⏪⏬
تنويه : قبلَ الدّخولِ في ثنايا ثنايا مقالي هذا لا بُدّ لي مِنَ توجيهِ تحيّة إكبارٍ وعِرفان , وأضمومة محبّةٍ ووفاء لِقِلّةٍ مِنْ قاماتِنا النّقديّةِ السّامِقة الذين نعتزّ ونفخرُ ونكبرُ بتهاطيلهم الإبداعيّة .., ونسيرُ على هُدى أنوارِهم آمنينَ العثارَ والانزلاقَ في وحلِ الفوضى واللغو
والهُراء .
" دعوا البِنتَ لأبيها "
لِأنّها مِنّي كانَ مِنَ البداهةِ أنْ تُنسبَ إليّ ..., ولِأنّها مِنّي كانَ لِزَاماً عليّ أنْ أكونَ الأبَ الحَنونَ العطوفَ عليها .., البارّ بها .., كانَ فرضاً عليّ أنْ أُعامِلها بِرفقٍ ولينٍ وأنْ أمنحها كلّ ما أملكُ أو على الأقل كلّ ما باستطاعتي وأقدرُ عليهِ .., لِأنّها مِنّي كنتُ دَائِماً أختارُ لها أفضلَ وأحلى الأزياء .., وكنتُ أنتقي لها أغلى وأطيبَ العُطور ..., ولِأنّها مِنّي أيضاً كنتُ دائماً أحرصُ ألّا تظهرَ على الملأِ إلّا بأحلى وأدهشِ المظاهرِ .., وكنتُ دائِماً أنتقي لها أثمنَ عقودِ الأحرفِ .., وأبهى قروطٍ مِنَ الكلمات .., وكنتُ ألتقِطُ لها أسحرَ الصّورِ .., ولِأنّها مِنّي كنتُ أخافُ عليها المساسَ إنْ قولاً أو نظراً .., ولِأنّها مِنّي لطالما علّمتها فنّ التّمرّدِ والمواجهةِ .., وكيفيّةِ النّزولِ إلى ساحِ المُقاومة .
ولِأنّني مِنها كانَ مِنْ حقّها أنْ تُلقي بكلّ ما يعتريها مِنْ آلامٍ وأوجاعٍ عليّ .., وكانَ مِنْ حقّها أيضاً أنْ تسألني عنْ كلّ ما يَعتلِجُ في صدرها مِنْ أشياءَ .., ويدورُ في ذهنها مِنْ تصوّراتٍ وآراءٍ عنها مِنْ قبلِ الآخرين .., ولِأنّني مِنها كانتْ تخافُ عليّ الانزلاقَ فيما لا يُحمدُ عُقباهُ .., ولِأنّني منها كانت دَائِماً تُمسِكُ بيدي وتقودني على لَاحِبِ الطّرقِ .., وتأخذني إلى أفخمِ وأرقى مناجِمِ المُفرداتِ .., وتكشِفُ لي أسرارِ الجمالِ .., وتُشيرُ لي إلى مكامِنِ القوّةِ ., وتسرّ لي بأسرارِ وخفايا طقوسِ التّجلّي والظّهور .
لِأنّني مِنها كانتْ نحرصُ دَائِماً على رؤيتي بأبهى الحلل وأحلى الأماكن وأنبلِ المواقفِ وأصدقِ المشاعر .., كانتْ تحرصُ دائماً على أنْ ترقى بي قرنَ الشّمس ., وتأخذني في رحلاتٍ سندباديّة في مجرّاتٍ لم يرقى أعتابها أحد
ولِأنّها مِنّي كنتُ أحرصُ دائِماً على إظهارها كما تُحبّ أن تُرى .., بأقوى طاقاتِ الجذبِ .., والإيحاءِ والدّلالة .., وكنتُ أحرصُ أيضاً على إبرازها عرّافةً .., كشّافةً .., مُتنبّيةً .., جريئةً .., واثِقةً مِمّا تمتلكهُ مِنْ بلاغةٍ وإدهاشٍ وسِحرٍ وأسئلةٍ .., ومِمّا تحملهُ مِنْ صورٍ واستعاراتٍ وكناياتٍ ووحي .., كنتُ أحرصُ دائماً على العروجِ بها طباقَ السّماواتِ وإسكانها عرشَ ألوهتِها الشّرعيّ
لِأنّني منها وهي مِنّي لطالما كُنّا نخافُ مِنْ عيونِ الوشاةِ والعُذّالِ والمُتربّصينَ بِنا في منعطفاتِ القراءةِ .., ومُنعرجاتِ النّقدِ .., وكهوفِ الكراهيةِ والحسدِ .., وأبراجِ النّفاقِ والرّياء .., وأسواقِ سماسِرةِ الذّوقِ وتُجّار الكلمة .., فهؤلاء هُم ألدّ الأعداء .., وأقبحُ الخصوم .., وأفقرُ النّاسِ بِضاعةً .., وأرخصُ الأندادِ ضمائِراً وذوقاً .. وباعتقادي مثل هؤلاء يجبُ الخوفُ منهم .., والحذر مِنْ سفاهتهم وبلاهتهم وخوائهم وعرائهم ..!! إلّا أنّ أخطرهم وأخبثهم على الإطلاق هم معشر النّقّاد .!!
إذا خوفنا الأكبرُ كانَ مِنْ أغلبِ النّقّاد - مع احترامي وتقديري لِبعضِ عمالقتهِ وفرسانه الذينَ أثروا النّصّ وزادوهُ ألقاً ووهجاً ., وأماطوا اللثامَ عن مكامِنِ جمالهِ وجلالهِ ., وغاصوا في أعماقِهِ مُستخرجينَ ثمينَ دُررهِ ., وعرجوا في فضاءاتهِ قاطفينَ أغلى نجومهِ فهؤلاءِ تُرفعُ لهمُ القُبّعاتُ إعظاماً وإكباراً .., ويُشارُ إليهم بالبنانِ وعلى الملأِ بأنّهمُ مهاميزُ فكرٍ ومشاكي سُراة – أقولُ بأنّ خوفنا الأكبرَ مِنْ أغلبِ النّقّادِ لأنّ النّقدَ وشايةٌ على الشّعر وتلفيقٌ وتزويرٌ وتطفّلٌ ..., وأغلبُ النّقّاد وُشاةٌ يحترفُونَ الفوضى .., ويُتقِنُونَ الكذبَ .., ويتفنّنُونَ في التّزويرِ .., يَركبُونَ المزاجَ غالِباً .., ويدخلُونَ بيتَ القصيدةِ مِنَ النّافِذةِ أحياناً ., أو مِنَ الأبوابِ الخلفيّةِ .., ورُبّما يتسلّلُون إليها مِنْ شقوقِ الجُملِ لِيكتَشِفَوا حروفها ., ويُلامسَوا قروحها ! وقد يُشعِلُونَ فيها نيرانَ عجزهِم وإفلاسهِم ليُخفوا آثار أقدامهِم وبصماتهِم ., ورُبّما يلفظونَ أنفاسهم الأخيرةَ مُختنقينَ بِعطورِها وعبقِ شذاها ., فيكونُ موتهم شاهداً على استحالةِ فكّ شيفرتها وسبرِ أغوارِها .
فالشّعرُ بحرٌ والنّقدُ موجةٌ ., وأغلبُ النّقّادِ مُغامرونَ يُغامرونَ بحياتِهم في لُججٍ مسكونةٍ بالزّوابِعِ والأساطير .., يُراهِنونَ على الصّحو وهم في غيبوبةِ الحَيرةِ النّاجِمةِ عن غيابِ الاتّجاهاتِ .., ولِأنّ الشّاعِرَ مولودٌ قبلَ النّاقِدِ , فإنّ الشّاعرَ مُتكلّمٌ والنّاقِدَ مُخاطَبٌ .., والمُتكلّمُ - حسبَ منطقِ الأشياءِ وسُنّةِ التّكوين - قبلَ المُخاطَبِ وأهمّ منهُ . ولِأنّ الشّعر خلقٌ وإبداعٌ وفيضٌ ونقدُ الخلقِ لا يُجيدهُ إلّا خالقٌ مُبدِعٌ مُحترِفٌ ., لهذا كنتُ دائماً أشعرُ أنّ بينَ الشّعرِ والنّقدِ مسافةٌ كبيرةٌ .
إذاً الشّاعِرُ هُو السّابِقُ ., والسّابِقُ دليلُ اللاحقِ ولا يصحّ العكس وإنْ كانَ يستدركُ عليهِ بعضَ عثراتهِ , الشّاعِرُ الحقيقي نسيجُ وحده , فهو مُفردَةٌ مُستقِلةٌ كمثلِ نجمةِ الصّباحِ يدلّ على نفسهِ بِنفسهِ , فلا يُنقِصُ وهجهُ السّحابُ , ولا يُزيدُ ألقهُ الصّباح . أُؤمِنُ بِحريّةِ الشّاعِرِ فدعوهُ يفعلُ ما يشاء , لا تُقيّدوهُ , ولا تضعوا لهُ حدوداً وشروطاً لِشعرهِ , لا تُعاملوهُ كما تُعامِلونَ العبيد ., ولا تُخضعوهُ للحتميّاتِ ولا تربطوا نتائجهُ بأسبَابهِ , ونهاياتهِ ببداياتهِ , لِأنّ الشّعرَ فوق مَا تحسبون , وغير ما تتوهّمون .
والنّاقِدُ في أفضلِ حالاتهِ وأرقى تجلّياتهِ ضيفٌ مُتطفّلٌ على مَائِدةِ الشّاعِرِ ., لذا عليهِ أنْ يتأدّبَ ويُقلّلَ الكلامَ , وليسَ مِنْ حقّهِ أنْ يسألَ مِنْ أينَ كلّ هذهِ الأصناف والأنواع .؟ وليسَ مِنْ حقّهِ أنْ يحذفَ شيئاً أو يُضيفَ شيئاً إليها , وإلّا سيكونُ مثل نباتِ " الهالوك" فحياتهُ لا تقومُ بذاتها ., فالنّاقدُ لولا الشّاعِرُ لم يَكن موجوداً أصلاً ., وعليهِ أفليسَ مِنَ العجيبِ أنْ يكفرَ الفرعُ بالأصلِ ., ويتنكّرَ لهُ ., ويخرجَ عليهِ .,؟
يقولُ جبلُ الشّعرِ العربيّ الأشمّ " بدويُ الجبل" رحمهُ الله
أمِنَ النّبلِ أيّها الشّاتِمُ الآباءَ
أنْ يشتُمَ الكبيرَ الصّغيرُ.؟
وإذا رفّتِ الغصونُ اخضراراً
فالذي أبدعَ الغصونَ الجذورُ
والأهمّ مِنْ هذا كُلّهِ أنّ أغلبَ نقّادِنا غافلونَ أو يتغافلونَ عن نقطةٍ أو قضيّةٍ هي الأساسُ لِكلّ عملٍ أو مشروعٍ نقديّ يُقدِمونَ عليهِ ., ألا وهي قضيّةُ " الإرهاصِ " إرهاص ما قبلَ ولادةِ القصيدة والحالاتِ التي يعيشها الشّاعِرُ والطّقوسِ التي يُؤدّيها انتهاءً بالمخاضِ الذي يُسفِرُ عنِ الولادة . هذا ما يجبُ على النّقاد الانتباهَ إليهِ والتّعامل معهُ بأدبٍ ومسؤوليةٍ وأمانةٍ ., وإلّا فلبيتعدوا وليغضّوا أبصارهم ., وهكذا يُريحونَ القصيدةَ والشّاعر والقارئ مِنْ سفاسِفِ أقوالهم وأوهامِ قرائحهم وهراءِ ألسنتهم .
لِأنّني مِنها ولِأنّها مِنّي مُذْ كُنّا ماءً على ماء كانت كلّ اللغاتِ إرثاً لنا .., وكلّ أنواعِ الحِبرِ ما اكتُشِفَ منهُ وما لم يُكتشف ملكاً لنا .., وكُلّ بَدائِعِ البيانِ طوعَ أمرنا ..,
لِأنّها مِنّي كانت ابنتي ولِأنّني منها كانتْ أُمّي .., ولِأنّنا كذلك ألا يَحقّ لها أنْ تُنسبَ إليّ .؟!! ومِنْ ثمّ ألا يحقّ لي أنْ أشمخَ وأفخر وأتيهَ وأتباهى بِها قائلاً : هذهِ أمّ أبيها .؟!! وأنْ أقولَ أيضاً بالفمِ الملآنِ : دعوا البِنتَ لأبيها ., واتركوا الولدَ في حضنِ أمّه .؟!!!
*د. مُهنّد ع صقّور
سوريا .. جبلة
تنويه : قبلَ الدّخولِ في ثنايا ثنايا مقالي هذا لا بُدّ لي مِنَ توجيهِ تحيّة إكبارٍ وعِرفان , وأضمومة محبّةٍ ووفاء لِقِلّةٍ مِنْ قاماتِنا النّقديّةِ السّامِقة الذين نعتزّ ونفخرُ ونكبرُ بتهاطيلهم الإبداعيّة .., ونسيرُ على هُدى أنوارِهم آمنينَ العثارَ والانزلاقَ في وحلِ الفوضى واللغو
والهُراء .
" دعوا البِنتَ لأبيها "
لِأنّها مِنّي كانَ مِنَ البداهةِ أنْ تُنسبَ إليّ ..., ولِأنّها مِنّي كانَ لِزَاماً عليّ أنْ أكونَ الأبَ الحَنونَ العطوفَ عليها .., البارّ بها .., كانَ فرضاً عليّ أنْ أُعامِلها بِرفقٍ ولينٍ وأنْ أمنحها كلّ ما أملكُ أو على الأقل كلّ ما باستطاعتي وأقدرُ عليهِ .., لِأنّها مِنّي كنتُ دَائِماً أختارُ لها أفضلَ وأحلى الأزياء .., وكنتُ أنتقي لها أغلى وأطيبَ العُطور ..., ولِأنّها مِنّي أيضاً كنتُ دائماً أحرصُ ألّا تظهرَ على الملأِ إلّا بأحلى وأدهشِ المظاهرِ .., وكنتُ دائِماً أنتقي لها أثمنَ عقودِ الأحرفِ .., وأبهى قروطٍ مِنَ الكلمات .., وكنتُ ألتقِطُ لها أسحرَ الصّورِ .., ولِأنّها مِنّي كنتُ أخافُ عليها المساسَ إنْ قولاً أو نظراً .., ولِأنّها مِنّي لطالما علّمتها فنّ التّمرّدِ والمواجهةِ .., وكيفيّةِ النّزولِ إلى ساحِ المُقاومة .
ولِأنّني مِنها كانَ مِنْ حقّها أنْ تُلقي بكلّ ما يعتريها مِنْ آلامٍ وأوجاعٍ عليّ .., وكانَ مِنْ حقّها أيضاً أنْ تسألني عنْ كلّ ما يَعتلِجُ في صدرها مِنْ أشياءَ .., ويدورُ في ذهنها مِنْ تصوّراتٍ وآراءٍ عنها مِنْ قبلِ الآخرين .., ولِأنّني مِنها كانتْ تخافُ عليّ الانزلاقَ فيما لا يُحمدُ عُقباهُ .., ولِأنّني منها كانت دَائِماً تُمسِكُ بيدي وتقودني على لَاحِبِ الطّرقِ .., وتأخذني إلى أفخمِ وأرقى مناجِمِ المُفرداتِ .., وتكشِفُ لي أسرارِ الجمالِ .., وتُشيرُ لي إلى مكامِنِ القوّةِ ., وتسرّ لي بأسرارِ وخفايا طقوسِ التّجلّي والظّهور .
لِأنّني مِنها كانتْ نحرصُ دَائِماً على رؤيتي بأبهى الحلل وأحلى الأماكن وأنبلِ المواقفِ وأصدقِ المشاعر .., كانتْ تحرصُ دائماً على أنْ ترقى بي قرنَ الشّمس ., وتأخذني في رحلاتٍ سندباديّة في مجرّاتٍ لم يرقى أعتابها أحد
ولِأنّها مِنّي كنتُ أحرصُ دائِماً على إظهارها كما تُحبّ أن تُرى .., بأقوى طاقاتِ الجذبِ .., والإيحاءِ والدّلالة .., وكنتُ أحرصُ أيضاً على إبرازها عرّافةً .., كشّافةً .., مُتنبّيةً .., جريئةً .., واثِقةً مِمّا تمتلكهُ مِنْ بلاغةٍ وإدهاشٍ وسِحرٍ وأسئلةٍ .., ومِمّا تحملهُ مِنْ صورٍ واستعاراتٍ وكناياتٍ ووحي .., كنتُ أحرصُ دائماً على العروجِ بها طباقَ السّماواتِ وإسكانها عرشَ ألوهتِها الشّرعيّ
لِأنّني منها وهي مِنّي لطالما كُنّا نخافُ مِنْ عيونِ الوشاةِ والعُذّالِ والمُتربّصينَ بِنا في منعطفاتِ القراءةِ .., ومُنعرجاتِ النّقدِ .., وكهوفِ الكراهيةِ والحسدِ .., وأبراجِ النّفاقِ والرّياء .., وأسواقِ سماسِرةِ الذّوقِ وتُجّار الكلمة .., فهؤلاء هُم ألدّ الأعداء .., وأقبحُ الخصوم .., وأفقرُ النّاسِ بِضاعةً .., وأرخصُ الأندادِ ضمائِراً وذوقاً .. وباعتقادي مثل هؤلاء يجبُ الخوفُ منهم .., والحذر مِنْ سفاهتهم وبلاهتهم وخوائهم وعرائهم ..!! إلّا أنّ أخطرهم وأخبثهم على الإطلاق هم معشر النّقّاد .!!
إذا خوفنا الأكبرُ كانَ مِنْ أغلبِ النّقّاد - مع احترامي وتقديري لِبعضِ عمالقتهِ وفرسانه الذينَ أثروا النّصّ وزادوهُ ألقاً ووهجاً ., وأماطوا اللثامَ عن مكامِنِ جمالهِ وجلالهِ ., وغاصوا في أعماقِهِ مُستخرجينَ ثمينَ دُررهِ ., وعرجوا في فضاءاتهِ قاطفينَ أغلى نجومهِ فهؤلاءِ تُرفعُ لهمُ القُبّعاتُ إعظاماً وإكباراً .., ويُشارُ إليهم بالبنانِ وعلى الملأِ بأنّهمُ مهاميزُ فكرٍ ومشاكي سُراة – أقولُ بأنّ خوفنا الأكبرَ مِنْ أغلبِ النّقّادِ لأنّ النّقدَ وشايةٌ على الشّعر وتلفيقٌ وتزويرٌ وتطفّلٌ ..., وأغلبُ النّقّاد وُشاةٌ يحترفُونَ الفوضى .., ويُتقِنُونَ الكذبَ .., ويتفنّنُونَ في التّزويرِ .., يَركبُونَ المزاجَ غالِباً .., ويدخلُونَ بيتَ القصيدةِ مِنَ النّافِذةِ أحياناً ., أو مِنَ الأبوابِ الخلفيّةِ .., ورُبّما يتسلّلُون إليها مِنْ شقوقِ الجُملِ لِيكتَشِفَوا حروفها ., ويُلامسَوا قروحها ! وقد يُشعِلُونَ فيها نيرانَ عجزهِم وإفلاسهِم ليُخفوا آثار أقدامهِم وبصماتهِم ., ورُبّما يلفظونَ أنفاسهم الأخيرةَ مُختنقينَ بِعطورِها وعبقِ شذاها ., فيكونُ موتهم شاهداً على استحالةِ فكّ شيفرتها وسبرِ أغوارِها .
فالشّعرُ بحرٌ والنّقدُ موجةٌ ., وأغلبُ النّقّادِ مُغامرونَ يُغامرونَ بحياتِهم في لُججٍ مسكونةٍ بالزّوابِعِ والأساطير .., يُراهِنونَ على الصّحو وهم في غيبوبةِ الحَيرةِ النّاجِمةِ عن غيابِ الاتّجاهاتِ .., ولِأنّ الشّاعِرَ مولودٌ قبلَ النّاقِدِ , فإنّ الشّاعرَ مُتكلّمٌ والنّاقِدَ مُخاطَبٌ .., والمُتكلّمُ - حسبَ منطقِ الأشياءِ وسُنّةِ التّكوين - قبلَ المُخاطَبِ وأهمّ منهُ . ولِأنّ الشّعر خلقٌ وإبداعٌ وفيضٌ ونقدُ الخلقِ لا يُجيدهُ إلّا خالقٌ مُبدِعٌ مُحترِفٌ ., لهذا كنتُ دائماً أشعرُ أنّ بينَ الشّعرِ والنّقدِ مسافةٌ كبيرةٌ .
إذاً الشّاعِرُ هُو السّابِقُ ., والسّابِقُ دليلُ اللاحقِ ولا يصحّ العكس وإنْ كانَ يستدركُ عليهِ بعضَ عثراتهِ , الشّاعِرُ الحقيقي نسيجُ وحده , فهو مُفردَةٌ مُستقِلةٌ كمثلِ نجمةِ الصّباحِ يدلّ على نفسهِ بِنفسهِ , فلا يُنقِصُ وهجهُ السّحابُ , ولا يُزيدُ ألقهُ الصّباح . أُؤمِنُ بِحريّةِ الشّاعِرِ فدعوهُ يفعلُ ما يشاء , لا تُقيّدوهُ , ولا تضعوا لهُ حدوداً وشروطاً لِشعرهِ , لا تُعاملوهُ كما تُعامِلونَ العبيد ., ولا تُخضعوهُ للحتميّاتِ ولا تربطوا نتائجهُ بأسبَابهِ , ونهاياتهِ ببداياتهِ , لِأنّ الشّعرَ فوق مَا تحسبون , وغير ما تتوهّمون .
والنّاقِدُ في أفضلِ حالاتهِ وأرقى تجلّياتهِ ضيفٌ مُتطفّلٌ على مَائِدةِ الشّاعِرِ ., لذا عليهِ أنْ يتأدّبَ ويُقلّلَ الكلامَ , وليسَ مِنْ حقّهِ أنْ يسألَ مِنْ أينَ كلّ هذهِ الأصناف والأنواع .؟ وليسَ مِنْ حقّهِ أنْ يحذفَ شيئاً أو يُضيفَ شيئاً إليها , وإلّا سيكونُ مثل نباتِ " الهالوك" فحياتهُ لا تقومُ بذاتها ., فالنّاقدُ لولا الشّاعِرُ لم يَكن موجوداً أصلاً ., وعليهِ أفليسَ مِنَ العجيبِ أنْ يكفرَ الفرعُ بالأصلِ ., ويتنكّرَ لهُ ., ويخرجَ عليهِ .,؟
يقولُ جبلُ الشّعرِ العربيّ الأشمّ " بدويُ الجبل" رحمهُ الله
أمِنَ النّبلِ أيّها الشّاتِمُ الآباءَ
أنْ يشتُمَ الكبيرَ الصّغيرُ.؟
وإذا رفّتِ الغصونُ اخضراراً
فالذي أبدعَ الغصونَ الجذورُ
والأهمّ مِنْ هذا كُلّهِ أنّ أغلبَ نقّادِنا غافلونَ أو يتغافلونَ عن نقطةٍ أو قضيّةٍ هي الأساسُ لِكلّ عملٍ أو مشروعٍ نقديّ يُقدِمونَ عليهِ ., ألا وهي قضيّةُ " الإرهاصِ " إرهاص ما قبلَ ولادةِ القصيدة والحالاتِ التي يعيشها الشّاعِرُ والطّقوسِ التي يُؤدّيها انتهاءً بالمخاضِ الذي يُسفِرُ عنِ الولادة . هذا ما يجبُ على النّقاد الانتباهَ إليهِ والتّعامل معهُ بأدبٍ ومسؤوليةٍ وأمانةٍ ., وإلّا فلبيتعدوا وليغضّوا أبصارهم ., وهكذا يُريحونَ القصيدةَ والشّاعر والقارئ مِنْ سفاسِفِ أقوالهم وأوهامِ قرائحهم وهراءِ ألسنتهم .
لِأنّني مِنها ولِأنّها مِنّي مُذْ كُنّا ماءً على ماء كانت كلّ اللغاتِ إرثاً لنا .., وكلّ أنواعِ الحِبرِ ما اكتُشِفَ منهُ وما لم يُكتشف ملكاً لنا .., وكُلّ بَدائِعِ البيانِ طوعَ أمرنا ..,
لِأنّها مِنّي كانت ابنتي ولِأنّني منها كانتْ أُمّي .., ولِأنّنا كذلك ألا يَحقّ لها أنْ تُنسبَ إليّ .؟!! ومِنْ ثمّ ألا يحقّ لي أنْ أشمخَ وأفخر وأتيهَ وأتباهى بِها قائلاً : هذهِ أمّ أبيها .؟!! وأنْ أقولَ أيضاً بالفمِ الملآنِ : دعوا البِنتَ لأبيها ., واتركوا الولدَ في حضنِ أمّه .؟!!!
*د. مُهنّد ع صقّور
سوريا .. جبلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق