⏪⏬بقلم :أ.د. رشيد بن مالك - الجزائر
⏪1. مقدمة منهجية
فضلنا في هذه الدراسة الوقوف عند التجليات الدلالية في قصيدة (القدس عاصمة السماء، القدس عاصمة الجذور) للشاعر والناقد
الفلسطيني عز الدين المناصرة؛ الذي يمثل أحد الوجوه البارزة في المشهد الشعري المعاصر للإسهامات التي قدمها ولا يزال في صناعة القصيدة الشعرية المنفتحة على ثيمات محددة ومتنوعة أيضا، لا تخرج عن المقاومة والدفاع عن القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه.
1.1. واقع الدراسات العربية والمحددات المنهجية للقراءة
قبل أن نباشر تحليل هذه القصيدة، نستوقف القارئ لحظة لنحدثه عن المقاربات المنهجية التي تقف وراء معالجة النص عموما وشعر عز الدين المناصرة على وجه الخصوص.
لازالت هذه المقاربات المنضوية تحت تيارات نقدية ظهرت تباشيرها الأولى منذ بداية القرن العشرين تتكرر بصورة موصوفة ومملة في أغلب الأحيان. فلا يخلو بحث أكاديمي من التذكير بإنجازات البنيوية أو السيميائيات أو تيارات أخرى وتعريفاتها المتنوعة دون التركيز على خصوصيتها والإشكالات التي انطلقت منها، والفروق العلمية القائمة بينها، والقواعد النظرية الصارمة التي ضبطت من خلالها إواليات اشتغالها، دون التشديد على مستويات دراسة النص الشعري وإشكالية البحث. فتحولت البحوث في كثير من الأحيان إلى ثرثرة لا تفيد من قريب أو بعيد التصدي العلمي للظاهرة النصية. فيتحول البحث الأكاديمي إلى عرض أشطار نظرية لا سبيل إلى الإمساك بالعلاقات المنطقية التي تحكمها، ولا ببساطة طرحها، ولا بتجانسها. واحتكاما إلى هذه الطريقة في التعامل مع الأجهزة النظرية، يتحول النص الشعري في الدراسات التطبيقية إلى شاهد فقط على صحة النظرية أو بطلانها دون العناية بالنص ككيان قائم بذاته، كموضوع بحث تسخر النظرية للإحاطة به، واستشفاره من خلال استجلاء الشروط العامة لإدراك وإنتاج المعنى. إن النظرية مجموعة متماسكة من الفرضيات القابلة لأن تخضع للتدقيق: تعد الفرضية والتماسك والتحقق المصطلحاتِ المفتاح المسخرة لتحديد مفهوم النظرية، وتتخذ معيارا للتعرف والتمييز بين النظرية حقا والادعاء بها. ومن المعلوم أن النظرية ليست غاية في حد ذاتها بل معبر حقيقي لولوج عالم النص وفق رؤية منهجية واضحة. فالباحث غير مطالب بالانطلاق من المكونات النظرية لتيار نقدي محدد وتقديم شروحات تاريخية مستفيضة لا تفي في الأعم الأغلب بالغاية المتوخاة من هذه النظريات. فالقراءة الذكية، والواعية، والمعمقة للنص، والمركزة كل التركيز على الأشطار الشعرية وتفاصيلها الدقيقة، وطريقة انتظام مفرداتها وآليات انضمامها بصورة تراتبية إلى وحدات أوسع من بداية القصيدة إلى نهايتها هي السبيل الوحيد الذي يفضي بالقارئ إلى ضبط الوجهات الدلالية ومآلاتها بالاعتماد على نظرية التحليل المعنمي، وضبط البنية الدلالية الأولية التي تبنى على متنها الأشكال النثرية والشعرية.
من منطلقات هذه الخلفية، ترافق القراءة مجموعة من الإجراءات يضعها القارئ تحت تصرفه لإدراك الإشكالات التي يطرحها النص الشعري، والحلول التي يصوغها لتجاوزها. وهذا يقودنا للقول إن القراءة تجري في اتجاهات شتى، منها ما يتصل باسشارة القواميس لإدراك النويات الدلالية لمفردات النص وضبط حدودها بمختلف أسيقة المقاطع الشعرية، ومنها ما يتصل بالنصوص الدينية وقدرة رموزها، من خلال توظيفها في النص الشعري، على توليد دلالات جديدة، ومنها ما يقترن بالتدقيق في هذه النظرية أو تلك، ومفهوم هذا المصطلح أو ذاك على أن تكون العودة إلى النص برؤية نظرية واضحة من شأنها أن تذلل الصعاب وتفك شفرات الرسالة التي استعصت على ضبط جوانبها المتخفية، وتحديد البنيات المحورية للنص. فالقراءة إذن هي هذا النشاط المكثف الذي يمارس على النص من زوايا متنوعة، ويهدف في جميع الحالات إلى بناء تركيبي ودلالي للنص. إن هذه الخلفية النظرية لقراءة النص الشعري تجري في الاتجاء المعاكس لبعض الدراسات التي لا يهمها من أمر القراءات الارتجالية سوى إصدار أحكام قيمية متسرعة وقاسية جدا لا تحتكم إلى انطباع معقول، ولا حتى إلى قراءة واعية للنص. لا أريد الدخول في متاهات هذا النوع من الانطباعات الذي يقوض البحث أكثر مما يبنيه ويرقيه.
لقد سبق الإلماح أعلاه إلى صناعة القصيدة الشعرية المنفتحة على ثيمات محددة ومتنوعة أيضا لا تخرج عن المقاومة، والدفاع عن القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه. وتمثل هذه الثيمات المركزية مفتاحا يسمح للقارئ لاستشفار الرسائل واستجلاء الإيزوتوبيات المختلفة التي تخترق النص الشعري وتمنحه التجانس الدلالي. وهذا لا يعني على الإطلاق أن النص الشعري يشتغل اشتغال الخطاب التقريري الذي لا يتطلب كبير عناء للإمساك بمضامينه، بل إنه خطاب إيحائي بامتياز؛ بمعنى أن الهيئة الشاعرة لا تسمي الأشياء بأسمائها إلا في حالات خاصة جدا لما تتحول الطوبونيمات إلى عنصر دلالي قار، مرجعية أساسية وضمانة كافية لصدق القول. ومن الواضح أن المستوى الدلالي يطرح إشكالية تقطيع النص الشعري مما يستدعي إيلاء أهمية خاصة، على الصعيد المنهجي، للجوانب التركيبية للنص. وعلى هذا الأساس، تنهض قراءتنا لهذه القصيدة على تنويع زوايا النظر بالاعتماد على مستويات التحليل، وإجراءات الفصل والوصل التي من شأنها أن تدلنا على التحولات الكبرى التي تمس بنية النص الشعري.
⏪2. الأبعاد الدلالية لعنوان القصيدة:
يضعنا عنوان القصيدة، الذي نعتبره مفتاحا يسمح لنا بولوج عالمها منذ البداية وجها لوجه مع القدس عاصمة السماء، (القدس عاصمة الجذور). ومن حق القارئ أن يعرف حدود العلاقة بين العالم الأرضي والعالم السماوي. لا يمكن أن نضبط هذه العلاقة والتحولات الدلالية في القصيدة إلا بالتركيز الشديد على المفردات االأساسية المكرورة باستمرار بصورة مثيرة للانتباه في النص الشعري. والتكرار في هذه القصيدة لا تكمن وظيفته في ترديد المفردة والتشديد عليها لأهميتها أو لضبط الإيقاع الشعري للقصيدة، كما لا تتمثل فقط في إعادة بناء التجارب التي عاشها الشعب الفلسطيني وبعثها من جديد وربطها بالراهن على وقع صوت هيئة شاعرة متفائلة بغد مشرق (المقطع الأخير من القصيدة)، بل في قدرته على توليد دلالات جديدة تتحدد منطلقاتها من (مفردة القدس) بوصفها مخزونا محملا بذكريات الشعب الفلسطيني لتمتد إلى التفاصيل الدقيقة يتخللها فصل débrayage كلما ألحقت القدس بثيمة جديدة، وهكذا دواليك حتى نهاية القصيدة. إن طبيعة بناء المقاطع الشعرية منفتحة وتنهض أساسا على لازمة القدس التي تشكل بؤرة حقيقية تغذي القصيدة من الداخل. وقد اقترنت لازمة القدس منذ بداية القصيدة وتحديدا في العنوان بثنائية تترجم العلاقة بين العالمين السماوي والأرضي.
⏪2- (القدس عاصمة السماء/القدس عاصمة الجذور)
وتنهض، بصورة خفية، من الناحية السياسية، على القدس بوصفها عاصمة لدولة فلسطين. فالفضاء بوصفه شكلا هو بناء. وعلى هذا الأساس، فإن العنوان يشتغل اشتغال الخطاب الحجاجي لسعي الهيئة الشاعرة إلى حمل القارئ على الاقتناع بشرعية قيام دولة فلسطين المستمدة من المرجعية الدينية والتاريخية للقدس التي لا يتحقق وجودها إلا باعتبارها لغة فضائية تسمح بالحديث عن شيء آخر غير الفضاء. وهذه اللغة شبيهة تماما باللغات الطبيعية التي لا تكمن وظيفتها في الحديث عن الأصوات. فالفضاء لغة يحمل هذه القدرة على التدليل، وإنتاج المعنى، ويستحيل أن نفصل هذه اللغة عن التمثلات الدينية والثقافية...الخ التي تحيل عليها خطابات مختلفة استطاعت أن تبني ذاكرة جماعية يلجأ إليها الفرد كلما أعرب عن حاجته إليها في مختلف ممارساته اليومية. ومن ثم، ولا يمكن إدراك الحدود الدلالية للملفوظ الشعري المكثف والمضغوط القدس عاصمة السماء إلا من خلال المرجعية الخارجية للقصيدة والخطابات التي يتغذى منها بناؤها الداخلي وتتحدد عبرها الأبعاد الدلالية للعلاقة بين القدس والسماء. فصورة القدس تدخل في علاقة انطوائية hyponymique مع فلسطين وتجلى في صورتين أساسيتين: السماء والجذور. فالقدس تستمد وجودها الرمزي من السماء باعتبارها ثالث أقدس المدن بعد مكة والمدينة المنورة، وهي أولى القبلتين، وتمثل الموقع الذي عرج منه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء. فصورة القدس هنا توحي بالمنحى الصوري للخطاب الشعري، ومكوناتها الدلالية مستعارة من الذاكرة الخطابية التي كرستها استعمالات دينية تعزز قاعدة مضمونية ثابتة ووظيفته التمثيلية للعالم غير النصي. فهذا البعد التمثيلي للغة يكتسي أهمية بالغة في القراءة المرجعية للنص الشعري المقترنة بالمعلومات التي يقدمها. إن صورة القدس هنا لا تشتغل كعلامة على غرار باقي العلامات المحددة بقيمة معينة. وبدخولها في النص الشعري، فإنها تكتسي وضعا خاصا وتتحول إلى خطاب لا يمكن الإمساك بدلالاته سوى بالرجوع إلى الخطابات التي نسجت حوله. أما صورة الجذور المدركة في القدس عاصمة الجذور، فلا يمكن احتواء دلالتها إلا من خلال الامتدادات التاريخية لفلسطين باعتبارها "نواة الشجرة الكنعانية" وليست فرعا من فروعها. وعلى هذا الأساس فهي مرادفة للفلسطنة الضاربة في جذور التاريخ. إن هذه الإطلالة الدينية والتاريخية المدعومة بصورتي السماء والجذور تشكل خلفية حقيقية تسمح للهيئة الشاعرة بالانتقال من ماضي القدس إلى حاضرها، واستلام مقاليد الفعل السردي الكفيل ببلورة حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي.
⏪3. القدس بين قداسة فضائها وانكسار صورتها المؤنسنة
من منطلقات قداسة القدس وما تحمله من قيم دينية وتاريخية، نشهد في بداية المقطع الأول مفارقة زمنية ترافقها إسقاطات الأنا والهنا (القدس) والآن (راهن القدس) في خضم الصراع العربي الإسرائيلي. فالهيئة الشاعرة التي تتقدم بضمير الأنا إلى القارئ(الأنت) تقدم شهادتها على الحروب التي تخلت فيها الجيوش العربية عن نصرة القدس والقضية الفلسطينية:
ما للجحافلِ كُلَّما نادتْ عليهمْ… تضْمحلُّ
القدس عاصمة الجذور:
القُدسُ عاصمةُ السماءِ،
وأرضُها، رُعْبٌ، وقَتلُ.
القدسُ عاصمةُ الجُذورِ،
تتحول القدس في بداية هذا المقطع من خلال مناداتها للجحافل إلى صورة مؤنسنة لتعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني. فنداء الاستغاثة بأرفع الأصوات الذي يقابله اضمحلال الجحافل يترجم، من جهة اللامبالاة، ويعمق، من جهة ثانية، خطورة ومأساوية الوضع في غياب المقاومة. ولئن كانت صورة المناداة المدعومة خطابيا بطلب الاستغاثة بأرفع الأصوات تعبر عن عمق الجرح، فإنها لا تملك إلا أن تثير تعاطف المخاطب، ومن ثمة تحريكه للانتفاضة والمقاومة. وعلى وقع صوت الانكسار والإقرار بالاستسلام، يتجدد الحديث عن المجد الضائع:
القدس عاصمة الجذور:
القُدسُ عاصمةُ السماءِ،
إن توظيف اللازمة الشعرية يسمح للهيئة الشاعرة أن تضبط، من جهة، إيقاع القصيدة، ومن جهة ثانية، إدخال عناصر جديدة لاستكمال التحولات التي تمس المشهد الحربي في غياب مقاومة العامل الجماعي الجحافل:
وأرضُها، رُعْبٌ، وقَتلُ.
ينقل الشاعر ما يبصر ويشاهد ما يجري في فضاء القدس. فالمفردات الموظفة تتسم بالطابع الصوري في هذا المقطع لنقل وتوكيد، من جهة، حقيقة وبشاعة ما يحدث، وتقديم شهادته التاريخية من جهة ثانية. إن اختيار الوحدات المضمونية لصورتي الرعب والقتل المكثفتين دلاليا يعمل على إجلاء الصورة الوحشية للتعبير عن حجم الأضرار البشرية التي ألحقت بمواطنين عزل. فالشاعر لا يروي التفاصيل الجزئية وسيرورة وقوعها بإدراج الحدث الذي يضفي عنصر الحركة على المشهد الحربي وهو يجري، بل يكتفي بالعبارة الشعرية الموجزة والقوية والمركز في صورتي الرعب والقتل. وعلى القارئ أن يتصور كل السناريوهات التي تمت بها العمليات الإرهابية. وهو لا يتوسع في سرد الأفعال والأحداث ولا يدخل في تفاصيلها، بل يكتفي بنقل نتيجتها عبر صور مركزة ومكثفة دلاليا. وإذا دفعنا بالتحليل في اتجاه المستوى السياسي، فإن صورة الرعب مسخرة للتعبير عن إثارة وتعميم الخوف الجماعي لكسر شوكة المقاومة مما يعني أن الجهاز القمعي الإسرائيلي قائم على التخويف، والإرهاب، والقتل، واستخدام التدابير الاستثنائية.
وتزداد المأساة حدة بانتقال القدس من مجد تاريخها الأصيل، وقداسة فضائها إلى فضاء يحمل صورة بشرية تصرخ وتشكو لتتحول إلى صورة حيوانية يسوقها وغد ونذل كما تساق الدواب. فالشاعر هنا لا يسمي المحتل باسمه فالمسافة بينهما تحمل دلالة قوية متساوقة مع شعوره بأن الأدوار التي يؤديها في تعامله مع مواطنين عزل وصلت إلى درجة من البشاعة والإرهاب والرعب والقتل والتهجير لا يمكن أن يتصورها العقل البشري ولا يمكن أن تصدر إلا من الحمقى المعبر عنهم بصورتي الوغد والنذل المنسجمتين تماما مع شعور الشاعر بالحقد التاريخي الدفين الذي يحمله للمحتل. إن ثيمة الرعب والقتل ستتوسع في هذا المقطع الشعري وتتمدد في أفعال متتالية (اقتلعوا، احتلّوا، وسمّموا):
فاقتلعوا صنوبَرَها،
وزيتوناتِها،
احتلّوا البيوتَ،
وسمّموا الماءَ الزُلالَ،
تأخذ الطابع التحويلي من وضع طبيعي هادئ متوازن إلى وضع مضطرب مشوه، من وضع يتسم بالحياة إلى وضع يفضي في جميع الحالات إلى الموت. وينسجم هذا التحول مع صورة القتل، ويأتي امتدادا طبيعيا لصورة الاقتلاع التي تكتسي أهمية بالغة من خلال علاقة تربطها بـِ القدس عاصمة الجذور، التي استهل بها الشاعر بداية المقطع الثاني. فاقتلاع الصنوبر والزيتون عملية لا تتم إلا بالاستئصال والانتزاع من الجذور؛ ويمكن أن تدرك قيمتها الدلالية، على المستويين الصوري والتجريدي، في مقابلتها بالجذور: عاصمة الجذور التي تجمع بين الكيان الجغرافي للقدس والكيان التجريدي المجسد في الامتداد التاريخي الذي لا يصمد أمامه ضمير الغيبة هم(جاءوا إليها من صقيع الأرضِ) المنفصلون بحكم انتمائهم إلى أجناس بشرية مختلفة عن الكيان الفلسطيني الكنعاني الأصول. وتكتمل القيمة الدلالية لاقتلاع الصنوبر والزيتون، على المستوى الإيحائي، باجتثاث شعب بأكمله وبكل مقوماته الحضارية. وفي الاتجاه المعاكس تماما لهذا المسار التصويري، تحتل عاصمة الجذور، بإيقاعها الموسيقي الخاص، وبنغمتها الحزينة، مكانة متميزة في بداية المقطع الشعري. فالجذور ثيمة مركزة ومكثفة دلاليا وظيفتها استباقية تكمن في احتواء الوحدات الشعرية المجسدة للاستئصال المادي المدرك في عمقه العمودي المحدود وتطرح ككيان وكوجود في معناها الفلسفي من خلال عمقه التجريدي الأفقي اللامحدود. لم يَبْنِ الشاعر صورة الاحتلال الاسرائيلي بشكل مكتمل: رعب وقتل، اقتلاع واحتلال، وتسميم للمياه، وكلما توغلنا في قراءة القصيدة إلا وتوسعت هذه الصورة وامتدت في صور أخرى جديدة تتجدد متى هم القارئ بالانتقال إلى مقطع جديد يستهله بلازمة القدس التي تشكل أحد المكونات الأساسية للبنية الشعرية:
القُدسُ عاصمةُ السماءِ،
وأرضُها، رُعْبٌ، وقَتلُ.
القدسُ عاصمةُ الجُذورِ،
يسوقُها وَغْدٌ، ونَذْلُ.
جاءوا إليها من صقيع الأرضِ،
فاقتلعوا صنوبَرَها،
وزيتوناتِها،
احتلّوا البيوتَ،
وسمّموا الماءَ الزُلالَ،
وفي رغيف الخبز حَلَّوا.
وإذا دفعنا بالتحليل في اتجاه المرتكزات التي تنهض عليها المقاطع الشعرية للقصيدة، فسنلاحظ أن كل مفردة في المقطع تستمد وجودها وحركيتها وقيمتها الدلالية أيضا من العلاقة التي تقيمها مع المفردات السابقة ولا يمكن فصل السابق عن اللاحق في المستويات التطريزية عموما والدلالية بوجه خاص. وبالاعتماد على المقطعين الأول والثاني، يمكن أن نمثل هذه العلاقات في الخطاطة على النحو الآتي:
نلاحظ جيدا اشتغال العلاقات على المحورين الاستبدالي (أ ب، ج د، س ع) والنظمي
(ب ← د ←ع). إذا كانت الكتابة تظل مليئة بذكرى استعمالاتها السابقة، فإن للمفردات ذاكرة تنشط على المستوى الاستبدالي لتمتد إلى وسط أسيقة تولد دلالات جديدة. إن الفعل جاءوا بإيقاعه الموسيقي الخاص يأتي امتدادا للأول الذي تتحدد معالمه من خلال ضمير الغيبة هم الدال على المجموعة أو عدد محدود من العناصر. ولكن بمجرد دخوله على الجراد (جاءوا إليها كالجراد، فأقفرتْ) فإن ضمير الغيبة هم في جاءوا (المقطع الثاني) يتحول ليس فقط إلى مجموعة بل إلى مجموعات يستحيل عدها تماما مثل رمزية الجراد) التي تدل على هذه القدرة الكبيرة في إلحاق الأضرار بالمحاصيل الزراعية. ولئن كانت أرض فلسطين تتمتع في الوضع الأول قبل بداية الغزو الإسرائيلي بالاستقرار والأمن وجمال المناظر الطبيعية (الصنوبر والزيتون والماء الزلال، وخضر المراعي، والسواقي) المحيلة على الحياة فإنها اتسمت في الوضع النهائي، بدخول العدو الإسرائيلي، بقبح مناظرها (القفر والجفاف). فبشاعة المنظر تتجانس مع القفر لتدل على الخلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ، وتفضي في جميع الحالات إلى الموت. فالأفعال التي أنجزها العدو تبطل بصورة مباشرة قدرة العامل الجماعي(الأهالي) على البقاء وتشل أي رغبة تفكير في العودة إلى أراضيه، وتُحَرِّكُهُ للهجرة، وبناء المخيمات خارج وطنه. إن تقييم العدو للنتيجة المتوخاة من هذه الأفعال المنضوية تحت برنامج الغزو يترجم على الصعيد التداولي بإقامة المستوطنات واستغلال ماء العيون. بناء على ما سبق، وبالاعتماد على المستويين السردي والخطابي، يمكن أن ننظم القيم الدلالية المستجلاة من خلال قراءتنا للمقطعين الأول والثاني في مربع سيميائي يكشف عن رهانات الصراع العربي(الفلسطيني) الإسرائيلي على النحو الآتي:
يسعى العدو بإنجاز أفعاله البشعة إلى نفي كل أسباب الحياة وطمس علامات الوجود الفلسطيني. وإذا كانت اللا حياة تحتل منزلة وسطى بين الحياة والموت، ويمكن أن تستغل للحفاظ على الأمل في البقاء، فإن العدو الإسرائيلي مصمم للذهاب إلى أقصى حد في تدمير البنية التحتية الذي من شأنه أن ينقل العامل الجماعي من المنزلة الوسطى (اللا حياة) إلى الموت. ومن ثم فإن البنية الدلالية الأولية القائمة على الثنائية الضدية:
حياة عكس موت
هي التي تغذي الدورة الدلالية للقصيدة من بدايتها إلى نهايتها. وفي الجهة المقابلة، فإن الشاعر، بالتشديد على حضور القدس في بداية كل مقطع وما تحمله من رمزية دلالية ضاربة جذورها الكنعانية في عمق التاريخ يقوم بعملية نفي الموت على أمل أن الدفاع عن الحق في الوجود ليس في نهاية الأمر إلا معبرا لتثبيت قيمة الحياة ولكن بآليات ستكشف عنها المقاطع الأخيرة من القصيدة.
– القدسُ حارسةُ الثُغورِ،
وأرضُها، رُعبٌ، وقَتْلُ.
جاءوا إليها كالجراد، فأقفرتْ
خُضْرُ المراعي، والسواقي جُفّفتْ،
ثمّ استغلّوا
ماءَ العيونِ الدافقاتِ من الصخورِ،
المُورِقات، وغابَ ظِلُّ.
واستأجروا، (بورخيسَ)، و(إسماعيل كاداري)،
و (جنكيزَ)، الرخيصْ
كلهم ولدوا هنا مثلي
ولكي يقولوا: إنهم في الأرض قبلي
مَسَخوا العقولَ، وبدّلوا ذاكَ القميصْ
بقميص أمريكا العتيقِ… لعلّ جائزةً تَهِلُّ.
يأخذ هذا المقطع على غرار المقطع السابق طابعا سرديا يروي بداية الاحتلال الإسرائيلي للقدس. ويتحدد على الصعيد الصوري من خلال ثيمتين أساسيتين: تبدأ الثيمة الأولى بالعودة من جديد إلى القدس باعتبارها محورا مركزيا ندرك من خلاله صورة المقاومة الاستباقية التي لا يمكن القفز عليها وستظل قيمة ثابتة متجذرة في الذاكرة الجماعية تتحدد بدور القدس، على المستوى الإيحائي، في سد منافذ الخطر. ولئن كانت حراسة الثغور مفردة مستوحاة من السجل التاريخي الإسلامي لتدل من ناحية على حماية المسلمين، وعوراتهم وأعراضهم وأموالهم ودمائهم، ومن ناحية ثانية، على الخيار الاستراتيجي، والخطوة الهامة لرصد تحركات العدو، وصد أي محاولة تسلل لوحداته، فإنها تعمل أيضا، على المستوى الإيحائي ومن خلال إرسائها المرجعي وحمولتها التاريخية على حماية ماضيها العريق والذود على الأصول الكنعانية للشعب الفلسطيني. وعلى هذا الأساس، فهي تؤدي دورين أساسيين. يتحدد الأول بشهادتها على ما يجري في الأرض من رعب وقتل، ويتمثل الثاني في مقاومتها لما قد يحصل من تشويه للهوية الفلسطينية مما يعني أنها، على المستوى الأكسيولوجي، حاضنة لقيم الشعب الفلسطيني.
وإذا عدنا من جديد إلى الدورة الدلالية للنص (المربع السيميائي)، فسنتبين أن العامل الجماعي (ضمير الغيبة) لم يقتصر من خلال عملية نفي الحياة (تدمير البنية التحتية)، لقيادة الشعب الفلسطيني إلى الموت، على اجتثاث كل ما له علاقة بالحياة، بل تعدى ذلك في انتقاله إلى مستوى وخيار استراتيجي آخر يواصل من خلاله تنفيذ مشروع الإبادة التاريخية للشعب باجتثاث رموزه من المتصل الزمني وتشويهها وفصلها عن الحاضر لتثبيت تاريخ مزيف. ومن هنا فإن ضمير الغيبة سيستعين برموز ثقافية نفترض أنها تملك القدرة في تحويل الحقائق التاريخية عن مجراها الطبيعي بطمس كينونتها وإبرازها في ظاهر يوهم بصدقها. فصناعة الخطاب الصادق يكون المعادل موضوعياً للمكافأة المادية (جائزة تهل). وحتى نفهم طبيعة العلاقة التي تربط ضمير الغيبة هم (الاحتلال الإسرائيلي) بهذه الرموز (بورخيس، إسماعيل كاداري، وجنكيز ايتماتوف)، التي تمثل عاملا جماعيا، والآليات التي تحكمها، فسنكون مضطرين للاستناد إلى المستوى السردي، إذ يمكن أن نفهم من خلاله رهانات التحالف الذي نشأ بينهما وانعكاساته على رد فعل الشاعر من الجهاز القمعي الإسرائيلي.
إن استئجار العامل الجماعي يفترض إبرام عقد بين الهيئتين. فالأول (الجهاز القمعي بكل مكوناته) يقترح، ويحفز، ويعبئ، ويمارس فعله الإقناعي على الثاني (بورخيس، إسماعيل كاداري، وجنكيز ايتماتوف) الذي يؤول إيجابيا الرسالة، وينخرط في مشروعه، ويلتزم وينفذ المهمة الحاسمة:
ولكي يقولوا: انهم في الأرض قبلي
وبتشريفه للالتزامات التي قطعها على نفسه، وبعد التقييم الإيجابي الذي يستند إلى النظام الأكسيولوجي Axiologique والواقع على المستوى العرفاني cognitif، فإنه يتلقى في نهاية المسار، على المستوى التداولي، المكافأة:
مَسَخوا العقولَ، وبدّلوا ذاكَ القميصْ
بقميص أمريكا العتيقِ… لعلّ جائزةً تَهِلُّ.
لا يملك الشاعر إلا أن يكشف، على المستوى العرفاني، ويفضح خيوط المؤامرة التي حيكت لتضليل الرأي العام العالمي والمجسدة في تقييمين أساسيين: يمتزج التقييم الأول بإصدار حكم على كفاءته فهو لا يملك من المعرفة التي تؤهله لقراءة التاريخ وتأويله، وعلى هذا الأساس، يخطئ من يعتقد بصحة الاستنتاجات التي انتهى إليها. أما التقييم الثاني، فإنه صادر عن قناعته بأن العامل الجماعي (بورخيسَ، إسماعيل كاداري، وجنكيزَ) يتوقع نيل مكافأة (جائزة تهل) من أمريكا الحليف لإسرائيل التي ستعمل على ممارسة ضغوط على الهيئة المكلفة بتقييم الأعمال ومنح الجوائز نظير الخدمة التي قدمها العامل الجماعي للاحتلال الإسرائيلي مما يعني أن هذا التقييمَ فاقد للمصداقية والشرعية.
4. التجليات الدلالية لدولة الخازوق وأمة النمل
القدسُ عاصمة الدماءِ،
وصوتُها يشكو، ولا مطرٌ يجيءُ،
مواسمُ الأيّام، مَحْلُ.
يا دولةَ الخازوقِ،
يا قتّالةَ الشعراءِ،
يا سرَّاقة الحِنّاءِ، والأضواء، والأزياءِ،
والأجداد، والأبناء، والآباء، والأشياء،
والموّال، والراياتِ، والخَرْجاتِ، والمألوف.
يا دولة الخازوقِ،
يا سرّاقة الإبريز، والإفريزِ، والتطريزِ،
والليمونِ، والتفّاحِ، والحنّون، والنارنج،
والأحجار، والتاريخ، والآهاتِ، حتى (الأوفْ).
هكذا، وإزاء هذه المؤامرة الدولية على فلسطين الهادفة إلى تشويه وطمس معالمها التاريخية، فإن الشاعر بعد تفكيك خيوطها، يحول الأنظار إلى مشهد يتم فيه التركيز على العودة من جديد إلى القدس باعتبارها الفضاء الحقيقي والمرجعي للدولة الفلسطينية. فلازمة القدس المكرورة باستمرار تعبر عن إصراره السياسي القاضي بأن التحالفات ضد القضية الفلسطينية لا جدوى منها أمام القدس باعتبارها معلما تاريخيا لا يمكن القفز على القيم التي يحملها. ومن ثم، فإن الخيار الاستراتيجي للشاعر لتكرار لازمة القدس في بداية كل مقطع هو، من ناحية إصراره السياسي، ومن ناحية ثانية لفت الأنظار إلى حقيقة ما يجري من مجازر في فلسطين من خلال توظيف صور الدماء والرعب والقتل.
إن الخطاب في هذه القصيدة يجري في اتجاهات متباينة تتوافق مع تنوع المشاهد الشعرية التي يحركها الشاعر انطلاقا من قناعته الخاصة بأن الخيارات المختلفة التي يضعها جهاز الاحتلال الإسرائيلي تحت تصرفها تندرج في إطار استراتيجية صهيونية تهدف إلى نسف طموحات الشعب الفلسطيني، وآماله وتاريخيه، وتقويض كل ما له علاقة بالهوية الموروثة. وعلى هذا الأساس، فإن الشاعر يواصل إدانة الاحتلال في هذا المقطع الشعري. فهو لا يدخل في الجزئيات ولا في التفاصيل ولكنه يبني القصيدة على مرتكزات يجسدها على المستوى الاستبدالي في خيارات لا يمكن أن يخرج من أطرها تأويل القارئ: فالسرقة بوصفها فعلا موجها للاستيلاء على موضوعات بغير حق تندرج في إطار مشروع يسعى إلى فصل الهوية الموروثة بكل مكوناتها عن الواقع الفلسطيني، وتقويض أركان الرمزية التي تحيل على هذه الموضوعات (والموّال، والراياتِ، والبرتقال، والزيتون، الليمون، والمألوف...). من هذه المنطلقات، لا يمكن إدراك المدلول الشعري لرمزية الحناء، مثلا، إذا اقتصرنا فقط على نواتها الدلالية المحددة بالمسارات المعنوية المتداولة في القواميس: شجرة ذات رائحة زكية وعطرة يتم جمع أوراقها وتجفيفها وطحنها. وإذا رمنا الإمساك بمدلولها الإيحائي، يتعين ربط نواتها، على الصعيد التداولي، بمستوى الاستعمال، فعبره فقط يمكن أن نحدد القيم الدلالية المتجذرة في الذاكرة الفلسطينية. ومن خلاله أيضا يكون الشاعر قد استنفد كل أغراض القصد التبليغي الذي يدرك على مستوى استعمال الحناء باعتباره ممارسة مستوحاة من الذاكرة الشعبية. فالرسوم الجمالية المضروبة على الأيدي والأقدام وما ترافقها من رمزية دلالية مستمدة من الماضي، ومن التراث الفلسطيني الشاهد على الحضور القوي للهوية الفلسطينية. إننا إزاء هندسة حقيقية للمضامين التي تنزع عن الحناء مقاصدها النفعية لتربطها بمدلول يستمد شموليته من هوية الشعب الفلسطيني. فجهاز القمع الإسرائيلي لا يسرق الحناء لغرض الانتفاع من مزاياها بل لنسف هوية الشعب الفلسطيني وفصلها عن تاريخه. ولتحقيق هذا الغرض، يسخر الاحتلال كل الوسائل الممكنة. وهذا ما نلمسه في انتقال الشاعر من ثيمة السرقة بجميع أشكالها إلى استعمال مقابلة الدولة والخازوق في:
يا دولةَ الخازوقِ،
باعتبارها حاضنا طبيعيا لكل الممارسات الوحشية المسلطة على شعب بأكمله. وقد يبدو في الظاهر أن الجمع بين ثيمة الدولة وصورة الخازوق لا يحقق الانسجام الدلالي على المستوى التقريري. وحتى ندرك طبيعة هذا الجمع ينبغي أن نفكك العلاقة التي تربط بين العنصرين. ومن أول نظرة نلاحظ أن العلاقة احتوائية بامتياز. فالدولة من خلال تموقعها المركزي في بداية الملفوظ تحتوي الخازوق. واقتران الخازوق بكل أبعاده وقيمه جاء هنا لينزع الغطاء القانوني المفترض للدولة وعندئذ تفقد الدولة شرعية وعلة وجودها المحدد فقط باعتباره جهاز خازوق. إن الشاعر باستعمال دولة الخازوق مرتين واحتلالها الصدارة الحاضنة للأفعال الوحشية وتحويلها إلى حلقة وسطى تجمع بين سرَّاقة الحِنّاءِ ومختلف الوحدات الصور التي تعقبها (...)وسرّاقة الإبريز، يوجه دعوة صريحة للقارئ بضرورة التنازل عن مواصلة القراءة وحثه على ضرورة ترسيخ الخازوق في سياقه التاريخي. ولئن كانت صورة الخازوق لا تفقد مدلولها الثابت المتداول في مختلف الأسيقة التاريخية، فإنها تتعزز في هذا المقطع بإضافة قيم دلالية جديدة في السياق الشعري العام للقصيدة. وحتى ندرك حجم توسع وانفتاح صورة الخازوق على القيم الدلالية الجديدة، نتوقف قليلا لوضع الخازوق في سياقه الدلالي التاريخي على أن نعود إلى المقطع الشعري لمواصلة التحليل.
يعد الخازوق أحد أشنع أساليب الإعدام التي استخدمت عبر التاريخ، حيث يتم اختراق جسد الضحية بعصا طويلة وحادة من ناحية وإخراجها من الناحية الأخرى بطريقة تمنع الموت الفوري، كما يتم إدخال الخازوق من فم الضحية أحيانا، وفي الأعم الأغلب من فتحة الشرج. بعدها يثبت الخازوق في الأرض ويترك الضحية معلقا حتى الموت. ويستخدم الخازوق نفسه كوسيلة لمنع نزف الدم، وبالتالي إطالة معاناة الضحية لأطول فترة ممكنة تصل إلى يوم كامل أو عدة أيام فيكون موتا مؤلما وصراع الضحية وقوة الجاذبية يساهمان في عذابه وزيادة نزوله على الخازوق أكثر، ولزيادة تعذيبه، يجبر على الطعام، ثم يسقى شراباً مسهلاً، فيزداد ألمه كثيراً بسبب عدم قدرته على التغوط لأن الخازوق يسد دبره. وفي حال موت «المُخَوزَق» أثناء عملية «الخَوزَقَة» يحاكم الجلاد بتهمة الإهمال الكبير ويحاكم بنفس العقوبة لفشله. وإذا نقلنا صورة الخوزقة بهذه المدلولات الثابتة في تاريخ البشرية والتي قد تتخذ أشكالا أخرى متنوعة تبعا لتطور الوسائل التقنية في التعذيب، فإن دلالتها في المقطع الشعري قد تتوسع لتشمل مسارات صورية شديدة التنوع والاختلاف من بداية القصيدة إلى نهايتها على نحو ما نلحظ ذلك في المفردات الآتية:
رعب وقتل، فاقتلعوا، احتلّوا، وسمّموا، رُعبٌ، وقَتْلُ، أقفرتْ خُضْرُ المراعي، والسواقي جُفّفتْ، مَسَخوا العقولَ، رُعْبٌ، وقَتْلُ، الدماءِ، دولةَ الخازوقِ،
قتّالةَ الشعراءِ، سرَّاقة، دولة الخازوقِ، سرّاقة، ذبحٌ وقتلُ. صوتُ الذئاب
الغازياتِ، القادماتِ، الماكرات، القاتلاتِ.
إن هذه الصور باعتبارها وحدات مضمونيه تتخذ الخوزقة من خلالها أبشع صور الرعب والتعذيب والقتل. ولئن كانت القصيدة لم تراع المستويات التراتبية الدلالية من حيث درجات عمليات التصعيد في قمع الفلسطينيين العزل، فلأن المشاهد التي تسربت عبر ذاكرة الشاعر جاءت متقطعة في المتصل اليومي المضطرب للواقع الفلسطيني.
إن ما يثير انتباه القارئ في هذا المقطع الشعري الذي وضعناه قيد التحليل يتمثل في خصوصية الخوزقة التي لا تتم على المستوى الفردي الشائع عبر التاريخ، وعلى نحو ما أوضحنا ذلك أعلاه، بل تكمن في الإبادة الجماعية لشعب بأكمله دون مراعاة حتى حق وجوده. فالمفردات تعكس، على المستوى الهووي، درجات عالية من توتر الشاعر وتذمره، واضطرابه أيضا من فظاعة وبشاعة المشاهد البصرية الخاطفة المسربة عبر الاقتلاع، والتسميم، والإقفار، والتجفيف، والدماء، والذبح. فالشحنات الدلالية في تنقلها عبر كل الوحدات المضمونية المسجلة أعلاه تكرس الإبادة الجماعية. وإذا كانت صورة الخوزقة تتحدد في أهدافها الأساسية في إطالة معاناة الضحية لأطول فترة ممكنة، فإن بشاعة الجهاز القمعي الإسرائيلي تتوسع على وقع التسميم المتسم ببطئه في تعذيب الضحية وإنهاك قواها الذهنية والجسدية. وهذه الرغبة في إطالة التعذيب تستمد وجودها من النشوة والمتعة في القتل والذبح وإثارة الرعب والهلع في نفوس من ينتظرون دورهم. ومن ثم، فإن المتعة التي ينتشي بها الجهاز القمعي الإسرائيلي ناجمة عن تأكيد الذات وتدمير الآخر، وهي أقصى ما يمكن أن تبلغه السادية في أحد مفاهيمها. فالإبادة إذن مبرمجة، ومنظمة ومدركة، زمنيا، في الاستمرارية وعبر جميع مستويات القصيدة. وإزاء هذه الوضع المأسوي ينقل الشاعر إلى القارئ هذه الحقائق على أرض الواقع الفلسطيني ويبلغه له في آن واحد شعوره وتوتره الشديد، ومحنته من هذه الانتهاكات الفظيعة المرتكبة. فهو إذن يبصر ويسمع ويعبر. ولا ضابط لهذا التدفق الشعري أو هذه الشرائح شعرية. وربما هذا ما يفسر افتقاد الثيمات إلى تنظيم. إنها فوضى الأشياء التي تعكس محنة الشاعر، واضطرابه، ومعاناته مما يبصر ويسمع. ولئن كانت جميع الأفعال مندرجة في إطار المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى مراقبة الأرض، والسيطرة عليها، وطمس ليس فقط جميع الأماكن بل كل الروابط التي توحي وتدل على الماضي الفلسطيني للمنطقة، فإن محو المكونات الثقافية من الذاكرة الفلسطينية وسياسة التهجير يقابله تحويل الأراضي المهجورة يعني في جميع الحالات ترسيخ الهوية والذاكرة اليهودية، وزرع هوية جديدة، بإزالة الآثار المادية للمشهد الفلسطيني. لا يمكن أن ندرك التجليات الدلالية للخطاب الشعري عند الشاعر ما لم نَبْنِ التحليل على أساس العلاقة بين المفردات التي يرتهن إليها البناء الداخلي للقصيدة. ولهذا يضطر القارئ وهو يقرأ المقاطع الشعرية الواحد بعد الآخر للكشف عن الآلية التي تحكم المفردات وتودعها معانيها. وأول ما يتبادر إلى الذهن هو المرجعية الداخلية للنص التي تبنى لا على منطلقات المفردة في عزلتها، بل في تراكبها من خلال العلاقات التي تبنيها مع المفردات الأخرى على أساس دلالي أو شكلي لما تتكرر المفردة. وهذا ما توضحه الأشطار الشعرية في الخطاطة الآتية:
يستهل الشاعر القصيدة في الوضعية الشعرية① بسؤال حول العلاقة التواصلية المضطربة بين الجحافل والقدس اضطرابا ندركه من خلال كلما الظرفية المفيدة لتكرار الدعوة والصياح بأرفع الأصوات ـ. الأول(القدس) يصر، والثاني(الجحافل) لا يستجيب. فالقصد والإصرار التبليغي لم يحقق غايته لتقاعس وامتناع الجحافل عن نصرة القدس. ويتأزم الوضع في الوضعية الشعرية ② مع تحول النداء إلى شكوى ممزوجة بأنين وألم يوحي بإحكام قبضة المعتدي على الشاكي. إن الشاعر لم يذكر المعتدي بالاسم، ويكتفي بتأطير أثر الفعل الناجم عن الاعتداء، والتشديد على مواصلة الجحافل في عدم الاحتفال بهذا الصوت الحزين؛ قطيعة تتأكد وتتعزز بصورة الجفاف الدال على الموت (لا مطر يجيء) لغياب الفعل (نزول المطر) المحدث للخصوبة والحياة. ويمكن اعتبار مرور الشاعر إلى الوضعية الشعرية③ تحولا نلمسه على الصعيد التلفظي من خلال انتقال الشاعر من الوضعيتين الأولى والثانية-وهو يوجه خطابه إلى القارئ (الأنت) بضمير الغيبة (نادت عليـ هم، وصوتـ ها يشكو) لسرد وقائع القدس وليشهده على ما يجري- إلى الوضعية الشعرية③ حيث يتغير مجرى الخطاب بصورة جذرية ويوجه الشاعر بضمير الأنا رسالته إلى أمة النمل واتهامها بشكل مباشر.
تؤدي أمة النمل، على المستوى السردي، دور المحرك الذي يمارس فعله على الجحافل لشل قدرتها على الحركة والاستجابة لنداء وشكوى القدس. إن الشاعر، باستعمال مفردة النمل ذات شحنة دلالية قوية ومكثفة، يحيل القارئ على رمزية القيم الإيجابية المستوحاة من الذاكرة البشرية الممتدة عبر التاريخ وتتجسد في الصبر، والعزيمة وبعد النظر، وفي نزوعها إلى المقاومة، والعمل بدون كلل لصالح المجموعة كلها، ولتحقيق هدف مشترك. وقد جعلت هذه القيم من النملة أساس العديد من الأساطير، والمعتقدات، فألهمت التيارات الفلسفية واللاهوتية الأكثر حداثة في جميع أنحاء العالم كما كان الحال بالنسبة للمعتقدات القديمة.
من هذا المنطلقات، وبناء على الوضعيتين الأولى والثانية، لا يملك الشاعر إلا أن ينفي هذه القيم:
ليس فيها من صفاتِ النملِ، إلاَّ كَثْرةُ النَسْلِ البليدْ
نفيا مدعوما بصورتي الذل والبلادة جاء ليُثَبِتُ التناسل باعتباره القيمة الوحيدة المشتركة بين الأمة والنمل. ومع ذلك، وحتى في هذا المستوى، يصر الشاعر على توكيد الفارق والاختلاف بين العالمين يتجسد عبر الصفة بليد الملحقة بالأمة. وبالتالي فإن الاستثناء موظف ليس من باب الاستحسان كما هو الشأن عند النمل الذي تتميز كثرته بالفعالية، بل من باب الاستهجان لعدم قدرة الأمة رغم تناسلها القوي والمطرد على استنفار جيوشها لنصرة القدس. وإذا نظرنا في الأمر عن كثب، فسنلاحظ أن الشاعر يقابل نشاط النمل، وعزيمته القوية، وصبره بافتقاد الأمة إلى الإرادة والوعي والقدرة على الحركة وهي قيم تنسجم تماما مع الأكل والنوم:
زحَفَتْ إلى تلّ الموائد، كي تنام جيوشُها
إن عبثية الإرادة والفعل لهذه الأمة تتجلى إذن في صيغة السخرية الأسلوبية التي تتخذ مبدأ لبناء المقطع الشعري بكامله. كل شيء يجري كما لو تعلق الأمر بتقييم ساخر يتجلى في بناء صورتين تجسدان وحدتين مضمونيتين: نشاط الأمة (زحَفَتْ إلى تلّ الموائد)، من جهة، وخمول جيوشها (تنام جيوشُها) من جهة ثانية. لا تُكَرَّسُ هذه الثنائية الضدية في المقطع الشعري إلا لِتُثَبِّتَ التجانس بين الإقبال الجشع والحرص على الأكل بشراهة ونهم، والنوم المتزامنين مع شكوى القدس الجريحة. ولئن كان الزحف مرتبطا بالهجوم على العدو، واختراق خطوطه دفعة واحدة، فإن الشاعر، لقناعته بضرورة تعرية واقع الأنظمة العربية وفضح صمتها، وعجزها، وخيانتها للقضية الفلسطينية، يحول وجهته في أقل من لمحة البرق ليس نحو التل لمواجهة العدو في ساحة الحرب لتلبية النداء، وإنقاذ القدس، ولكن باتجاه الموائد لملء البطون، والهروب إلى الزمن البعيد لاستحضار الرمز المجيد. بهذه الصور البالغة أقصى درجة من السخرية الممزوجة بالنغمة الحزينة الباعثة على الانقباض المؤدي في جميع الحالات إلى التدمير الذاتي والاستسلام، يرسخ الشاعر هذا المقطع تاريخيا باستحضار صورة الوعود المكثفة دلاليا، وقراءتها مرتبطة بدرجة استيعاب القارئ لخلفياتها التاريخية:
ناموا على خُطَب الوعودِ،
كأنّهمْ سئموا الوعيدْ
ولهذا، فإن الشاعر ينقل هذه المأساة ولكن بشيء من التوتر على المستوى الهووي، وشيء من اليأس أيضا لطول الانتظار الذي يمدد عمر المأساة: وصوتُها يشكو من حدة الألم، ولا مطرٌ يجيءُ. إنه الجفاف الذي يلمح على المستوى الإيحائي إلى الموت وقطع أي صلة بالحياة وإقرار الشاعر بالعذاب المتواصل في ظل تهاون العرب عن نصرة القدس. إن صورة التهاون منسجمة تمام الانسجام مع صورة النوم الدالة على السكوت والهدوء وغياب الإرادة والوعي أيضا بما يحدث. ومن هنا يكتسي الملفوظ الشعري:
⏪ ناموا على خطب الوعود
أهمية بالغة لا يمكن أن نفهم دلالته النصية والتاريخية إلا بربط النص الشعري بالنصوص التاريخية المتراكمة منذ إعلان وعد بلفور اليهود بوطن قومي في فلسطين. فالمضمون الشعري للملفوظ المكثف والمركز دلاليا يتماهى مع تمدد(وتراكمات) المضامين التاريخية باستعمال ضمير الغيبة هم. فالشاعر هنا وجه لوجه مع التاريخ يمارس عليه فعله التأويلي: عين على ما يجري أمامه الآن، وعين على ما جرى. فانغماسه في الأحداث التاريخية المختزلة في الوعود وما ترتب عنها من أفعال بانية لليهود ومقوضة بل وناسفة للبيت الفلسطيني من جذوره، وإدراكه سلفا لمآلاتها حركت قناعته باستحالة تغيير الوضع في ظل المعطيات السياسية العربية الراهنة. ومن هنا فإن النوم على الخطب وقبول ما تمخض عنه من نتائج على المستوى السياسي يشكل ظاهرا لا يعكس حقيقة ما يجري المتمثلة في خرق العهود باستمرار. فالشاعر يوجه دعوة صريحة للقارئ ويحركه للعودة إلى بدايات الصراع العربي الإسرائيلي لإدراك جوهر الممارسات السياسية الراهنة التي تغض الطرف عن المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. تحمل دعوة الشاعر القارئ على التأمل في الوعود وعدم الالتزام بتطبيقها في طياتها حجة تبطل سياسة تنويم هي مسخرة في الأساس لتشريد الشعب الفلسطيني والدوس على كرامته، وكل حقوقه المشروعة. وقد ظهرت تباشير هذه اللعبة القذرة منذ وعد بلفور اليهود بوطن قومي في فلسطين لتتواصل الوعود الكاذبة بإصدار قرار تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية. وفي كل مرة وعلى امتداد التاريخ تنفذ دائما الوعود لطرف دون الآخر. نكتفي بهذه الإشارات التاريخية الخاطفة التي تشكل خلفية كفيلة بتسليم القارئ مفتاح التأويل، وتمثل حجر الزاوية في الخطاب الحجاجي للشاعر المرسخ تاريخيا من خلال الإقرار بأن ضمير الغيبة هم (الأنظمة العربية) غير معني على الإطلاق بمصير القدس ولا بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة فهم يجارون العدو ويتظاهرون بالدفاع عن حقه في الوجود وهم في الواقع خائفون من إنذاراته وتهديداته بالانتقام. وبالاعتماد على الجهات التصديقية للخطاب الشعري في هذا المقطع يمكن أن نوضح الآليات التي تحكم العلاقات بين الكينونة والظاهر وحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي على النحو الآتي:
يواجه الشاعر من بداية القصيدة إلى نهاية هذا المقطع قوتين معارضتين لطموحات الشعب الفلسطيني: من جهة، العدو الإسرائيلي الذي استعمل كل أشكال الإرهاب والترويع، والأنظمة العربية، من جهة ثانية، لم يذكرها بالاسم صراحة للتقليل من شأنها ولإدراكه سلفا بسوء نواياها وتواطؤها ورغبتها أيضا في تواصل وإطالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نضبط مسارين أساسيين في هذه المواجهة. فالشاعر في تقويمه العرفاني لهذا الظاهر السياسي يصل إلى جوهر هذه اللعبة القذرة التي تدار من خلال أقنعة تحمل الرأي العام على الاعتقاد بتواصل المفاوضات، وأن الأمور تجري في الاتجاه السليم، وفي تهيئة أحسن الظروف لاسترجاع الحقوق المغتصبة: والحقيقة أن الأنظمة العربية في تواطؤها مع الكيان الاسرائيلي تمارس عملية نفي للكينونة يتم عبره توكيد ظاهر لا يعكس حقيق ما يجري:
لدحض هذه المزاعم، يضع الشاعر تحت تصرفه المعرفة التاريخية للتقيم العرفاني بالارتكاز أساسا على مفردة الوعود التي جاءت في صيغة الجمع لتسمح له بتحقيقها وترسيخها زمنيا، ولإسقاط الأقنعة بنفي الظاهر وتثبيت الكينونة المتماهية مع حقيقة الممارسات الوحشية والإبادة الجماعية التي يتعرض لها المواطنون العزل في الأراضي المحتلة:
إن نفي الظاهر يعبر عن أزمة ثقة الشاعر في الأنظمة العربية ويعزز قناعته بأن المقاومة تعد السبيل الوحيد للدفاع عن الأرض وتثبيت الكينونة. فعنف رد فعل الشاعر يتوافق مع الألم والعذاب ويفضي في جميع الحالات إلى بناء قدرة الفعل على تعبئة الفلسطينيين للذود عن القدس الجريحة. فالشاعر يستحضر معرفة محددة تاريخيا وقيمة صدقها قارة على الامتداد الزمني تفسر وتبرر الخطاب الشعري وتوالي الأحداث المأسوية في القدس.
ينهي الشاعر هذا المقطع المبني إجمالا على قصتين. تعكس مضامين الأولى اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المتنوعة الممارسة على الشعب الفلسطيني. ويمكن اختزال مضامين القصة الثانية في تخلي الأنظمة العربية عن نصرة القضية الفلسطينية.
5. المقاومة/ الحل البديل
وإزاء هذا الوضع المأسوي الملاحظ من بداية القصيدة إلى نهاية المقطع ما قبل الأخير، يبدأ التحول الجذري في مضامين القصيدة المفتوحة في المقطع الأخير على رؤية استشرافية للمستقبل منقولة، على المستوى السردي، بصيغة الماضي:
لكنَّ جرّافاتِنا، جاءتْ مع الفجر الأنيقِ،
لكي تُعيد الغارَ،
ها، هُمْ، قد أطلّوا(...)
فإن صوت القدس
رغم الليل
يعلو، ثم يعلو، ثم يعلو
إن هذه الرؤية الاستشرافية التي تعبر عن شعور الشاعر المتجانس مع رغبته في تغيير الوضع، بمجرد ارتكازها على صيغة الماضي (لكنَّ جرّافاتِنا، جاءتْ) تقدم الأحداث وكأنها وقعت بالفعل، وتترجم إصراره وعزيمته على الانتصار مما يعني أن المقاومة، حيال كل الخيارات المطروحة، تعد السبيل الوحيد لاسترجاع الحقوق المغتصبة. إن إلحاق الأنا الشاعر بالجمع جرافاتنا) يدل ليس فقط على انخراط الشاعر في مشروع المقاومة القائم أساسا على العامل الجماعي (الشعب من داخل الأراضي المحتلة)، بل على دور التعبئة والمقاومة أيضا الذي اضطلع به منذ بداية القصيدة والمتمثل في إسقاط المؤامرة العربية والأجنبية على الشعب الفلسطيني على نحو ما سجلنا ذلك في أثناء التحليل. ومن الواضح أن التباشير الأولى للتحول الجذري للقصيدة ظهرت في بداية المقطع الأخير لتعلن عن الانتقال من عالم الذل والخضوع والاستسلام إلى عالم استرجاع الكرامة المفقودة والتاريخ الجديد، من صوت القدس الجريحة الشاكية إلى استرجاع مجدها الضائع وعلو صوتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
➤الإحالات
(1) هذا النص مأخوذ من: www.sudaress.com
(2) Bernard Pottier, Recherches sur l’analyse sémantique en linguistique et en traduction mécanique, Publications Linguistiques de la Faculté des Lettres et Sciences Humaines de l’Université de Nancy, 1963
(3)A.J. Greimas, Sémantique structurale, Larousse, Paris, 1966.
(4) مدخل القراءة lecture في:
-A.J. Greimas, J. Courtés, Sémiotique, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette, Paris, 1979.
(5) عز الدين المناصرة وعاصمة السماء: القدس، في :
وتزداد المأساة حدة بانتقال القدس من مجد تاريخها الأصيل، وقداسة فضائها إلى فضاء يحمل صورة بشرية تصرخ وتشكو لتتحول إلى صورة حيوانية يسوقها وغد ونذل كما تساق الدواب. فالشاعر هنا لا يسمي المحتل باسمه فالمسافة بينهما تحمل دلالة قوية متساوقة مع شعوره بأن الأدوار التي يؤديها في تعامله مع مواطنين عزل وصلت إلى درجة من البشاعة والإرهاب والرعب والقتل والتهجير لا يمكن أن يتصورها العقل البشري ولا يمكن أن تصدر إلا من الحمقى المعبر عنهم بصورتي الوغد والنذل المنسجمتين تماما مع شعور الشاعر بالحقد التاريخي الدفين الذي يحمله للمحتل. إن ثيمة الرعب والقتل ستتوسع في هذا المقطع الشعري وتتمدد في أفعال متتالية (اقتلعوا، احتلّوا، وسمّموا):
فاقتلعوا صنوبَرَها،
وزيتوناتِها،
احتلّوا البيوتَ،
وسمّموا الماءَ الزُلالَ،
تأخذ الطابع التحويلي من وضع طبيعي هادئ متوازن إلى وضع مضطرب مشوه، من وضع يتسم بالحياة إلى وضع يفضي في جميع الحالات إلى الموت. وينسجم هذا التحول مع صورة القتل، ويأتي امتدادا طبيعيا لصورة الاقتلاع التي تكتسي أهمية بالغة من خلال علاقة تربطها بـِ القدس عاصمة الجذور، التي استهل بها الشاعر بداية المقطع الثاني. فاقتلاع الصنوبر والزيتون عملية لا تتم إلا بالاستئصال والانتزاع من الجذور؛ ويمكن أن تدرك قيمتها الدلالية، على المستويين الصوري والتجريدي، في مقابلتها بالجذور: عاصمة الجذور التي تجمع بين الكيان الجغرافي للقدس والكيان التجريدي المجسد في الامتداد التاريخي الذي لا يصمد أمامه ضمير الغيبة هم(جاءوا إليها من صقيع الأرضِ) المنفصلون بحكم انتمائهم إلى أجناس بشرية مختلفة عن الكيان الفلسطيني الكنعاني الأصول. وتكتمل القيمة الدلالية لاقتلاع الصنوبر والزيتون، على المستوى الإيحائي، باجتثاث شعب بأكمله وبكل مقوماته الحضارية. وفي الاتجاه المعاكس تماما لهذا المسار التصويري، تحتل عاصمة الجذور، بإيقاعها الموسيقي الخاص، وبنغمتها الحزينة، مكانة متميزة في بداية المقطع الشعري. فالجذور ثيمة مركزة ومكثفة دلاليا وظيفتها استباقية تكمن في احتواء الوحدات الشعرية المجسدة للاستئصال المادي المدرك في عمقه العمودي المحدود وتطرح ككيان وكوجود في معناها الفلسفي من خلال عمقه التجريدي الأفقي اللامحدود. لم يَبْنِ الشاعر صورة الاحتلال الاسرائيلي بشكل مكتمل: رعب وقتل، اقتلاع واحتلال، وتسميم للمياه، وكلما توغلنا في قراءة القصيدة إلا وتوسعت هذه الصورة وامتدت في صور أخرى جديدة تتجدد متى هم القارئ بالانتقال إلى مقطع جديد يستهله بلازمة القدس التي تشكل أحد المكونات الأساسية للبنية الشعرية:
القُدسُ عاصمةُ السماءِ،
وأرضُها، رُعْبٌ، وقَتلُ.
القدسُ عاصمةُ الجُذورِ،
يسوقُها وَغْدٌ، ونَذْلُ.
جاءوا إليها من صقيع الأرضِ،
فاقتلعوا صنوبَرَها،
وزيتوناتِها،
احتلّوا البيوتَ،
وسمّموا الماءَ الزُلالَ،
وفي رغيف الخبز حَلَّوا.
وإذا دفعنا بالتحليل في اتجاه المرتكزات التي تنهض عليها المقاطع الشعرية للقصيدة، فسنلاحظ أن كل مفردة في المقطع تستمد وجودها وحركيتها وقيمتها الدلالية أيضا من العلاقة التي تقيمها مع المفردات السابقة ولا يمكن فصل السابق عن اللاحق في المستويات التطريزية عموما والدلالية بوجه خاص. وبالاعتماد على المقطعين الأول والثاني، يمكن أن نمثل هذه العلاقات في الخطاطة على النحو الآتي:
نلاحظ جيدا اشتغال العلاقات على المحورين الاستبدالي (أ ب، ج د، س ع) والنظمي
(ب ← د ←ع). إذا كانت الكتابة تظل مليئة بذكرى استعمالاتها السابقة، فإن للمفردات ذاكرة تنشط على المستوى الاستبدالي لتمتد إلى وسط أسيقة تولد دلالات جديدة. إن الفعل جاءوا بإيقاعه الموسيقي الخاص يأتي امتدادا للأول الذي تتحدد معالمه من خلال ضمير الغيبة هم الدال على المجموعة أو عدد محدود من العناصر. ولكن بمجرد دخوله على الجراد (جاءوا إليها كالجراد، فأقفرتْ) فإن ضمير الغيبة هم في جاءوا (المقطع الثاني) يتحول ليس فقط إلى مجموعة بل إلى مجموعات يستحيل عدها تماما مثل رمزية الجراد) التي تدل على هذه القدرة الكبيرة في إلحاق الأضرار بالمحاصيل الزراعية. ولئن كانت أرض فلسطين تتمتع في الوضع الأول قبل بداية الغزو الإسرائيلي بالاستقرار والأمن وجمال المناظر الطبيعية (الصنوبر والزيتون والماء الزلال، وخضر المراعي، والسواقي) المحيلة على الحياة فإنها اتسمت في الوضع النهائي، بدخول العدو الإسرائيلي، بقبح مناظرها (القفر والجفاف). فبشاعة المنظر تتجانس مع القفر لتدل على الخلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ، وتفضي في جميع الحالات إلى الموت. فالأفعال التي أنجزها العدو تبطل بصورة مباشرة قدرة العامل الجماعي(الأهالي) على البقاء وتشل أي رغبة تفكير في العودة إلى أراضيه، وتُحَرِّكُهُ للهجرة، وبناء المخيمات خارج وطنه. إن تقييم العدو للنتيجة المتوخاة من هذه الأفعال المنضوية تحت برنامج الغزو يترجم على الصعيد التداولي بإقامة المستوطنات واستغلال ماء العيون. بناء على ما سبق، وبالاعتماد على المستويين السردي والخطابي، يمكن أن ننظم القيم الدلالية المستجلاة من خلال قراءتنا للمقطعين الأول والثاني في مربع سيميائي يكشف عن رهانات الصراع العربي(الفلسطيني) الإسرائيلي على النحو الآتي:
يسعى العدو بإنجاز أفعاله البشعة إلى نفي كل أسباب الحياة وطمس علامات الوجود الفلسطيني. وإذا كانت اللا حياة تحتل منزلة وسطى بين الحياة والموت، ويمكن أن تستغل للحفاظ على الأمل في البقاء، فإن العدو الإسرائيلي مصمم للذهاب إلى أقصى حد في تدمير البنية التحتية الذي من شأنه أن ينقل العامل الجماعي من المنزلة الوسطى (اللا حياة) إلى الموت. ومن ثم فإن البنية الدلالية الأولية القائمة على الثنائية الضدية:
حياة عكس موت
هي التي تغذي الدورة الدلالية للقصيدة من بدايتها إلى نهايتها. وفي الجهة المقابلة، فإن الشاعر، بالتشديد على حضور القدس في بداية كل مقطع وما تحمله من رمزية دلالية ضاربة جذورها الكنعانية في عمق التاريخ يقوم بعملية نفي الموت على أمل أن الدفاع عن الحق في الوجود ليس في نهاية الأمر إلا معبرا لتثبيت قيمة الحياة ولكن بآليات ستكشف عنها المقاطع الأخيرة من القصيدة.
– القدسُ حارسةُ الثُغورِ،
وأرضُها، رُعبٌ، وقَتْلُ.
جاءوا إليها كالجراد، فأقفرتْ
خُضْرُ المراعي، والسواقي جُفّفتْ،
ثمّ استغلّوا
ماءَ العيونِ الدافقاتِ من الصخورِ،
المُورِقات، وغابَ ظِلُّ.
واستأجروا، (بورخيسَ)، و(إسماعيل كاداري)،
و (جنكيزَ)، الرخيصْ
كلهم ولدوا هنا مثلي
ولكي يقولوا: إنهم في الأرض قبلي
مَسَخوا العقولَ، وبدّلوا ذاكَ القميصْ
بقميص أمريكا العتيقِ… لعلّ جائزةً تَهِلُّ.
يأخذ هذا المقطع على غرار المقطع السابق طابعا سرديا يروي بداية الاحتلال الإسرائيلي للقدس. ويتحدد على الصعيد الصوري من خلال ثيمتين أساسيتين: تبدأ الثيمة الأولى بالعودة من جديد إلى القدس باعتبارها محورا مركزيا ندرك من خلاله صورة المقاومة الاستباقية التي لا يمكن القفز عليها وستظل قيمة ثابتة متجذرة في الذاكرة الجماعية تتحدد بدور القدس، على المستوى الإيحائي، في سد منافذ الخطر. ولئن كانت حراسة الثغور مفردة مستوحاة من السجل التاريخي الإسلامي لتدل من ناحية على حماية المسلمين، وعوراتهم وأعراضهم وأموالهم ودمائهم، ومن ناحية ثانية، على الخيار الاستراتيجي، والخطوة الهامة لرصد تحركات العدو، وصد أي محاولة تسلل لوحداته، فإنها تعمل أيضا، على المستوى الإيحائي ومن خلال إرسائها المرجعي وحمولتها التاريخية على حماية ماضيها العريق والذود على الأصول الكنعانية للشعب الفلسطيني. وعلى هذا الأساس، فهي تؤدي دورين أساسيين. يتحدد الأول بشهادتها على ما يجري في الأرض من رعب وقتل، ويتمثل الثاني في مقاومتها لما قد يحصل من تشويه للهوية الفلسطينية مما يعني أنها، على المستوى الأكسيولوجي، حاضنة لقيم الشعب الفلسطيني.
وإذا عدنا من جديد إلى الدورة الدلالية للنص (المربع السيميائي)، فسنتبين أن العامل الجماعي (ضمير الغيبة) لم يقتصر من خلال عملية نفي الحياة (تدمير البنية التحتية)، لقيادة الشعب الفلسطيني إلى الموت، على اجتثاث كل ما له علاقة بالحياة، بل تعدى ذلك في انتقاله إلى مستوى وخيار استراتيجي آخر يواصل من خلاله تنفيذ مشروع الإبادة التاريخية للشعب باجتثاث رموزه من المتصل الزمني وتشويهها وفصلها عن الحاضر لتثبيت تاريخ مزيف. ومن هنا فإن ضمير الغيبة سيستعين برموز ثقافية نفترض أنها تملك القدرة في تحويل الحقائق التاريخية عن مجراها الطبيعي بطمس كينونتها وإبرازها في ظاهر يوهم بصدقها. فصناعة الخطاب الصادق يكون المعادل موضوعياً للمكافأة المادية (جائزة تهل). وحتى نفهم طبيعة العلاقة التي تربط ضمير الغيبة هم (الاحتلال الإسرائيلي) بهذه الرموز (بورخيس، إسماعيل كاداري، وجنكيز ايتماتوف)، التي تمثل عاملا جماعيا، والآليات التي تحكمها، فسنكون مضطرين للاستناد إلى المستوى السردي، إذ يمكن أن نفهم من خلاله رهانات التحالف الذي نشأ بينهما وانعكاساته على رد فعل الشاعر من الجهاز القمعي الإسرائيلي.
إن استئجار العامل الجماعي يفترض إبرام عقد بين الهيئتين. فالأول (الجهاز القمعي بكل مكوناته) يقترح، ويحفز، ويعبئ، ويمارس فعله الإقناعي على الثاني (بورخيس، إسماعيل كاداري، وجنكيز ايتماتوف) الذي يؤول إيجابيا الرسالة، وينخرط في مشروعه، ويلتزم وينفذ المهمة الحاسمة:
ولكي يقولوا: انهم في الأرض قبلي
وبتشريفه للالتزامات التي قطعها على نفسه، وبعد التقييم الإيجابي الذي يستند إلى النظام الأكسيولوجي Axiologique والواقع على المستوى العرفاني cognitif، فإنه يتلقى في نهاية المسار، على المستوى التداولي، المكافأة:
مَسَخوا العقولَ، وبدّلوا ذاكَ القميصْ
بقميص أمريكا العتيقِ… لعلّ جائزةً تَهِلُّ.
لا يملك الشاعر إلا أن يكشف، على المستوى العرفاني، ويفضح خيوط المؤامرة التي حيكت لتضليل الرأي العام العالمي والمجسدة في تقييمين أساسيين: يمتزج التقييم الأول بإصدار حكم على كفاءته فهو لا يملك من المعرفة التي تؤهله لقراءة التاريخ وتأويله، وعلى هذا الأساس، يخطئ من يعتقد بصحة الاستنتاجات التي انتهى إليها. أما التقييم الثاني، فإنه صادر عن قناعته بأن العامل الجماعي (بورخيسَ، إسماعيل كاداري، وجنكيزَ) يتوقع نيل مكافأة (جائزة تهل) من أمريكا الحليف لإسرائيل التي ستعمل على ممارسة ضغوط على الهيئة المكلفة بتقييم الأعمال ومنح الجوائز نظير الخدمة التي قدمها العامل الجماعي للاحتلال الإسرائيلي مما يعني أن هذا التقييمَ فاقد للمصداقية والشرعية.
4. التجليات الدلالية لدولة الخازوق وأمة النمل
القدسُ عاصمة الدماءِ،
وصوتُها يشكو، ولا مطرٌ يجيءُ،
مواسمُ الأيّام، مَحْلُ.
يا دولةَ الخازوقِ،
يا قتّالةَ الشعراءِ،
يا سرَّاقة الحِنّاءِ، والأضواء، والأزياءِ،
والأجداد، والأبناء، والآباء، والأشياء،
والموّال، والراياتِ، والخَرْجاتِ، والمألوف.
يا دولة الخازوقِ،
يا سرّاقة الإبريز، والإفريزِ، والتطريزِ،
والليمونِ، والتفّاحِ، والحنّون، والنارنج،
والأحجار، والتاريخ، والآهاتِ، حتى (الأوفْ).
هكذا، وإزاء هذه المؤامرة الدولية على فلسطين الهادفة إلى تشويه وطمس معالمها التاريخية، فإن الشاعر بعد تفكيك خيوطها، يحول الأنظار إلى مشهد يتم فيه التركيز على العودة من جديد إلى القدس باعتبارها الفضاء الحقيقي والمرجعي للدولة الفلسطينية. فلازمة القدس المكرورة باستمرار تعبر عن إصراره السياسي القاضي بأن التحالفات ضد القضية الفلسطينية لا جدوى منها أمام القدس باعتبارها معلما تاريخيا لا يمكن القفز على القيم التي يحملها. ومن ثم، فإن الخيار الاستراتيجي للشاعر لتكرار لازمة القدس في بداية كل مقطع هو، من ناحية إصراره السياسي، ومن ناحية ثانية لفت الأنظار إلى حقيقة ما يجري من مجازر في فلسطين من خلال توظيف صور الدماء والرعب والقتل.
إن الخطاب في هذه القصيدة يجري في اتجاهات متباينة تتوافق مع تنوع المشاهد الشعرية التي يحركها الشاعر انطلاقا من قناعته الخاصة بأن الخيارات المختلفة التي يضعها جهاز الاحتلال الإسرائيلي تحت تصرفها تندرج في إطار استراتيجية صهيونية تهدف إلى نسف طموحات الشعب الفلسطيني، وآماله وتاريخيه، وتقويض كل ما له علاقة بالهوية الموروثة. وعلى هذا الأساس، فإن الشاعر يواصل إدانة الاحتلال في هذا المقطع الشعري. فهو لا يدخل في الجزئيات ولا في التفاصيل ولكنه يبني القصيدة على مرتكزات يجسدها على المستوى الاستبدالي في خيارات لا يمكن أن يخرج من أطرها تأويل القارئ: فالسرقة بوصفها فعلا موجها للاستيلاء على موضوعات بغير حق تندرج في إطار مشروع يسعى إلى فصل الهوية الموروثة بكل مكوناتها عن الواقع الفلسطيني، وتقويض أركان الرمزية التي تحيل على هذه الموضوعات (والموّال، والراياتِ، والبرتقال، والزيتون، الليمون، والمألوف...). من هذه المنطلقات، لا يمكن إدراك المدلول الشعري لرمزية الحناء، مثلا، إذا اقتصرنا فقط على نواتها الدلالية المحددة بالمسارات المعنوية المتداولة في القواميس: شجرة ذات رائحة زكية وعطرة يتم جمع أوراقها وتجفيفها وطحنها. وإذا رمنا الإمساك بمدلولها الإيحائي، يتعين ربط نواتها، على الصعيد التداولي، بمستوى الاستعمال، فعبره فقط يمكن أن نحدد القيم الدلالية المتجذرة في الذاكرة الفلسطينية. ومن خلاله أيضا يكون الشاعر قد استنفد كل أغراض القصد التبليغي الذي يدرك على مستوى استعمال الحناء باعتباره ممارسة مستوحاة من الذاكرة الشعبية. فالرسوم الجمالية المضروبة على الأيدي والأقدام وما ترافقها من رمزية دلالية مستمدة من الماضي، ومن التراث الفلسطيني الشاهد على الحضور القوي للهوية الفلسطينية. إننا إزاء هندسة حقيقية للمضامين التي تنزع عن الحناء مقاصدها النفعية لتربطها بمدلول يستمد شموليته من هوية الشعب الفلسطيني. فجهاز القمع الإسرائيلي لا يسرق الحناء لغرض الانتفاع من مزاياها بل لنسف هوية الشعب الفلسطيني وفصلها عن تاريخه. ولتحقيق هذا الغرض، يسخر الاحتلال كل الوسائل الممكنة. وهذا ما نلمسه في انتقال الشاعر من ثيمة السرقة بجميع أشكالها إلى استعمال مقابلة الدولة والخازوق في:
يا دولةَ الخازوقِ،
باعتبارها حاضنا طبيعيا لكل الممارسات الوحشية المسلطة على شعب بأكمله. وقد يبدو في الظاهر أن الجمع بين ثيمة الدولة وصورة الخازوق لا يحقق الانسجام الدلالي على المستوى التقريري. وحتى ندرك طبيعة هذا الجمع ينبغي أن نفكك العلاقة التي تربط بين العنصرين. ومن أول نظرة نلاحظ أن العلاقة احتوائية بامتياز. فالدولة من خلال تموقعها المركزي في بداية الملفوظ تحتوي الخازوق. واقتران الخازوق بكل أبعاده وقيمه جاء هنا لينزع الغطاء القانوني المفترض للدولة وعندئذ تفقد الدولة شرعية وعلة وجودها المحدد فقط باعتباره جهاز خازوق. إن الشاعر باستعمال دولة الخازوق مرتين واحتلالها الصدارة الحاضنة للأفعال الوحشية وتحويلها إلى حلقة وسطى تجمع بين سرَّاقة الحِنّاءِ ومختلف الوحدات الصور التي تعقبها (...)وسرّاقة الإبريز، يوجه دعوة صريحة للقارئ بضرورة التنازل عن مواصلة القراءة وحثه على ضرورة ترسيخ الخازوق في سياقه التاريخي. ولئن كانت صورة الخازوق لا تفقد مدلولها الثابت المتداول في مختلف الأسيقة التاريخية، فإنها تتعزز في هذا المقطع بإضافة قيم دلالية جديدة في السياق الشعري العام للقصيدة. وحتى ندرك حجم توسع وانفتاح صورة الخازوق على القيم الدلالية الجديدة، نتوقف قليلا لوضع الخازوق في سياقه الدلالي التاريخي على أن نعود إلى المقطع الشعري لمواصلة التحليل.
يعد الخازوق أحد أشنع أساليب الإعدام التي استخدمت عبر التاريخ، حيث يتم اختراق جسد الضحية بعصا طويلة وحادة من ناحية وإخراجها من الناحية الأخرى بطريقة تمنع الموت الفوري، كما يتم إدخال الخازوق من فم الضحية أحيانا، وفي الأعم الأغلب من فتحة الشرج. بعدها يثبت الخازوق في الأرض ويترك الضحية معلقا حتى الموت. ويستخدم الخازوق نفسه كوسيلة لمنع نزف الدم، وبالتالي إطالة معاناة الضحية لأطول فترة ممكنة تصل إلى يوم كامل أو عدة أيام فيكون موتا مؤلما وصراع الضحية وقوة الجاذبية يساهمان في عذابه وزيادة نزوله على الخازوق أكثر، ولزيادة تعذيبه، يجبر على الطعام، ثم يسقى شراباً مسهلاً، فيزداد ألمه كثيراً بسبب عدم قدرته على التغوط لأن الخازوق يسد دبره. وفي حال موت «المُخَوزَق» أثناء عملية «الخَوزَقَة» يحاكم الجلاد بتهمة الإهمال الكبير ويحاكم بنفس العقوبة لفشله. وإذا نقلنا صورة الخوزقة بهذه المدلولات الثابتة في تاريخ البشرية والتي قد تتخذ أشكالا أخرى متنوعة تبعا لتطور الوسائل التقنية في التعذيب، فإن دلالتها في المقطع الشعري قد تتوسع لتشمل مسارات صورية شديدة التنوع والاختلاف من بداية القصيدة إلى نهايتها على نحو ما نلحظ ذلك في المفردات الآتية:
رعب وقتل، فاقتلعوا، احتلّوا، وسمّموا، رُعبٌ، وقَتْلُ، أقفرتْ خُضْرُ المراعي، والسواقي جُفّفتْ، مَسَخوا العقولَ، رُعْبٌ، وقَتْلُ، الدماءِ، دولةَ الخازوقِ،
قتّالةَ الشعراءِ، سرَّاقة، دولة الخازوقِ، سرّاقة، ذبحٌ وقتلُ. صوتُ الذئاب
الغازياتِ، القادماتِ، الماكرات، القاتلاتِ.
إن هذه الصور باعتبارها وحدات مضمونيه تتخذ الخوزقة من خلالها أبشع صور الرعب والتعذيب والقتل. ولئن كانت القصيدة لم تراع المستويات التراتبية الدلالية من حيث درجات عمليات التصعيد في قمع الفلسطينيين العزل، فلأن المشاهد التي تسربت عبر ذاكرة الشاعر جاءت متقطعة في المتصل اليومي المضطرب للواقع الفلسطيني.
إن ما يثير انتباه القارئ في هذا المقطع الشعري الذي وضعناه قيد التحليل يتمثل في خصوصية الخوزقة التي لا تتم على المستوى الفردي الشائع عبر التاريخ، وعلى نحو ما أوضحنا ذلك أعلاه، بل تكمن في الإبادة الجماعية لشعب بأكمله دون مراعاة حتى حق وجوده. فالمفردات تعكس، على المستوى الهووي، درجات عالية من توتر الشاعر وتذمره، واضطرابه أيضا من فظاعة وبشاعة المشاهد البصرية الخاطفة المسربة عبر الاقتلاع، والتسميم، والإقفار، والتجفيف، والدماء، والذبح. فالشحنات الدلالية في تنقلها عبر كل الوحدات المضمونية المسجلة أعلاه تكرس الإبادة الجماعية. وإذا كانت صورة الخوزقة تتحدد في أهدافها الأساسية في إطالة معاناة الضحية لأطول فترة ممكنة، فإن بشاعة الجهاز القمعي الإسرائيلي تتوسع على وقع التسميم المتسم ببطئه في تعذيب الضحية وإنهاك قواها الذهنية والجسدية. وهذه الرغبة في إطالة التعذيب تستمد وجودها من النشوة والمتعة في القتل والذبح وإثارة الرعب والهلع في نفوس من ينتظرون دورهم. ومن ثم، فإن المتعة التي ينتشي بها الجهاز القمعي الإسرائيلي ناجمة عن تأكيد الذات وتدمير الآخر، وهي أقصى ما يمكن أن تبلغه السادية في أحد مفاهيمها. فالإبادة إذن مبرمجة، ومنظمة ومدركة، زمنيا، في الاستمرارية وعبر جميع مستويات القصيدة. وإزاء هذه الوضع المأسوي ينقل الشاعر إلى القارئ هذه الحقائق على أرض الواقع الفلسطيني ويبلغه له في آن واحد شعوره وتوتره الشديد، ومحنته من هذه الانتهاكات الفظيعة المرتكبة. فهو إذن يبصر ويسمع ويعبر. ولا ضابط لهذا التدفق الشعري أو هذه الشرائح شعرية. وربما هذا ما يفسر افتقاد الثيمات إلى تنظيم. إنها فوضى الأشياء التي تعكس محنة الشاعر، واضطرابه، ومعاناته مما يبصر ويسمع. ولئن كانت جميع الأفعال مندرجة في إطار المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى مراقبة الأرض، والسيطرة عليها، وطمس ليس فقط جميع الأماكن بل كل الروابط التي توحي وتدل على الماضي الفلسطيني للمنطقة، فإن محو المكونات الثقافية من الذاكرة الفلسطينية وسياسة التهجير يقابله تحويل الأراضي المهجورة يعني في جميع الحالات ترسيخ الهوية والذاكرة اليهودية، وزرع هوية جديدة، بإزالة الآثار المادية للمشهد الفلسطيني. لا يمكن أن ندرك التجليات الدلالية للخطاب الشعري عند الشاعر ما لم نَبْنِ التحليل على أساس العلاقة بين المفردات التي يرتهن إليها البناء الداخلي للقصيدة. ولهذا يضطر القارئ وهو يقرأ المقاطع الشعرية الواحد بعد الآخر للكشف عن الآلية التي تحكم المفردات وتودعها معانيها. وأول ما يتبادر إلى الذهن هو المرجعية الداخلية للنص التي تبنى لا على منطلقات المفردة في عزلتها، بل في تراكبها من خلال العلاقات التي تبنيها مع المفردات الأخرى على أساس دلالي أو شكلي لما تتكرر المفردة. وهذا ما توضحه الأشطار الشعرية في الخطاطة الآتية:
يستهل الشاعر القصيدة في الوضعية الشعرية① بسؤال حول العلاقة التواصلية المضطربة بين الجحافل والقدس اضطرابا ندركه من خلال كلما الظرفية المفيدة لتكرار الدعوة والصياح بأرفع الأصوات ـ. الأول(القدس) يصر، والثاني(الجحافل) لا يستجيب. فالقصد والإصرار التبليغي لم يحقق غايته لتقاعس وامتناع الجحافل عن نصرة القدس. ويتأزم الوضع في الوضعية الشعرية ② مع تحول النداء إلى شكوى ممزوجة بأنين وألم يوحي بإحكام قبضة المعتدي على الشاكي. إن الشاعر لم يذكر المعتدي بالاسم، ويكتفي بتأطير أثر الفعل الناجم عن الاعتداء، والتشديد على مواصلة الجحافل في عدم الاحتفال بهذا الصوت الحزين؛ قطيعة تتأكد وتتعزز بصورة الجفاف الدال على الموت (لا مطر يجيء) لغياب الفعل (نزول المطر) المحدث للخصوبة والحياة. ويمكن اعتبار مرور الشاعر إلى الوضعية الشعرية③ تحولا نلمسه على الصعيد التلفظي من خلال انتقال الشاعر من الوضعيتين الأولى والثانية-وهو يوجه خطابه إلى القارئ (الأنت) بضمير الغيبة (نادت عليـ هم، وصوتـ ها يشكو) لسرد وقائع القدس وليشهده على ما يجري- إلى الوضعية الشعرية③ حيث يتغير مجرى الخطاب بصورة جذرية ويوجه الشاعر بضمير الأنا رسالته إلى أمة النمل واتهامها بشكل مباشر.
تؤدي أمة النمل، على المستوى السردي، دور المحرك الذي يمارس فعله على الجحافل لشل قدرتها على الحركة والاستجابة لنداء وشكوى القدس. إن الشاعر، باستعمال مفردة النمل ذات شحنة دلالية قوية ومكثفة، يحيل القارئ على رمزية القيم الإيجابية المستوحاة من الذاكرة البشرية الممتدة عبر التاريخ وتتجسد في الصبر، والعزيمة وبعد النظر، وفي نزوعها إلى المقاومة، والعمل بدون كلل لصالح المجموعة كلها، ولتحقيق هدف مشترك. وقد جعلت هذه القيم من النملة أساس العديد من الأساطير، والمعتقدات، فألهمت التيارات الفلسفية واللاهوتية الأكثر حداثة في جميع أنحاء العالم كما كان الحال بالنسبة للمعتقدات القديمة.
من هذا المنطلقات، وبناء على الوضعيتين الأولى والثانية، لا يملك الشاعر إلا أن ينفي هذه القيم:
ليس فيها من صفاتِ النملِ، إلاَّ كَثْرةُ النَسْلِ البليدْ
نفيا مدعوما بصورتي الذل والبلادة جاء ليُثَبِتُ التناسل باعتباره القيمة الوحيدة المشتركة بين الأمة والنمل. ومع ذلك، وحتى في هذا المستوى، يصر الشاعر على توكيد الفارق والاختلاف بين العالمين يتجسد عبر الصفة بليد الملحقة بالأمة. وبالتالي فإن الاستثناء موظف ليس من باب الاستحسان كما هو الشأن عند النمل الذي تتميز كثرته بالفعالية، بل من باب الاستهجان لعدم قدرة الأمة رغم تناسلها القوي والمطرد على استنفار جيوشها لنصرة القدس. وإذا نظرنا في الأمر عن كثب، فسنلاحظ أن الشاعر يقابل نشاط النمل، وعزيمته القوية، وصبره بافتقاد الأمة إلى الإرادة والوعي والقدرة على الحركة وهي قيم تنسجم تماما مع الأكل والنوم:
زحَفَتْ إلى تلّ الموائد، كي تنام جيوشُها
إن عبثية الإرادة والفعل لهذه الأمة تتجلى إذن في صيغة السخرية الأسلوبية التي تتخذ مبدأ لبناء المقطع الشعري بكامله. كل شيء يجري كما لو تعلق الأمر بتقييم ساخر يتجلى في بناء صورتين تجسدان وحدتين مضمونيتين: نشاط الأمة (زحَفَتْ إلى تلّ الموائد)، من جهة، وخمول جيوشها (تنام جيوشُها) من جهة ثانية. لا تُكَرَّسُ هذه الثنائية الضدية في المقطع الشعري إلا لِتُثَبِّتَ التجانس بين الإقبال الجشع والحرص على الأكل بشراهة ونهم، والنوم المتزامنين مع شكوى القدس الجريحة. ولئن كان الزحف مرتبطا بالهجوم على العدو، واختراق خطوطه دفعة واحدة، فإن الشاعر، لقناعته بضرورة تعرية واقع الأنظمة العربية وفضح صمتها، وعجزها، وخيانتها للقضية الفلسطينية، يحول وجهته في أقل من لمحة البرق ليس نحو التل لمواجهة العدو في ساحة الحرب لتلبية النداء، وإنقاذ القدس، ولكن باتجاه الموائد لملء البطون، والهروب إلى الزمن البعيد لاستحضار الرمز المجيد. بهذه الصور البالغة أقصى درجة من السخرية الممزوجة بالنغمة الحزينة الباعثة على الانقباض المؤدي في جميع الحالات إلى التدمير الذاتي والاستسلام، يرسخ الشاعر هذا المقطع تاريخيا باستحضار صورة الوعود المكثفة دلاليا، وقراءتها مرتبطة بدرجة استيعاب القارئ لخلفياتها التاريخية:
ناموا على خُطَب الوعودِ،
كأنّهمْ سئموا الوعيدْ
ولهذا، فإن الشاعر ينقل هذه المأساة ولكن بشيء من التوتر على المستوى الهووي، وشيء من اليأس أيضا لطول الانتظار الذي يمدد عمر المأساة: وصوتُها يشكو من حدة الألم، ولا مطرٌ يجيءُ. إنه الجفاف الذي يلمح على المستوى الإيحائي إلى الموت وقطع أي صلة بالحياة وإقرار الشاعر بالعذاب المتواصل في ظل تهاون العرب عن نصرة القدس. إن صورة التهاون منسجمة تمام الانسجام مع صورة النوم الدالة على السكوت والهدوء وغياب الإرادة والوعي أيضا بما يحدث. ومن هنا يكتسي الملفوظ الشعري:
⏪ ناموا على خطب الوعود
أهمية بالغة لا يمكن أن نفهم دلالته النصية والتاريخية إلا بربط النص الشعري بالنصوص التاريخية المتراكمة منذ إعلان وعد بلفور اليهود بوطن قومي في فلسطين. فالمضمون الشعري للملفوظ المكثف والمركز دلاليا يتماهى مع تمدد(وتراكمات) المضامين التاريخية باستعمال ضمير الغيبة هم. فالشاعر هنا وجه لوجه مع التاريخ يمارس عليه فعله التأويلي: عين على ما يجري أمامه الآن، وعين على ما جرى. فانغماسه في الأحداث التاريخية المختزلة في الوعود وما ترتب عنها من أفعال بانية لليهود ومقوضة بل وناسفة للبيت الفلسطيني من جذوره، وإدراكه سلفا لمآلاتها حركت قناعته باستحالة تغيير الوضع في ظل المعطيات السياسية العربية الراهنة. ومن هنا فإن النوم على الخطب وقبول ما تمخض عنه من نتائج على المستوى السياسي يشكل ظاهرا لا يعكس حقيقة ما يجري المتمثلة في خرق العهود باستمرار. فالشاعر يوجه دعوة صريحة للقارئ ويحركه للعودة إلى بدايات الصراع العربي الإسرائيلي لإدراك جوهر الممارسات السياسية الراهنة التي تغض الطرف عن المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. تحمل دعوة الشاعر القارئ على التأمل في الوعود وعدم الالتزام بتطبيقها في طياتها حجة تبطل سياسة تنويم هي مسخرة في الأساس لتشريد الشعب الفلسطيني والدوس على كرامته، وكل حقوقه المشروعة. وقد ظهرت تباشير هذه اللعبة القذرة منذ وعد بلفور اليهود بوطن قومي في فلسطين لتتواصل الوعود الكاذبة بإصدار قرار تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية. وفي كل مرة وعلى امتداد التاريخ تنفذ دائما الوعود لطرف دون الآخر. نكتفي بهذه الإشارات التاريخية الخاطفة التي تشكل خلفية كفيلة بتسليم القارئ مفتاح التأويل، وتمثل حجر الزاوية في الخطاب الحجاجي للشاعر المرسخ تاريخيا من خلال الإقرار بأن ضمير الغيبة هم (الأنظمة العربية) غير معني على الإطلاق بمصير القدس ولا بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة فهم يجارون العدو ويتظاهرون بالدفاع عن حقه في الوجود وهم في الواقع خائفون من إنذاراته وتهديداته بالانتقام. وبالاعتماد على الجهات التصديقية للخطاب الشعري في هذا المقطع يمكن أن نوضح الآليات التي تحكم العلاقات بين الكينونة والظاهر وحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي على النحو الآتي:
يواجه الشاعر من بداية القصيدة إلى نهاية هذا المقطع قوتين معارضتين لطموحات الشعب الفلسطيني: من جهة، العدو الإسرائيلي الذي استعمل كل أشكال الإرهاب والترويع، والأنظمة العربية، من جهة ثانية، لم يذكرها بالاسم صراحة للتقليل من شأنها ولإدراكه سلفا بسوء نواياها وتواطؤها ورغبتها أيضا في تواصل وإطالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نضبط مسارين أساسيين في هذه المواجهة. فالشاعر في تقويمه العرفاني لهذا الظاهر السياسي يصل إلى جوهر هذه اللعبة القذرة التي تدار من خلال أقنعة تحمل الرأي العام على الاعتقاد بتواصل المفاوضات، وأن الأمور تجري في الاتجاه السليم، وفي تهيئة أحسن الظروف لاسترجاع الحقوق المغتصبة: والحقيقة أن الأنظمة العربية في تواطؤها مع الكيان الاسرائيلي تمارس عملية نفي للكينونة يتم عبره توكيد ظاهر لا يعكس حقيق ما يجري:
لدحض هذه المزاعم، يضع الشاعر تحت تصرفه المعرفة التاريخية للتقيم العرفاني بالارتكاز أساسا على مفردة الوعود التي جاءت في صيغة الجمع لتسمح له بتحقيقها وترسيخها زمنيا، ولإسقاط الأقنعة بنفي الظاهر وتثبيت الكينونة المتماهية مع حقيقة الممارسات الوحشية والإبادة الجماعية التي يتعرض لها المواطنون العزل في الأراضي المحتلة:
إن نفي الظاهر يعبر عن أزمة ثقة الشاعر في الأنظمة العربية ويعزز قناعته بأن المقاومة تعد السبيل الوحيد للدفاع عن الأرض وتثبيت الكينونة. فعنف رد فعل الشاعر يتوافق مع الألم والعذاب ويفضي في جميع الحالات إلى بناء قدرة الفعل على تعبئة الفلسطينيين للذود عن القدس الجريحة. فالشاعر يستحضر معرفة محددة تاريخيا وقيمة صدقها قارة على الامتداد الزمني تفسر وتبرر الخطاب الشعري وتوالي الأحداث المأسوية في القدس.
ينهي الشاعر هذا المقطع المبني إجمالا على قصتين. تعكس مضامين الأولى اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المتنوعة الممارسة على الشعب الفلسطيني. ويمكن اختزال مضامين القصة الثانية في تخلي الأنظمة العربية عن نصرة القضية الفلسطينية.
5. المقاومة/ الحل البديل
وإزاء هذا الوضع المأسوي الملاحظ من بداية القصيدة إلى نهاية المقطع ما قبل الأخير، يبدأ التحول الجذري في مضامين القصيدة المفتوحة في المقطع الأخير على رؤية استشرافية للمستقبل منقولة، على المستوى السردي، بصيغة الماضي:
لكنَّ جرّافاتِنا، جاءتْ مع الفجر الأنيقِ،
لكي تُعيد الغارَ،
ها، هُمْ، قد أطلّوا(...)
فإن صوت القدس
رغم الليل
يعلو، ثم يعلو، ثم يعلو
إن هذه الرؤية الاستشرافية التي تعبر عن شعور الشاعر المتجانس مع رغبته في تغيير الوضع، بمجرد ارتكازها على صيغة الماضي (لكنَّ جرّافاتِنا، جاءتْ) تقدم الأحداث وكأنها وقعت بالفعل، وتترجم إصراره وعزيمته على الانتصار مما يعني أن المقاومة، حيال كل الخيارات المطروحة، تعد السبيل الوحيد لاسترجاع الحقوق المغتصبة. إن إلحاق الأنا الشاعر بالجمع جرافاتنا) يدل ليس فقط على انخراط الشاعر في مشروع المقاومة القائم أساسا على العامل الجماعي (الشعب من داخل الأراضي المحتلة)، بل على دور التعبئة والمقاومة أيضا الذي اضطلع به منذ بداية القصيدة والمتمثل في إسقاط المؤامرة العربية والأجنبية على الشعب الفلسطيني على نحو ما سجلنا ذلك في أثناء التحليل. ومن الواضح أن التباشير الأولى للتحول الجذري للقصيدة ظهرت في بداية المقطع الأخير لتعلن عن الانتقال من عالم الذل والخضوع والاستسلام إلى عالم استرجاع الكرامة المفقودة والتاريخ الجديد، من صوت القدس الجريحة الشاكية إلى استرجاع مجدها الضائع وعلو صوتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
➤الإحالات
(1) هذا النص مأخوذ من: www.sudaress.com
(2) Bernard Pottier, Recherches sur l’analyse sémantique en linguistique et en traduction mécanique, Publications Linguistiques de la Faculté des Lettres et Sciences Humaines de l’Université de Nancy, 1963
(3)A.J. Greimas, Sémantique structurale, Larousse, Paris, 1966.
(4) مدخل القراءة lecture في:
-A.J. Greimas, J. Courtés, Sémiotique, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette, Paris, 1979.
(5) عز الدين المناصرة وعاصمة السماء: القدس، في :
29-6-2009 2:50 AM www.thaqafa.org.
(6) Barthes Roland. L'effet de réel. In: Communications, 11, 1968. Recherches sémiologiques le vraisemblable, p. 87.
(7) jean-louis ferrier(Sous la direction de), Sémiotique de l’espace, architecture, urbanisme / sortir de l’impasse, Editions Denoëlle/Gontier, Paris, 1979.
(8) https://www.levangile.com/Dictionnaire-Biblique/Definition-Westphal-4649-Sauterelle.htm
(9) www.ahewar.org
(10) بخصوص العلاقة بين الأنا والأنت في الخطاب، انظر:
- BENVENISTE E., Problèmes de linguistique générale, Gallimard, tome 1 : 1966, p.237.
(11) شارلوت سلي، النمل، التاريخ الطبيعي والثقافي، ترجمة معين الإمام، مراجعة أسامة المنزلجي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2010.
(12) محسن صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، لبنان،2012.
- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي، دار الفكر، دمشق، سوريا، 2003.
(6) Barthes Roland. L'effet de réel. In: Communications, 11, 1968. Recherches sémiologiques le vraisemblable, p. 87.
(7) jean-louis ferrier(Sous la direction de), Sémiotique de l’espace, architecture, urbanisme / sortir de l’impasse, Editions Denoëlle/Gontier, Paris, 1979.
(8) https://www.levangile.com/Dictionnaire-Biblique/Definition-Westphal-4649-Sauterelle.htm
(9) www.ahewar.org
(10) بخصوص العلاقة بين الأنا والأنت في الخطاب، انظر:
- BENVENISTE E., Problèmes de linguistique générale, Gallimard, tome 1 : 1966, p.237.
(11) شارلوت سلي، النمل، التاريخ الطبيعي والثقافي، ترجمة معين الإمام، مراجعة أسامة المنزلجي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2010.
(12) محسن صالح، القضية الفلسطينية: خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، لبنان،2012.
- عبد الوهاب المسيري، مقدمة لدراسة الصراع العربي الإسرائيلي، دار الفكر، دمشق، سوريا، 2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق