اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

رواية تجريبية للروائي المبدع: ناصر رباح ..* قراءة المخرج والكاتب: مصطفى النبيه

⏬"رواية " منذ ساعة تقريباً" سيمفونية بصرية، تبحر في عوالم النفس البشرية رواية تجريبية للروائي المبدع / ناصر رباح
قراءة المخرج والكاتب / مصطفى النبيه"

" منذ ساعة تقريباً" سيمفونية بصرية تعج بالصور الفنية, تدور في فلَك أناس مهمشين, فقراء ومضطهدين، يعيشون نفس ظروف القمع والجوع، يعانون من ازدواجية الشخصية، يهربون بأفكارهم من واقعهم اللئيم إلى ماضيهم الرحيم. الرواية تعرينا أمام أنفسنا لنكتشف صورتنا الوقحة في المرآة فنصطدم بكمية الشر التي تسكننا، والتي نسقطها دوما على ضحايانا الذين يخضعون لسلطتنا، هروباً من الأمراض المعلقة في أرواحنا.
"منذ ساعة تقريباً" اسم مثير يجذب الانتباه، تتلخص في وقت زمني محدد يسرد بها الكاتب تجربته الإبداعية المكثفة، فدلالة الاسم تحمل في طياته الكثير من الغموض والتأويلات، وتشوق القارئ المشاهد للمتابعة حتى يكتشف ما يدور من أحداث في هذه المساحة الضيقة .
فما بين أناقة السرد وتقنيات السينما، واللون وعلاقته بالحالة النفسية، يخرج علينا الروائي "ناصر رباح" في خمسة فصول متبنياً مسرح بريخت ليكسر حاجز الوهم، " الجدار الرابع"، يريد الكاتب من القارئ أن يكون فاعلاً وليس مفعولا به، كي لا ننساق قطيعاً وراء عاطفتنا وندركُ حقيقة أننا نعيش بين أفكار حملت شخوصا ابتكرها الروائي بين السطور لتدق جدران "الثالوث المقدس "، الدين والجنس والسياسة، وتحكي بصوت عالٍ بعيداً عن الخوف والقيود التي تحرمنا من التعبير عن مشاعرنا. بُني العمل على المونتاج المتوازي في السينما والقطع السريع، حيث نرى خطين يسيران في آن واحد.. الخط الأول يتناول أبطال الرواية وما يسردون من أحداث، والخط الثاني يوثّق سيرة الراوي "ناصر" وصراع الأفكار وما يدور برأسه، وبأسلوب المزج الفني نسج تحفة فنية حيكت بحرفية عالية لينتقل بين الأزمنة بانسيابية.
كيف تم ابتكار شخصيات الرواية؟
نسج الروائي ناصر من سيرته الذاتية ملامح الشخصيات التي يحركها في تجربته الإبداعية. فمثلاً عند الحديث عن الرسائل التي منحها الكاتب حياة وجعلها تنطق لتبني علاقة مع" سلامة" ساعي البريد و"منير الساكت" فهو يستقيها من تجربة في صحراء ليبيا حين وصله خطاب من خطيبته في يناير عام 1990 بعد مشقة حيث قال في صفحة "213: " الخطاب الذي وصلني في ذلك الصباح الشتويّ البارد حمله المدير وسلمه لي وتركني دون كلمه كمن يصافح جاره الممل،" كيف كان سيدرك أي فرح سيثيره في روحي خطابٌ كهذا؟", ومن هنا استوحى شخصية "سلامة", وماذا تعني للفلسطيني المهجّر وصولُ رسالة في الغربة , ولمدى تأثيرها قام في صفحة "9" بتوثيق افتتاح مكاتب البريد في فلسطين، هناك قاسم مشترك بين شخصية "منير الساكت " الشخصية الرئيسية في الرواية والروائي "ناصر" وهو اليتم والحزن والشعور بالوحدة، حيث يحدّث الروائي والده قائلاً في صفحة " 78 – 79": "أنا أكتب الآن الرواية هذه في العام 2017, وأنت الذي مت قبل عامين.. نحن معاً في الرواية - نعم لا فرق في الجنازة أو في الرواية.. هل تريد أن تقول إنك تكتبها بسبب حزنك؟ أنا حزين لأنك غادرتني، ثم مرضت أمي، ثم لحقتْ بك "، المشاعر الإنسانية التي تفيض حزناً وحرماناً هي نفس مشاعر "منير الساكت " الذي عاش طفولته يتيماً وصاحبه الموت حيث انتزع جدته التي تمثل له الحرية والحياة.
إنَّ الموت يحاصر أبطال الرواية من كافة الاتجاهات، الروائي والمواطن العربي يشاركونهم اليتم والانكسار بعد رحيل الزعيم "جمال عبد الناصر"، حيث يستسلم الجميع للموت المؤجل. تعد "هالة " الضحية الثالثة من المحاور الرئيسة في العمل، فهي رمز النقاء، تشع حياة بريئة ناصعة البيضاء في الشكل والمضمون، استوحى شخصيتها من أخته الطفلة "هيام "التي ولدت قبل موعدها وظل الوالدان يترقبان نجاتها بمعجزة، لكنها فارقت الحياة، حملت صدقها وبراءتها ورحلت، فكلما كبر "ناصر" عاماً تخيلها تكبر عاماً، كان يدّعي أنها الآن في المرحلة الثانوية، الآن هي مخطوبة، سأزورها في بيتها حين تضع طفلها الأول.". لقد صنع الروائي من الأحداث المأساوية التي مر بها مجتمعاً عنيفاً ، بدأ يحرك شخوصه فوق الورق ليعيشوا نفس السوداوية التي مر بها، ولكي يفصل تماهي القارئ مع شخصياته المتخيلة اعتمد على مسرح "بريخت" في كسر (الجدار الرابع ) وتوعية عقل المشاهد بكل ما يحدث في الواقع ليكون على دراية بتفاصيل جذور المرض ومناقشته والبحث عن أسباب علاجه، والهدف من ذلك إيجاد حياة أفضل للناس، فكان ينتزع القارئ من انفعالاته بعد أن سيطر عليه عاطفياً أثناء الحديث عن موت جدة "منير" في الرواية إلى مفهوم الفقد بالنسبة للروائي "ناصر" الذي ذاق ألواناً من الوجع ما بين الغربة وموت أخته الصغيرة "هيام" ورحيل والديه . الكاتب مزج بين حالتين مختلفتين بالشكل لكنهما تلتقيان في المضمون، فالضحية "هالة " صورة عن الطفلة "هيام " التي مرت مرور الكرام في الحياة، وحتى لا ينصهر القارئ مع الأحداث ويصبح عاجزاً عن إصدار أي حكم، جعل الروائي مسافة بينه وبين الشخصية التي يقرؤها، كما اعتمد على التغريب في الفصل الأخير "ناصر 5 " , حيث يقول في صفحة ( 301 ): كل يوم ألتقي بشخصية من الرواية تشتكي لي وتتهمني بالتقصير والمحاباة لشخصية أخرى، وفي صفحة " 309" : "وفي الخلف ركبت امرأتان وانهمكتا في حوار عميق عن تجهيزات لعرس قريب" , وفي صفحة " 315 و316 " "هل يمكن أن تعرّفني الآن على السيدتين؟", هز "رزق" رأسه وربت على كتفي وقال مواسياً: "لا بأس هذه أعراض طبيعية، فالانتهاء من رواية يشبه كثيراً وداع شخص عزيز، عموماً فها أنت تلتقي بها، أقدم لك السيدة الفاضلة، روايتك التي كتبتها, وأما هذه الشابة فهي روايتك الثانية التي لم تكتبها بعد." يرصد لنا الكاتب حالة الهذيان التي يمر بها الروائي "ناصر" وحالة التيه الذي يحياها ما بين الواقع والحقيقة، وهنا يظهر مفهوم التغريب، بمعنى تقديم الأمور المألوفة في صورة غريبة، وهذا يؤكد أن الروائي استعان بأدوات مسرح بريخت في بناء تجربته الروائية، فالشخصيات نامية متطورة تتجسد في مراحل مختلفة من الرواية. فما بين ساعي البريد المهمش الخانع المستسلم والذي كان رمز البهجة لأهل المدينة، والذي أصبح يخجل من عمله بعد ثورة التكنولوجيا وينتظر إحالته للتقاعد وإغلاق مكتب البريد، و"منير" اليتيم المضطرب الذي ترعرع على فلسفة زرعتها جدته، ".. كن أنت ولا تحن رأسك لمخلوق كان.."، تشبّع بجوع الحنين بعد أن عاش في بيت الأموات كما سرد، ومازال شاخصاً أمام صورة والديه اللذينِ سقطا ضحايا حادث مفتعل، بعد تتابع الأحداث يكتشف زيف الواقع، بدايةً من مدرس الرياضيات ومروراً بصديقه الصيدلي الاستغلالي. يثور "منير" المذبوح ويقرر أن يطبق العدل من وجهة نظره ، فيقتل شيطان المدينة البلطجي "حميش" الذي اغتصب زوجته " هالة" التي ذاقت ألواناً من الموت قبل أن يوارى جسدها تحت التراب، " هالة " المثقفة البريئة النظيفة التي ترجمها الألسن وتنهشها العيون ، حاول أن يخلصها من عارها ومن النظرات الوقحة التي تفترسها والألسن الثرثارة التي تأكل لحمها فقتلها بدون قصد، وقتل الطفل الضحية الذي يسكن أحشاءها بعد أن دس لها الدواء وأسقاها القرفة حتى يجهضها، سقط جسدها النحيل وفارقت الحياة ، ككل شيء جميل يُهجَّر من حياتنا ، عاش "منير" عقدة الذنب . منذ اللحظة الأولى وضعنا الكاتب أمام واقع أليم يسرد حقيقة مجتمع يغرق بالجهل والتخلف، ويبشر بالجوع، فوالد "هالة" باع المكتبة، رمز المعرفة، و"مريم العذراء" باكية حزينة في بيت" دولت" المسيحية صديقة " هالة "، والشخصيات مضطربة و"ناصر"_ الخط الثاني الموازي في الرواية للشخصيات_ يفيض حزناً وهو يوثّق سيرته الذاتية, ويتناول من خلالها المحيط العربي, والواقع البائس ،حيث يشعر بالضياع، يفتقد لسماته الرئيسية فيصيبه اغتراب نفسي، وهذا سينعكس لاحقاً على شخصيات الرواية ، ففي صفحة" 273" يقول ناصر: "طلب منا أستاذ التربية الفنية المصري في المدرسة الإعدادية أن نرسم (عروسة المولد النبوي)،فرسمتها كما كنت أشاهدها في محالّ الحلوى بالقاهرة، لكنَّ التطريز الشهير على الثوب الفلسطيني كان قد قفز دون أن أشعر على أكمام الفستان وصدره وتدلى على جانبيه ،المعلم_ والذي كان يعرف أنني فلسطيني_ رفض الرسم تماماً وقال غاضباً: "إنها لا تعبر عن هويتين، بل عن فقد هوية". هذا الانكسار والشعور بالعجز رافق الروائي وشخصيات الرواية، حيث تناسقت الأرواح الفنية لتشكل مجتمعاً مضطرباً عنيفاً يفتقد لملامحه، تم صناعته من خلال قصص أحيكت بحرفية عالية تشد بعضها بعضاً لتقدم لنا تحفة فنية،
" منذ ساعة تقريباً" تجربة رائدة من نوعها، تأخذنا لفضاءات كونية، تسرد الوجع بانسيابية لأناس مضطهدة، أسيرة، واقع مريض يشدها للقاع ولن تنجو من ثرثرة المتطفلين، تبحث عن طوق نجاة فتستصرخ العالم أن يخرجوا من" الأنا"، فقد فاض الشر حتى ابتلع الحياة. سر جمال العمل أنه مغامرة مدروسة لروائي عليم بكل ما يدور حوله.
إنَّ القاسم المشترك بين أبطال الرواية هو الحنين، فما قيمة الحياة عندما ينتهي دورك وتصبح مجرد فراغ ينام في ألسنة الثرثرة، وتستعبدك العاطفة البائسة وتشعرك بالدونية؟ حتماً كل هذا الضغط سيقودنا في نهاية المطاف لمسرح الجريمة، فالتراكمات الكمية على مر العصور تؤدي لتغيرات نوعية تدعو للتطرف. كل هذه المفردات تسهم في تكوين عمل سينمائي. بداية من " الإهداء " صفحة " 5 " إلى أبي.. مت، فمات البيت.."، الإهداء مشهد تعبيري يحكي الرواية.
م/1 – نهاري " وقت الغرب" – خارجي، داخلي – بيت قديم
بيت قديم شاحب اللون, وحوله أوراق أشجار جافة ، سكون يخيم على المكان ، مع غروب الشمس ، يخترق هذا السكون خطوات ثابتة للروائي "ناصر" بقبعته الداكنة وظهره المنحني للأمام قليلاً وهو يحمل بيده بعض الكتب ، يتأمل البيت ويمضي حزيناً ، يقف أمام صورة والديه الفقيدين ويغمره الحزن، يكسر السكون مزيج من الأصوات التي تتناول الأزمنة التي مر بها الكاتب ، ما بين بكاء طفل وفرملة سيارات وصوت انفجارات ومظاهرات ، ونواح على الزعيم "جمال عبد الناصر" ، يضع الكاتب يديه على رأسه , تتشقق صورة والديه ويخرج منها صورة صحف تتحرك بشكل دائرة تحاصره ، تلتف حول رأسها فينفض رأسه بعنف وبشكل دائري ليهرب من هذه الأفكار ثم ينهار باكياً.
قطع
الأب.. يشكل رمز الحماية وقد سقط منذ البداية، وهذا يؤهلنا للإبحار في عالم مهزوم يعيش النقص، وهذا ما سنراه في شخصيات الرواية، حيث يرسم لنا الكاتب الشكل الخارجي للشخصية والفعل الجسدي من خلال حوار يدعم المستوي البصري، حيث اختار الجمل القصيرة وتفادى الاستطراد ليحافظ على الإيقاع، فنحن أمام صراع مستمر لتحقيق دوافع، وسنرى مدى تغلّب الشخصية على تلك العقبات التي تعترض طريقها. حيث تسير الأحداث باتجاه التعقيد فتضطر الشخصيات للقيام بأشياء معينة مما يؤدي إلى خلق سلسلة من الأزمات والمصاعب والتوقع وعكس التوقع الذي يأخذنا لعالم التشويق.
في صفحة رقم "9" يوثق الروائي افتتاح مكاتب البريد في فلسطين وتبادل البريد فيبدأ المشهد الثاني.

م/2 – ليلي – خارجي – البحر
صوت أمواج البحر تتلاطم، إضاءة طبيعية متمثلة بالقمر، الروائي يتحدث عن أول رسالة وصلته، وعن نشأة مكاتب البريد في فلسطين والحنين التي كانت تتركها الرسالة على المتلقي.
قطع
الحكاية الأولى في الرواية:
م/3 – نهاري – داخلي – مكتب بريد
"سلامة" ستيني ذو شعر أشيب، وملامح محايدة، وجه باهت بدون تجاعيد عميقة، شاربه محفوف بعناية مع سالف طويل يصل إلى منتصف الأذن، عينان فوقهما جفون مرتخية، وحاجب رمادي كثيف، أما بخصوص الحالة النفسية للشخصية، شخصية خانعة مستسلمة محايدة تشعر بالنقص والضعف. وتبحث عن ذاتها الضائعة.
يقف "سلامة" محايداً ينظر إلى المظروف الأبيض المستطيل ذي الحوافّ المزينة باللونين الأزرق والأحمر، يرمق "سلامة" المظروف بنظرة تساؤل ويقوم متكاسلاً من مكانه ويغسل غلاية القهوة ويملؤها بالماء، ويضيف ملعقتين من البن، ونصف ملعقة من السكر، ويفتح درج المكتب ويخرج علبة الثقاب ويشعل موقد غاز صغيرا يضع فوقه الغلاية، ويجلس كي يشرب فنجانه الأول في هذا اليوم، ينظر ساهماً في وجه الماء الذي بدأت فقاعاته بالتصاعد ثم ينظر مرة أخرى إلى الخطاب ويبتسم وهو يحدث الخطاب قائلا: "مرحباً يا أخي، أتشرب قهوة؟". صمت يخيم على المكان يواصل "سلامة" الكلام، "لماذا يكتب الناس خطابات حتى الآن وقد أصبح لديهم هواتف." نظر الخطاب إلى الرجل المحبط بكراهية وأسف واصل سلامة حديثه " أنت تعرف أنني رجل في حالي، لماذا يصبح العمل الذي كنت أفتخر به شيئاً معيباً؟!". حمل سلامة الخطاب وبدأ يقلّبه بكراهية ويقرأ ما كتب عليه..
سلامة: "نعم، نعم أعرفه، "منير الساكت"، ابن "خلدون" الله يرحم، لكن من سيرسل له خطاباً؟" هو يوم أسود من أوله، هذا خطاب نحس. هل أمزقه؟ هل أضعه في الدرج وأنساه؟ أنا لا أستبشر خيراً؟ أستر يا رب!".
قطع



م/4 – نهاري – خارجي – الشارع
"سلامة" يسير في الشارع يحدّث نفسه..
سلامة: "لماذا لا أركب سيارة عند عودتي فيهتم بي سائق سيارة الأجرة؟ لماذا لا أجلس بعد العصر في هذا المقهى فيهتم بي النادل؟ أنا من دفنت نفسي حياً ما بين المكتب القبر والبيت الكئيب، اخترت العزلة مرغماً والسبب وراء ذلك أبي"، يواصل حديثه: "أبي كان رجلاً شديداً وصعباً، يضربني كلما عدت من المدرسة لأي سبب، بلغت المرحلة الثانوية فقال لي:،" كفى تعليماً، إلى هنا"، في اليوم التالي، قادني إلى بيت أخيه وزوجني ابنته، دون أن أعلم يومها إلى أين كان يسحبني مثلما سحبني ذات يوم إلى هنا، كنت أخرس، ولم أقوَ على الكلام، يواصل "سلامة" المونولوج الداخلي مضطرباً ويخشى أن يكتشف أيٌ من حوله أنه يحمل بريداً يتيماً في وقت لم يعد فيه أحد يرسل أو يستقبل خطاباً، يتابع حديثه: "لماذا تتغير قيمة أفعالنا في عيوننا إذا ما قمنا بها هي نفسها حين يتغير الوقت؟", يصل سلامة إلى بيت "منير الساكت" لاهثاً.
"منير " شاب في العشرينات يصبغ شعره دائماً بألوان غريبة، ويرتدي ملابس أكثر غرابة غالباً فسفورية فاقعة، لا يكف عن الغناء أينما كان بصوت لا ينم عن ذوق أو موهبة. فقط ابتسامة عريضة دائمة حتى في مجالس العزاء وأثناء صلاة الجنازات. يقف منير على الباب ينتظر سلامة.
منير: عم سلامة, لماذا تأخرت؟
سلامة: هه؟
منير: نعم! تأخرت، أنا هنا منذ ساعة أنتظرك؟ ألم يصل الخطاب منذ ساعة يا رجل؟ لماذا لم تحضره فوراً، ألا تعرف قلقي وظروفي المعقدة؟
مد منير يده وخطف الخطاب من يد سلامة وأغلق الباب بوجهه.
قطع
مشاهد تأسيسية قدمها الكاتب لتسهم في بناء العمل ،حيث حمل معلومات وأحداثا يسير عليه الخط الدرامي، شرح الكاتب في هذا المشهد سيكولوجية شخصية "سلامة" المنهزمة من الداخل وملامحه الخارجية والواقع الاجتماعي الذي يدور في فلكه، فهو يعيش حالة من الرتابة والقهر والتهميش، وقدم لنا معلومات خاصة تتناول الوضع النفسي وتأثيره الخارجي على "منير الساكت"، ابن صديقه الذي مات في حادث وهو يقود سيارته نتيجة صبيان كانوا يلقون بقطع خشبية بها مسامير، يتحدث مع الخطاب الذي يحمله ثم يتوجه لبيت منير ابن صديقه الذي مات في حادث ، بعد لقاء "منير" تنشط في رأس "سلامة" الهواجس فيعود مرة ثانية إلي منير ليكتشف سر الخطاب، يطرده منير فيغضب "سلامة" من تصرفه، يدور حديث بينهما عن أخلاق "خلدون" وعلاقته بسلامة قبل موته ، يراود منير شك بأن هناك أمراً ما دعا سلامة للعودة والسؤال عن الخطاب ،فيقرر زيارته في المكتب، أثناء الزيارة يضع منير مخدراً لسلامة في القهوة وقبل أن يستسلم سلامة للنوم، يدور حوار عن والد منير وأثناء الحوار يغفو "سلامة"، يقوم منير بغسل كوب القهوة ثم يخرج، يغرق "سلامة" في غيبوبة من النوم، فيعتقد الجميع أنه مات، ويتم وضعه في ثلاجة الموتى وبعد أن يستيقظ من غفوته يدق الجدار الحديدي فيلتفت الحارس لحركته، يخرج سلامة من المستشفى بعد أن فقد صوته نتيجة الصدمة ،وليبرر الدكتور خطأ تشخيص الحالة، يتهمه بأنه يتعاطى المخدرات، وتنتشر الاشاعة بعد ذلك، وحين يذهب إلى البيت ويرونه قادماً يفر الناس من بيت العزاء المعد له .
تتواصل الأحداث، ويتم تشويه سمعته واتهامه بتجارة المخدرات، فيتذكر القهوة وما حدث له من تخدير من قِبل "منير" ، فيقرر الانتقام، يذهب إلى البريد ليبحث عن كوب القهوة ليبرئ نفسه، فيجده مغسولاً ، تستغل السلطة انهياره وحالته النفسية ويطلب منه الضابط أن يعمل مرشداً ليراقب منير ويكشف أسراره ، يتجه" لمنير" المقموع المذبوح ليكشف خفاياه وفي نهاية الأمر وبعد جدال بينهما يدرك سلامة أن منير ضحية مثله ، فيصارحه بأن " حمش " البلطجي من تسبب في قتل والده "خلدون"، وعندما يرسل منير رسالة بكل اعترافاته والأخطاء التي ارتكبها لسلامة يرفض سلامة تسليم الاعترافات للشرطة ويبرر له ما حدث.

المشاهد السينمائية الأكثر تشويق في حكاية سلامة
مشهد سلامة بعد أن يستيقظ من الغيبوبة وهو في ثلاجة الموتى ، مشهد هروب الناس من عزاء سلامة بعدما يرونه قادماً، مشهد لقاء سلامة في بيت منير الساكت بعد أن فقد النطق والصراع النفسي الذي يدور بينهما, مشهد سلامة وهو يطوف في المدينة ويقرأ اعترافات منير الساكت الخاصة بقتل " حميش "، والتسبب بدون قصد بقتل زوجته "هالة"، فيقول "سلامة" عن منير : في صفحة "305 " الله ، طول الوقت يرسل لنا رسائل لا نقرؤها ، فهذا الرجل مثلاً دون أن يقصد اقتص للبلد من تاجر حشيش ومغتصب وهاتك أعراض دون أن يقصد, خلص هالة من عذابها الذي سيلازمها ويلازم أطفالها حتى الأبد ، منير يفعل أشياء مباركة دون أن يدري, وأنا أرى أنه مبروك.".
اعتمد الروائي في بناء الرواية على إيقاع منظم، يحمل لغة بسيطة واضحة قصيرة، تغذي مخيلة القارئ المشاهد وتنسج صوراً بصرية ترصد طبيعة الموقف.
الحكاية الثانية: "منير" الضحية الثانية وهو شخصية متمردة عكس شخصية" سلامة"، عاش يتيماً مع جدته المريضة صحياً، بعد أن فقد والديه نتيجة حادث سيارة.. فقد انفجر إطار السيارة (الفولكس واجن) الصفراء وانحرفت لتصطدم بشجرة كينيا بجوار الطريق، ويموت الأب الذي كان يقودها وأمه التي كانت بجواره، أما هو والذي كان بعدُ رضيعاً بالمقعد الخلفي فقد نجا إلا من جرح في خده الأيمن ترك ندبة تحك وجهه فيحكها كلما تذكر والديه.
في صفحة " 20 " يرصد الكاتب الحالة النفسية لمنير وشعوره بالوحدة والحنين للعائلة حيث يدور حوار بينه وبين الخطاب.

م/5 – نهاري – داخلي – بيت منير الصالة
منير بعد أن يأخذ الخطاب من ساعي البريد، يغلق الباب بوجهه ويمسك بيده اليمنى سكيناً وبيده اليسرى خطاباً، يرمي الخطاب من يده اليسرى عالياً في الهواء ثم يرشقه قبل أن يهبط بالسكين، ليستقرا معاً على لوحة زيتية لعائلته، يجلس منير على أقرب كرسي في المكان وعيناه معلقتان بالخطاب المطعون والصورة العائلية المشوهة، رفع سبابته اليمنى باتجاه الخطاب وكلم نفسه،
منير: " الحياة كريهة، بلا بيت، بلا أب، إن البيت ليس مجرد طاولات وكراسي، ولوحات معلقة على الجدران لميتين " أنا مستعد لتحمل أب بذيء وتافه وسكّير، وأم مستهترة ومبذرة فقط أنْ يكونا في البيت.".
قطع
المشهد يضخ وجعاً فمنير يعيش حالة من التناقض في تكوين شخصيته، حيث يوحي لمن يراه بأنه تمرد على النقص والفقد والحرمان وفي الحقيقة بقيت الغصة في قلبه، رفض أسلوب العطف والشفقة كما نقرؤها في صفحة "32" و "33"
م/6 – نهاري – داخلي – الفصل
منير يجلس بين زملائه بالفصل متذمراً يصغي لحديث المدرسين.
المدرس: " هذا ولد يتيم لا تضربه, لا تهتم بالتفتيش على دفاتره، الولد يتيم فليس لديه من يتابعه".
يضحك منير بشكل هستيري، فيلتفت له الجميع، يتوقف عن الضحك ويلتزم الصمت ويحدث نفسه من خلال مونولوج داخلي.
منير: " كلمة يتيم، لم أكن أشعر بأي داع لها عند تعريفي بين المدرسين، هذا التعريف الذي كانوا يقصدون به الرحمة الكاذبة، كان يجعلني شيئاً مهملاً بين التلاميذ، لذا فقدت الرغبة, لم أعرف أباً ولا أماً كي أحزن لفقدهم. استيقظت فوجدتُني في هذا البيت مع امرأة ترعاني أقول لها يا جدتي، وتقول لي يا منير هذا كل شيء. هل من الضروري أن أرسم صورتي كما تريدون؟"
قطع
حرصت الجدة الصارمة على ألا يكون حفيدها يتيماً ومحط شفقة أهل البلد، ركزت على مظهره وأناقته ولا سيما لكونها تمتلك ماكينة خياطة في البيت. قالت: "سيعيش منير بن خلدون الساكت عزيزاً ومكتفياً ومرفوع الرأس". ففي صفحة "70 " تتلو عليه الوصايا...
م/7 – نهاري – داخلي – بيت منير
منير يستعد للذهاب إلى المدرسة، الجدة ترتب هندامه، وتعد له وجبات الطعام.
الجدة: "منير، اسمعني جيداً، لا تأخذ أبداً رغيف أحد، ولا تدعْ أحداً يعطيك رغيفاً. رغيف الآخرين مر لا تضعه في فمك، وإن وضعوه في فمك لا تبلعه. قميص الآخرين شوك لا تلبسه وإنْ ألبسوك إياه فمزقه، كلام الناس دود لا تضعه في أذنك، لا تجعل أحداً يطيل النظر إليك، أنظر مباشرة في عينيه، قل له: أنا منير خلدون، أفهمت؟".
قطع
هذه المعطيات أسست لتكوين شخصية "منير"، ومنحتنا فضاء من المعلومات التي ستتناول الخط الدرامي في رحلته، فمثلا ً عندما كان يعود من المدرسة مخدوشاً لم تكن تسأله عمن عاركه أو لماذا، كان السؤال: "هل أوجعته ضربا؟"، إن تردد بالإجابة تطلّب منه ذلك ألا يعود حتى يثأر لنفسه.
نشأ منير على عدم التسامح والحكايات الخرافية المرعبة التي تسردها جدته ، كقصة الغولة وعائلته التي باركتها ، فيسخر "منير" من الأكاذيب والخزعبلات التي تحاول زرعها في رأسه، ويرفض كل وسائل العطف من قبل الآخرين، يتعامل نداً يحارب ويقاتل ليحمي نفسه ، ففي مشهد الفصل الدراسي ،عندما بدأ معلم الحساب في اختبار تلاميذ الصف بشكل عشوائي, كان منير متحفزاً للإجابة والأستاذ يتجاهله حتى لا يخطئ أمام طلاب الصف, وعند إصرار منير على الإجابة ألقى عليه سؤالا سطحياً هزيلاً لا يروق لطالب يحفظ جدول الضرب وهو( ما ناتج اثنين في اثنين؟)، شعر منير بالمذلة فجدته ربته على ألا يتلقى صدقات الآخرين ، فقرر أن يصفع المدرس بإجابة صادمة فقال: "الإجابة يا أستاذي 25"، ثم تمادى بسخريته فقال: "أعتقد أن الإجابة 597"، فقام المدرس بطرده من الفصل. خرج منير من الفصل وحينها قرر أن ينتقم من المدرسة، فتح محبس المياه ليغرق الساحة وبمسمار شوه لوح الفصل وكسر زجاج النافذة وأخرج عضوه من السروال أمام الطلاب في الدقائق الخمس التي تفصل بين الحصتين.. الفعل الحركي هو امتداد للفعل البصري، يخطف المشاهد لعالم التشويق " فالجمل عبارة عن نغمات فنية مترابطة كالبنيان المرصوص تشد بعضها بعضاً، وتقدم معلومات نفسية وبصرية. لم يكن تفوقه في المدرسة موضوعاً ذا بال ليشغل الجدة، فقط كان ما يؤرقها أن يشب هذا الفتى قوياً صلباً لا ينكسر، شب منير بنفسية سوداوية مضطربة " يا الله! أنا ما زلت أعيش مأساة لم تنته مع بلد تكرهني وتكره الأرض التي أمشي عليها"، أصابه إحساس بأنه منبوذ في المجتمع، فأصبح لا يبالي بكل ما يدور حوله، نفخته الأحقاد فعاش الازدواجية ما بين الأحقاد التي تسكنه وتنفجر بين الفنية والأخرى، وتكوينه الخارجي واختياره ألوانا زاهية جذابة تنتصر لنرجسيته. وقد تجسد العنف بأبشع صوره في الصفحات: "132 ،133،134 " . م/8 – نهاري – داخلي- محل بيع الدجاج
منير يدخل محل بيع الدجاج متجاوزا الجميع وينادي بصوت آمر،
منير للبائع:" أعطني دجاجة 2 كيلو بسرعة يا حاج، أنا مستعجل، اذبحها أيضاً، ولا تنسَ أن تسمي عليها، بسرعة هيا"، البائع يتجاهل منير وينظر له نظرة اشمئزاز، يغضب منير ويكرر: "هات دجاجة 2 كيلو وأعطني السكين لأذبحها أنا، ودع يوم الجمعة يمر على خير."، يتجاهله البائع فيتقدم منير ويأخذ دجاجة ويحاول انتزاع السكين من البائع وعندما يفشل يحلل الذبح على الضحية وبحركة خاطفة ينتزعه من مكانه بيده العارية.

قطع
الصورة البصرية واللغة الحوارية تتجلى في تكوين هذا المشهد
ما يميز الحوار السينمائي في هذه الرواية أنه يعبر عن ثقافة الشخصية والحالة النفسية التي تمر بهاK فالأصوات المختلفة صنعت لتتناسب مع طبيعة الموقف، فلكل شخصية لغتها التي صمم لأجلها المشهد، هناك هَرموني وتناغم في وحدة البناء،
فمثلاً منير تخيل للحظة أن صاحبه الصيدلي صديقه الصدوق، فهو قضى صباه في الصيدلية حتى حفظ كل أنواع الدواء، وهو الصدر الحنون الذي يشكو له أحزانه ومن اجتهد في مساعدته في البحث عن زوجة، لم تمضِ علاقته بالصيدلي كما كنا نعتقد، فقد حرف الروائي البوصلة ليقدم لنا عكس التوقع. في صفحة "191 " مشهد البحث عن عمل. يأتي منير للصيدلية ويطلب العمل.. منير:" أود العمل معك هنا" الصيدلي:" منير، أجننت؟ كيف خطر ببالك هذا الخاطر؟"" منير:" أنت من ترحب بي، الصيدلي: " أيها المغرور.. كيف تفسر كلماتي؟ نعم صحيح، فالزبائن تحب أن تراك هنا، لأنهم يعرفون أنك يتيم، وعصبي، متهور، ويفسرون حضورك أنه لشراء دواء ما وهذا يجعلهم يثقون بي وبأدويتي، وفي كل مرة كنت تخرج من عندي ومعك دواء سواءٌ لجدتك أو لك أو لزوجتك. أنت زبون جيد لا أكثر". رفع منير رأسه محدقاً في الصيدلي مندهشاً، كشف طبيعة العلاقات الإنسانية في المجتمع المبنية على المصالح، فهو الصبي اليتيم جسر بين الناس والصيدلية لتسويق الأدوية. لم تكن علاقته بالصيدلية عبثا بل كان مخططا لها ليخدم العمل لاحقاً، فهو يعلم تأثير الأدوية وفعالياتها على صحة الإنسان، فنراه يضع حبوباً تسهم بالإجهاض لزوجته هالة.. في صفحة "73 " –" جدتك تفرط في المسكنات، هذا يضعف القلب ويجعله عرضة للجلطات المباغتة – جدتك لا تأكل وتهتم أكثر بشرب دواء السعال، هذا يضعف الرئتين ويجعل الإصابة بالتهاب الرئة وارداً – لم يبق شيء لم تتناوله جدتك إلا المخدرات". أصبحت لديه حصيلة عامة عن تأثير الأدوية.
يعد مشهد موت الجدة من المشاهد السينمائية التي تترك بصمة إنسانية بوجدان القارئ المشاهد، فجدته الأب والأم والأشقاء، ومعلمته الأولى وصديقته الدائمة. في صفحة
"73،74 "، يحرك هذا المشهد الإنساني عاطفتك فلا تستطيع حبس دموعك وأنت ترى منيراً يقترب من جثة جدته ويهذي ويقول:" جدتي، جدتي.. سأتزوج، حاضر، موافق، سأنجب طفلاً تحملينه.. لن يتوقف اسم الساكت عندي.. حاضر.. قومي أرجوك، سأجد عملاً وألتزم به، فقط قومي، برحمة أبي"، ينهار منير وينفجر بالبكاء، يتكرر هذا المشهد المؤلم مع زوجته هالة والتي قتلها دون قصد بعد أن دس لها دواء الإجهاض في الطعام، ففي صفحة ""228, يعض منير على أصابعه وهو يهمس: "سامحيني.. أرجوك"، تنهمر دموعه فتغيم عيناه فلا يرى شيئاً، ينظر منير للحارس:" أرجوك، أريد أن ألقي نظرة أخيرة على زوجتي"، يواصل منير توسله بيديه المضمومتين أمامه باتجاه الرجل بعينيه الدامعتين بصوت منتحب، ثلاثة أيام لم يغادر منير جثة هالة.
يزداد حزن منير، يحترق قهراً، فما بين الموت والموت يعانقه موتٌ آخر، فهو محط استياء دائم لكل من حوله وخاصة لأفراد الجماعة لا بسبب صفيره الذي لا ينقطع أثناء سيره، وارتدائه لملابس ملونة، الكل ينفر منه، فبعد موت جدته قرر الزواج فلم يجد من يرحب به باستثناء الضحية الثالثة " هالة، وقد اختار الروائي عنوان الجزء الثالث باسمها، حيث لخص في المشهد التأسيسي واقع حياتها وخفايا تكوين شخصيتها، فهي الوجه المضيء.. فتاة نجيبة ، ذكية، مثقفة وجميلة، تعشق جمع الطوابع ، تعيش بين مكتبة ورثها والدها عن أبيه العالم الواعظ, مرتل القرآن في بيوت الله ، كما ورث "حجازي" والدها عن أبيه صوته الجميل ، فاستغل صوته في الغناء, فشخصيته تتناقض مع شخصية والده العالم ، عمل في مطلع حياته مغنياً مع الفرق الموسيقية التي تحيي حفلات الزواج، وسرعان ما كون فرقة خاصة به ، وذاع صيته، وعندما حلت سنوات البطالة والكساد وعزف الناس عن إقامة الحفلات توقف عن الغناء وعمل في أكثر من مهنة، وأخيراً استسلم لواقعه، وعاش على الأطلال يتغنى بأمجاده الغابرة ويسردها لأبنائه ، وضع لنفسه مبررات وفلسفة في العبادة حتى يتخلص من عقدة الذنب، فعندما سألته ابنته هالة: "لماذا لا تصلي يا أبي؟"_" لماذا أصلي يا هالة؟"، "كي يدخلك الله الجنة"، "هل تعتقدين أن الله لديه بضاعة جيدة ليعرضها بهذا الثمن؟ الله لا يريد مني ثمناً كي لا يعذبني سوى ألا أكون شريراً وأخطئ بحق من خلقهم، أشعر أني أرضى الله حين أغني فأسعد الناس، أنا شخص يحبه الله، ولذا فإن خلقه يحبونني". هذه الأفكار شكلت شخصيته التي ستتنازل بالمستقبل عن ميراث والده المتمثل بالمكتبة. هالة الانثى الجميلة، المتفوقة الخلوقة الشغوفة في البحث عن المعرفة، والابحار بالثقافات، ملجؤها في البيت مكتبة جدها، الحصن الذي تأوي إليه من العتمة، تحتمي بالكتب من عدمية الحياة، التي ينحدر إليها أب لا يملك قوت يومه، يعشق دور الضحية ويسهم في الخراب، وعندما يبيع الكتب، تستسلم هالة لواقعها البائس، تجتهد لحل واجبات زميلاتها مقابل حصولها على وجبات الطعام والهدايا.
تشرح لصديقتها المسيحية" دولت" درس الرياضيات وهي تأكل وترتشف الشاي، وبجوارها يرقد الحذاء (الجائزة). عندما خرجت "دولت" تبدل ملابسها للخروج، التقت عينا هالة بعيني "العذراء" الدامعة في الصورة. في صفحة "29 "، هذا المشهد امتداد لحديث والدها عن الله ولكن بوجهة نظر هالة العليمة التي لا تفرق في الأديان وتدرك أن الله واحد لا شريك له، يحب الجميع. حيث تقول " يا مريم الجميلة، يا مريم الحزينة، خذي فرحي وامسحي دموعك، خذي ضحكاتي وابتسامتي، يا مريم، دعي أبي يصلي وأمي تهتم بي "، وهي تناجي صورة "العذراء" يخترق خلوتها" هاني "_ أخو دولت_ الذي تحب رائحة عطره وتطرب لسماع الأغاني التي يستمع لها، يتحرش بها فتكسر فوق رأسه صورة العذراء التي تتغير ملامحها الحزينة وتبتسم احتفاءً بدفاع هالة عن نفسها، يصاب هاني بجرح في رأسه، وعندما تأتي أمه وأخته يخبرهما أن الصورة سقطت عليه. تعود هالة للبيت وينهض بداخلها شعور غريب بأنوثتها، يُحيي هذا الشعور رسالة الاعتذار من "هاني" والتي حملتها دولت ، بعد أن قرأت الرسالة تنسمت الحب، فهامت عشقاً, غزاها شعور غريب فحلقت في عوالم الخيال، أخفت الرسالة بين أحضان الكتب في المكتبة، وخرجت للمدرسة ، وعندما عادت إلى البيت كانت الفاجعة تنتظرها أطلق عليها والدها الرصاصة الأولى، اغتصب عالمها، باع المكتبة التي تمثل لها رمز الحياة و المعرفة، ليقول الكاتب إن الآتي مرعب، فالناس بدون معرفة سيعيشون نظام الغاب، القوي سيأكل الضعيف وستنتشر الأمراض والإشاعات في زمن التخلف .كُسرت هالة، فقدت غذاء عقلها ، فانطلقت في البحث عن غذاء قلبها، اتجهت لبيت دولت وهي تحلم بالحب ،التقت بهاني ودار بينهما حديث جميل, وعندما قررت العودة إلى بيتها رافقها هاني إلى الحديقة ، وهناك ضمها وقبّلها، متناسياً أن حديقة بيته تطل على الشارع . لمح مشهد العناق البلطجي "حميش "، رمز الشر، اضطربت هالة فشعرت بالخوف وفرت هاربة إلى بيتها وارتجف هاني خوفاُ، قرر أن يترك ضحيته ويفر هارباً خارج البلاد ليحمي نفسه، استعان بأخته دولت بعد أن شرح لها ما حدث، وعلاقته بهالة، وكيف اكتشف الشرير "حميش "عناقهما بالمصادفة ثم طلب منها أن تتوجه إلى هالة وتحدد لقاءً في حديقة البلدية حتى يودعها ويشرح لها سبب هروبه من المكان. خرجت "هالة" من بيتها للقاء هاني، كان يراقبها "حميش" والذي خطط مسبَّقاً لاغتصاب فريسته، وعندما وصلت الحديقة ترك "حميش" رفيقه على الباب ليؤمّن له المكان، بعد أن طردا "هاني" ومنعوه من دخول الحديقة، فعاد إلى بيته خائباً وهو يعلم أن حبيبته ستذبح، يغتصب "حميش" هالة ويطفئ بهجتها، وتصبح كرة منبوذة يتقاذفها أهل البلد بألسنتهم الوقحة. فهي تعرضت للاغتصاب الجسدي مرة, والمدينة الثرثارة تغتصبها كل ثانية مليون مرة وتأكل لحمها. استسلمت هالة لواقعها المريض. وتزوجت من" منير" المكروه من مجتمعه, فالجميع رفضوا أن يناسبوه باستثناء والد المغتصبة هالة.. الأب في صفحة " 143":" يا ابني, مبروك، بدت غيمة من الدمع في عين الأب، لا يعرف إن كانت دمعة فرح أو كانت دمعة حسرة على نصيب ابنته. أخلصت هالة الوفية الرقيقة الجميلة لزوجها وكانت تشعر بالامتنان له لأنه أنقذها من عارها، حتى جاء يوم وأخبرته بحملها فأصابه هذيان من الضيف القادم، فهو يعلم أنها ضحية وأي ثمرة منها في هذا الوقت ستتعرض للعنة، كتم انفعالاته أمامها وانفرد بمونولوج داخلي في صفحة "178"، "هل تريدين أن ألقي إلى الحياة بطفل أو طفلة لتعيش وسط الجو الخانق والكلمات السوداء؟ تعال يا ابن اليتيم، اذهب يا ابن المغتصبة، ابتعد يا ابن الحرام، اسأل أمك: من هو أبوك". هذه الكلمات الساخنة، القاسية، جعلت "منير" يدس لها حبوبا في طعامها تساعدها على الإجهاض، بالإضافة إلى شرب القرفة.
كان يشعر بالألم لأنه يخون ثقتها وطيبتها فهو يقول في صفحة "181،180 "، "ربما أكون شريراً لكني لست خائناً، لكن يا الله، ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟!" تتوالى الأحداث، وبعد أنْ يعترض "حميش" طريقها تستنجد هالة بزوجها منير وتخبره بما حدث لها وبأن هذا المجرم هو من اغتصبها وبعد أن يقتحم حميش بيت منير هو ومجموعة من البلطجيين طمعاً بزوجته، يحمل منير أنبوبة الغاز ويفتح النار ويتصدى لهم، فيفرون هاربين، يعود منير إلى البيت في صفحة "200 ،201" " يجد هالة ساجدة على الأرض دون سجادة صلاة، فيقترب منها حتى اعتدلت وسلّمتْ، فإذا بها تنكب على قدميه الحافيتين تقبلهما: "سامحني، سامحني" – منير:" أستغفر الله.. أستغفر الله!"، ظل يشدها نحوه ويستغفر وهي ملتصقة بقدميه مواصلة بكاءها. مشهد يتدفق منه مشاعر إنسانية، يعتمد على الحركة والتشويق، يجيّش العواطف ويؤهلك أنْ تتعاطف مع قاتل "حميش" لاحقاً. تنتشر حكاية تصدي منير لحميش وجماعته في البلدة، وبعد أيام تخرج مسيرة لجماعة "لا " المتطرفة لمحاربة دور الفساد والفسق والفجور بالنسبة لهم، فيندس منير بينهم، يحركهم خلفه، يشدهم باتجاه قهوة " حميش " وهو يهتف ضد الفساد، يحرقون القهوة وهو يجر " حميش " ويشنقه على الشجرة. تسعد "هالة " بانتقام زوجها لشرفها لكنَّ سعادتها لن تطول، يصيبها نزيف حاد نتيجة الأقراص التي يدسها لها منير في الطعام حتى يتخلص من الجنين,
تموت هالة ويشعر منير بعقدة الذنب, ويكتب رسالة يعترف فيها عما اقترف من ذنوب ويعطيها لسلامة الذي ينتظر اعترافاته ليسلمها للشرطة، لكنَّ "سلامة" يرفض تسليمها, ويصارح منير بأنَّ حميش" هو المسؤول عن قتل عائلته بعد أن وضع القطع الخشبية بالمسامير تحت عربة والده.

يتمرد "سلامة" على ضعفه ويقرر أن يحطم جبنه ويكون له موقف يستند عليه، كما ويبرر فعلة منير. إنَّ الكاتب يتركنا أمام نهاية مفتوحة وتساؤلات وخيال.
الرواية تضج بالمشاهد السينمائية التي تقع تحت مصطلح " ماستر سين" والمقصود " بماستر سين" في لغة السينما هو أعلى مشهد في الفيلم من الناحية الفنية، المشهد الذي لا يموت مع نهاية العمل ويبقى في الذاكرة. غالباً ما يكون في العمل السينمائي "ماسترسين" واحد أو اثنان, أما في هذا العمل الروائي والذي ينبض سينما، نحن أمام نهر متدفق من مشاهد "ماستر سين" التي تستوطن الذاكرة، وقد تناولتُ بعضها خلال هذه القراءة، وسأضيف عليها بعض المشاهد: مشهد "ناصر" في نهاية العمل، والفانتازيا التي قدمها من خلال علاقته بالشخصيات وبمن حوله، مشهد الروائي والشاعر ناصر في فرنسا ولقائه مع أحد أبطال روايته، "هاني " الهارب من الرواية والذي غيّر اسمه وشكله وجنسيته بعد أن انفضح أمره وترك حبيبته هالة تواجه مصيرها، مشهد لقاء الروائي ناصر مع والده الميت والحديث عن معنى الموت، مشهد بيع المكتبة، مشهد اغتصاب هالة في الحديقة ، مشهد موت الجدة، مشهد موت هالة، مشهد جماعة "لا " وحرق القهوة وإعدام "حميش"، ، مشهد أنبوبة الغاز ومطاردة حميش وسجود هالة على الأرض وتقبيل أقدام منير، المشهد الإيمائي الذي يجمع "سلامة" في بيت منير بعد أن فقد قدرته على الكلمات نتيجة صدمة وجوده في ثلاجة الأموات، مشهد المقبرة في صفحة "301، 303"، منير هادئاً مثل شجرة أمام القبور الأربعة، قبر أبيه وأمه وجدته وزوجته هالة. يكتب رسالته إلى أبيه ليطهر نفسه من الخطيئة، " يا أبي، لو عبرت معي سنوات المدرسة، سنوات المدرسة فقط، ربما كنت سأصبح صيدلياً أو حتى سائق سيارة جيداً. أتعرف أني لم أفتقد أمي فقد كانت جدتي تملأ فراغها بعض الشيء، لكن لم يكن في البيت قدوة لأكسرها أو أقدسها." وقف منير أمام القبور مثل شجرة تمد أمامها ظلها الطويل، فيبدو الظل وكأنه يفترش مكاناً مجاوراً لقبر خامس.
الرواية تزخر بالمشاهد البصرية الصادمة والتي تحتاج فقط لترتيبها كي تعطيني عملاً سينمائيا أو مسلسلا تلفزيونيا يسهم في صناعة بصمة سينمائية.
انتهت الساعة وسيبقى الروائي ناصر يعيش صراعاً داخلياً، ماذا يقول بعد ذلك؟ هل سينتصر "سلامة" الواقعي لنفسه ويخرج من حيادتيه ويتمرد على جبنه، كيف سيواجه "منير"_ الشخصية الحقيقية _التي تتشابه مع شخصية الرواية مجتمعا مريضا ينهش لحمه بالألسن الثرثارة ليجعله مجرماً، كل يوم تذبح هالة، فما قيمة الحياة ونحن لا نبصر الجمال؟ وأخيراً، سأقول ما قالت "هالة"، " الكتب أرواح يؤنسون البيت".

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...