⏪⏬
تقديم :يعتبر روني شار،الذي توفي يوم 19فبراير 1988،أحد أكبر شعراء فرنسا حقبة القرن العشرين. ربطته أواصر صداقات بعدد كبير جدا من الكتاب، في خضم ذلك، جمعته صداقة راسخة مع ألبير كامو.
النص الذي أرسله الشاعر إلى جريدة لوفيغارو الأدبية سنة 1957على شرف كامو المتوج آنذاك بجائزة نوبل،يمثل بهذا الصدد شهادة رائعة. حكاية صداقة رائعة و”أخوة عميقة”مثلما أكد ألبير كامو .
تعرف روني شار على كامو،حينما انخرط في صفوف المقاومة،باسم مستعار هو ”القائد ألكسندر”،ثم انكب على قراءة رواية الغريب. بعد انقضاء سنوات، حدث اللقاء بينهما.حينما أشرف كامو على سلسلة ”أمل”التي اهتمت غاليمار بنشر حلقاتها،فأصدرت ضمنها،إبان سنوات الحرب،عملا للشاعر روني شار، تحت عنوان : أوراق للتنويم المغناطيسي.
هكذا ولدت صداقة جميلة، منذ تدشين أولى المراسلات بين الرجلين. ثم ابتداء من خريف سنة 1946 ،بدأ روني شار يستقبل كامو في منزله الموجود بمنطقة “ليزل-سور-لاسورغ”.
عندما خرجت إلى العلن رواية كامو الشهيرة الطاعون، خاطبه روني شار بهذه الكلمات :”لقد أنجزتم عملا في غاية الأهمية، بحيث صار بوسع الأطفال النمو من جديد،وأن يتنفس الخيال. يحتاج زمننا إليكم، لذلك أبعث إليكم بتقديري القلبي”.
سنة 1951 ،كتب ألبير كامو عمله ”الإنسان المتمرد”. اشتد وقع السجالات.صار كامو خصما لأندري بروتون والسورياليين وسارتر وخلفه فريق الوجوديين. بينما، ساند روني شار كامو وانتظر سنوات كي يدون هذه السطور ويرسلها سنة 1957 إلى جريدة لوفيغارو الأدبية، مخاطبا ضمنيا نخبة فكرية شديدة الحساسية :”فليمنحوني ضربة جناح؛كي أتحدث عن صديق”.
تبادل الكاتبان رسائل، لمدة ثلاث عشرة سنة،تضمنها مُؤَلَّف صدر سنة 2007 . روت هذه المراسلات مواقفهما المشتركة، شكوكهما، أفراحهما ثم تقاربهما. مثلما يشرح روني شار، قائلا :” سيأخذ مسار أخوَّتنا مدى يتجاوز كثيرا مانتصوره ونعيشه. شيئا فشيئا،سنزعج تفاهة محتالين، يتقنون فن الكلام ، ينتسبون إلى مختلف روافد حقبتنا.جيد،أن تنطلق معركتنا الجديدة ومعها مبرر وجودنا”.
استمرت الصداقة بين الرجلين إلى أن وضع لها القدر نهاية : مات كامو يوم 4 يناير 1960،جراء حادث سيارة تراجيدي .
⏪نص الرسالة :-
أود الحديث عن صديق
جمعتني صداقة بكامو منذ عشر سنوات،وبخصوص هذا الموضوع، تقفز دائما إلى ذاكرتي عبارة نيتشه العظيمة :“لقد طرحت دائما عبر كتاباتي كل جوانب حياتي وشخصيتي.بالتالي، لا أعرف معنى أن تبقى القضايا محض فكرية ”.هنا تتجلى قوة كامو في نقائها،وقد تشكلت ثانية حسب السياق، ثم ضعفه الذي هُوجم باستمرار.
وإن اقتضى الوضع الإيمان بأن ساعة الحقيقة، لا تدق كل آن،لكن وحده جمال الزمان ومآسيه،بوسعهما دائما إجبار ميشيل(**)،على ولوج تلك الدروب المعتمة،رغم اللاأمان الذي يكتنفها، حتى يؤكد أمام أسرة المستبدين وكذا الشكيين،قيمة فضائل الوعي القلق والمعركة التي تبعث الحياة. يمكنني القول جازما، بخصوص عمل كامو :هنا،وسط أراضي وعرة، شق محراث متحمس وجهتي، رغما عن الكوابح والخوف. فليمنحوني، إذن ضربة جناح،لأني أريد استحضار سيرة صديقي.
حزينا أو منزعجا،لا يلتجئ كامو أبدا إلى خاصية الإساءة، لكن مع زهدها،تمتلك سلبية أن تضفي على محيا صاحبها ملامح تشرف على تعابير الموت. يرفض خطاب كامو الحاسم التقليل من شأن خصمه، لكنه يستخف بالغباء. الخاصية التي تشفي غليله أكثر،مهما تجلت كثافة شعاع الشمس الذي يستنير منه، تتمثل في عدم استكانته قط إلى ذاته؛مما يكرس انتباهه،ويثري أكثر شغفه. وبكيفية غريبة تلهمه حساسيته ذخيرة ودِرْعا، فيلتزم بذلك كليا.
أخيرا، يثري كامو امتياز حاسم ، بحيث لا يفوز سوى بانتصار جدير به،سرعان مايصرف انتباهه عنه، مثل رسام ألوان لوحة،وليس على طريقة مولع بأدوات الحرب . أحب كامو المشي بخطوة مرنة وسط شارع مدينة،فيغتني الأخير للحظة تماما،بفضل نعمة الشباب.
الصداقة التي تنجح في الحيلولة دون المهمات المسيئة للآخر،حينما تحتاج روح هذا الآخر للغياب والحركة البعيدة، تعتبر الوحيدة التي تحوي بذرة الخلود. هي من تقرّ دون شرور،بالغامض في العلاقات الإنسانية،واحترامها للانزعاج العابر. مع ثبات القلوب المجرِّبة، فالصداقة لاتترصَّد ولا تمارس محاكم التفتيش.
طائران من فصيلة السنونو، صامتان حينا ،وقد لايتوقفان عن الكلام،حينا آخر،وهما بصدد تقاسم لانهائية الأفق وذات الملاذ.
-
*ترجمة : سعيد بوخليط
ــــــــــــــ
*متابعات المحرر
من رسائل (كامو) إلى (ماريا كازارس)
*المرجع :
أرشيف لوفيغارو :أعيد نشر الرسالة يوم 16 فبراير2018
(**) :فترة انخراط كامو في صفوف المقاومة،كان يوقع رسائله الغرامية إلى ماريا كازارس باسم مستعار هو ”ميشيل”.
تقديم :يعتبر روني شار،الذي توفي يوم 19فبراير 1988،أحد أكبر شعراء فرنسا حقبة القرن العشرين. ربطته أواصر صداقات بعدد كبير جدا من الكتاب، في خضم ذلك، جمعته صداقة راسخة مع ألبير كامو.
النص الذي أرسله الشاعر إلى جريدة لوفيغارو الأدبية سنة 1957على شرف كامو المتوج آنذاك بجائزة نوبل،يمثل بهذا الصدد شهادة رائعة. حكاية صداقة رائعة و”أخوة عميقة”مثلما أكد ألبير كامو .
تعرف روني شار على كامو،حينما انخرط في صفوف المقاومة،باسم مستعار هو ”القائد ألكسندر”،ثم انكب على قراءة رواية الغريب. بعد انقضاء سنوات، حدث اللقاء بينهما.حينما أشرف كامو على سلسلة ”أمل”التي اهتمت غاليمار بنشر حلقاتها،فأصدرت ضمنها،إبان سنوات الحرب،عملا للشاعر روني شار، تحت عنوان : أوراق للتنويم المغناطيسي.
هكذا ولدت صداقة جميلة، منذ تدشين أولى المراسلات بين الرجلين. ثم ابتداء من خريف سنة 1946 ،بدأ روني شار يستقبل كامو في منزله الموجود بمنطقة “ليزل-سور-لاسورغ”.
عندما خرجت إلى العلن رواية كامو الشهيرة الطاعون، خاطبه روني شار بهذه الكلمات :”لقد أنجزتم عملا في غاية الأهمية، بحيث صار بوسع الأطفال النمو من جديد،وأن يتنفس الخيال. يحتاج زمننا إليكم، لذلك أبعث إليكم بتقديري القلبي”.
سنة 1951 ،كتب ألبير كامو عمله ”الإنسان المتمرد”. اشتد وقع السجالات.صار كامو خصما لأندري بروتون والسورياليين وسارتر وخلفه فريق الوجوديين. بينما، ساند روني شار كامو وانتظر سنوات كي يدون هذه السطور ويرسلها سنة 1957 إلى جريدة لوفيغارو الأدبية، مخاطبا ضمنيا نخبة فكرية شديدة الحساسية :”فليمنحوني ضربة جناح؛كي أتحدث عن صديق”.
تبادل الكاتبان رسائل، لمدة ثلاث عشرة سنة،تضمنها مُؤَلَّف صدر سنة 2007 . روت هذه المراسلات مواقفهما المشتركة، شكوكهما، أفراحهما ثم تقاربهما. مثلما يشرح روني شار، قائلا :” سيأخذ مسار أخوَّتنا مدى يتجاوز كثيرا مانتصوره ونعيشه. شيئا فشيئا،سنزعج تفاهة محتالين، يتقنون فن الكلام ، ينتسبون إلى مختلف روافد حقبتنا.جيد،أن تنطلق معركتنا الجديدة ومعها مبرر وجودنا”.
استمرت الصداقة بين الرجلين إلى أن وضع لها القدر نهاية : مات كامو يوم 4 يناير 1960،جراء حادث سيارة تراجيدي .
⏪نص الرسالة :-
أود الحديث عن صديق
جمعتني صداقة بكامو منذ عشر سنوات،وبخصوص هذا الموضوع، تقفز دائما إلى ذاكرتي عبارة نيتشه العظيمة :“لقد طرحت دائما عبر كتاباتي كل جوانب حياتي وشخصيتي.بالتالي، لا أعرف معنى أن تبقى القضايا محض فكرية ”.هنا تتجلى قوة كامو في نقائها،وقد تشكلت ثانية حسب السياق، ثم ضعفه الذي هُوجم باستمرار.
وإن اقتضى الوضع الإيمان بأن ساعة الحقيقة، لا تدق كل آن،لكن وحده جمال الزمان ومآسيه،بوسعهما دائما إجبار ميشيل(**)،على ولوج تلك الدروب المعتمة،رغم اللاأمان الذي يكتنفها، حتى يؤكد أمام أسرة المستبدين وكذا الشكيين،قيمة فضائل الوعي القلق والمعركة التي تبعث الحياة. يمكنني القول جازما، بخصوص عمل كامو :هنا،وسط أراضي وعرة، شق محراث متحمس وجهتي، رغما عن الكوابح والخوف. فليمنحوني، إذن ضربة جناح،لأني أريد استحضار سيرة صديقي.
حزينا أو منزعجا،لا يلتجئ كامو أبدا إلى خاصية الإساءة، لكن مع زهدها،تمتلك سلبية أن تضفي على محيا صاحبها ملامح تشرف على تعابير الموت. يرفض خطاب كامو الحاسم التقليل من شأن خصمه، لكنه يستخف بالغباء. الخاصية التي تشفي غليله أكثر،مهما تجلت كثافة شعاع الشمس الذي يستنير منه، تتمثل في عدم استكانته قط إلى ذاته؛مما يكرس انتباهه،ويثري أكثر شغفه. وبكيفية غريبة تلهمه حساسيته ذخيرة ودِرْعا، فيلتزم بذلك كليا.
أخيرا، يثري كامو امتياز حاسم ، بحيث لا يفوز سوى بانتصار جدير به،سرعان مايصرف انتباهه عنه، مثل رسام ألوان لوحة،وليس على طريقة مولع بأدوات الحرب . أحب كامو المشي بخطوة مرنة وسط شارع مدينة،فيغتني الأخير للحظة تماما،بفضل نعمة الشباب.
الصداقة التي تنجح في الحيلولة دون المهمات المسيئة للآخر،حينما تحتاج روح هذا الآخر للغياب والحركة البعيدة، تعتبر الوحيدة التي تحوي بذرة الخلود. هي من تقرّ دون شرور،بالغامض في العلاقات الإنسانية،واحترامها للانزعاج العابر. مع ثبات القلوب المجرِّبة، فالصداقة لاتترصَّد ولا تمارس محاكم التفتيش.
طائران من فصيلة السنونو، صامتان حينا ،وقد لايتوقفان عن الكلام،حينا آخر،وهما بصدد تقاسم لانهائية الأفق وذات الملاذ.
-
*ترجمة : سعيد بوخليط
ــــــــــــــ
*متابعات المحرر
من رسائل (كامو) إلى (ماريا كازارس)
هانا أرندت العمل والبحث عن السعادة
⏪الرسالة: 16
شتنبر 1944، الساعة الواحدة صباحا.
منذ لحظة،قطعتُ بغتة المكالمة الهاتفية لأن الدموع خنقتني. لا تعتقدي أني اتسمتُ بالعدوانية نحوكِ. لم يسبق قط لقلب إنسان أن غمرته المحبة ثم الخيبة في ذات الوقت. أينما وجهت بصري، لا ألمح سوى حلكة الليل. برفقتكِ أو بدونكِ، ضاع كل شيء. وفي غيابكِ، خارت قواي. أعتقد أني أتمنى الموت. ولا أمتلك ما يكفي من القوة لمقاومة الأشياء بل ونفسي، مثلما دأبتُ على فعل ذلك منذ صرتُ إنسانا. لم أعد قادرًا سوى على النوم، فقط لاغير. أنام وأدير رأسي نحو الحائط، مترقبا مجيئك. متى يمكنني الصراع ضد مرضي وأصبح أكثر قوة من حياتي الخاصة، لا أعرف متى سأعثر ثانية على طاقة القيام بذلك.
مع ذلك لا تقلقي. أفترض أن كل هذه الأمور ستعود لنصابها. تعكس رسالتي هاته، إلى جانب مختلف باقي التفاصيل، إيماني دائما بكِ، وكذا إصرار رغبتي على رؤيتكِ سعيدة. وداعا، حبيبتي. تذكَّري دائما الشخص الذي عشقكِ أكثر من حياته. ولا تغضبي مني.
⏪الرسالة: 17
باريس، أكتوبر 1944،الساعة الواحدة ونصف ظهرا
ستأتين بعد قليل وسأخبركِ بصيغة لا لبس فيها، عن ما وددتُ أيضا الإفصاح لكِ عنه. بعدها، ستنتهي مسارات حكايتنا. غير أني لا أريد الانفصال في ظل نظرة بئيسة نحاول بحسبها أن نبلور بلا جدوى مالا يمكنه التحقق. قضيتُ ليلة البارحة متسائلا إنْ أحببتني حقا أو كان مختلف ذلك فقط تجليا مظهريا كنتِ بدوركِ في خضمه نصف مخدوعة. لكن من الآن فصاعدا لن أستفسركِ أبدا بهذا الصدد. أريد الحديث معكِ، بخصوصنا معا ثم عني. أتطلع إلى إسعاد (فرانسين) [1]. لكن أجدني ضعيفا تماما كي أنتشل نفسي من دوامة هذه الحكاية. جسديا، أشعر بانكسار يفوق ما بوسعي البوح به. معنويا، لا أحس سوى بأني قلب جاف، صارم، محروم من رغباتي. فليس أمامي إذن أي موضوع ألتمسه وقد عشت ما يكفي من الوقائع تجعلني أستسيغ حقا نوعا من التخلي. لكن في خضم هذه الحياة، سيظل عشقي وفيّا لكِ.
تكمن أمنيتي الأكثر صدقا وفطرية في أن لا يلمسكِ أي رجل آخر، غداة اختفائي. أعلم أنه تطلع مستحيل. في المقابل، كل ما أتمناه، أن لا تضيعي هذه الحقيقة الرائعة التي هي أنتِ، بالتالي لا تمنحي هذا العطاء سوى للكائن الذي يستحقه. ومادام يصعب، تسيُّدي على كل هذا الحيز، الذي أود بغيرة اكتساحه، أريد منكِ أن تحرسي داخل قلبكِ، هذه المكانة المميزة، حيث بدا لي خلال لحظات نادرة أني أستحقها. طموح حزين، لكن هذا مابقي في جعبتي.
أنا، فقط محبط. خلال فترة هذا الصباح مع اضطرابي، سادني حزن جاف، نتيجة فكرة انتهاء علاقتنا، نعم انتهت فعلا، ثم اقتراب موعد فصل الشتاء، بعد الربيع وهذا الصيف الذي لفحتني كثيرا أشعة شمسه. آه! (ماريا) عزيزتي، أنتِ الكائن الوحيد الذي ألهمني الدموع. أشياء كثيرة لم أعد أتذوقها! فالمسرات التي عرفتها معكِ صارت تبدو قياسا لها، فقيرة تلك الأخرى التي بوسعي ملاقاتها.
أفكر في مغادرة باريس والسفر بعيدًا قدر الإمكان. هناك أشخاص وشوارع غير قادر على زيارتهما ثانية. لكن مهما حدث، تذكّري دائما وجود كائن في هذا العالم، بوسعكِ خلال أيّ لحظة الرجوع إليه أو القدوم عنده. لقد منحتكِ ذات يوم، من صميم فؤادي، كل ما أملكه وجل ما أنا عليه. اهتمي بذلك غاية رحيلي عن هذا العالم الغريب الذي بدأ يتعبني. ويظل أملي أن تدركي في يوم من الأيام إلى أيّ مدى أحببتكِ.
وداعا، عزيزتي، شغفي. ترتجف يدي وأنا أكتب لكِ هذا. إذن احرصي على نفسكِ، وحافظي على نقائكِ. لا تنسي قط أن تستمري كبيرة. أفتقد إلى هذا القلب حينما أستحضر كل الزمان القادم وأنتِ غائبة تماما. لكن وأنا أعرفكِ فنانة عظيمة، تتماثل مع جوهركِ، أو سعيدة وفق أسلوبكِ، أدرك في الوقت ذاته، إضافة إلى ماسبق، أني سأكون سعيدا، بالرغم مني. وستتجلى لدي فكرة مفادها أني لم أضعف أي شيء لديكِ وهذا الحب الشقي لم يسعفكِ. هي مواساة خاطئة، لكنها الوحيدة المتبقية لدي.
مرة أخرى، وداعا عزيزتي، وليشملكِ حبي برعايته. أقبِّلُكِ، وعلى امتداد هذه السنوات التي سأعيشها بدونكِ، أقبِّل وجهكِ العزيز مع كل الألم والحب المهول الذي يستوطن قلبي.
⏪الرسالة: 18
21 نوفمبر 1944
عيد ميلاد سعيد، عزيزتي [2]. أود أن أبعث إليكِ في نفس الآن كل ابتهاجي، لكن حقيقة غير قادر. لقد أنهيتُ البارحة رسالتي إليكِ وقلبي ممزق. وبعد الظهيرة، ترقبتُ طيلة تلك الفترة، مكالمة هاتفية منكِ. ليلا، أدركتُ جيدا أكثر إلى أي حد أفتقدكِ. تملكني شيء فظيع ومزمن . لست قادرا التعبير عنه.
أريد إحاطتكِ علما بمختلف ذلك بين طيات تعبكِ. أعلم جيدا أنه ليس خطأكِ، لكن ماذا بوسعكِ فعله ضد هذا الوجع المحيط بي عندما أحدد كل ما يفصلني عنكِ. كما قلت لكِ، أريد أن تمكثي أمامي، تتواجدين دون هدنة وأعلم مدى عبثية أمنية من هذا القبيل.
لاتبالي كثيرا بوضعي، أتدبّر أمري بكيفية حسنة. كوني سعيدة هذا المساء. فلا نعيش دائما سنّ الثانية والعشرين، ولا باقي أعمار السنوات، بوسعي فعلا تلقينكِ كيفية ذلك، أنا من يشعر بكوني كهلا جدا منذ عهد قريب.
لم أخبركِ إلى أي حد عشقتكِ وأنت تؤدين دورا في مسرحية :القروي [3].وقد أظهرتِ أناقة وتوهجا وإبداعا.
نعم بوسعكِ أن تكوني سعيدة، مادمت أنتِ فنانة عظيمة جدا. ثم بغض النظر عن كل ما يؤلمني،فقد استمتعت برفقتكِ.
---
[1]: بعد عامين من الانفصال الاضطراري، غادرت (فرانسين) مدينة وهران بالجزائر، أواخر سنة 1944، صوب باريس للالتحاق بزوجها (كامو)، وقد أقاما في شقة صغيرة استأجرها الروائي الشاب من (أندريه جيد).
[2]: ولدت (ماريا كازارس)، يوم 21 نوفمبر 1922، في غاليسيا بإسبانيا، وقد بلغت آنذاك سن الثانية والعشرين.
[3]: مسرحية البيت الريفي لـ(أنطون تشيخوف)، أخرجها (مارسيل هيرون) سنة 1944 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ⏪الرسالة: 16
شتنبر 1944، الساعة الواحدة صباحا.
منذ لحظة،قطعتُ بغتة المكالمة الهاتفية لأن الدموع خنقتني. لا تعتقدي أني اتسمتُ بالعدوانية نحوكِ. لم يسبق قط لقلب إنسان أن غمرته المحبة ثم الخيبة في ذات الوقت. أينما وجهت بصري، لا ألمح سوى حلكة الليل. برفقتكِ أو بدونكِ، ضاع كل شيء. وفي غيابكِ، خارت قواي. أعتقد أني أتمنى الموت. ولا أمتلك ما يكفي من القوة لمقاومة الأشياء بل ونفسي، مثلما دأبتُ على فعل ذلك منذ صرتُ إنسانا. لم أعد قادرًا سوى على النوم، فقط لاغير. أنام وأدير رأسي نحو الحائط، مترقبا مجيئك. متى يمكنني الصراع ضد مرضي وأصبح أكثر قوة من حياتي الخاصة، لا أعرف متى سأعثر ثانية على طاقة القيام بذلك.
مع ذلك لا تقلقي. أفترض أن كل هذه الأمور ستعود لنصابها. تعكس رسالتي هاته، إلى جانب مختلف باقي التفاصيل، إيماني دائما بكِ، وكذا إصرار رغبتي على رؤيتكِ سعيدة. وداعا، حبيبتي. تذكَّري دائما الشخص الذي عشقكِ أكثر من حياته. ولا تغضبي مني.
⏪الرسالة: 17
باريس، أكتوبر 1944،الساعة الواحدة ونصف ظهرا
ستأتين بعد قليل وسأخبركِ بصيغة لا لبس فيها، عن ما وددتُ أيضا الإفصاح لكِ عنه. بعدها، ستنتهي مسارات حكايتنا. غير أني لا أريد الانفصال في ظل نظرة بئيسة نحاول بحسبها أن نبلور بلا جدوى مالا يمكنه التحقق. قضيتُ ليلة البارحة متسائلا إنْ أحببتني حقا أو كان مختلف ذلك فقط تجليا مظهريا كنتِ بدوركِ في خضمه نصف مخدوعة. لكن من الآن فصاعدا لن أستفسركِ أبدا بهذا الصدد. أريد الحديث معكِ، بخصوصنا معا ثم عني. أتطلع إلى إسعاد (فرانسين) [1]. لكن أجدني ضعيفا تماما كي أنتشل نفسي من دوامة هذه الحكاية. جسديا، أشعر بانكسار يفوق ما بوسعي البوح به. معنويا، لا أحس سوى بأني قلب جاف، صارم، محروم من رغباتي. فليس أمامي إذن أي موضوع ألتمسه وقد عشت ما يكفي من الوقائع تجعلني أستسيغ حقا نوعا من التخلي. لكن في خضم هذه الحياة، سيظل عشقي وفيّا لكِ.
تكمن أمنيتي الأكثر صدقا وفطرية في أن لا يلمسكِ أي رجل آخر، غداة اختفائي. أعلم أنه تطلع مستحيل. في المقابل، كل ما أتمناه، أن لا تضيعي هذه الحقيقة الرائعة التي هي أنتِ، بالتالي لا تمنحي هذا العطاء سوى للكائن الذي يستحقه. ومادام يصعب، تسيُّدي على كل هذا الحيز، الذي أود بغيرة اكتساحه، أريد منكِ أن تحرسي داخل قلبكِ، هذه المكانة المميزة، حيث بدا لي خلال لحظات نادرة أني أستحقها. طموح حزين، لكن هذا مابقي في جعبتي.
أنا، فقط محبط. خلال فترة هذا الصباح مع اضطرابي، سادني حزن جاف، نتيجة فكرة انتهاء علاقتنا، نعم انتهت فعلا، ثم اقتراب موعد فصل الشتاء، بعد الربيع وهذا الصيف الذي لفحتني كثيرا أشعة شمسه. آه! (ماريا) عزيزتي، أنتِ الكائن الوحيد الذي ألهمني الدموع. أشياء كثيرة لم أعد أتذوقها! فالمسرات التي عرفتها معكِ صارت تبدو قياسا لها، فقيرة تلك الأخرى التي بوسعي ملاقاتها.
أفكر في مغادرة باريس والسفر بعيدًا قدر الإمكان. هناك أشخاص وشوارع غير قادر على زيارتهما ثانية. لكن مهما حدث، تذكّري دائما وجود كائن في هذا العالم، بوسعكِ خلال أيّ لحظة الرجوع إليه أو القدوم عنده. لقد منحتكِ ذات يوم، من صميم فؤادي، كل ما أملكه وجل ما أنا عليه. اهتمي بذلك غاية رحيلي عن هذا العالم الغريب الذي بدأ يتعبني. ويظل أملي أن تدركي في يوم من الأيام إلى أيّ مدى أحببتكِ.
وداعا، عزيزتي، شغفي. ترتجف يدي وأنا أكتب لكِ هذا. إذن احرصي على نفسكِ، وحافظي على نقائكِ. لا تنسي قط أن تستمري كبيرة. أفتقد إلى هذا القلب حينما أستحضر كل الزمان القادم وأنتِ غائبة تماما. لكن وأنا أعرفكِ فنانة عظيمة، تتماثل مع جوهركِ، أو سعيدة وفق أسلوبكِ، أدرك في الوقت ذاته، إضافة إلى ماسبق، أني سأكون سعيدا، بالرغم مني. وستتجلى لدي فكرة مفادها أني لم أضعف أي شيء لديكِ وهذا الحب الشقي لم يسعفكِ. هي مواساة خاطئة، لكنها الوحيدة المتبقية لدي.
مرة أخرى، وداعا عزيزتي، وليشملكِ حبي برعايته. أقبِّلُكِ، وعلى امتداد هذه السنوات التي سأعيشها بدونكِ، أقبِّل وجهكِ العزيز مع كل الألم والحب المهول الذي يستوطن قلبي.
⏪الرسالة: 18
21 نوفمبر 1944
عيد ميلاد سعيد، عزيزتي [2]. أود أن أبعث إليكِ في نفس الآن كل ابتهاجي، لكن حقيقة غير قادر. لقد أنهيتُ البارحة رسالتي إليكِ وقلبي ممزق. وبعد الظهيرة، ترقبتُ طيلة تلك الفترة، مكالمة هاتفية منكِ. ليلا، أدركتُ جيدا أكثر إلى أي حد أفتقدكِ. تملكني شيء فظيع ومزمن . لست قادرا التعبير عنه.
أريد إحاطتكِ علما بمختلف ذلك بين طيات تعبكِ. أعلم جيدا أنه ليس خطأكِ، لكن ماذا بوسعكِ فعله ضد هذا الوجع المحيط بي عندما أحدد كل ما يفصلني عنكِ. كما قلت لكِ، أريد أن تمكثي أمامي، تتواجدين دون هدنة وأعلم مدى عبثية أمنية من هذا القبيل.
لاتبالي كثيرا بوضعي، أتدبّر أمري بكيفية حسنة. كوني سعيدة هذا المساء. فلا نعيش دائما سنّ الثانية والعشرين، ولا باقي أعمار السنوات، بوسعي فعلا تلقينكِ كيفية ذلك، أنا من يشعر بكوني كهلا جدا منذ عهد قريب.
لم أخبركِ إلى أي حد عشقتكِ وأنت تؤدين دورا في مسرحية :القروي [3].وقد أظهرتِ أناقة وتوهجا وإبداعا.
نعم بوسعكِ أن تكوني سعيدة، مادمت أنتِ فنانة عظيمة جدا. ثم بغض النظر عن كل ما يؤلمني،فقد استمتعت برفقتكِ.
---
[1]: بعد عامين من الانفصال الاضطراري، غادرت (فرانسين) مدينة وهران بالجزائر، أواخر سنة 1944، صوب باريس للالتحاق بزوجها (كامو)، وقد أقاما في شقة صغيرة استأجرها الروائي الشاب من (أندريه جيد).
[2]: ولدت (ماريا كازارس)، يوم 21 نوفمبر 1922، في غاليسيا بإسبانيا، وقد بلغت آنذاك سن الثانية والعشرين.
[3]: مسرحية البيت الريفي لـ(أنطون تشيخوف)، أخرجها (مارسيل هيرون) سنة 1944 .
*المرجع :
(**) :فترة انخراط كامو في صفوف المقاومة،كان يوقع رسائله الغرامية إلى ماريا كازارس باسم مستعار هو ”ميشيل”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق