⏪ الرواية تؤسس لأيدلوجيتها اليسارية بلا أي خطابة أو زعيق قد يمثلان نتوءا في انسيابية النص
عندما صدرت هذه الرواية، فاجأت الروائية بهيجة حسين الواقع الأدبي بهذا النص الممتع وهذه الحكايات التي هي من فرط عاديتها
وتآلفنا معها واعتيادنا على وجودها لم نعد ننتبه لها، وبهذا تصير "غير عادية" بالمرة، لأنها تقدم الذات المكتنزة بكل المشاعر من كل مناحيها وتشخص كل المعاني المجردة مثل الحب والخوف والاحتياج النفسي والجسدي والكراهية والافتقاد والرومانسية، وتهيؤ المشاعر والانتهازية والإيجابية وما سواها، عبر الحكي وعبر بوابة الذكريات التي تتفجر لتغير موقعها من الدفن في صندوق تحت السرير إلى صدارة المشهد.
تنفخ الراوية الروح في صورها لتتخلق الحياة بكامل أوجهها وتحولاتها وكذا تؤسس لأيدلوجيتها اليسارية بلا أي خطابة أو زعيق قد يمثلان نتوءا في انسيابية النص.
ولو حاولنا أن نطلق على هذه الكتابة عبارة "رواية نسائية بامتياز، أو كتابة بعين المرأة" فإننا نفعل ذلك، لا لكون النص يبدو منشغلا بالأساس بالحكي الصادر عن أنثى متناولا نساء، بالأساس وفي الصدارة، ورجالا في الخلفية أو لكونه يعرض الأعم الأشمل من مظاهر قهر النساء ومشاكلهن العامة والخاصة في القرية والمدينة عبر فترة ممتدة من تاريخ مصر.
ولكن لأن الرؤية التي قدمتها هذه الرواية تجاوزت الرصد الخارجي والتشويق الضيق والإثارة، إلى مرحلة النفاذ تحت جلد الأنثى والتعبير عن أدق النبضات والخلجات في حياة الكائن الثري درامياً والمكتنز بالحياة المسمى بالمرأة، وعن طريقها، أي عن طريق مركزيتها في حياتنا ومصائرنا، يمكن لنا تعرية المجتمع كله، فكون المرأة منطلقا للحكي ثم مادته الخام وكون كل بطلة هي كتلة سردية في حد ذاتها، أدى إلى أن يكتمل في النهاية المعمار الدرامي للنص الكبير الذي هو الرواية؛ كون المرأة بهذه الأهمية في هذا العمل جاء بمشروعية وانسيابية وبساطة وبدون تماحك مع العنوان الكبير الرائج: "الكتابة النسوية" بدون التعامل مع مصائر النساء الأبطال على أنها حواديت فقط لملء الوقت – كما يصرح العنوان بمكر فني – بل إن الحكايات تلك في حد ذاتها تصلح تماما لإنتاج الدراما.
وهناك بعد أساسي وملحوظ يبدو أنه كان ماثلا في أولويات مبدع النص وهو محاولة التصادق مع المتلقي عبر رؤية كل منا لذاته في جزء من الكتابة، وبالتالي تصدير الإمتاع لذلك القارئ الذي سيصبح متورطاً، وهذا الأمر صار غائبا إلى حد ما في الكتابات الآنية وذلك لصالح فعل "الإدهاش".
نجحت الكاتبة في ذلك عن طريق حيوية السرد وحساسيته وسيطرة المبدع على الكتابة، ما أود الإشارة إليه هنا هو أن هذه المتعة لا تعود بالأساس إلى الحكايات وهي منطقة مضمونة في تصدير الإمتاع وثابتة في الذائقة عبر نموذج "شهرزاد" وحواديت الجدات، ولكن لأن مبدع النص مارس لعبة الكتابة وكأنه ممسك بحبل مشدود، يخفف القبضة حيناً ويشدها حيناً آخر، وهكذا تتبادل المواقع، المناطق الساخنة التي تحمل توترا والمناطق التي تؤدي إليها أو تخرج منها، بنجاح فني وسيطرة وإحكام.
يقدم النص مادة ثرية جداً من الأمثال الشعبية والمسرح (الحي) الذي تنتج فيه النصوص الشفاهية الدالة والموجزة والحكيمة والروائح والأصوات والممارسات الشعبية مثل طقوس ليلة الدخلة (البلدي) والتجاور بين البشر والحيوان في الريف ..الخ بشكل مبرر تماما وليس بشكل (سياحي)، بارد وبلا روح، فقط لاستدرار الترجمة أو حتى اقتناص نجاح مضمون، ولكن كل تلك الطقوس جاءت كجزء حميم وأصيل من مصائر وحيوات المروي عنهن لهذا فهذه المادة المصرية الخالصة، مسبوكة تماماً في لحم الحكي.
وبذكاء صدّرت الكاتبة النموذج الذي تفضله للمرأة، برهافة وبدون فرض على منطق السرد. فالراوية معجبة بملمح إنساني معين في كل شخصية تصدّرها، لكن بالنسبة لنموذج الأم، ينجح النص في جعل المتلقي يتلقاها بالتفضيل، فهو نموذج راقٍ، تقدمي، أنيق، عنده كبرياء، مكتفٍ ولا يفرض آراءه على الآخرين. تتسرب إليك هذه المحبة لتلك الشخصية عبر المقارنة مع أخرياتٍ في النص أو داخلك أنت.
كذلك لا بد وأن تتعاطف مع الراوية التي هي نتاج كل ما قُدِّم من خلال السرد ومن أحداث كبيرة عبر الوطن أو حكايات صغيرة عبر المحيطين بها ثم لا تستكين لاتهامها بالسلبية لأنك تتذكر الأم طول الوقت في الخلفية حيث رسمت لها حياتها بهذا الشكل، ثم تفيق على كون نموذج الراوية هو النموذج المناسب لتلخيص كل ما جرى لنا وليس فقط لهذا الجيل الذي تنتمي إليه، وهو التالي لجيل "الفعل" السابق عليه، ما أقصده أن هذا الالتباس يتماهى تماماً مع التباسنا إزاء ما كان واضحاً فيما سبق.
السارد هنا متأرجح بين كونه راوياً خارجياً أو راوياً مشاركاً، لكن اللافت أن هذا الراوي الخارجي لا يصح أن يكون خارجياً بنقاء لأن مصير هذه الشخصية مرتبط بطريق أو بآخر بمن تحكي عنهن أو عنهم سواء بالقرابة أو تشرّب النموذج أو رفضه. هذا الراوي، الذي يُخرج الصور التي هي مفتاح الحكي ومنطلقه ومسرحه، الساحر الذي يخرج الدهشة من الجراب، يقدم السرد منطقاً ومبرراً لكونه راوياً عليماً بلا أي تعسف، نظراً لأنه حامل المفتاح وبادئ البهجة.
في هذا العمل هناك ملمحان بارزان هما: الحنين، والتعبير عن نتيجة مفادها أن الجسد هو محل الذكريات عبر الجنس. أما الحنين فينقسم إلى صورتين: الحنين الشفيف الذي يتسلل إلى الروح والصورة الأخرى هي النوستالجيا وهي الحنين المرضي الذي يتسلط ويؤثر في المصائر.
يراوح العمل بين الصورتين، وطول الوقت لا نصل أبدا إلى الدرجة العاطفية الفاقعة رغم ميلودرامية بعض الأحداث. أما الجنس، فهو مركزي وأساسي ويظهر كمفجر للأحداث أو يصير هو اللاوعي الذي تتصرف الشخصيات عبر كونه ماثلاً وموجوداً بفداحة وضاغطاً. لكن الشخصية الوحيدة التي لا يطل الجنس عبر نوافذها بجلاء وإعلان كامل هي الراوية، حيث ينضاف إلى قيم ومشاعر كثيرة تلتبس إزاءها مشاعر الراوية كذلك يأخذ الجنس شكل "الجنس المضمر" في حالة الأم، حيث أومأت الكتابة إلى إمكانية حدوثه وبالتالي صار ينتج في ذهن المتلقي وفي النهاية صارت الحكايات هي حياة الراوية التي لم تعشها بعمق إلا من خلالها، لقد عوضت كل ما كان يجب أن تحياه أو تتمثله أو تتمنى أن تختبره في حيوات الآخرين. وتبقى الإشارة الأخيرة في العمل إشارة بليغة تصرح بأنها ستكمل هذا الدور لكنها ستنتقل من موقع المتلقي، شبه المشارك إلى دور إعادة الخلق، المتمثل في تجميع أجزاء الحكايات التي لم تكتمل بعد وجعلها صالحة لإثارة الدهشة.
يذكر أن حكايات عادية لملء الوقت للكاتبة بهيجة حسين، صدرت عن روايات الهلال بالقاهرة، 2008.
-
*مؤمن سمير
عندما صدرت هذه الرواية، فاجأت الروائية بهيجة حسين الواقع الأدبي بهذا النص الممتع وهذه الحكايات التي هي من فرط عاديتها
وتآلفنا معها واعتيادنا على وجودها لم نعد ننتبه لها، وبهذا تصير "غير عادية" بالمرة، لأنها تقدم الذات المكتنزة بكل المشاعر من كل مناحيها وتشخص كل المعاني المجردة مثل الحب والخوف والاحتياج النفسي والجسدي والكراهية والافتقاد والرومانسية، وتهيؤ المشاعر والانتهازية والإيجابية وما سواها، عبر الحكي وعبر بوابة الذكريات التي تتفجر لتغير موقعها من الدفن في صندوق تحت السرير إلى صدارة المشهد.
تنفخ الراوية الروح في صورها لتتخلق الحياة بكامل أوجهها وتحولاتها وكذا تؤسس لأيدلوجيتها اليسارية بلا أي خطابة أو زعيق قد يمثلان نتوءا في انسيابية النص.
ولو حاولنا أن نطلق على هذه الكتابة عبارة "رواية نسائية بامتياز، أو كتابة بعين المرأة" فإننا نفعل ذلك، لا لكون النص يبدو منشغلا بالأساس بالحكي الصادر عن أنثى متناولا نساء، بالأساس وفي الصدارة، ورجالا في الخلفية أو لكونه يعرض الأعم الأشمل من مظاهر قهر النساء ومشاكلهن العامة والخاصة في القرية والمدينة عبر فترة ممتدة من تاريخ مصر.
ولكن لأن الرؤية التي قدمتها هذه الرواية تجاوزت الرصد الخارجي والتشويق الضيق والإثارة، إلى مرحلة النفاذ تحت جلد الأنثى والتعبير عن أدق النبضات والخلجات في حياة الكائن الثري درامياً والمكتنز بالحياة المسمى بالمرأة، وعن طريقها، أي عن طريق مركزيتها في حياتنا ومصائرنا، يمكن لنا تعرية المجتمع كله، فكون المرأة منطلقا للحكي ثم مادته الخام وكون كل بطلة هي كتلة سردية في حد ذاتها، أدى إلى أن يكتمل في النهاية المعمار الدرامي للنص الكبير الذي هو الرواية؛ كون المرأة بهذه الأهمية في هذا العمل جاء بمشروعية وانسيابية وبساطة وبدون تماحك مع العنوان الكبير الرائج: "الكتابة النسوية" بدون التعامل مع مصائر النساء الأبطال على أنها حواديت فقط لملء الوقت – كما يصرح العنوان بمكر فني – بل إن الحكايات تلك في حد ذاتها تصلح تماما لإنتاج الدراما.
وهناك بعد أساسي وملحوظ يبدو أنه كان ماثلا في أولويات مبدع النص وهو محاولة التصادق مع المتلقي عبر رؤية كل منا لذاته في جزء من الكتابة، وبالتالي تصدير الإمتاع لذلك القارئ الذي سيصبح متورطاً، وهذا الأمر صار غائبا إلى حد ما في الكتابات الآنية وذلك لصالح فعل "الإدهاش".
نجحت الكاتبة في ذلك عن طريق حيوية السرد وحساسيته وسيطرة المبدع على الكتابة، ما أود الإشارة إليه هنا هو أن هذه المتعة لا تعود بالأساس إلى الحكايات وهي منطقة مضمونة في تصدير الإمتاع وثابتة في الذائقة عبر نموذج "شهرزاد" وحواديت الجدات، ولكن لأن مبدع النص مارس لعبة الكتابة وكأنه ممسك بحبل مشدود، يخفف القبضة حيناً ويشدها حيناً آخر، وهكذا تتبادل المواقع، المناطق الساخنة التي تحمل توترا والمناطق التي تؤدي إليها أو تخرج منها، بنجاح فني وسيطرة وإحكام.
يقدم النص مادة ثرية جداً من الأمثال الشعبية والمسرح (الحي) الذي تنتج فيه النصوص الشفاهية الدالة والموجزة والحكيمة والروائح والأصوات والممارسات الشعبية مثل طقوس ليلة الدخلة (البلدي) والتجاور بين البشر والحيوان في الريف ..الخ بشكل مبرر تماما وليس بشكل (سياحي)، بارد وبلا روح، فقط لاستدرار الترجمة أو حتى اقتناص نجاح مضمون، ولكن كل تلك الطقوس جاءت كجزء حميم وأصيل من مصائر وحيوات المروي عنهن لهذا فهذه المادة المصرية الخالصة، مسبوكة تماماً في لحم الحكي.
وبذكاء صدّرت الكاتبة النموذج الذي تفضله للمرأة، برهافة وبدون فرض على منطق السرد. فالراوية معجبة بملمح إنساني معين في كل شخصية تصدّرها، لكن بالنسبة لنموذج الأم، ينجح النص في جعل المتلقي يتلقاها بالتفضيل، فهو نموذج راقٍ، تقدمي، أنيق، عنده كبرياء، مكتفٍ ولا يفرض آراءه على الآخرين. تتسرب إليك هذه المحبة لتلك الشخصية عبر المقارنة مع أخرياتٍ في النص أو داخلك أنت.
كذلك لا بد وأن تتعاطف مع الراوية التي هي نتاج كل ما قُدِّم من خلال السرد ومن أحداث كبيرة عبر الوطن أو حكايات صغيرة عبر المحيطين بها ثم لا تستكين لاتهامها بالسلبية لأنك تتذكر الأم طول الوقت في الخلفية حيث رسمت لها حياتها بهذا الشكل، ثم تفيق على كون نموذج الراوية هو النموذج المناسب لتلخيص كل ما جرى لنا وليس فقط لهذا الجيل الذي تنتمي إليه، وهو التالي لجيل "الفعل" السابق عليه، ما أقصده أن هذا الالتباس يتماهى تماماً مع التباسنا إزاء ما كان واضحاً فيما سبق.
السارد هنا متأرجح بين كونه راوياً خارجياً أو راوياً مشاركاً، لكن اللافت أن هذا الراوي الخارجي لا يصح أن يكون خارجياً بنقاء لأن مصير هذه الشخصية مرتبط بطريق أو بآخر بمن تحكي عنهن أو عنهم سواء بالقرابة أو تشرّب النموذج أو رفضه. هذا الراوي، الذي يُخرج الصور التي هي مفتاح الحكي ومنطلقه ومسرحه، الساحر الذي يخرج الدهشة من الجراب، يقدم السرد منطقاً ومبرراً لكونه راوياً عليماً بلا أي تعسف، نظراً لأنه حامل المفتاح وبادئ البهجة.
في هذا العمل هناك ملمحان بارزان هما: الحنين، والتعبير عن نتيجة مفادها أن الجسد هو محل الذكريات عبر الجنس. أما الحنين فينقسم إلى صورتين: الحنين الشفيف الذي يتسلل إلى الروح والصورة الأخرى هي النوستالجيا وهي الحنين المرضي الذي يتسلط ويؤثر في المصائر.
يراوح العمل بين الصورتين، وطول الوقت لا نصل أبدا إلى الدرجة العاطفية الفاقعة رغم ميلودرامية بعض الأحداث. أما الجنس، فهو مركزي وأساسي ويظهر كمفجر للأحداث أو يصير هو اللاوعي الذي تتصرف الشخصيات عبر كونه ماثلاً وموجوداً بفداحة وضاغطاً. لكن الشخصية الوحيدة التي لا يطل الجنس عبر نوافذها بجلاء وإعلان كامل هي الراوية، حيث ينضاف إلى قيم ومشاعر كثيرة تلتبس إزاءها مشاعر الراوية كذلك يأخذ الجنس شكل "الجنس المضمر" في حالة الأم، حيث أومأت الكتابة إلى إمكانية حدوثه وبالتالي صار ينتج في ذهن المتلقي وفي النهاية صارت الحكايات هي حياة الراوية التي لم تعشها بعمق إلا من خلالها، لقد عوضت كل ما كان يجب أن تحياه أو تتمثله أو تتمنى أن تختبره في حيوات الآخرين. وتبقى الإشارة الأخيرة في العمل إشارة بليغة تصرح بأنها ستكمل هذا الدور لكنها ستنتقل من موقع المتلقي، شبه المشارك إلى دور إعادة الخلق، المتمثل في تجميع أجزاء الحكايات التي لم تكتمل بعد وجعلها صالحة لإثارة الدهشة.
يذكر أن حكايات عادية لملء الوقت للكاتبة بهيجة حسين، صدرت عن روايات الهلال بالقاهرة، 2008.
-
*مؤمن سمير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق