⏪⏬
درَّجَني الجَهرُ بالحَقِّ ، فَزُجَّ بي إلى غَيابَةِ المُعتَقلاتِ في العراق قريبًا من مطلع عام 1979 وكنتُ في الخامسة والعشرين ، أتحرَّى
أنوار باريس بقطار بغداد الدولي الذي كانَ يربطها بأوربا آنذاك ، وأسعى إلى تسَنُّم وظيفَةٍ أستَعينُ بها على الرِّحلَة ، وبعد أشهر من التنقلات رُحِّلتُ إلى سوريا ، فاحتجَزني سجن المخابرات ، وهو مبنًى تحت الأرض مُصمَت الجدران ، لا منفذ له إلا طاقةٌ في بابٍ يُطِلُّ منها السجَّان ليُدخِلَ طعامًا أو يسوقَ المُحتَجَز إلى التعذيب ، فإلا يَكُونا فلأمرين لا معدى عنهما .. سِجنٍ يطول إلى ما يشاء الله ، أو انعتاقٍ على غير ما يَرغَبُ السَّجينُ ، بالترحيل إلى خارج البِلاد، فلما استنفَد المحقِّقون حيَلَهم في محاولة الوقوف على تهمةٍ ، ما كنت لأدينَ بها نفسي ، رأت السلطات أن تطرَحَني في سجن القلعة - غرفة 5 أبراج ، حيث تزأرُ الأحجار الآخذة في السموق أن لا منجى لكَ مني أيها البائِس ، وعلى السطح قضبانُ نافذةٍ - لا كالنوافِذ - منبَطِحَةٍ إلى الأرض ، يُطِلُّ منها سجَّان مُدَجَّجٌ بالسلاح ، يترصَّدُك في كل لحظَةٍ من ليلٍ أو نهار ، ثُمَّ إنَّ دونَكَ بابًا من قضبان الصلب ، مِنْ دونِهِ باب ، يتأدَّى إلى سمعِكَ منه صليل مفاتيح السَّجَّان .
في تلك الحال ، ذات يوم من سبتمبر من عام 1979 لمحتُ طائِرًا خِلتُهُ علَى فَنَنه فاستنطَقني قصيدةً ، منها هذه النفثات :
طائـــــِـرٌ رَفَّ وأُملــــودٌ هَـــــــفَا
ذَكَّـــــرَانِـي بِنَـعـيـــــمٍ سَلَـــــــفـَا
حَيْـــثُ ماجَ النـُّــورُ في أمشاجِـهِ
مَسْبَــحٌ لِلـــرُّوحِ يُــذكي اللَّهَـــفَــا
لِحَبيــــبٍ غِيــــلَ عني لَـــمــــحُهُ
بِشَبَـــــا القَيــــْـدِ وغَـمٍّ كَــــثـــفَــا
داهَــمَ الـقَلــبَ فإنْ جَاشتْ بِــــــهِ
نَــزْعَةُ لِلـرَّوْضِ والطَّيْـــرِ زَفَـــا
شَظَفٌ حَولِي وفـي عَيـشي كــــذا
كِبَــــرُ الأنفُسِ يَـــدعـو الشَّظَفَـــا
مُوجَعٌ في القَيـْـدِ لا أضنَى لـَـــــهُ
قَدرَ مـَــا أضْنَى لِقَيْـــــــدٍ دَنَّفـَــــا
من نفوسٍ فُحْـنَ فـي أجسادِهَـــــا
جِيَـفًا تَجفو الوَفَــا إمَّـــا ضَفَـــــــا
تَــدَّعي الفِطْنــَةَ والــرُّشدُ لَهـَــــــا
قَبَــــسٌ في كَــــفِّ مِصــرٍ يُقتَـفَى
شَانَهَـــــا منِّي جَهِـــيرُ الـــرَّأيِ لا
يَرْتَشِي بِالــمَالِ أو يَخْشَى الجَفَـــا
لا أرومُ المَـــالَ إنْ جــاءَتْ بِــــهِ
نَــزْعَـــةٌ لِلـــغَيِّ فالــرُّشْدُ كَــــفَى
لا يَبيـــــعُ الــحُرُّ بالكَـــوْنِ حِمًـى
ضَمَّـــهُ مَهْــــدًا ويَـحوي الجَدَفـَــا
مَوْطِني المَجْــدُ ومَجْلاهُ السَّنَــــــا
كانَ عَيـْـنَ الكَـوْنِ دَهْرًا إذْ غَـفَــــا
شَمسُـهُ صَحــوٌ وعَـذبٌ نِيـــلُــــــهُ
وثَـــرَاهُ الخِصْـبُ يُنـْمي الشَّرَفَــــا
أَوغِـروا لِلــحَقِّ صَــدرًا فَالخَنَـــــا
مُـوغَـرٌ مِنِّي ومِنْ طَبعي الوَفَـــــا
كَبِّلُــــوا الكَــفَّيْــنِ فالــقَلــبُ بِــــلا
وازِعٍ حُــــرٌّ يَــــعَــافُ الصَّلَـــفـَـا
واعْصِبُـوا العَيْنَــيْنِ فالحَوْبـاءُ مِنْ
جَذوَةِ النُّهْــــــــيَةِ تَجلُــو السُّدَفَــــا
قَرَّعَ الحَمقَى تَناهَـــى جَهْــــلُهُـــم
أنَّ أسْرَ الحُـــرِّ يَبْـــرِي الصَّلَـفَـــا
غِلـْـــتُ طَيَّ السِّـجْنِ أزلًا وَهُــــمُ
حُرُّهُـــــمْ في جَهْـــــلِهِ قَد رَسَــفَـا
*محمد رشاد محمود
درَّجَني الجَهرُ بالحَقِّ ، فَزُجَّ بي إلى غَيابَةِ المُعتَقلاتِ في العراق قريبًا من مطلع عام 1979 وكنتُ في الخامسة والعشرين ، أتحرَّى
أنوار باريس بقطار بغداد الدولي الذي كانَ يربطها بأوربا آنذاك ، وأسعى إلى تسَنُّم وظيفَةٍ أستَعينُ بها على الرِّحلَة ، وبعد أشهر من التنقلات رُحِّلتُ إلى سوريا ، فاحتجَزني سجن المخابرات ، وهو مبنًى تحت الأرض مُصمَت الجدران ، لا منفذ له إلا طاقةٌ في بابٍ يُطِلُّ منها السجَّان ليُدخِلَ طعامًا أو يسوقَ المُحتَجَز إلى التعذيب ، فإلا يَكُونا فلأمرين لا معدى عنهما .. سِجنٍ يطول إلى ما يشاء الله ، أو انعتاقٍ على غير ما يَرغَبُ السَّجينُ ، بالترحيل إلى خارج البِلاد، فلما استنفَد المحقِّقون حيَلَهم في محاولة الوقوف على تهمةٍ ، ما كنت لأدينَ بها نفسي ، رأت السلطات أن تطرَحَني في سجن القلعة - غرفة 5 أبراج ، حيث تزأرُ الأحجار الآخذة في السموق أن لا منجى لكَ مني أيها البائِس ، وعلى السطح قضبانُ نافذةٍ - لا كالنوافِذ - منبَطِحَةٍ إلى الأرض ، يُطِلُّ منها سجَّان مُدَجَّجٌ بالسلاح ، يترصَّدُك في كل لحظَةٍ من ليلٍ أو نهار ، ثُمَّ إنَّ دونَكَ بابًا من قضبان الصلب ، مِنْ دونِهِ باب ، يتأدَّى إلى سمعِكَ منه صليل مفاتيح السَّجَّان .
في تلك الحال ، ذات يوم من سبتمبر من عام 1979 لمحتُ طائِرًا خِلتُهُ علَى فَنَنه فاستنطَقني قصيدةً ، منها هذه النفثات :
طائـــــِـرٌ رَفَّ وأُملــــودٌ هَـــــــفَا
ذَكَّـــــرَانِـي بِنَـعـيـــــمٍ سَلَـــــــفـَا
حَيْـــثُ ماجَ النـُّــورُ في أمشاجِـهِ
مَسْبَــحٌ لِلـــرُّوحِ يُــذكي اللَّهَـــفَــا
لِحَبيــــبٍ غِيــــلَ عني لَـــمــــحُهُ
بِشَبَـــــا القَيــــْـدِ وغَـمٍّ كَــــثـــفَــا
داهَــمَ الـقَلــبَ فإنْ جَاشتْ بِــــــهِ
نَــزْعَةُ لِلـرَّوْضِ والطَّيْـــرِ زَفَـــا
شَظَفٌ حَولِي وفـي عَيـشي كــــذا
كِبَــــرُ الأنفُسِ يَـــدعـو الشَّظَفَـــا
مُوجَعٌ في القَيـْـدِ لا أضنَى لـَـــــهُ
قَدرَ مـَــا أضْنَى لِقَيْـــــــدٍ دَنَّفـَــــا
من نفوسٍ فُحْـنَ فـي أجسادِهَـــــا
جِيَـفًا تَجفو الوَفَــا إمَّـــا ضَفَـــــــا
تَــدَّعي الفِطْنــَةَ والــرُّشدُ لَهـَــــــا
قَبَــــسٌ في كَــــفِّ مِصــرٍ يُقتَـفَى
شَانَهَـــــا منِّي جَهِـــيرُ الـــرَّأيِ لا
يَرْتَشِي بِالــمَالِ أو يَخْشَى الجَفَـــا
لا أرومُ المَـــالَ إنْ جــاءَتْ بِــــهِ
نَــزْعَـــةٌ لِلـــغَيِّ فالــرُّشْدُ كَــــفَى
لا يَبيـــــعُ الــحُرُّ بالكَـــوْنِ حِمًـى
ضَمَّـــهُ مَهْــــدًا ويَـحوي الجَدَفـَــا
مَوْطِني المَجْــدُ ومَجْلاهُ السَّنَــــــا
كانَ عَيـْـنَ الكَـوْنِ دَهْرًا إذْ غَـفَــــا
شَمسُـهُ صَحــوٌ وعَـذبٌ نِيـــلُــــــهُ
وثَـــرَاهُ الخِصْـبُ يُنـْمي الشَّرَفَــــا
أَوغِـروا لِلــحَقِّ صَــدرًا فَالخَنَـــــا
مُـوغَـرٌ مِنِّي ومِنْ طَبعي الوَفَـــــا
كَبِّلُــــوا الكَــفَّيْــنِ فالــقَلــبُ بِــــلا
وازِعٍ حُــــرٌّ يَــــعَــافُ الصَّلَـــفـَـا
واعْصِبُـوا العَيْنَــيْنِ فالحَوْبـاءُ مِنْ
جَذوَةِ النُّهْــــــــيَةِ تَجلُــو السُّدَفَــــا
قَرَّعَ الحَمقَى تَناهَـــى جَهْــــلُهُـــم
أنَّ أسْرَ الحُـــرِّ يَبْـــرِي الصَّلَـفَـــا
غِلـْـــتُ طَيَّ السِّـجْنِ أزلًا وَهُــــمُ
حُرُّهُـــــمْ في جَهْـــــلِهِ قَد رَسَــفَـا
*محمد رشاد محمود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق