⏪⏬
يتحدثون عن الحب، ليل نهار، فإذا سألت أحدهم : ما هو الحب؟ سكت واحتار وسرح ببصره بعيدا. يطرح القاص الأمريكي المبدع ريموند كارفر ذلك السؤال السهل، الصعب، ” ما الذي نقصده حين نتكلم عن الحب؟” في قصة جميلة يجتمع فيها رجلان وامرأتان
على العشاء وتقودهم الثرثرة في كل شيء إلى محاولة تعريف تلك العاطفة العجيبة المذهلة ” الحب”. يقول أحدهم إن الحب شعور روحاني، ويقول آخر إن الحب علاقة جسدية، وتقول امرأة إنه اعتياد، وألفة، ويوضح أحدهم أن الانسان في واقع الأمر إنما يحب نفسه متجسدا في المحبوبة، وتتوالى محاولة إدراك ووصف ذلك الشعور، لكن ريموند كارفر يترك السؤال بدون إجابة كعادته في قصصه ذات النهايات المفتوحة، لعلنا نفهم أن الحب حالة تقع في كل مرة بشكل مختلف، وأن ذلك الشعور الباهر بالنور والأمل يتبدل ويتغير كل مرة يظهر فيها، مهما كان عدد المرات. وخلال حياتي أحببت بما يكفي لأن أقول إن قلبي مترع وممتليء بذلك الشعور. صادفت الحب الأول في الثالثة عشر من عمري، حين رأيت على سلم عمارتنا ابنة الجيران الذين سكنوا في الطابق الأول. كانت جميلة جدا حتى أنني أرى وجهها وأنا أكتب الآن، وكانت من سني تقريبا. لكن حبي لها اقتصر على لقاءات المصادفة في مدخل العمارة، أو عندما كانت تصعد إلى شقتنا في زيارة خاطفة لأخواتي البنات. أحببتها بقوة، وكتبت فيها شعرا ساذجا من أسخف ما يمكن من نوع ” شعرها ذهب.. وقلبي معها ذهب”! ومع انشغالي بها لم أجرؤ على مخاطبتها، وحين تزورنا أجلس أمامها صامتا كأني تحجرت، و أتطلع إليها بأمل، إلى أن حل يوم دعاني فيه أحد أقربائنا وكان مخرجا بالتلفزيون إلى الظهور في تمثيلية تلفزيونية، مجرد عبور أمام الكاميرا في ممر بمستشفى، أشير خلاله إلى إحدى الحجرات قائلا لشخص آخر معي: هل هي هذه الحجرة؟. ولا شيء أكثر من ذلك، لكنني قررت مادام المخرج قريبي أن أطيل بقائي أمام الكاميرا وأمط دوري! فأخذت أتكلم عن الحجرة وأسترسل إلى أن سمعت صوت المخرج يصرخ:”ستوب! إيه ده كله؟ دول كلمتين وتمشي. أعد التصوير”. بعد ذلك بعدة أيام وأنا أدخل العمارة رأيت حبيبتي وهي تهبط على السلم، ثم توقفت أمامي بعينين مفتوحتين مبهورتين وصاحت بفرح لا يحد : ” أحمد! أحمد! أنا شفتك امبارح في التلفزيون”! حل على ذهول فقد كانت تلك أول مرة تخاطبني فيها فتاة أحلامي وباسمي مباشرة. أفقت من المفاجأة ورفعت رأسي لأعلى وقلت لها :” ده دور بسيط ، للبداية، لكن بعد كده الواحد لازم يبقى يدقق في السيناريوهات”! وكادت أن تقبلني من افتخارها بعبوري للحظة في لقطة بممر المستشفى! وشرعنا بعد ذلك نختلس فرصة اللقاء على السلالم لنتكلم معا، وبلغت بنا الجرأة حد الذهاب إلى سينما مترو ومشاهدة فيلم ” رجل وامرأة” لكلود ليلوش معا. ومع الوقت كانت الهالة التي أحاطت بفتاة أحلامي تتبدد، مثل أميرة تخلع التاج عن رأسها ببطء، ويتضح شيئا فشيئا أنها انسانة عادية. وخطر لي حينذاك أنني عشقت وهما من صنع خيالي، لأنني لم أكن أعرفها كما هي في الواقع. فيما بعد بنحو عشرين عاما قرأت عبارة للروائي الألماني توماس مان في روايته ” الموت في فينسيا” مفادها أن الشوق نتاج المعرفة الناقصة. فهل ينمو الحب بمقدار جهلنا بالطرف الآخر؟ أو بسبب نقص معرفتنا بالاخر؟. فيما بعد الحب الأول هذا حكي لي والدي أنه وهو تلميذ في المنصورة وقع في غرام فتاة كان يلمح رأسها خلف ستار شباك أثناء ذهابه إلي مدرسته وعودته. تعلق بها وتغزل فيها بأجمل قصائده المبكرة إلي أن اكتشف ذات يوم أنها قلة فخارية ثابتة في صحن فوق إفريز الشباك،وكان يخيل إليه من ارتجاف الستار في الهواء أن الفتاة تحرك رأسها له وتتابعه بعينيها! علقت الحكاية بذهني، واستخلصت منها أن الحب هو ما نتخيله، ما نصنعه، ما نتوهمه، وما يستحيل وجوده في الواقع، ثم كنت ومازلت أردد أنه من الأفضل لنا أن نحيا في محبة الوهم الرقيق عن أن نعيش بنفوس جرداء، لأن الطريق الوحيد إلى الحب هو المزيد من الحب، والخيال. هكذا راح قلبي ينبض بعد المرة الأولى، ولم يتوقف عن الخفقان، مرة واثنتين وثلاثا، وفي كل مرة كنت أوقن أن الحب هو قانون الوجود حتى لو لم نعرف ما الذي نقصده حين نتحدث عن الحب.
*د. أحمد الخميسي.
قاص وكاتب صحفي مصري
يتحدثون عن الحب، ليل نهار، فإذا سألت أحدهم : ما هو الحب؟ سكت واحتار وسرح ببصره بعيدا. يطرح القاص الأمريكي المبدع ريموند كارفر ذلك السؤال السهل، الصعب، ” ما الذي نقصده حين نتكلم عن الحب؟” في قصة جميلة يجتمع فيها رجلان وامرأتان
على العشاء وتقودهم الثرثرة في كل شيء إلى محاولة تعريف تلك العاطفة العجيبة المذهلة ” الحب”. يقول أحدهم إن الحب شعور روحاني، ويقول آخر إن الحب علاقة جسدية، وتقول امرأة إنه اعتياد، وألفة، ويوضح أحدهم أن الانسان في واقع الأمر إنما يحب نفسه متجسدا في المحبوبة، وتتوالى محاولة إدراك ووصف ذلك الشعور، لكن ريموند كارفر يترك السؤال بدون إجابة كعادته في قصصه ذات النهايات المفتوحة، لعلنا نفهم أن الحب حالة تقع في كل مرة بشكل مختلف، وأن ذلك الشعور الباهر بالنور والأمل يتبدل ويتغير كل مرة يظهر فيها، مهما كان عدد المرات. وخلال حياتي أحببت بما يكفي لأن أقول إن قلبي مترع وممتليء بذلك الشعور. صادفت الحب الأول في الثالثة عشر من عمري، حين رأيت على سلم عمارتنا ابنة الجيران الذين سكنوا في الطابق الأول. كانت جميلة جدا حتى أنني أرى وجهها وأنا أكتب الآن، وكانت من سني تقريبا. لكن حبي لها اقتصر على لقاءات المصادفة في مدخل العمارة، أو عندما كانت تصعد إلى شقتنا في زيارة خاطفة لأخواتي البنات. أحببتها بقوة، وكتبت فيها شعرا ساذجا من أسخف ما يمكن من نوع ” شعرها ذهب.. وقلبي معها ذهب”! ومع انشغالي بها لم أجرؤ على مخاطبتها، وحين تزورنا أجلس أمامها صامتا كأني تحجرت، و أتطلع إليها بأمل، إلى أن حل يوم دعاني فيه أحد أقربائنا وكان مخرجا بالتلفزيون إلى الظهور في تمثيلية تلفزيونية، مجرد عبور أمام الكاميرا في ممر بمستشفى، أشير خلاله إلى إحدى الحجرات قائلا لشخص آخر معي: هل هي هذه الحجرة؟. ولا شيء أكثر من ذلك، لكنني قررت مادام المخرج قريبي أن أطيل بقائي أمام الكاميرا وأمط دوري! فأخذت أتكلم عن الحجرة وأسترسل إلى أن سمعت صوت المخرج يصرخ:”ستوب! إيه ده كله؟ دول كلمتين وتمشي. أعد التصوير”. بعد ذلك بعدة أيام وأنا أدخل العمارة رأيت حبيبتي وهي تهبط على السلم، ثم توقفت أمامي بعينين مفتوحتين مبهورتين وصاحت بفرح لا يحد : ” أحمد! أحمد! أنا شفتك امبارح في التلفزيون”! حل على ذهول فقد كانت تلك أول مرة تخاطبني فيها فتاة أحلامي وباسمي مباشرة. أفقت من المفاجأة ورفعت رأسي لأعلى وقلت لها :” ده دور بسيط ، للبداية، لكن بعد كده الواحد لازم يبقى يدقق في السيناريوهات”! وكادت أن تقبلني من افتخارها بعبوري للحظة في لقطة بممر المستشفى! وشرعنا بعد ذلك نختلس فرصة اللقاء على السلالم لنتكلم معا، وبلغت بنا الجرأة حد الذهاب إلى سينما مترو ومشاهدة فيلم ” رجل وامرأة” لكلود ليلوش معا. ومع الوقت كانت الهالة التي أحاطت بفتاة أحلامي تتبدد، مثل أميرة تخلع التاج عن رأسها ببطء، ويتضح شيئا فشيئا أنها انسانة عادية. وخطر لي حينذاك أنني عشقت وهما من صنع خيالي، لأنني لم أكن أعرفها كما هي في الواقع. فيما بعد بنحو عشرين عاما قرأت عبارة للروائي الألماني توماس مان في روايته ” الموت في فينسيا” مفادها أن الشوق نتاج المعرفة الناقصة. فهل ينمو الحب بمقدار جهلنا بالطرف الآخر؟ أو بسبب نقص معرفتنا بالاخر؟. فيما بعد الحب الأول هذا حكي لي والدي أنه وهو تلميذ في المنصورة وقع في غرام فتاة كان يلمح رأسها خلف ستار شباك أثناء ذهابه إلي مدرسته وعودته. تعلق بها وتغزل فيها بأجمل قصائده المبكرة إلي أن اكتشف ذات يوم أنها قلة فخارية ثابتة في صحن فوق إفريز الشباك،وكان يخيل إليه من ارتجاف الستار في الهواء أن الفتاة تحرك رأسها له وتتابعه بعينيها! علقت الحكاية بذهني، واستخلصت منها أن الحب هو ما نتخيله، ما نصنعه، ما نتوهمه، وما يستحيل وجوده في الواقع، ثم كنت ومازلت أردد أنه من الأفضل لنا أن نحيا في محبة الوهم الرقيق عن أن نعيش بنفوس جرداء، لأن الطريق الوحيد إلى الحب هو المزيد من الحب، والخيال. هكذا راح قلبي ينبض بعد المرة الأولى، ولم يتوقف عن الخفقان، مرة واثنتين وثلاثا، وفي كل مرة كنت أوقن أن الحب هو قانون الوجود حتى لو لم نعرف ما الذي نقصده حين نتحدث عن الحب.
*د. أحمد الخميسي.
قاص وكاتب صحفي مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق