⏪⏬
في روايته “الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا”، يبحر الكاتب الإيطالي الراحل أُمبرتو إيكو، عميقاً، عبر بطلها “جيان باتِستا بودوني”، الملقَّب بـ”يامبو”، والمهدَّد بالعيش بقية عمره وسط ضباب كثيف على أثر فقدانه الذاكرة جزئياً بعد أن بلغ الستين من عمره، في معنى
التذكر وآلياته وارتباطه بالزمن والوجود الفردي والجمعي، وفرز الزائف من الحقيقي في المرويات التاريخية الرسمية.
هذا العمل الذي جاء في 560 صفحة، هو رحلة تشبه، بحسب ما يرى الكاتب الألماني ديتر هيدلبراندت، رحلة الفرنسي مارسيل بروست في رائعته “البحث عن الزمن المفقود”، وفي القلب منه مراجعة مراهقَة تزامنت مع انتعاش الفاشية في إيطاليا الحالمة وقتها باستعادة امبراطورية غابرة، وفي هذا ما يقربه على نحو ما مع سيرة الكاتب نفسه الشخصية والعائلية علماً أنه عاش بين عامي 1932 و2016.
وقبل أيام أصدرت مكتبة “تنمية” في القاهرة “طبعة خاصة لمصر”، من ترجمة هذه الرواية “المصوَّرة” إلى اللغة العربية (ترجمها عن الإيطالية معاوية عبد المجيد) بالتعاوان مع دار “الكتاب الجديد المتحدة”، الناشر الأصلي لتلك الترجمة.
الفصل الأول عنوانه “الحادث”، وينتهي بخروج “يامبو” من المستشفى إلى بيته وهو لا يعرف حتى نفسه. هو في الستين من عمره ويعمل في بيع الكتب الأثرية في ميلانو. له زوجة وله ابنان، “كارلا” و”نيكوليتا”، وثلاثة أحفاد. يعرف من زوجته “باولا” أنه تخرَّج في كلية الآداب ثم سافر إلى ألمانيا لدراسة تاريخ الكتب القديمة التي ورث عن جده الولع بها.
ضمير المتكلم
السرد دائماً بضمير المتكلم، الذي هو “يامبو” نفسه، ولا تحضر الشخصيات “الحيَّة” الأخرى، وكذلك الشخصيات التاريخية من عائلية وعامة إلا عبر ذاكرته المشوّشة والتي تبدو دائماً موسوعية في ما يتعلق بالمعرفة في معناها المطلق، وضحلة في ما يخص التجارب الشخصية. والسرد كذلك يبدو وكأنه مونولوغ طويل جداً، فغالباً ما يتحدث السارد إلى نفسه فتبدو الشخصيات المحيطة به والمدركة لمأزقه هامشية. يقول يامبو لنفسه: “ذاكرتي ضحلة لا يبلغ عمقها إلا أسابيع قليلة” (الرواية صـ 54). إلى جانب الإيطالية يجيد “يامبو” المولود في العام 1930 الانجليزية والفرنسية والألمانية. تجاربه الشخصية قبل العام 1990 عندما تعرَّض لحادث سير، طواها النسيان، ويجد في نفسه رغبة “خفية” أو “غامضة” في استعادتها، وخصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة عاطفية، يبدو أنها كانت قوية للغاية، وقد سبقت تعرفه على “باولا” الطبيبة النفسية التي ستصبح في ما بعد زوجته.
يسأل نفسه: “ما المتعة في أن تكون لديك حكاية إذا كنتَ لا تستطيع أن تقصها على أصدقائك، ولا حتى بإمكانك أن تتذوقها سراً بين الحين والآخر، في ليال يهزها الإعصار، بينما تنعم بالدفء تحت اللحاف؟”.
قالت له زوجته حين أبدى رغبته في ممارسة الحب معها بعد وقت وجيز من عودته من المستشفى إلى المنزل: “أرفض رفضاً قاطعاً أن تمارس الحب مع امرأة تعرَّفت عليها للتو”. يقول مخاطباً مساعدته في متجر بيع الكتب القديمة الذي يملكه، وقد راوده شعور بأنه ربما يكون قد ربطته بها علاقة عاطفية ما قبل أن يفقد ذاكرة التجارب الشخصية: “كل ما وقع لي في الماضي، كل شيء؛ أعني كل شيء، أتفهمين، يبدو مثل لوح مُسِح بالأسفنجة”. يقول أيضاً لنفسه: “النسيان وحش فتّاك”، ويقول كذلك: “لستُ فاقداً للذاكرة فحسب، بل ربما بِتُ أعيش على ذكريات وهمية. ليس لديَّ إلا الاقتباسات أنواراً تضيء دربي في هذا الضباب الموحش” صـ81.
وتقول له زوجته في محاولة لإنعاش ما تلبَّد من تلافيف ذاكرته: “كنتَ تتجاهل الحديث عن طفولتك ومراهقتك. ومن جهة أخرى، لم أتمكَّن قط من فهمك في هذه الأشياء. إذ لطالما كنتَ مزيجاً من العطف والحياد. كنتَ توقع ضد تنفيذ حكم بالإعدام على أحدهم، وتتبرع بالنقود لجمعية توعية بمخاطر المخدرات. ولكن، إذا أخبروك أن عشرة آلاف طفل لقوا مصرعهم، ما أدراني، جراء حرب قبلية في أفريقيا الوسطى، كنتَ تبدي لا مبالاة، لسان حالك يقول إن العالم مكان سيئ وما باليد حيلة، كنتَ رجلاً بهيجاً دوماً، تعجبك النساء الجميلات، وتمتدح النبيذ الممتاز، وتستمع إلى الموسيقى الجيدة، لكن صفاتك تلك كانت تعطيني انطباعاً بأنها ليست سوى مجرد قشرة خارجية، وقناع تخفي حقيقتك وراءه، فكلما أطلقتَ العنان لنفسك، قلتَ إن التاريخ لغز دموي والعالم غلطة”صـ 83.
ومن هنا تنصحه بإجازة يقضيها في بيت عائلته الريفي، لعل ذلك يفيد في استرداد المفقود من الذاكرة، وهناك يواصل تساؤلاته: “أي شعور يراودك إذا دغدغ أحدهم فؤادك؟ برأيي سيكون مثل شعلة خفية”، ماذا تعني شعلة خفية؟ لا أدري، خطَر في بالي أن أسميها هكذا”، ويلاحظ وهو داخل عِلية ذلك البيت حيث احتفظ أقاربه بكل ما هو قديم وبعضه يخص طفولته ومراهقته من كتب عامة وأخرى مدرسية واسطوانات ولوحات، أنه يحظى بذاكرة إنسانية، فيما انمحت ذاكرته الشخصية؛ “قلت لنفسي: لديك ذاكرة من ورق يا يامبو… تلك البومة البيضاء خلال هروبها (من العِلية التي كانت قد اتخذتها مسكناً بما أنها تحولت مع الوقت إلى مكان مهجور) في الليل أشعرتني من جديد بتلك الرعشة التي أسميتها بالشعلة الخفية”.حارسة البيت وتدعى أماليا، تخطت السبعين من عمرها، ولا زالت تعتقد أن موسوليني لا يزال على قيد الحياة، وحين يخبرها “يامبو” بأن “الدوتشي” جرى إعدامه قبل سنوات طويلة، تقول: “أنا لا أفقه شيئاً في السياسة، لكنني أعلم أنهم أطاحوا به ذات مرة ثم عاد، خذها مني: إن الزعيم ما يزال في مكان ما”.
الذكريات المهملة
وفي سياق تأمله حاله يعود “يامبو” ليؤكد: “تجتاحني غصة، كتلك التي راودتني في المستشفى حين رأيت صورة والديَّ يوم زفافهما. الشعلة الخفية. عندما حاولت أن أشرح الظاهرة للطبيب غراتارولو، سألني عما إذا كنتُ أقصد الاختلاج القلبي. ربما، أجبتُ، لكنه مصحوب بحرارة تصعد من الحلق. لا، والحال هذه – قال غراتارولو- الاختلاجات القلبية ليست كذلك”. وعقب تأمله لإحدى الصور، ضمن مهملات عِلية بيت العائلة الريفي يقول: “كان ذلك جانباً لوجه أنثوي يغيم عليه شَعر ذهبي طويل، لكأنه حدس مبهم ومكتوم لملاك ساقط… يا إلهي، لا بد أني قد رأيتُ ذلك الوجه، في صغري، في صباي، في مراهقتي”. رويداً رويداً، يواصل اكتشافاته: “اكتشفت أن اسمي آت من رؤى رهيبة. ها هي “مغامرات الولد ذي الغرة الجميلة” لكاتب يدعي يامبو”.
بتنقيبه، مستعيناً، كما يقول بالفطرة والحدس وعلى طريقة شرلوك هولمز إلى حد ما، في تلال من الذكريات المادية المهملة، يدرك “يامبو”، ولا نقول يتذكر، أموراً كثيرة سبق له قبل فقد الذاكرة التعرف عليها، وربما يكون قد نسيها أصلاً قبل حادث السير الذي تسبب في جعله غير قادر حتى على التعرف على نفسه. وسط تلك التلال وعبر جهد شاق في فرزها، منفرداً، سيعرف “يامبو”، بالحدس، أو بشعلة غامضة، أي شخص هو. سيقول لنفسه في غمار رحلته نحو طفولته ومراهقته التي تأثرت حتماً بفاشية موسوليني عبر التعليم والإعلام والراديو والسينما في عهده: “من الصعب القول إني أعيد اكتشاف شيء ما أو إنني أنشط ذاكرتي الورقية ليس إلا. ولكن إذا كانت الذاكرة الفردية في حاجة إلى تفعيل، فإنها تختلط بالذاكرة العامة. والكتب التي من المرجح أنها أثَّرت في طفولتي، كانت تلك التي تحيلني بلا صدمات على معرفتي الناضجة وغير الشخصية”.
أما الترجمة، فقد أنجزها معاوية عبد المجيد في نحو عامين بحسب ما أورده في مقدمة الترجمة، والتي استهلها باقتباس من كتاب إيكو؛ “أن نقول الشيء نفسه تقريباً”: “إن “وفاء” الترجمة المصرَّح به ليس معياراً يضمن الترجمة الوحيدة المقبولة (وبالتالي يجب أن نعيد النظر حتى في الغطرسة أو العجرفة التي ينظر بها أحياناً إلى الترجمات على أنها “جميلة ولكنها خائنة… الوفاء هو بالأحرى أن نعتقد أن الترجمة هي دائماً ممكنة إذا أوَّلنا النص المصدر بتواطؤ متحمس، هي التعهد بتحديد ما يبدو لنا المعنى العميق للنص، والقدرة على التفاوض في كل لحظة بشأن الحل الذي يبدو لنا أسلم”. هذا الكتاب صدر بترجمة أحمد الصُّمعي عن المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، وبات بحسب عبد المجيد “مرجعاً أساسياً لمعظم المترجمين، وقد دأبتُ على أن تكون هذه العبارة بوصلة موجِّهة لعملي في الترجمة الأدبية، إلا أن صعوبات تطبيقها تتضاعف في حال كون الكتاب الذي تراد ترجمته هو لصاحب تلك العبارة”.
جهد الترجمة
أمضى عبد المجيد نحو عامين، بين قراءة رواية “الشعلة الخفية” وإعادة قراءتها مراراً والاطلاع على القدر الهائل من المصادر والمراجع التي اختزنها إيكو بين دفتي الرواية. ويضيف: “عجزتُ عن ترجمتها دفعة واحدة؛ لأنها كانت تصيبني بتخمة معرفية في كل صفحة من صفحاتها، إذ إن “التفاوض” المشار إليه آنفاً يمتد فيها ليشمل أدباء لا حصر لهم ونصوصاً معقدة. فقررتُ أن أعُد الرواية بمنزلة مرض مزمن، وأن أعايشها على مدى الأيام، وأن أحيا حياتي بكل تلقائية وأن أنجز الترجمات الأخرى التي كنتُ قد قطعتُ وعداً بإنجازها. وهذا بالتحديد ما يمكننا تسميته “الحياة الموازية”. إذ لا يمكنك أن ترفض عرضاً يقدمه إليك السيد أمبرتو لاصطحابك معه في رحلة لا تنتهي، تبدأ بالتاريخ وتنتقل إلى الجغرافيا وتمر بعلم الأعصاب ثم تعرج على الفلسفة والدين وأزياء الشعوب والفاشية والطفولة والروايات الدفينة والرسم والسينما وأرشيف الورق والإغواء والشهوة والحب، وما إلى ذلك. لكني كنتُ في كل خطوة أخطوها أشعر بالنضج، النضج “الموازي”، وكلما التقط معلومة سجَّلتها، وبحثتُ عنها في مجاهل الإنترنت، ووثَّقتُها من عدة مصادر، ثم كنتُ أضعها في قسم الشروح، كي أوفر على القارئ مشقة مطاردة المعاني والمفاهيم وكي أحتفظ بمتعة المشقة لنفسي”.
وأخيراً، كما يقول عبد المجيد، لا ينبغي لأن يغيب عنا أن هذه الرواية خصَّها أمبرتو إيكو بالصور والرسوم، وكان أكثرها من مكتبته الشخصية، حتى إن بعض النقاد عدَّها سيرة ذاتية متخفية بلباس السرد الروائي، غير أن هدفها أكثر تعقيداً من ذلك. فالرواية إذ تتناول موضوع الذاكرة وفقدانها واستعادتها، تتيح مجالاً واسعاً للصورة البصرية، ليمتحن القارئ قدرته على تمييزها من الصورة الذهنية، وقياسها بالكلمة التي تعبر عنها. ثم إن هذه الصور والرسوم هي بمنزلة الجداول البيانية والخرائط التوضيحية والأشكال الدلالية التي نجدها بوفرة في كتاباته الأخرى، الفكرية والأدبية على حد سواء”.
*علي عطا
وكالة الصحافة العربية.
في روايته “الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا”، يبحر الكاتب الإيطالي الراحل أُمبرتو إيكو، عميقاً، عبر بطلها “جيان باتِستا بودوني”، الملقَّب بـ”يامبو”، والمهدَّد بالعيش بقية عمره وسط ضباب كثيف على أثر فقدانه الذاكرة جزئياً بعد أن بلغ الستين من عمره، في معنى
التذكر وآلياته وارتباطه بالزمن والوجود الفردي والجمعي، وفرز الزائف من الحقيقي في المرويات التاريخية الرسمية.
هذا العمل الذي جاء في 560 صفحة، هو رحلة تشبه، بحسب ما يرى الكاتب الألماني ديتر هيدلبراندت، رحلة الفرنسي مارسيل بروست في رائعته “البحث عن الزمن المفقود”، وفي القلب منه مراجعة مراهقَة تزامنت مع انتعاش الفاشية في إيطاليا الحالمة وقتها باستعادة امبراطورية غابرة، وفي هذا ما يقربه على نحو ما مع سيرة الكاتب نفسه الشخصية والعائلية علماً أنه عاش بين عامي 1932 و2016.
وقبل أيام أصدرت مكتبة “تنمية” في القاهرة “طبعة خاصة لمصر”، من ترجمة هذه الرواية “المصوَّرة” إلى اللغة العربية (ترجمها عن الإيطالية معاوية عبد المجيد) بالتعاوان مع دار “الكتاب الجديد المتحدة”، الناشر الأصلي لتلك الترجمة.
الفصل الأول عنوانه “الحادث”، وينتهي بخروج “يامبو” من المستشفى إلى بيته وهو لا يعرف حتى نفسه. هو في الستين من عمره ويعمل في بيع الكتب الأثرية في ميلانو. له زوجة وله ابنان، “كارلا” و”نيكوليتا”، وثلاثة أحفاد. يعرف من زوجته “باولا” أنه تخرَّج في كلية الآداب ثم سافر إلى ألمانيا لدراسة تاريخ الكتب القديمة التي ورث عن جده الولع بها.
ضمير المتكلم
السرد دائماً بضمير المتكلم، الذي هو “يامبو” نفسه، ولا تحضر الشخصيات “الحيَّة” الأخرى، وكذلك الشخصيات التاريخية من عائلية وعامة إلا عبر ذاكرته المشوّشة والتي تبدو دائماً موسوعية في ما يتعلق بالمعرفة في معناها المطلق، وضحلة في ما يخص التجارب الشخصية. والسرد كذلك يبدو وكأنه مونولوغ طويل جداً، فغالباً ما يتحدث السارد إلى نفسه فتبدو الشخصيات المحيطة به والمدركة لمأزقه هامشية. يقول يامبو لنفسه: “ذاكرتي ضحلة لا يبلغ عمقها إلا أسابيع قليلة” (الرواية صـ 54). إلى جانب الإيطالية يجيد “يامبو” المولود في العام 1930 الانجليزية والفرنسية والألمانية. تجاربه الشخصية قبل العام 1990 عندما تعرَّض لحادث سير، طواها النسيان، ويجد في نفسه رغبة “خفية” أو “غامضة” في استعادتها، وخصوصاً ما يتعلق منها بعلاقة عاطفية، يبدو أنها كانت قوية للغاية، وقد سبقت تعرفه على “باولا” الطبيبة النفسية التي ستصبح في ما بعد زوجته.
يسأل نفسه: “ما المتعة في أن تكون لديك حكاية إذا كنتَ لا تستطيع أن تقصها على أصدقائك، ولا حتى بإمكانك أن تتذوقها سراً بين الحين والآخر، في ليال يهزها الإعصار، بينما تنعم بالدفء تحت اللحاف؟”.
قالت له زوجته حين أبدى رغبته في ممارسة الحب معها بعد وقت وجيز من عودته من المستشفى إلى المنزل: “أرفض رفضاً قاطعاً أن تمارس الحب مع امرأة تعرَّفت عليها للتو”. يقول مخاطباً مساعدته في متجر بيع الكتب القديمة الذي يملكه، وقد راوده شعور بأنه ربما يكون قد ربطته بها علاقة عاطفية ما قبل أن يفقد ذاكرة التجارب الشخصية: “كل ما وقع لي في الماضي، كل شيء؛ أعني كل شيء، أتفهمين، يبدو مثل لوح مُسِح بالأسفنجة”. يقول أيضاً لنفسه: “النسيان وحش فتّاك”، ويقول كذلك: “لستُ فاقداً للذاكرة فحسب، بل ربما بِتُ أعيش على ذكريات وهمية. ليس لديَّ إلا الاقتباسات أنواراً تضيء دربي في هذا الضباب الموحش” صـ81.
وتقول له زوجته في محاولة لإنعاش ما تلبَّد من تلافيف ذاكرته: “كنتَ تتجاهل الحديث عن طفولتك ومراهقتك. ومن جهة أخرى، لم أتمكَّن قط من فهمك في هذه الأشياء. إذ لطالما كنتَ مزيجاً من العطف والحياد. كنتَ توقع ضد تنفيذ حكم بالإعدام على أحدهم، وتتبرع بالنقود لجمعية توعية بمخاطر المخدرات. ولكن، إذا أخبروك أن عشرة آلاف طفل لقوا مصرعهم، ما أدراني، جراء حرب قبلية في أفريقيا الوسطى، كنتَ تبدي لا مبالاة، لسان حالك يقول إن العالم مكان سيئ وما باليد حيلة، كنتَ رجلاً بهيجاً دوماً، تعجبك النساء الجميلات، وتمتدح النبيذ الممتاز، وتستمع إلى الموسيقى الجيدة، لكن صفاتك تلك كانت تعطيني انطباعاً بأنها ليست سوى مجرد قشرة خارجية، وقناع تخفي حقيقتك وراءه، فكلما أطلقتَ العنان لنفسك، قلتَ إن التاريخ لغز دموي والعالم غلطة”صـ 83.
ومن هنا تنصحه بإجازة يقضيها في بيت عائلته الريفي، لعل ذلك يفيد في استرداد المفقود من الذاكرة، وهناك يواصل تساؤلاته: “أي شعور يراودك إذا دغدغ أحدهم فؤادك؟ برأيي سيكون مثل شعلة خفية”، ماذا تعني شعلة خفية؟ لا أدري، خطَر في بالي أن أسميها هكذا”، ويلاحظ وهو داخل عِلية ذلك البيت حيث احتفظ أقاربه بكل ما هو قديم وبعضه يخص طفولته ومراهقته من كتب عامة وأخرى مدرسية واسطوانات ولوحات، أنه يحظى بذاكرة إنسانية، فيما انمحت ذاكرته الشخصية؛ “قلت لنفسي: لديك ذاكرة من ورق يا يامبو… تلك البومة البيضاء خلال هروبها (من العِلية التي كانت قد اتخذتها مسكناً بما أنها تحولت مع الوقت إلى مكان مهجور) في الليل أشعرتني من جديد بتلك الرعشة التي أسميتها بالشعلة الخفية”.حارسة البيت وتدعى أماليا، تخطت السبعين من عمرها، ولا زالت تعتقد أن موسوليني لا يزال على قيد الحياة، وحين يخبرها “يامبو” بأن “الدوتشي” جرى إعدامه قبل سنوات طويلة، تقول: “أنا لا أفقه شيئاً في السياسة، لكنني أعلم أنهم أطاحوا به ذات مرة ثم عاد، خذها مني: إن الزعيم ما يزال في مكان ما”.
الذكريات المهملة
وفي سياق تأمله حاله يعود “يامبو” ليؤكد: “تجتاحني غصة، كتلك التي راودتني في المستشفى حين رأيت صورة والديَّ يوم زفافهما. الشعلة الخفية. عندما حاولت أن أشرح الظاهرة للطبيب غراتارولو، سألني عما إذا كنتُ أقصد الاختلاج القلبي. ربما، أجبتُ، لكنه مصحوب بحرارة تصعد من الحلق. لا، والحال هذه – قال غراتارولو- الاختلاجات القلبية ليست كذلك”. وعقب تأمله لإحدى الصور، ضمن مهملات عِلية بيت العائلة الريفي يقول: “كان ذلك جانباً لوجه أنثوي يغيم عليه شَعر ذهبي طويل، لكأنه حدس مبهم ومكتوم لملاك ساقط… يا إلهي، لا بد أني قد رأيتُ ذلك الوجه، في صغري، في صباي، في مراهقتي”. رويداً رويداً، يواصل اكتشافاته: “اكتشفت أن اسمي آت من رؤى رهيبة. ها هي “مغامرات الولد ذي الغرة الجميلة” لكاتب يدعي يامبو”.
بتنقيبه، مستعيناً، كما يقول بالفطرة والحدس وعلى طريقة شرلوك هولمز إلى حد ما، في تلال من الذكريات المادية المهملة، يدرك “يامبو”، ولا نقول يتذكر، أموراً كثيرة سبق له قبل فقد الذاكرة التعرف عليها، وربما يكون قد نسيها أصلاً قبل حادث السير الذي تسبب في جعله غير قادر حتى على التعرف على نفسه. وسط تلك التلال وعبر جهد شاق في فرزها، منفرداً، سيعرف “يامبو”، بالحدس، أو بشعلة غامضة، أي شخص هو. سيقول لنفسه في غمار رحلته نحو طفولته ومراهقته التي تأثرت حتماً بفاشية موسوليني عبر التعليم والإعلام والراديو والسينما في عهده: “من الصعب القول إني أعيد اكتشاف شيء ما أو إنني أنشط ذاكرتي الورقية ليس إلا. ولكن إذا كانت الذاكرة الفردية في حاجة إلى تفعيل، فإنها تختلط بالذاكرة العامة. والكتب التي من المرجح أنها أثَّرت في طفولتي، كانت تلك التي تحيلني بلا صدمات على معرفتي الناضجة وغير الشخصية”.
أما الترجمة، فقد أنجزها معاوية عبد المجيد في نحو عامين بحسب ما أورده في مقدمة الترجمة، والتي استهلها باقتباس من كتاب إيكو؛ “أن نقول الشيء نفسه تقريباً”: “إن “وفاء” الترجمة المصرَّح به ليس معياراً يضمن الترجمة الوحيدة المقبولة (وبالتالي يجب أن نعيد النظر حتى في الغطرسة أو العجرفة التي ينظر بها أحياناً إلى الترجمات على أنها “جميلة ولكنها خائنة… الوفاء هو بالأحرى أن نعتقد أن الترجمة هي دائماً ممكنة إذا أوَّلنا النص المصدر بتواطؤ متحمس، هي التعهد بتحديد ما يبدو لنا المعنى العميق للنص، والقدرة على التفاوض في كل لحظة بشأن الحل الذي يبدو لنا أسلم”. هذا الكتاب صدر بترجمة أحمد الصُّمعي عن المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012، وبات بحسب عبد المجيد “مرجعاً أساسياً لمعظم المترجمين، وقد دأبتُ على أن تكون هذه العبارة بوصلة موجِّهة لعملي في الترجمة الأدبية، إلا أن صعوبات تطبيقها تتضاعف في حال كون الكتاب الذي تراد ترجمته هو لصاحب تلك العبارة”.
جهد الترجمة
أمضى عبد المجيد نحو عامين، بين قراءة رواية “الشعلة الخفية” وإعادة قراءتها مراراً والاطلاع على القدر الهائل من المصادر والمراجع التي اختزنها إيكو بين دفتي الرواية. ويضيف: “عجزتُ عن ترجمتها دفعة واحدة؛ لأنها كانت تصيبني بتخمة معرفية في كل صفحة من صفحاتها، إذ إن “التفاوض” المشار إليه آنفاً يمتد فيها ليشمل أدباء لا حصر لهم ونصوصاً معقدة. فقررتُ أن أعُد الرواية بمنزلة مرض مزمن، وأن أعايشها على مدى الأيام، وأن أحيا حياتي بكل تلقائية وأن أنجز الترجمات الأخرى التي كنتُ قد قطعتُ وعداً بإنجازها. وهذا بالتحديد ما يمكننا تسميته “الحياة الموازية”. إذ لا يمكنك أن ترفض عرضاً يقدمه إليك السيد أمبرتو لاصطحابك معه في رحلة لا تنتهي، تبدأ بالتاريخ وتنتقل إلى الجغرافيا وتمر بعلم الأعصاب ثم تعرج على الفلسفة والدين وأزياء الشعوب والفاشية والطفولة والروايات الدفينة والرسم والسينما وأرشيف الورق والإغواء والشهوة والحب، وما إلى ذلك. لكني كنتُ في كل خطوة أخطوها أشعر بالنضج، النضج “الموازي”، وكلما التقط معلومة سجَّلتها، وبحثتُ عنها في مجاهل الإنترنت، ووثَّقتُها من عدة مصادر، ثم كنتُ أضعها في قسم الشروح، كي أوفر على القارئ مشقة مطاردة المعاني والمفاهيم وكي أحتفظ بمتعة المشقة لنفسي”.
وأخيراً، كما يقول عبد المجيد، لا ينبغي لأن يغيب عنا أن هذه الرواية خصَّها أمبرتو إيكو بالصور والرسوم، وكان أكثرها من مكتبته الشخصية، حتى إن بعض النقاد عدَّها سيرة ذاتية متخفية بلباس السرد الروائي، غير أن هدفها أكثر تعقيداً من ذلك. فالرواية إذ تتناول موضوع الذاكرة وفقدانها واستعادتها، تتيح مجالاً واسعاً للصورة البصرية، ليمتحن القارئ قدرته على تمييزها من الصورة الذهنية، وقياسها بالكلمة التي تعبر عنها. ثم إن هذه الصور والرسوم هي بمنزلة الجداول البيانية والخرائط التوضيحية والأشكال الدلالية التي نجدها بوفرة في كتاباته الأخرى، الفكرية والأدبية على حد سواء”.
*علي عطا
وكالة الصحافة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق