّ، تدخلُ الممرِّضة، فأُنهي المكالمة من دون أن أقولَ شيئًا.

أمرُّ على أضابير المرضى. أبتسمُ لكلّ امرأةٍ أحرقتْ بنيرانها جدرانَ غرفتها الباردة، لكلّ امرأةٍ فتحتْ بابَ الرغبة عنوةً وفعلتْ كلَّ ما يُفعَلُ ليتلظّى الصقيع.

لقد تعلّمتُ أن أعطيَ مريضاتي شتّى المبرِّرات، مُوقِنةً أنّ بعضَهنَّ ممّن أتين من بيئاتٍ منغلقةٍ سيُقْتلنَ إنْ لم أمنحْهُنّ طوقَ النجاة.

في السابق جاءتني فتاةٌ في التاسعة عشرة. كانت طالبةً في كلّيّة الاقتصاد. أخبرتني أنّها "حاملٌ من عفريتٍ" كان يتربّص بها في التواليت. حدّقتُ في جرحها الداخليّ، وفي دمها النازف. ما جدوى الطبّ في دوّامة النارهذه؟ كلُّ حيادٍ قتلٌ آخر.انحزتُ إليها، بينما انطبعتْ في ذاكرتي - كوشمٍ من الجمر - نظرةُ شقيقها الذي كان يرافقها. بعد أيّام سألتُ عنها في الجامعة، فعلمتُ أنّها قُتلتْ.

تضاعفتْ صدمتي حين تكرّرتْ تلك الحالات: نسوةٌ يفتقدن الحبَّ والجنسَ، فيتماهيْن مع التفكير الذي يسود بيئاتهنّ؛ فمرّةً يحبلن من "الكرسيّ،" ومرّةً من "الدرّاجة الهوائيّة،" ومرّةً من...

أطلبُ من الممرِّضة أن تعطي المرضى مواعيدَ أخرى؛ فلديّ مؤتمرٌ طبّيّ، ويجب أن أتهيَّأ للسفر.

أحملُ حقيبتي وأخرج، وصوتُ الدكتور غريب يصفر في أذني.
---
أصِلُ البيتَ. أدخلُ الحمّام. أتعرّى. أدخلُ في حلمٍ يشبه الدوارَ. تتسلّل عينايَ إلى هضبتيَّ. أزيحُ بينهما. أمرُّ عليهما. رعدةٌ خفيفةٌ كدتُ أنساها. جسدي دافئ. أتلمّسُه بيدٍ منسرحة. أفتح الدوشَ حتى امتلأ المكانُ بالبخار.أتجرّأ وأقبضُ على مفتاحي. أرى الدكتور غريب أمامي عاريًا إلّا من شبقه. صوتُه يهمس لي: "لا تنظري إلى الوراء. الموج مناسب، وما تبقى هراء."

صوتُ القرع على باب الحمّام يُخْرجني من خيالي: إنّها أمّي تخبرني أنّ الممرِّضة اتّصلتْ وقد حجزتْ لي في الثالثة فجرًا. هكذا أصل إلى العاصمة في الموعد المحدَّد للمؤتمر. أتأمّل جسدي للمرّة الأخيرة قبل أن أضعَ عليّ منشفةً، وأسألُ كلَّ ما فيَّ: أمازال في إمكان النهر أن يرتفعَ ليأتيَ بالفيض؟!

***

أركبُ سيّارةَ تكسي، وأطلب من السائق أن يأخذَني إلى محطّة البولمان، فيجيبُني: "بأمرك دكتورة!" أبتسم له وأسألُه: "هل تعرفني؟" فينفي معرفتَه بي قائلًا: "مِن شكلك مبيّن دكتورة." تتّسع ابتسامتي. أتأمّلُ نفسي:

أضعُ نظّارةً طبّيّةً. تسريحتي ربطةُ ذيل حصان. أرتدي طقمًا كحليًّا وقميصًا أبيض. أردافي سمينة.

أستعيدُ ما قاله الدكتورغريب من أنّي أبدو أكبرَ من عمري.

ينتابني شعورٌ بالضآلة. أصعد البولمان. أتنبّه إلى العدد القليل فيه. هناك سيّدةٌ برفقة ابنها يجلسان خلف السائق، وشابٌّ عسكريّ يجلس خلفهما. أُبرزُ بطاقتي للسائق، فيخبرُني أنّه يمكنني أن أجلسَ في أيّ مقعد.

أذهبُ إلى آخر مقعد وأجلس مسترخيةً. ساعاتٌ قليلة وينبلجُ النهار، فأدخلُ في عامٍ جديد.

نزّت من عيني دمعةٌ، فتركتُها تسيل على خدّي.

فتحتُ عيني على صوت رجلٍ يسألني: "آنسة، ممكن أقعد بجنبك؟" وقبل أن أجيبَه قال لي إنّ لديه ذعرًا من السفر. كان في الأربعين، يرتدي الجينز، شعرُه طويل يربطه مثلي إلى الخلف. سحبتُ حقيبتي لأفسحَ له مجالًا كي يجلس. شكرني فلم أجب. وفجأةً التفتُّ إليه وسألتُه: "لماذا افترضتَ أنّي آنسة؟" أجاب: "لأنّكِ تبدين صغيرةً."

ضحكتُ وأجبتُه بغضب: "لستُ آنسةً ولست صغيرةً." فردّ بهدوء: "من قال لكِ ذلك؟ مَن يمكن أن يدَّعي أنّه يعرف المرأةَ ويعرف عمرَها؟"

وأضاف أنّه يدرس الكارما في جامعةٍ في الهند، وأنّه كان في زيارةٍ بدعوةٍ من مركز يوغا لصديقه، وقد أنهى زيارتَه إلى سوريا، وهو عائدٌ اليوم إلى الهند.

طلب مني أن أعطيَه يدي ليخبرَني أين مكامنُ الطاقة لديّ. كانت يداه كقنواتٍ من زبدٍ مُقْمر، تنحدر نحو أوديةٍ من رماد. رأيتُهما تتسلّلان إلى داخل كهوفي القديمة. كان لجسده رائحةُ صنوبر. وكانت بحّةُ صوته تمطر نشوةً وتخيّلاتٍ.

في تلك اللحظة توقّف البولمان عند استراحةٍ قرب حمص. كانت الساعة الخامسة. العتمة ما تزال تجرّ ذيولَها ببطء. نزلت السيّدةُ وابنُها والعسكريّ. لم يبقَ سوانا. لقد استلّ مفتاحي على حين غرّة ودخل أدغالي. لم يكن لصًّا بل مبشِّر. وكنتُ أبتعد معه وأهتزُّ تحت الريح.

غفوتُ بعد ذلك المسّ الكهربائيّ. لا، لم يكن مسًّا! كان خدرًا لذيذًا رماني في قارب، وكان الموجُ مناسبًا. وكانت روحي وسط البحر تنتظر أن تهتديَ بجزيرةٍ صغيرةٍ مشمسةٍ بعد مطرٍ ناعم، فيها تفّاحُ الرغبة. وكان جسدي مثلَ سنجابٍ بنّيّ، مذهولٍ بالفيء، مذهولٍ بالشمس، وبكلِّ ما أنبتته الأرض.

حين استعدتُ وعيي، كان البولمان قد بلغ محطّتَه الأخيرة. نظرتُ بجانبي، فلم أجدْه.
---
بعد مدةٍ من تلك الحادثة، لازمني الخمولُ طوال الوقت. تساءلتُ: ماذا لوكنتُ...؟

أخذتُ موعدًا من صديقتي الطبيبة النسائيّة. بعد الفحص، أخبرتني أنّني قد أكون حاملًا، وأنّ الحملَ قد يكون في أسبوعه الأوّل. طلبتُ منها أن تحجزَ لي موعدًا لعمليّة إجهاض. وحين سألتْني ممّن أنا حامل، لم يبقَ في ذهني سوى صوتِ الريح، فيما وجوهُ مريضاتي تلتفّ حولي. أجبتُها:
-
*ريم حبيب
سوريا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
➤روائيّة ومحامية من سوريا. صدرت لها روايات عدّة: أكثر من امرأة،سفاحُ الذكرى،كيف يموت الأقحوان،احتباس حراريّ. وتصدر لها قريبًا رواية بعنوان: المخدع.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...